قيم الحوار والتعايش في الرؤية الثقافية الإسلامية - قیم الحوار و التعایش فی الرؤیه الثقافیه الإسلامیه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قیم الحوار و التعایش فی الرؤیه الثقافیه الإسلامیه - نسخه متنی

محمد علی تسخیری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید











قيم الحوار والتعايش في الرؤية الثقافية الإسلامية


الشيخ محمد علي التسخيري



كان سماحة الشيخ التسخيري قد شارك في الندوة التي عقدت في الرياض بالمملكة العربية السعودية في 6 ـ 7 / 5 / 2000 تحت عنوان «التنمية الثقافية في العالم الإسلامي والحديات المستقبل» وقد تفضل سماحته فاختص مجلة «آفاق الحضارة الإسلامية» بكلمته القيمة مشكوراً.


حول الرؤية الثقافية الاسلامية


الرؤية الثقافية رؤية هادفة، تنطلق من مرجعية مقدسة للحياة الإسلامية فتعطيها شكلها ومضمونها المتميزين. وتستبطن هذه الرؤية مجمل أسس عملية التغيير الإجتماعي الشامل: فهي الإطار الذي يجمع في داخله مختلف مجالات التغيير. ومهما اختلف علماء الإجتماع والنفس وعلم الإنسان والإعلام في تحديد مفهموم الثقافة أو الرؤية الثقافية، فانهم يتفقون علي دورها الأساس في رسم تفاصيل حياة المجتمع والفرد وتحديد أنماطها أي إنها، بكلمة أخري، العنصر المركب الذي يحدد الأفكار والسلوك والظواهر الإجتماعية ويعدّها الإمام الخميني «المصنع الذي يصنع الانسان» و «طريق اصلاح المجتمع»1 أو أنها ــ كما يقول المرحوم مالك بن نبي ــ الدستور الذي تتطلبته الحياة العامة، يجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي2.


من هنا فالتصور الاسلامي يتلخص في تصور الاسلام للحياة، أو أنه «الاسلام حين يصبح الحياة» كما عبّرت ورقة «الاستراتيجية الثقافية للعالم الاسلامي3.


ولهذه الرؤية مرجعية تعطيها مشروعيتها ومضمونها ومنهجها في تطويع الحياة للاسلام، وتتمثل مرجعيتها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهناك حقائق الخلق والكون، التي تشكل مصدراً معرفياً دائم الحركة


ولكي تحقق هذه الرؤية نياتها ومقاصدها في بناء الحياة الاسلامية، فقد وضعت مهمة رسم خطابها العصري وتحديد مناهجها علي عاتق أصحاب الإختصاص من فقهاء و مفكرين و خبراء و مثقفين إسلاميين، وعلي أسس علمية تتيح للأصالة استيعاب متطلبات المعاصرة: لكي يكون العصر الذي تعيش فيه المجتمعات الجديدة لصيقاً بالإسلام ورؤيته الثقافية.


ولا يمكن بلورة هذه الرؤية ومراجعتها باستمرار دون عقول أصيلة متحررِ من الجمود علي الفهم. وأجواء منفتحة علي النقد البنّاء والحوار الهادف اللذين يمنحهما مناخ الحرية الفكرية المتوازنة


من هنا فالحوار والتعايش في الرؤية الثقافية الإسلامية، محكومان بقيم المرجعية الإسلامية الملزِمة (القرآن الكريم والسنة الشريفة): فقيمهما الشرعية والعقلية والأخلاقية هي نفسها قيم الدين الحنيف، أو القيم الإنسانية العامة التي لا تتعارض معه.


اهمية الحوار


الاختلاف سنة كونية، أعطت للحياة ألواناً مختلفة من التفكير والسلوك، و جعلت التباين بين الناس في رؤاهم ونظرتهم للأشياء هو الأصل، بعد أن كانوا أمة واحدة «وَما كانَ النّاسُ إلاّ أمْةٌ واحِدَةٌ فَاخْتَلَفُوا»4 ومرد ذلك إلي الإختلاف في الطبائع الوراثية والتنشئة والتكوين والتجربة والأهواء وغيرها. ممكناً في الواقع وجود شخصين متفقين في كل الأشياء بنسبة مائة بالمائة، كما لا وجود لشخصين مختلفين بنسبة مائة بالمائة ايضاً، فالاختلاف والاتفاق قضيتان نسبيتان تتراوح نسبتهما بين الواحد بالمائة والتسع والتسعين بالمائة. وهذا لا يعني عدم وجود حق مطلق، و لكن هذا الحق المطلق هو الذي يحدده الله تعالي فقط أو من يخولهم من عباده كالانبياء والاوصياء والملائكة. وكذلك تعتبر الفطرة نافذة إلهية لمعرفة الحق كما لا يعطي هذا الإختلاف حقوقاً متساوية لكل المختلفين في الانتساب للحق؛ بل إن للإختلاف مرجعية مطلقة ليست من اختراع المختلفين يقول تعالي:


«إلي اللّهِ مَرْجِعْكُمُ جَمِيعاً فَيُنُبّكُمُ بِما كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»5، و «إنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»6، فالحكم لله في مواطن الاختلاف، وحكمه عبّر عنه في كتابه الكريم، الأمر الذي يلغي مغهوم التعددية في مرجعية الاختلاف بالنسبة للمسلمين.


وهنا يأتي الحوار ليعطي للإختلاف بعداً انسانياً يضعه في شكله الطبيعي، ولا يسمح له بالتحول الي طاقة تدميرية، بل إن الحوار يخفض من مستوي سلبيات الإختلاف ويرفع من مستوي إيجابياته :ليكون الإختلاف في هذاالأطار رحمةً وخيراً، ودافعاًللاصلاح والمراجعة المستمرة. وهذا البعد يمنح الحوار مضموناً مصيرياً وموقعاً مهماً في استمرار الحياة بطعمها المستقر، وإبقاء الجنس البشري بمستوي ما حباه الله من عقل وقدرة علي التفكير والاختيار.


إن الحوار أداة للكشف عن الحقائق والأشياء الخفيّة، ومن خلاله تتم الإجابة عن كثير من علامات الإستفهام والإشكالات العالقة في الذهن، أو تزيد من القناعات الذاتية، كما يمكن من خلاله كشف الباطل ودحضه وكشف مؤثرات بطلانه. ودلائله و بشكل مجمل فإن الحوار ينضج الأفكار والقرارات ؛ ففي الجانب الفكري والثقافي ـ مثلاً ينمي الحوار الأفكار ويعمقها، ويشذِّ بها مما يعلق بها من انحراف أو جمود أو شوائب، ويحرك العقل باتجاه الإبداع والتجديد والتحرر، في الحدود التي تفرضها مرجعية الإختلاف. وفي الجانب السياسي والإجتماعي، يلعب الحوار الدور نفسه في تنضيج القرار الإجتماعي والسياسي وإشعار الآخرين بالمسؤولية وبأهمية‏الموقع الذي يحتلونه، بل إن بعض أنماطه تعد في دائرة المسلمين لوناً من ألوان الشوري.


وبالتالي بالحوار في الاسلام يعبر عن قيمة حضارية؛ لأنه أسلوب الأنبياء في التبلغ والدعوة فقد انتشر الإسلام والوعظ والمحاجة والقول الحكيم، والذي أوصله إلي أقاصي الدنيا، ولا سيما افريقيا وشرق آسيا وامريكا، هو الحوار. هذه البلدان التي يقطنها اليوم مئات الملايين من الناس، دخلت الإسلام بالحوار، فالاسلام هو دين الحجة ودحض الباطل باسلوب الحكمة «أدْعُ إلي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَلْمُوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أحْسَنُ»7 ولابد من الإشارة هنا إلي أن الحوار ليس النهج الوحيد في نشر الدين والدعوة والتبليغ، رغم أنه نهج أساس، ورغم أنه موقف يتخذه المسلم أساساً في الحركة، إلا أن النهج يتغيّر موقف الطرف الآخر.


مجالات الحوار


تتنوع مجالات الحوار الإسلامي بتنوع أطرافها ووسائلها وموضوعاتها. ولهذا التنوع أكثر من معيار للقيم. فعلي أساس معيار أطراف الحوار، يمكن تقسيمه إلي:


حوار بين الأفراد (عامة الناس، أو النخب، علماء دين ومفكرين وجامعيين ومثقفين وغيرهم).


ـ حوار بين الشعوب .


ـ حوار بين الجماعات.


ـ حوار بين المذاهب .


ـ حوار بين الحكومات (ثنائي أو في إطار المنظمات والمؤسسات).


ـ حوار مع الأديان الأخري.


ـ حوار مع المدنيات والحضارات الأخري.


كما ينقسم علي أساس معيار الوسائل إلي:


ـ حوار مباشر، يتم بين أطرافه بحضور عامة الناس أو عبر وسائل الإعلام (التلفزيون، الاذاعة ... الخ)، وهو الحوار المباشر المفتوح الذي يصطلح عليه عادة « المناظرة » ، أما الحوار المباشر المغلق، فهو الذي يجري بعيداً عن الآخرين، ويقتصر علي المتحاورين وبعض المراقبين .


ـ حوار غير مباشر، عبر الصحافة أو الرسائل أو (المراسلات) أو عبر طرف ثالث .


وعلي أساس معيار المادة أو الموضوع، ينقسم الحوار إلي :


ـ علمي (فقهي، عقائدي، أو مختلف العلوم الاسلامية والانسانية والاجتماعية أو البحتة والتطبيقية).


ـ سياسي (ما يرتبط بالشأن السياسي العملي أو النظري).


ـ فكري (ثقافي، اجتماعي وغير ذلك).


ومن خلال استعراض هذا التنوع في الحوار، نريد القول أن لكل منها أساليبه الفنية وآدابه وقواعده ومنهجه، وبالتالي فإن القيم العلمية‏والأسلوبية تختلف إلي حدٍ ما بينها. ولكن القيم الدينية والأخلاقية و الإنسانيه تبقي قاعدة مشتركة لها جميعاً فقد ركزّت المرجعية الإسلامية، من خلال النصوص، علي هذه القيم، وفصّلها وشرحها الفقهاء وعلماء الكلام والحديث والأخلاق، كل من زاويته ومدخله العلمي. ومع التطور الهائل والتغييرات المتسارعة في أنماط الحياة وأساليب الحوار والتخاطب، دخلت معادلات قيمية جديدة في صياغاتها، وليست جديدة في أصولها، وهي مما ينبغي اكتشافه وتعرّفه وأسلمته .


عناصر الحوار


يمكن تقيم أهم عناصر الحوار إلي الأطراف، الموضوع، الأهداف، الإدارة والتحكيم، الزمان، المكان، المنهج، الأسلوب والنتائج. ومن خلال استعراض هذه العناصر بشيء من التفصيل نأتي إلي البعد القيمي الإسلامي حيال كل منها، بالصورة التي تحقق غايات الحوار، كالغاية الفنية المتمثلة بتقين حالة الإختلاف والتركيز علي إيجابياتها وتفتيت سلبياتها، كما ذكرت .


1. اطراف الحوار: ينبغي توفر مجموعه من المؤهلات في شخصية المتحاورين، علي الصُّعُد الذاتية والموضوعية، تكفل لنجاح الحوار مدخله الأساس. ومن أهم هذه المؤهلات هي :


أـ التساوي في الرغبة والتكافؤ في حرية الطرح، فلابد أن لا يكون أحد أطراف الحوار مقحماً أو مجبراً علي الحوار أو مضطراً له تحت ضغوط التهديد، بأنواعه: الإجتماعي والسياسي، بالسجن أو الموت أو الطرد أو تلبيس التهم، أو تحت ضغوط الحياة والإنجرار. فمثل هذا الحوار مهما كانت نتائجه، ليست له قيمة علمية أو دينية أو أخلاقية: لأنه يفتقر إلي أبسط أسس الحوار الحقيقي وآدابه : لأن أطراف الحوار هنا لن تكون متكافئة في القدرة والحرية، فبعضها يحاور من موقع القوة والإقتدار والإستكبار والآخر من موقع الضعف والإضطهاد، فهناك، اذن، فرق كبير بين الحوار (الثقافي والفكري والسياسي) بين أطراف متكافئة، والحوار بين الغازي (العسكري والثقافي والسياسي) و المنهزم أو المدافع، فالحوار الثقافي و الحضاري الحقيقي مثلاً يدور في اطار الاحتكاك او التبادل الثقافي، في حين أن الحوار في اطار الغزو ليس له أي معني فالغازي الثقافي يسلب من الحوار كل إيحابياته؛ ويمكن أن يجري الحوار حتي خلال المعارك العسكرية، فضلاً عن المعارك الفكرية والسياسية، بهدف إلقاء الحجة علي الخصم، شرط ضمان عنصر التكافؤ في حرية الرأي، وألاّ يكون حواراً من طرف واحد.


وفي السيرة والتاريخ الإسلامي نماذج فذة من مواقف الحوار أثناء الحرب: لإِقناع الخصم ومحاججته ؛ في محاولة لتجنب ويلات الحرب ولكف شرها عن المسلمين .


ب ـ التسلح بالعلم والمعرفة في موضوع الحوار، فهو أساس لدخول الحوار وكسبه موضوعياً: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحاجُّونَ فِيما لَيْس َ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ»8 فالحوار الحقيقي ينبغي أن توضع له مقدمات موضوعية ويسير وفق أسس علميةٌ، ولا يتحقق هذا الجانب دون تخصص المتحاورين في موضوع الحوار وإحاطتهم الكافية بحقائقه، ويضرب الله تعالي مثلاً في من يحاور في أمر وجود الله ووحدانيته وهو لا يفقه شيئـاً فـي هذا المـجال «ومِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ في اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدي وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ»9. وحتي لو كان الحق مع الطرف الضعيف علمياً: فان هذا الحق سيضيع بين ثنايا الجهل، وقد تترتب عليه آثار سلبية تؤدي الي ظهور الباطل بمظهر المنتصر، مما يتسبب في تزييف الواقع وانحراف وجهات نظر عامة الناس. وإذا كان الهدف من الحوار تحقيق فائدة علمية، فينبغي كذلك أن كون الأطراف ضليعة في مجال موضوع الحوار. وهنا يشترط الإمام الغزالي علي طرف الحوار «أن يناظر مع من هو مستقلٌ بالعلم ليستفيد منه إن كان يطلب الحق»10.


جـ التحلي بسلوكية لاثقة، فالغضب والتشنج والتهريج والحقد والرياء والفرح بمساندة الطرف الآخر والاستكبار عن الحق، ستنزع من الحوار كل قيمة وتدخله في دائرة المنازعات والصراع، بينما الصفات المعاكسة كالهدوء والتروي وضبط النفس واللين والمرونة، وعموماً التوازن في المشاعر، سترفع من مستوي الحوار الي دائرة النجاح والتأثير وتحقيق أفضل النتائج .


وهنا يبين الله تعالي لرسوله الكريم قاعدة عامة في التحاور مع الآخرين، تقف علي أساس اللين والمرونة والتسامح: « وَلَوْ كُنْتَ فَظْاً غَلِيظُ الْقَلْبِ لانْفُضّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستَغُفِرْ لَهُم ْ وشاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ»11. فالله تعالي يأمر الرسول ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) بالتشاور مع من قد أساءوا اليه، بعد أن يعفو عنهم ويستغفر لهم كما أمر من قبل موسي وهارون « عليهما‏السلام »: «إذْهَبا إلي فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغي* فَقُولا لَه ُ قَوْلاً لَيّناً لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أو يَخْشَي»12 ونقل المفضل ــ أحد تلاميذ الإمام جعفر الصادق « عليه‏السلام » ــ حادثة تحمل دلالة قيمية مشرفة في هذا المجال: فخلال تحاوره مع أحد الزنادقة، تشنج الموقف وغضب المفضل عليه، فقال له الزنديق:


إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدي في جوابنا، وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتي إذا استفرغنا ما عندنا وظننّا أنّا قطعناه وغلبناه، دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير، يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً فإن كنت من أصحابه فخاطبنا مثل خطابه13.


2. موضوع الحوارة ينبغي قبل بدء الحوار تحديد نقاط الإبهام والاختلاف، والعادة التي يتعين التحاور فيها: ليكون الموضوع واضحاً ومحدداً، فالحوار قد ينحرف باتجاهات أخري ويكون مضيعة للوقت إذا تبيّن لأطراف الحوار أنهم كانوا يتحاورون في موضوعين أو موضوعات مختلـفة. وهـذا العنصـر أطلـق عليـه العلمـاء القـدامي إصـطلاح «تحرير محل النزاع» وقالوابضرورة تشخيص أبعاد النزاع ؛ ليكون الاستدلال منتجاً وعدّوه شرطاً منطقياً لا حاجة للاستدلال عليه14 ويفترض هنا لحاظ جميع الجوانب ذات العلاقة بالموضوع، فهناك جوانب مهمة قد لا تلحظ، ولكنها تترك أثرها علي النتائج.


3. أهداف الحوار، تكمن قيمة الحوار في هدفيته، والمتمثلة في اكتشاف الحقيقة و معرفتها و بلورة شكلها وموضمونها، علي اعتبار أن «الحكمة ضالة المؤمن» هذا الهدف يعطي للتجرد والنزاهة والموضوعية في الحوار معنيً حقيقياً، بالصورة التي يطرحها القرآن الكريم: «وَإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلي هُدَيً أو فِي ضَلال ٍ مُبِينٍ»15. أما الحوار الذي لا يحمل هدفاً معيناً و لا يترك أثراً علمياً أو فكرياً، فهو عديم القيمة والفائدة وتنطبق هذه القاعدة ايضاً علي الحوارات التي تدور حول أمور افتراضية وخيالية ولا علاقة لها بالواقع16. وتتنوع مناهج الحوارـ كما سيأتي ـ بتنوع اهدافه، فهناك الحوار النقدي الذي يتلخص في تقويم كل طرف لممارسات الطرف الآخر وأفكاره بشكل نقد موجه. وللنقد من جانبه آداب وشروط، تبقيه في حدوده الشرعية والعقلانية، وتحافظ فيه علي روح الإنعتاق والتقويم الصحيح والمحاسبة الهادفة والنقد البنّاء. أيضاً المدارسة التي هي لون من ألوان الحوار، وهدفها يدور حول الموضوع فقط، وليست لها أهداف خاصة او ذاتيه ، ، وبالتالي الوصول إلي نتائج متفق عليها، ولا توجد لدي أطرافها أحكام نهائية سابقة أما المحاجة فهي حوار الإقناع وإقامة الدليل، وهدفها تفنيد وجهات نظر الطرف الآخر ومحاولة استيعابه وجذبه وهديه، أو إيصال رسالة إلي الآخرين وتنبيههم وتوعيتهم.


4.الإدارة والرقابة والتحكيم: هذا العنصر الغني ضروري جداً لتحسين أداء الحوار وضمان تحقيق أهدافه وتنفيذ نتائجه، فالإدارة لا تدخل طرفاً في الحوار، بل تتلخص مهمتها في تنظيم الحوار وضبطه وتوفير الفرص المتكافئة للمتحاورين ومراقبة أساليبهم ومناهجهم، ثم التحكيم بينهم في حالات معينة وتفرض هذه المهام شروطاً ومواصفات في عنصر الإدارة والرقابة والتحكيم أهمها: المقبولية لدي أطراف الحوار كافة، والحياد والموضوعية والتجرد، وحساب النتائج بدقة، وعدم تغليب طرف علي حساب آخر، إلاّ في حدود الحقيقة، وحتي لو كان لهذا الجهاز أو بعض أفراد خلفيآت فكرية و سلوكية ورؤي تتفق أو تختلف مع أحد الأطراف، فلا ينبغي أن يكون لها مدخلية في الإدارة والتحكيم.


5. مكان الحوار: عدم وجود أي نوع من المؤثرات التي تنعكس سلباً علي أحد الأطراف أو مجموعهم أو علي المراقبين، هو ما ينبغي أن يكون عليه مكان الحوار. وقد يتمثل هذا المؤثر في أجواء استفزازية أو انفعالية أو صاخبه، أو مؤثرات ناتجة عن أجواء التهويل ؛ فيكون المتحاورون منساقين حينها وراء تأثيرات العقل الجمعي، ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرآن الكريم من أجواء الانفعال والاستفزاز التي كان المشركون يخلقونها للتأثير علي مسير الحوار الذي يقوم به الرسول ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم )، ولا سيما بعد اتهامه ـ والعياذ بالله ـ بالجنون، فدعاهم الرسول ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) الي نبذ هذا التهويل والصخب، والتأمل في التهم التي وجهوها له بغية استئناف الحوار في أطار الموعظة الحسنة :


«قُلْ إنّما أَعِظُكُمْ بِواجِدَةٍ أنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْني وَفُرادَي ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ»17


ولا شك أن التطور التقني اضاف للتأثيرات البشرية في المكان تأثيرات أخري سمعية وبصرية وضوئية وهندسية، لا تقل أهمية وتعقيداً في خلق أجواء خاصة وتأثيرات نفسية هائلة علي المتحاورين أو الحضور أو المراقبين.


6. زمان الحوار: وهو عنصر مهم في اختيار الموضوعات والأهداف وينبغي في تحديد زمان الحوار مراعاة ظروف أطراف الحوار من النواحي الاجتماعية والنفسية والاستعداد العلمي، وظروف انعكاس الحوار علي الآخرين، وأهمية موضوع الحوار زمانياً؛ فربما يكون لموضوع بعينه أهمية خاصة في زمان ما، ثم تعدم هذه الأهمية في زمان آخر.


7. منهج الحوار: وهو النظام الذي يسلكه الحوار وفقاً لمجموعة من القواعد العامة18. ومن بديهيات الحوار العلمي أن يكون منهجه واضحاً ومرسوماً، ويفترض بأطراف الحوار أن تكون متفقة علي قواعده؛ لكي يكون ملزماً لها جميعاً، كما تذكر الآية الكـريمة: «أَتُـجادِلُونَنِـي فِي أَسْـماءَ سَـمّيْتُمُوها أَنتْـم وْآباءُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانِ»19، فهذه الأسماء أراد المشركون أن يفرضوها جزءاً من منهج الحوار، ولكنها لا يمكن أن تكون ملزمة لمن لا يؤمن بهذا الجزء من المنهج.


و نطرح هنا أهم معايير منهج لحوار العلمي في أطار الرؤية الثقافية الاسلامية.


أ. التعارف والتوعية والمقصود منه تعرف كل طرف علي حدود معينة من حقائق الطرف المقابل ومعتقداته وآرائه، من مصادرها نفسها، وليس من مصادر غيره، ولا سيما أعدائه، بهدف التمكن من إلزامه ما ألزم به نفسه والاحتجاج عليه بمصادره نفسها. وكذلك مبادرة أطراف الحوار إلي التعريف بمعتقداتها و وجهات نظرها ويدخل في هذا الأطار مبدأ التوعية؛ فالاسلام دين التوعية والتربية، وهو بمقتضي واقعيته وفطريته يقرر لزوم القيام بتوعية كل إنسان يراد له أن ينضم إلي معسكره، وكل مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلي عمقه.. إنه يعرض جوهرته الثمينة؛ لأنه يعلم أن قيمتها ستنكشف بكل وضوح للجميع، ولذا فهو يرفض التقليد في العقيدة، ويرفض عملية الإكراه العقائدي، ويدعو أتباعه إلي أن يكونوا أقوياء في البصر والبصيرة ويأمر ـ في مجال التعامل مع الآخرين ـ بالدعوة البينة الواضحة قبل كل شي20»


«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلي اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَال إنّني مِنَ الْمُسْلِمِينَ21»،«قُلْ هذِهِ سَبِيلي أدْعُوا إلي اللّهِ عَلي بَصِيرة أَنا وَمَنْ اتَّبعِنَي22» وبالنسبة الي الحوار مع غير المسلمين، فإن البداية بحقائق الرسالة ومعالمها الرئيسة، معززة بالحجج والبراهين، وفي أطار النقاش المنطقي السليم 23 .وتنقل كتب لحديث أن الرسول ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) حين بعث الإمام علي « عليه‏السلام » إلي اليمن قال له «يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتي تدعوه الي الاسلام، وأيم الله لأن يهدي الله عز وجل علي يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت24.


ب. الوضوح: أي استخدام المنهج الصحيح بصورة واضحة دون لبسٍ أو تورية أو التواء، وعدم الخلط بين الحق والباطل، حتي من أجل الوصول الي الحق كغاية تسوغها الوسيلة! يقول الامام الصادق « عليه‏السلام »


لا تمزج الحق بالباطل ، و قليل من الحق يكفي من كثير من الباطل.


ومن أساليب الابهام في الحوار كما يقول الإمام الجويني :


الاحتيال علي المحاور حتي يخرجه عن محل تساؤله، وتوجيه كلامه إلي وجوه محتملة25 إضافة إلي استخدام المغالطات والسطة في المنهج.


جـ الموضوعية: ومن أبرزه عناصرها: التجرد ونبد التعصب والابتعاد عن القناعات السابقة والمواقف المبيتة والأحكام المعدة سلفاً خلال تنفيذ الحوار، حتي لو كانت أطراف الحوار علي يقين مطلق بمعتقداتهاو وجهات نظرها، فهذا التجرد يخلق جواً من الصدق في الوصول إلي الحقيقة كهدف نهائي للحوار، مهما كانت هذه الحقيقة، علي النحو الذي يدعو فيه النبي ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) النصاري: «وَإنّا أوُ إيّاكُمْ لَعَلَي هُدي أَوْ فِي ضَلالٍ مبين »26.


وهذه الدعوة هي قمة التجرد والاستعداد لتقبل نتائج الحوار مهما كانت وأينما كانت، رغم اليقين المطلق للرسول الاعظم ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) بصحة معتقداته. يقول الفيض الكاشاني في حديثه عن شروط الحوار:


أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق، «ظهور صوابه وغزارة علمه و صحة نظره، فان دلك مراء منهي عنه بالنهي الأكيد.


ويضيف:


أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة، يكون شاكراً متي وجدها، ولا يفرق بين أن تظهر علي يده أو يدي غيره، فيري رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر الحق 27.


وهذا يعني أن الموضوعية لا تتلاقي مع هدف استعراض القابليات العلمية خلال الحوار، أو القدرة علي امتلاك أدوات الجدل، او التنكيل بالخصم و من شروط الموضوعيه في منهج الحوار تقديم الدليل علي الرأي والفكرة برهاناً علي صحتها وصدقها: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»28. والشرط الآخر هو التقيد بالحقائق والأفكار التي يعتقدها الطرف الآخر، والإحتجاج بها، وفقاً لقاعدة «الزموهم بما الزموا به إنفسهم»، و عدم الاحتجاج بما يفهم المحاور من حقائق الآخر، أو الاعتماد علي ما ينقله الخصوم والأعداء. وهذا الشرط هو تتمة لمعيار التعارف، كما ذكرنا...


د. اعتماد المشتركات: فلابد، ابتداءاً من اكتشاف الحقائق والمرتكزات المشتركة بين الطرفين؛ لتكون قاعدة رصينة يقف عليها المتحاورون، ومقدمات واقعية ينطلقون منها للوصول إلي حقائق كلية:«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعَالَوا إلي كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ29.


8. اسلوب الحوار: ويقصد به آداب الحوار وسلوكيات المتحاورين. و قد قدّمنا في الحديث عن أطراف الحوار قسماً من المؤهلات السلوكية التي ينبغي أن يكون عليها أسلوب الحوار، كاللين والمرونة وضبط النفس والتوازن في المشاعر وغيرها، إضافة إلي الإنفتاح السلوكي المدروس علي الطرف الآخر، واحترام مشاعره ومعتقداته، ومحاورته بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، فهذه الأساليب كافية لتترك في نفسه انطباعاً جيداً عن شخصية المحاور وطبيعة أهدافه ومعتقداته أما الاساليب السلبية، كالتحريض وإثارة الفوضي والشغب، والتحامل والتشنج والتعصب الأعمي والتكبر، واستخدام أسلوب المغالطة، والانكماش والتهرب، والاستهزاء والسخرية، فهي مرفوضة في الحوار المنشود، وقد نهي الاسلام عن ذلك: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلُ الْكِتابِ إلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ»30، فكيف بالحوار بين المسلمين أنفسهم!؛ فقيمة الحوار في الرؤية الإسلامية لا تعرف المهاترات والسباب؛ لتسببها في انعكاسات سلبية حادة. يقول تعالي:


«ولا تَسُبُّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّ.ا عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»31 وتدخل هنا قيم سلبية ايضاً، كالاتهام والافتراء والتفسيق والتهديد بالاخراج عن الدين والرمي بالارتداد، دون تمحيص وبحث عقيدي وفقهي واف، فللارتداد والتفكير معايير وقواعد دقيقة جداً بحثها الفقه الاسلامي بعناية، بالصورة التي لا يكون فيها هضم لحق أحد وسلب لحقوقه الإجتماعية والإنسانية فالتسرع في إطلاق الأحكام خلال الحوار، لتحقيق أجواء غير موضوعية، تتقاطع تماماً مع الرؤية الإسلامية، فضلاً عن أن هذه الأساليب (لا سيما التهديد بالعدوان و سلب الحقوق الإجتماعية والحكم المتسرِّع وغير المدروس بالردة والكفر) تؤدي الي وضع عكسي، ونجد أنها تسببت في بروز ردود فعل عنيفة ضد الدين، بالصورة التي حدثت حيال أساليب الكنيسة في التعامل مع الآخرين خلال عصور اوربا الوسطي، ثم أدت إلي ظهور ألوان فاقعة من الإلحاد والإنحراف والعلمانية والسقوط والتطرف.


والإسلام يأمر بعدم مواصلة الحوار عند تجاوز الطرف الآخر حدود الحوار وآدابه كممارسة الإضطهاد والتهديد والافتراء والتهريج: «أُولئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ»32، أو إصراره علي عدم قبول الدليل والحجة والبرهان، رغم وضوحها وقاطعيتها: «وَما نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتَنا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ بَكَ بِمُؤْمِنِينَ33، حينما يدخل الحوار مرحلة العبث وتضييع الوقت، و يستحيل خلالها تحقيق فائدة بالصورة التي يصف فيها القرآن الكريم حوار رسول الله ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) مع الكافرين: «إن ّ الْذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأْنذَرْتَهُم ْ أمْ لَم ْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَم اللّهُ عَلي قُلُوبِهِم وَعَلي سَمْعِهِم ْ و عَلَي أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ»34.


من جهة اخري ينبغي الاتفاق بين الأطراف علي لغة حوار مشتركة35، وعلي مستوي علمي وفكري معين من اللغة؛ لكي يحصل التكافؤ في إيصال الرأي والرأي الآخر، كما في الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس علي قدر عقولهم» والواقع إن الخطاب الإسلامي الجديد المتطور، ينبغي ان يسود لغة الحوار الإسلامي المعاصر؛ فلكل مرحلة خطابها و لكل مرحلة لغتها وأساليبها الفنية الناجحة في الحوار، علي اعتبار أن هذا الجانب متجدد و يدخل في إطار المتغيرات، شرط أن لا يخرج التجديد عن الثوابت الأسلوبية في الحوارِ الإسلامي، وهذا التجديد تعبير عن حركية الاسلام وقدرته المطلقة علي استيعاب كل متطلبات الزمان والمكان وتلبية حاجاتهما.


9.نتائج الحوار: وهي ما يترتب علي الحوار بعد انتهائه من حقائق وأرقام جديدة تعلن عن تفوق أو أنتصار أو براءة أحد أطراف الحوار، وتؤدي بالطرف الآخر إلي التحول في الرأي كلياً أو جزئياً أو تدفعه لمراجعة ذاتية لآرائه ومعتقداته التي عُرصِّت للنقد والاهتزاز والهزيمة، وكذلك مراجعة أخري لأساليبه ومنهجه وخطابه. وقد ينتهي الحوار بتراضي الطرفين وتفاهمهماأو تساويهما في النصر والهزيمة، أو إقدامهما علي حالة وسط جذيذُ، والمهم هنا هو قبول كل أطراف الحوار بالنتائج مهما كانت، و عدم التعصب والاعتزاز بالخطأ. وبديهي أن يكون لجهاز الإدارة والتحكيم الدور الاساس في حساب النتائج، بالوسائل الموضوعية التي سبقت الإشارة إليها.


وقد يكون مفيداً هنا طرح تجربة الجمهورية الاسلامية الإيرانية في مجال الحوار، فهذه‏التجربة دون شك غنية كماً ونوعاً ولعّل نجاح الجمهورية الاسلامية في دفع هيئة الامم المتحدة لاقرار مشروعها بتسمية عام 2001م عاماً لحوار الحضارات، هو تعبير عن نضج تجربة الحوار فيها، وبناءاً علي ذلك، تم تأسيس مركز علمي تخصصي في طهران يأخذ علي عاتقه المساهمة في تنفيذ مشروع الحوار بين الحضارات. وسبق للجمهورية الإسلامية أن طرحت عدة مشاريع رائدة أخري، تحولت بمرور الزمن الي مؤسسات وأجهزة فاعلة، وفي مقذمتها مشروع الحوار بين المذاهب الإسلامية، الذي نشط منذ أوائل الثمانينات، ثم تبلور في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وكذلك المؤتمر العالمي السنوي للفكر الاسلامي، ومشروع الحوار بين الأديان الذي تديره أمانة عامة دائمة تعقد ملتقيات ومؤتمرات دورية علي مدار السنة. أما في الشأن الداخلي، فان الحوار الدائم والمناظرات بين الجماعات السياسية والاتجاهات الفكرية والثقافية عبر وسائل الإعلام والصحافة أو في التجمعات والندوات، يكاد يكون المنشط الأساس الذي يمّيز الساحة الايرانية. ولعل آلية الحوار والنقد التي اقرتها الثورة الاسلامية منذ اليوم الأول، ساهمت كثيراً في كشف السلبيات، وفي النظرة إلي المشاكل والمعوقات نظرة موضوعية وواقعية. ولا زال الحوار والنقد البناء يعطيان لمناخ الثورة مرونة عالية في التعامل مع قضاياها؛ لتأتي المعالجات والحلول في إطار دراسات واعية تستوعب الرأي والرأي الآخر.


التعايش في الرؤية الإسلامية


في اجواء الاختلاف يكون التعايش علي أساس التعددية التي يرتضيها الإسلام، هو الحل الكفيل بتجنب مشاكل الصراع والتضارب في الرؤي والأفكار والمعتقدات بشتي ألوانها. ولا يعني التعايش القبول بنسق واحد من التفكير والسلوك، وصهر الجميع في بوتقته، كما لا يعني التنازل عن الحق أو توزيعه علي المتعايشين بنسبة متساوية، وفقاً لمفهوم التعددية Pluralism الذي يفهمه الغرب، بل يعني أن يحـتفـظ كـل طرف بوضعه الخاص، ويمارس نشاطه الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي، في إطار الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الإسلام بمضامينها المتوازنة والمرشدة، والتي لا تسمح لأي طرف بسلب حقوق الآخرين أو الإخلال بأمن المجتمع، مهما بلغت قوة هذه الطرف عدّة و عدداً والصورة المثلي للتعايش هي صورة دولة المدينة التي كان اليهودي والنصراني يعيشان فيها بأمان الي جانب المسلم وفي كنف الدولة الإسلامية، وكان الحبشي والرومي والفارسي يتمتعون فيها بكل حقوق المواطنة كالعربي تماماً، وهكذا تعايش المهاجرون الي جانب الأنصار، وتعايش الآوس والخزرج معاً، بل كان يعيش فيها أتباع التيارات الفكرية والسياسية التي تشكل لوناً من المعارضة، وفي المقدمة تيار المنافقين والمشركين: «قُلْ يا أيُّها الْكافِرونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ * وَلا أَنْتُم ْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ* وَلا أَنْتُم ْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ*لَكُم ْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ*36 لقد كان الجميع يذركون حقوقهم وواجباتهم، ويمارسونها بالصورة‏التي قننها الإسلام .


وتستند الرؤية الإسلامية في مجال التعايش مع الآخرين إلي أساسين رئيسين، هما:


1. المصلحة الإسلامية العليا علي ضوء الواقع القائم.


2. الصلات والرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية.


ويستقي التشريع الاسلامي في كل مجالاته من هذين المعنيين فيعتبران من أهم سمات التشريع الإسلامي في شتي جوانبه. أما العناصر الرئيسة التي تحدد نوعية العلاقة بين المسلمين وغيرهم كالية للتعايش، فأهمها:


1. الامة المثال: يصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بالوسطية، ويريد به المثال الأسمي والأمة الشاهدة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، وهذا العنصر يدفع الأمة باتجاه السمو والتكامل في كل المجالات، والاستفادة الأكمل من تجارب الآخرين، ويعني ذلك الانفتاح علي كل مجالات الحياة، وحمل رسالة إنسانية حضارية كبري.


2. المبدئية: وتقضي بنوعين من التعايش: الاول بين المؤمنين، وهو تعايش أخوي، ويعني وحدة الأفراد في مجمل الشؤون. والنوع الثاني مع الآخرين، ويحدد طبيعته مقدار قرب أو بعدهم هؤلاء عن المبدأ الاسلامي الذي يحدد مضمون التعايش معهم، كأن يكون ودِّياً أ حسناً أو يشوبه القلق.


3. نفي السبيل علي المؤمنين: ويعني أن أي تصرف أو وضع معاهدة تؤدي الي تفوق الكافرين عليالمسلمين يعد ملغياً من أصله «وَلَن ْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلي المُوْمِنِينَ سَبِيلاً»37 وهذه القاعدة تعد من القواعد الثانوية التي تستطيع الحكم علي الأحكام الأولية بمجموعها. وهذا التوجه لا يعبِّر عن نوع من التكبر، إذ تعمل هذه القاعدة علي أساس معايير إنسانية.


4. التوعية والدعوة: فالتعايش لا يعني تجاوز حقائق الإسلام التي تؤكد استمرار التوعية والدعوة. ويقتضي التعايش المتوازن والعلاقات السلبية بين فئات المجتمع أن تركز النوعية علي أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: «فَلِذَلِكَ فَادْع ُ واسْتِقْم كَما أُمِرْت َ وَلا تَتَّبِعْ أهواءهُمْ»38.


5. العدالة: يشكل العدل أهم أصول التصور الاسلامي للواقع، وأهم الأسس عند التعامل الإجتماعي«يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كونوا قَوّامِين َ بِالُقسْطِ شُهَداءِ للّهِ»39و لعل الآية الكريمة «وَلا يَجْرِمُنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ عَلي ألاّتَعْدِلُوا إعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب ُ لِلتَّقْوي»40 تعبر بدقة عن أهمية العدل في معادلات التعايش، حتي في حالات التوتر التي يكاد أن ينسي فيها العدل. ومن خلال النظر إلي طبيعة تعامل دار الإسلام مع غير المسلمين، ندرك البعد الإنساني في عنصر العدل. وهو ما يفسر أيضاً وقوف الإسلام إلي جانب المستضعفين والمحرومين في كل مكان .


6. تأليف القلوب: في الأجواء التي يحكمها تأليف القلوب، تنفتح النفوس علي الحقيقة وتتقرب إلي الواقع . و يعود هذا العنصر إلي تشريع سهم المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة، والذي فتح المجال للوقوف إلي جانب المستضعفين والدفاع عن قضاياهم واجتذابهم نحو الإسلام، والإنفاق عليهم بما يحقق مصحة الإسلام العليا، وتعميق التعايش الإيجابي بين مختلف إتجاهات المجتمع.


7. الوفاء بالعهد: ويقصد به الوفاء بكل العهود والاتفاقات التي تعقد بين المسلمين وغيرهم «وأوفُوا بِالْعَهْدِ إنّ الْعَهْدَ كانَ مسئولا»41. ومن هذه العقود ما صرّح به الإسلام وحدّد لها قوانينها العامة، ومنها ما يري ولي الأمر ضرورتها لتحقيق مصلحة إسلامية عليا. ومثال الأولي: عقد الهدنة و عقد الأمان، ومثال الثانية؛ العقود الاقتصادية والعسكرية وغيرها.


8. التعامل بالمثل: مبدأ جزاء الاحسان بالاحسان، ومبدأ القصاص: مبدءان واقعيان يرتضيهما المنطق الإنساني والتعامل الفردي والإجتماعي42، وهدفهما ردع الإعتداء واستقطاب القلوب. يقول تعالي :


«الشَّهْرُ الحَرامِ بِالشَّهْرِ الْحَرام ِ وَالحُرُمات ُ قِصاصٌ*فَمَنْ اعْتَدَي عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل ِ ما اعْتَدَي عَلَيْكُمْ43. وهو يعني باختصار التعامل مع الآخر بالمثل: «لا يَنهاكُمْ اللّهُ عَنِ الَّذِين لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِ جُوكُمْ مِنْ دِيارِكُم ْ أن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِم»44.


ولعل تجربة الجمهورية الاسلامية الايرانية في مجال التعايش هي من التجارب المهمة علي صعيد التطبيق ؛ لما تمثله ايران من دولة تتميز بالتعددية في كثير من المجالات، فهناك أتباع ثلاث ديانات (النصرانية، اليهودية، الزردشتية) يعيشون إلي جانب المسلمين، وست قوميات (الفارسية، التركية، العربية، الكردية، التركمانية، البلوشية)، وخمسة مذاهب اسلامية، فضلاً عن الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية التي أذعنت جميعاً لمعادلات الشوري وآلية الممارسة الديمقراطية هذه التجربة الفذة التي أبرزت الوجه المشرق للرؤية الإسلامية في مجالي الحوار والتعايش، جديرة بالدراسة والمراجعة المستمرة.











1. ديدكاههاي فرهنكي امام خميني (نظرات الثقافية للامام الخميني)، اعداد: كبراسدي .


2. شروط النهضة، ص 130.


3. اعدتها منظمة المؤتمر الاسلامي .


4. سورة يونس، الآية 19.


5. سورة المائدة، الآية 48.


6. سورة الزمر، الآية 3.


8. سورة آل عمران، الآية 66.


9. سورة الحج، الآية 8.


10. الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في شرح إحياء علوم الدين للغزالي، ج 1 ص 101.


11. سورة آل عمران، الآية 158 .


12. سورة طه الآيتان 43 ـ 44.


13. كتـاب التوحيد للمفضل ـ انظر ايضاً ـ في مجال أدب المناظرة والحوار ـ ما ورد عن النبي ( صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ) وأهل بيته في كتاب الاحتجاج للطبرسي .


14. انظر الجويني، الكافية، ص 540، والسعدي، قاموس الشريعة، ج 3 ص 6.


15. سورة سبأ الآية 24 .


16. يقول الغزالي بأن المناظرة لابد أن تدور حول «واقعة مهمة أو مسألة قريبة من الوقوع». انظر المحجة البيضاء، ج 1 ص 100 .


17. سورة سبأ، الآية 46.


18. انظر الصحاح في اللغة والعلوم (المعجم لوسيط)، مادة نهج .


19. سورة الاعراف، الآية 71.


20. للكاتب نفسه، الاسس المهمة في النظام الاسلامي، ص 127.


21. سورة فصلت، الآية 33.


22. سورة يوسف، الآية 108.


23. الشهيد السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ج 1، ص 275.


24. رواها الحر العاملي في الوسائل، ج 11 ص 30.


25. الجويني، الكافية، 542 ـ 549.


26. سورة سبأ، 24.


27. المحجة البيضاء، ج 1 ص 99ـ 100، وأحياء علوم الدين، ج 1 ص 43.


28. سورة البقرة، الآية 111.


29. سورة آل عمران، الآية 64.


29. سورة آل عمران، الآية 64.


30. سورة العنكبوت، الآية 46.


31. سورة الانعام، الآية 108.


32. سورة النساء، الآية 63


33. سورة هود، الآية 53.


34. سورة البقرة: الآيتنان 6ـ 7.


35. المراد هنا الجانب الفني في اللغة أو الخطاب، كاستخدام المصطلحات التخصصية، والمستوي العلمي في التعبير عن الرأي وأسلوب طرحه، والاستفادة من بعض المعارف والعلوم التخـصصية، التـي ربما يجهلها الطرف الآخر ؛ فيكون الحوار حينها كحوار الطرشان ـ كما يعبرِّون ـ .


36. سورة الكافرون.


37. سورة النساء، الآية 141.


38. سورة الشوري، الآية 15.


39. سورة النساء، الآية 135.


40. س.رة المائدة، الآية 8.


41. سورة الاسراء، الآية 34.


42. انظر للكاتب نفسه، الاسس المهمة في النظام الاسلامي، ص 123 ـ 134.


43. سورة البقرة، الآية 194.


44. سورة الممتحنة، الآية 8.

/ 1