الشوري وولاية الفقيه
الشيخ قاسم الإبراهيمي إنّ البحث في أدلّة الشوري تارة يجري في أصل مشروعيتها ، واُخري في كيفية إجرائها ومن له حق ممارستها .
وقد كفانا بعض المحققين مؤونة البحث في الأمر الأوّل بما أورده من أدلّة كثيرة علي ذلك مما يحصل معه القطع بتمامية بعض الأدلّة جزما ؛ دلالةً وورودا ( 1 ) .
وإنّما ينبغي البحث في الأمر الثاني ، لكنا مع ذلك سنختار من بين مجموع الأدلّة المساقة لذلك آية الشوري لحصول الغرض بها ، ونبحث فيها عن كلا الجهتين :
فقد جاء في كتاب اللّه سبحانه وتعالي قوله : « وما عندَ اللّهِ خيرٌ للذينَ آمنوا وعلي ربِّهم يتوكّلون * والذينَ يجتنبونَ كبائرَ الإثمِ والفواحشَ وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذينَ استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاةَ وأَمرُهم شوري بينَهم وممّا رزقناهم ينفقون »( 2 ) .
وفقرة الاستدلال الواردة في الآيات الكريمة هي قوله تعالي : « وأمْرُهم شُوري بَينَهُم »( 3 ) ، فهذه الفقرة يمكن الاستدلال بها علي شرعية الانتخاب من جهة ، وإلزامية النتيجة للجميع من جهة اُخري . لكن لابدّ من بيان بعض المقدمات المرتبطة بالدليل قبل الشروع في بيان الاستدلال فنقول :
ذكرت للأمر في اللغة معانٍ عديدة ، منها : الطلب ( 4 ) ، والشيء ، والحادثة ( 5 ) ، والشأن ( 6 ) ، والحال ( 7 ) . وقد أرجع بعض الاُصوليين جميع هذه المعاني إلي أصل واحد ؛ تارة بمعني الواقعة والحادثة المقيدتين بالخطورة والأهمية أو بدونهما ( 8 ) ، واُخري بمعني الفعل والحدث ( 9 ) . في حين ذهب بعض آخر إلي رجوعها إلي أصلين ، هما : الطلب والشيء غير العَلَم ( 10 ) .
وأمّا أهل اللغة فربما جعلوا اُصولها خمسة ، بعضها الأصلان المتقدّمان ، لكن المصدر في الاُصول الثلاثة الباقية مفتوح العين ( 11 ) .
والظاهر صواب ما ذهب إليه الرأي الثاني من رجوع هذه المعاني إلي أصلين أحدهما الطلب ، وإن كنّا نري أنّ الأصل الثاني يساوق معني « الموضوع » المعبّر به عن كل ما يؤخذ بنظر الاعتبار ، فهو يلتقي مع معني لفظة « شيء » ، إلاّ أنّه يختلف عنها في أنّ لفظة « شيء » تنطوي علي صفة التحقق والوجود في حين لا ينطوي لفظ « الأمر » علي هذا المعني . ولذا صحّ الإخبار بلفظ « شيء » ، فيقال : « الكتاب شيء » بمعني أنّه موجود ، ولا يصح في الأمر ، كأن يقال : « الكتاب أمر » .
نعم ، لو اتصف الأمر بصفةٍ صحّ أن يعبر عنه بالأمر ، كأن يقال : « الكتاب أمر حسن » و « النار أمر ضروري في الشتاء » .
وكيفما كان ، فلفظ الأمر مستعمل عندنا بأحد معنيين : الطلب والموضوع .
والأمر قد يأتي مفردا معرّفا بالألف واللاّم ، كما قد يأتي مضافا إلي ذات أو جماعة معينة ؛ فالأوّل لا شكّ في انصرافه إلي المعهود عند العرف أو خصوص المخاطب ، والثاني إلي أهم الموضوعات المرتبطة بهما . وبهذا النحو ينبغي أن تحمل لفظة « الأمر » الواردة في الآيات والروايات ، والتي منها :
قوله تعالي : « قُلْ إنّ الأمْرَ كُلُّه للّه »( 12 ) و « يَقولونَ لو كانَ لَنا مِنَ الأمرِ شيءٌ ما قتِلنا ههنا »( 13 ) و « لو أنْزَلْنا مَلَكا لقُضي الأمرُ ثُمّ لا يُنْظرونَ »( 14 ) و « للّه غَيبُ السمواتِ والأرضِ وإليهِ يَرجِعُ الأمرُ كُلُّه »( 15 ) و « بَلْ للّهِ الأمرُ جَميعا »( 16 ) .
وقول الإمام علي عليهالسلام : « فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة » ( 17 ) ، والإمام الحسن عليهالسلام في كتابه إلي معاوية : « ولاّني المسلمون الأمر بعده » ( 18 ) ، والإمام الرضا عليهالسلام بإسناده عن النبي صلياللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة ويغصب الاُمّة أمرها . . . » ( 19 ) . إلي غير ذلك مما لا يسع إيراده هذا المختصر .
المراد بالشوري :
والشوري مشتقة من مادة « شور » التي ذكرت فيها عدّة معانٍ ، منها : الإبداء والعرض ( 20 ) ، والأخذ والجني ( 21 ) ، والإشارة والإيماء ( 22 ) ، والإعانة ( 23 ) ، وحسن الهيئة ( 24 ) ، وبدء السوءة ( 25 ) ، وغيرها .
لكن اللغويين أرجعوا الشوري إلي أحد المعاني الثلاثة الاُولي ، فظاهر الفراهيدي ( 26 ) والجوهري ( 27 ) وابن عباد ( 28 ) : انّها مشتقة من الشور بمعني الإيماء والاشارة ، وهو المنقول عن الليث ( 29 ) والأصمعي ( 30 ) ، وصريح ابن فارس ( 31 ) والراغب ( 32 ) : أنّها مشتقة منه بمعني الأخذ والجني ، والمطرّزي ( 33 ) وابن الأثير ( 34 ) والفيومي ( 35 ) : أنّها مشتقة منه بمعني الإبداء والعرض ، وهو المنقول عن شمر ( 36 ) .
وأيّا كان مصدر الكلمة فمعناها واضح ؛ وهو عرض المسألة وأخذ الرأي فيها .
والظاهر اختلاف الشوري عن المشاورة والمشورة ؛ فإنّ هاتين تطلقان علي الفعل ، وتلك تطلق علي ما تقع فيه المشورة . والظاهر أنّها صفة مشبّهة بالفعل علي وزن « فُعلي » ( 37 ) ، فيكون قوله تعالي إخبارا عن أنّ أمر المؤمنين من الاُمور التي يتشاور فيها ، كما صرّح بذلك الراغب ( 38 ) والمطرّزي ( 39 ) .
لكن الظاهر من ابن عبّاد أنّها فعل أو اسم فعل ( 40 ) ، وبالاسم صرّح صاحب المصباح ( 41 ) .
مضمون آية الشوري :
تفرض آية الشوري للمؤمنين ـ الذين يعود عليهم ضمير الإضافة في « أمرهم » ـ اُمورا تتعلق بهم خاصة ولا تتعلّق باللّه سبحانه ؛ فإنّ للّه سبحانه وتعالي في خلق الكون والإنسان أغراضا ومقاصد ؛ حيث قال : « وما خَلَقْنا السمواتِ والأرضَ وما بينهما لاعبينَ »( 42 ) ، وقد كشف عن هذه الأغراض نظريا بتعاليمه ، وترجمها إلي قوانين عملية بأحكامه وتشريعاته ، وبذلك حدّد الهدف ورسم الطريق إليه .
وإذ أتمّ اللّه تشريعاته وأحكامه حيث قال : « اليومَ أكملتُ لَكُم دينَكُم وأتْمَمتُ عَلَيكُم نِعْمَتي »( 43 ) فقد أتمّ أغراضه ، وأتي علي مقاصده وأهدافه ، فما بقي مما لم يشرّعه لا يدخل في غرضه ولا يهمّه ، وإن كان شيء من ذلك يهمّ أحدا أو شخصا فإنّما يهمّ الناس ويرتبط بهم . فالاُمور علي هذا علي قسمين : اُمور ترتبط باللّه سبحانه فقد شرع لها الأحكام المناسبة من وجوب وحرمة واستحباب وكراهة وإباحة ، ونجاسة وطهارة ، وصحة وبطلان ، واُمور لا ترتبط به ولا تدخل في حيّز اهتماماته ، بل ترتبط بمن أهمّته من الناس . ومن ذلك ما يكون أثره عائدا علي فرد واحد فهو أمر شخصي ، ومنه ما يكون أثره عائدا علي جماعة من الناس فهو أمر جماعي .
وقد ترك اللّه سبحانه القرار في الاُمور الشخصيّة لأصحابها ونهي عن التعرّض إليهم فيها بحكم قاعدة السلطنة ، وأمّا الاُمور الجماعية وهي ما عبّر عنه اللّه بـ « أمرهم » فمع أنّه سبحانه لم يشأ التدخل في مضمونه إيجابا ولا نفيا ولا وضعا أو رفعا لكنه تدخّل في تحديد طريق العمل به منعا للاختلاف ، وحيلولة من الفرقة والنزاع ما يفوت به الغرض من بعث الأنبياء والرسل عليهمالسلام .
بيان الاستدلال :
والاستدلال بهذه الآية يكون تارة علي حكم العمل بالشوري ، واُخري علي حكم قرارها ؛ فإنّ القرار الصادر منها ربما لا يكون إلزاميا لمن لم يصوّت لصالحه وإن أثبتنا مشروعية عمل الشوري . فالكلام يقع في جهتين :
الجهة الاُولي ـ حكم العمل بالشوري :
يمكن تقريب حكم العمل بالشوري من الآية بعدة تقريبات ، أهمها :
التقريب الأوّل :
إنّ اللّه سبحانه عدّ في الآية الشريفة العمل بمبدأ الشوري فيما يرتبط بالجماعة من صفات الذين آمنوا ، ومقتضي ذلك أنّ كل قرار يرتبط بالجماعة ولا يقوم علي أساس الشوري لا يكون من صفات المؤمنين ، ويكون باطلاً .
ولازم ذلك لزوم العمل بالشوري علي المؤمنين لدي تصدّيهم لاتخاذ أي قرار يرتبط بالجماعة ، وعدم مشروعية الاستبداد فيه الذي هو معني آخر عن عدم ترتب أثر شرعي عليه .
وهذا التقريب مناقش فيه :
أوّلاً : بأنّ انتفاء الوصف لا يقتضي انتفاء الموصوف ؛ لأنّ إثبات شيء لشيء لا يعني نفي ما عداه عنده ، نعم لو علم دخالة الوصف ـ وهو العمل بمبدأ الشوري في الاتصاف بالإيمان وعدمه ـ أمكن انتزاع لزوم العمل به ، لكن إثبات ذلك ممتنع .
وثانيـا : أنّ الضمير المضاف إليه لفظ الأمر لا يعود علي المؤمنين وإن ذهب جملة من الفقهاء والمفسرين إلي ذلك ( 44 ) . . . بل مرجعه الاسم الموصول المستعمل في جمع العقلاء ، ولفظ « آمنوا » التي اُرجع إليها الضمير في « أمرهم » جملة صلة الموصول الأوّل ، فلا خصوصية لها ليعود الضمير عليها بل عطف العبارات الاُخري من الأسماء الموصولة وصلتها علي مدخول شبه الجملة ـ أعني الاسم الموصول الأوّل وصلته ـ يقتضي انقطاعه عن صفة الإيمان ، فكأنّ اللّه سبحانه وتعالي قال : وما عند اللّه خير للمؤمنين والمتوكلين علي ربهم ، وكذا المجتنبين كبائر الإثم والفواحش والغافرين عند الغضب ، وكذا المستجيبين لربهم والمقيمين الصلاة والعاملين بالشوري في الأمر المرتبط بهم والمنفقين مما رزقناهم .
التقريب الثاني :
إنّ الصفة المذكورة وردت في الآية ضمن سياق الحديث عن الصفات الواجب علي الناس الاتصاف بها ، فتكون واجبة مراعاةً لوحدة السياق .
وفيه :
أوّلاً : أنّ من جملة الصفات الواردة في ضمن الآية ما يقطع بعدم وجوب التحلّي به ، كقوله تعالي : « وإذا ما غَضَبوا هُم يَغْفِرونَ »( 45 ) ؛ فإنّ غفران الذنب للمذنب ليس واجبا قطعا وإنّما هو مستحب ، فيكون السياق دالاًّ علي مطلوبية هذه الصفات لا أكثر ، ومعه لا يمكن الاستدلال بلزوم العمل بالشوري .
وثانيـا : أنّ أصالة وحدة السياق مختلف فيها كبرويا بين الأعلام ؛ إذ منهم من لا يري ثبوتها .
فالاستدلال ممنوع كبري وصغري .
التقريب الثالث :
تقدم أنّ اُمور الناس علي قسمين : أحدهما الاُمور المختصة بالأشخاص ، فذلك مما ترك أمره إليهم بمقتضي قاعدة السلطنة ، وثانيهما الاُمور المرتبطة بالجماعة ، فالتصرف فيها مما يحتاج إلي دليل .
وقد أقرّ اللّه سبحانه وتعالي ـ بمقتضي آية الشوري ـ العمل بهذا المبدأ في هذا القسم ، فهو بمثابة حكم وضعي بمشروعية العمل المذكور ، ومقتضي الإطلاق عدم عِدلٍ آخر ، كما لا دليل منفصل علي جواز غير الشوري أيضا ، فثبت من كل ذلك لزوم العمل بالمبدأ المذكور فيما يخصُّ اُمور الجماعة .
وقد يناقش هذا الدليل :
أوّلاً : بكفاية اجراء أصل البراءة الشرعيّة في القرارات المتخذة بناءً علي مسلك حق الطاعة ، والعقليّة علي مسلك قبح العقاب بلا بيان خصوصا فيما لا ينافي ذلك حقا أو حكما للآخرين .
وفيه : أنّ الأصل مقطوع بقاعدة السلطنة ؛ فإنها وإن طبّقت عادة فيما يتعلّق بالأفراد من اُمور مما ربما يتوهم إرادة العموم الاستغراقي بخصوصه بصيغة الجمع الوارد فيها لا العموم المجموعي وحده ولا هو والعموم الاستغراقي ؛ لاستلزامه استعمال الصيغة في أكثر من معني واحد ، لكن تطبيقها كذلك ليس من هذا الباب ، بل لا خصوصية لصيغة الجمع في ذاتها ، وإنّما لرجوع القاعدة إلي نكتة مركوزة لدي العقلاء ؛ هي أنّ المالك لشيءٍ مسلّط عليه .
وثانيـا : بأنّ شوروية الأمر الوارد في الآية ليس حكما وضعيا ؛ إمّا لأنّ الحكم الوضعي اعتبار لوضع وفقرة الاستدلال ليست كذلك ، أو لأنّ اللّه سبحانه في مقام الوصف لا التشريع .
والجواب : أنّه وإن فرض عدم كون شوروية الأمر حكما وضعيّا ، لكن امتداح هذه الصفة من قِبل اللّه سبحانه لا يعطيها الاعتبار والمشروعية فحسب ، بل يجعل التحلّي بها أمرا مستحبا .
التقريب الرابع :
إنّ الآيات الكريمة رتّبت الثواب الاُخروي علي من توفّرت لديهم الصفات المذكورة ، ومن الواضح أن الثواب الاُخروي لا يترتّب علي كل صفة وحدها بل علي مجموع الصفات المذكورة ؛ لعدم كفاية الإيمان وحده لترتبه ، ولا التوكّل كذلك ؛ وحينئذٍ فلو كانت الصفة المذكورة غير واجبة التحصيل والعمل لَما توقّف ترتُّب الثواب عليها .
ووجود بعض الصفات غير الواجبة كذلك ـ كغفران الذنب ـ لا يضرّ بالاستدلال ، فليكن تخصيصا .
وهكذا يثبت لزوم العمل بمبدأ الشوري .
لكن فيه : أنّه من غير الواضح استفادة توقّف الثواب الاُخروي علي الاشتمال علي هذه الصفات ، بل لا إشعار في الآية بالتوقف وإنّما هي بصدد بيان فضل الثواب الاُخروي علي متاع الدنيا مع ذكر متعلّقهما لا علي سبيل الحصر وفي مقام البيان .
فتحصّل من كل ما تقدّم : عدم تمامية الدليل علي وجوب العمل بالشوري فيما يتعلّق بجماعة الناس ، ومعني ذلك أنّ الاُمّة غير ملزمة شرعا باتّباع طريق الشوري فيما يتعلّق بها ، فيمكن أن تقرّ تصدي المتصدّي لذلك أو ما اتفق عليه أهل الحلّ والعقد أو أيّة جماعة اُخري ، لكنه مع ذلك يستحب لها أن تتبع هذا المبدأ في مثل هذه الاُمور ، ويكون هذا حكما أوّليا مجعولاً من قِبل الشارع يقضي بجعل هذه الاُمور بيد الاُمّة ، بل لنا أن نقول : بأنّ ما يناسب شأن الشارع بما هو شارع التدخل فيما هو داخل في حيّز اهتماماته مما أبان عنه بتشريعاته دون ما خرج عن ذلك مما يرتبط بالناس .
فالاختلاف بين القائلين بالولاية المطلقة مع النصب وبين القائلين بالشوري معه هو في صغري كون هذه الاُمور مما تخصّ الشارع أم لا كي يُنصب من ينوب عنه فيها أم لا ؟
الجهة الثانية ـ وأمّا حكم قرار الشوري فيمكن بيانه من عدة وجوه :
الوجه الأوّل : أن يقال بأنّ الأمر في الآية الشريفة وارد بمعني الطلب وظاهر في الطلب الوجوبي ، لكن لمّا كان الإخبار عنه بأنّه شوري بينهم لا يستقيم ؛ للتباين وعدم التصادق عرفا ، فلابدّ من حمل الأمر في الآية علي الأمر الادعائي لا الحقيقي ، فالشارع ينزّل الشوري بين الناس منزلة الأمر العرفي الظاهر في الوجوب ، وبه يكون قرار الشوري لازما للغير ولو كان مخالفا .
لكن قد يناقش هذا الوجه : بأنّ حمله علي هذا المعني خلاف أصالة الحقيقة . نعم ، لو كانت هناك قرينة علي إرادة هذا المعني لم يكن في ذلك ضيـر .
الوجه الثاني : أن يقال بأنّ اعتبار الشارع العمل بمبدأ الشوري فيما يتعلّق بالجماعة بأحد التقريبات الأربعة المتقدمة في البحث السابق إمضاءٌ لقرارها بما يستلزم ذلك من موافقة ومخالفة وامتناع ؛ فإنّ إطباق أعضاء الشوري علي رأي واحد لا يقع إلاّ نادرا ، فمثله لا يُصرف إليه الاعتبار المذكور .
الوجه الثالث : تتميم الأدلّة المتمسك بها في البحث السابق بالتمسك بآية ولاية المؤمنين بعضهم علي بعض ، فيقال : إنّ الشارع جوّز بموجب الأدلّة المتقدمة عمل الشوري ، فما يختاره أكثر أعضاء الشوري يكون بموجب ولاية المؤمنين علي بعضهم ملزما للبعض الآخر المخالف أو الممتنع . وإلي هذا الرأي ذهب السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر رضياللهعنه ( 46 ) .
لكن هذا الوجه يواجه مشكلة من ناحية تطبيق آية الولاية علي خصوص الأكثرية دون الأقلّية أو المساوية ؛ فإنّ الجميع مما يصدق عليهم أنّهم مؤمنون . اللهم إلاّ أن تحلّ بإضافة أصل عقلي أو عقلائي ممضي شرعا يقضي بإخضاع رأي الأقلّية لها ، لكنه ـ بناءً علي هذا ـ هو المتمّم لا الآية المذكورة .
وقد تحصّل من مجموع البحث : أنّ الشوري طريق شرعي لإقرار كلّ ما يرتبط بالجماعة من اُمور وأنّ قرارها ملزم للجميع .
حدود تطبيق مبدأ الشوري :
انتهينا لحد الآن إلي إثبات أنّ الانتخاب أمر مكمّل للنصب علي أغلب المباني الفقهية القائلة بولاية الفقيه ، وأنّ الانتخاب طريق شرعي لاتخاذ القرارات فيما يكون من شؤون الناس ، وانّ قراراته ملزمة لجميع الأفراد ؛ موافقة أو مخالفة أو ممتنعة .
بقي الكلام في بيان حدود تطبيق مبدأ الشوري ، فما هي حدود الاُمور التي يجري تطبيق مبدأ الشوري بشأنها ؟
من الواضح أنّ موضوع آية الشوري هو الاُمور المتعلّقة بجماعة الناس ، فلا تقييد فيه إلاّ من هذه الجهة ، وقد بيّنا أنّ كل أمر يتعلّق باللّه سبحانه فقد بيّنه بمقتضي آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، وما عداه فهو من اُمور الناس . هذا من حيث الموضوع .
وأمّا من حيث الحكم فلا يوجد تقييد أيضا ؛ فكل ما كان من اُمور الناس فهو شوري بينهم .
ولما كانت جماعة الناس المضاف إليها لفظ الأمر عنوانا كلّيا مشكّكا يصدق علي أفراده بالتفاوت ، فإنّ حدود هذه الجماعة تتسع وتضيق بحسب من يرتبط بهم الأمر ، فقد تكون الجماعة كل الشعب إذا كان الأمر مرتبطا به كما في إقرار نظام الحكم وتعيين الحاكم العام ، وقد تكون أبناء المدينة كما إذا كان الأمر انتخاب رئيس بلديتها ، كذلك قد تكون طلاب المدرسة بل الفصل كما إذا كان الأمر انتخاب ممثلين عنهم ، وهكذا يكون مبدأ الشوري جاريا علي جميع المستويات .
نعم ، قد يحدّ من جريانه بعض القوانين المشرّعة في مستوي أعلي بتطبيق مبدأ الشوري ، أو وفقا للصلاحيات المخوّلة لتلك الجهة استنادا إلي هذا المبدأ .
تخلّف من لهم حق المشاركة في التصويت :
قد يتخلّف في بعض الحالات عدد ممن لهم حق المشاركة في التصويت عن الحضور فلا يشاركون في الانتخاب ، وقد يكون التخلّف بدرجة عالية لا يمكن معها القول بتحقق أكثرية في أعضاء الشوري ، فكيف يمكن تخريج ذلك فقهيا ؟
والجواب عن هذا الإشكال يحتاج إلي تقصٍّ لحالات التخلّف ، والتعرّف علي أسبابها .
فمن حالات التخلّف ما يؤدّي إلي عدم اكتمال عدد الحضور النصاب القانوني المقرّ في قانونٍ سابقٍ مصوّت عليه من قِبل جهة أعلي هي المانحة للشوري التي حصل التخلّف فيها ، فمن الواضح عدم صحة التصويت المذكور ؛ لمغايرته للقوانين المصوّت عليها ، فهذا الفرض خارج قانونا .
وإنّما تبقي الحالات التي لم يفترض فيها نصاب معين أو التي فرض لها وبلغ عدد الحضور النصاب المعتبر .
والتخلّف في هذه الحالات إمّا أن ينشأ من اعتراضٍ وعدم رضا علي قانون الانتخاب ، أو علي كيفية تنفيذه ، أو من عدم اهتمام ومبالاة .
فأمّا القانون المعترض عليه فإن كان علي حكمٍ شرعي لم يكن لاعتراضهم مورد ؛ لأنّه ليس من الاُمور المرتبطة بهم كي يجري التصويت لصالحها أو ضدها وإنّما من اُمور اللّه الخارجة تخصصا ، وإن كان تشريعا شرّعته الاُمّة أو الجهة المعتبرة قانونا فيمكن تقديم اعتراض المعترضين إليها واتخاذ موقف بشأنه رفعا أو إقرارا أو تغييرا .
وأمّا كيفية تنفيذ القانون فإنّ مردّه إلي الجانب العملي ولا علاقة له بالجانب النظري ؛ لأنّ الفرض مبنيّ علي صحة تطبيقه .
وأمّا لو كان ناشئا من عدم الاهتمام واللاّمبالاة فهو عبارة عن رضا وقبول للنتيجة أيّا كانت ، فلا يؤثر الامتناع عن التصويت علي نتيجته سلبا ولا إيجابا .
( 1 ) انظر : ولاية الفقيه ، المنتظري 1 : 493 ـ 511 .
( 12 ) آل عمران : 154 .
( 24 ) للمثال انظر : العين 6 : 281 .
( 36 ) لسان العرب 7 : 233 ـ 235 .
( 20 ) للمثال انظر : العين 6 : 281 . معجم مقاييس اللغة 3 : 226 ـ 227 . جمهرة اللغة 2 : 735 . تهذيب اللغة 11 : 403 ـ 404 .
( 27 ) الصحاح 2 : 704 .
( 15 ) هود : 123 .
( 39 ) المغرب : 258 .
( 8 ) أجود التقريرات 1 : 86 وما بعدها .
( 45 ) الشوري : 37 .
( 2 ) الشوري : 36 ـ 38 .
( 11 ) معجم مقاييس اللغة 1 : 137 .
( 21 ) للمثال انظر : العين 6 : 280 . معجم مقاييس اللغة 3 : 226 ـ 227 . مفردات الراغب : 469 .
( 31 ) معجم مقاييس اللغة 3 : 226 ـ 227 .
( 35 ) المصباح المنير : 327 .
( 44 ) انظر للمثال : الميزان في تفسير القرآن 18 : 62 ـ 63 . المرجعية والقيادة ، السيّد كاظم الحائري : 44 .
( 18 ) مقاتل الطالبيين : 36 .
( 25 ) انظر : النهاية 2 : 508 .
( 5 ) انظر : لسان العرب 1 : 204 . القاموس المحيط 1 : 688 .
( 28 ) المحيط في اللغة 7 : 378 .
( 13 ) المصدر السابق .
( 14 ) الأنعام : 8 .
( 42 ) الأنبياء : 16 . الدخان : 38 .
( 41 ) المصباح المنير : 327 .
( 43 ) المائدة : 3 .
( 19 ) عيون أخبار الرضا 2 : 62 .
( 16 ) الرعد : 31 .
( 29 ) لسان العرب 7 : 233 ـ 235 .
( 17 ) نهج البلاغة : الخطبة 3 .
( 40 ) المحيط في اللغة 7 : 378 .
( 34 ) النهاية 2 : 508 .
( 10 ) بحوث في علم الاُصول 2 : 11 ـ 14 .
( 4 ) المصباح المنير : 21 .
( 6 ) مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب الأصفهاني : 88 . المنجد في اللغة : 18 .
( 8 ) أجود التقريرات 1 : 86 وما بعدها .
( 7 ) المصباح المنير : 21 .
( 37 ) الممتع الكبير في التصريف : 68 .
( 46 ) خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء : 54 .
( 32 ) مفردات غريب القرآن : 469 .
( 33 ) المغرب : 258 .
( 22 ) للمثال انظر : العين 6 : 280 . الصحاح 2 : 704 .
( 30 ) تهذيب اللغة 11 : 403 ـ 404 .
( 38 ) مفردات غريب القرآن : 469 .
( 26 ) العين 6 : 281 .
( 23 ) لسان العرب 7 : 233 ـ 235 .
( 3 ) الشوري : 38 .