الفقه والمنهج الموسوعي«القسم الاول»
الشيخ صفاء الخزرجي
الفقه والمنهج الموسوعيالشيخ صفاء الخزرجي- القسم الاول -بسم الله الرحمن الرحيمالعلم و الحضارات :لاريب ان القاعدة الاساس في التطور الحضاري لكل امة انماتتبلور بجلاء في المظهر العلمي والفكري لتلك الامة الى جانب المظاهر الاخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والدينية، والمجموع من تلك المظاهر يسمى ب(الحضارة). وليس لواحد من هذه المعالم دور كما للعلم، فالعلم هو الذي يرسم وجه الحياة ويحدد مسارها، كما انه ليس لواحد من تلك سيادة وسلطان كما للعلم، فالامم التي سادت انما سادت سيادة حقيقية بعلومها، وكلما كان رصيدها من العلم اوفى كان حظها من الحياة والخلود بقدره. ولو استثنينا - في تصور مجرد - العلم كحقيقة هامة من حقائق الحياة البشرية ايا كان مصدر هذا العلم الدين او التجربة، لالفينا عالما لا يمكن تكهن وضعه الا ان ادنى ما يقال فيه انه لا يرتفع كثيرا عن عالم الحيوانات الاخرى. فالعلم، اذن حظوة حبا الله الانسان بها، وهو من ناحية تتويجوتكريم له «ولقد كرمنا بني آدم» وهو امانة ومسؤولية في عنقه من ناحية ثانية. وعليه، فليس العلم - كمقولة عامة - جزء رئيسيا في حضارات البشر، ومعلما شاخصا من معالمها فحسب، بل هو اعظم انجاز بشري قام به الانسان على وجه الارض لتطوير الحياة. ثم ان هذا الانجاز العظيم لم يكن وليد الساعة، بل تعاقبتعليه حقب طويلة من القرون وشادت صرحه اجيال وعقول كثيرة ساهمت في تطويره وتنضيجه بعد ان لم يكن يعدو في مراحله الاولى سوى بضعة تصورات ومعلومات بسيطة لكنها سرعان ما اخذت بالاتساع والتضخم حتى اكتسبت طابع العلم وخصائصه. فلا يقصد بالعلم الادراك الساذج المتناثر، اي مجرد انطباعصور الاشياء في الذهن، وانما هو مجموع العمليات الذهنية التي يمارسها العقل البشري في مجال التفكير والانتقال من المجهول الى المعلوم، واعمال النظر في استنباط القواعد والموازنة بين الادلة وتقويمها ضمن منظومات واطر محددة. وهكذا اندفعت عجلة العلم تتحرك بسرعة في مسرح الحياة، وبدا الانسان رحلته مع العلم يطورها ويثريها بتجاربه وكشوفاته الى جانب ما يستلهمه عن طريق الوحي من معارف وعلوم، حتى تاسست جملة من العلوم كعلم الطب والفلك والنجوم والفلسفة والرياضيات وغيرها. وقد كانت لبعض الجماعات البشرية كاليونان القديم والهندوايران ومصر والعراق اسهامات عظيمة في دفع عجلة العلم ومدها. وقد احتفظت لنا صفحات التاريخ بمراكز العلم التي شعت بنورها على العالم في تلك البلاد كاثينا وانطاكية وروما في اليونان وجندي سابور في ايران (قرب دزفول) ونصيبين شمال سورية وبابل في العراق، كما ان التاريخ يحفظ لنا اسماء وربما اعيانا مما وضع ودون في تلك العلوم. ونلمح هنا الى شطرمنها حسب موضوعاتها بنحو الاشارة: اولا - الطب:كتاب عهد ابقراط، والفصول، وجراحات الراس والتشريح،وتقدمة المعرفة وغيرها. وجميعها لابقراط اليوناني الكبير (459 او 460 - 355 ق.م). 2 - كتاب الزينة، لا قريطون المزين (52 - 117 م). 3 - كتاب الستة عشر، وكتاب تشريح الاموات، وكتاب تشريح الاحياء، وكتاب تشريح الرحم، وغيرها كثير. وجميعها لجالينوس الحكيم (139 او 138 - 200 او 201م). ثانيا - الفلسفة والمنطق:1 - كتاب النواميس، وكتاب السياسة، وكتاب الحس واللذة،وكتاب التوحيد، وغيرها كثير. وجميعها لافلاطون (429 - 347 ق.م). 2 - كتاب ارغنون، وهو عبارة عن ستة كتب هي: المقولات، العبارة، تحليل القياس، البرهان، الجدل، المغالطين، باضافة الشعر والخطابة، فيكون المجموع ثمانية كتب. وهي لارسطو طاليس. 3 - كتاب اخبار الفلاسفة لفرفوريوس الصوري نسبة الى مدينة صور. ثالثا - الرياضيات:1 - كتاب الكرة المتحركة، وكتاب الطلوع والغروب،لاوطولوقوس الرياضي اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد نقل الكتابان الى العربية. 2 - كتاب الكرة والاسطوانة، وكتاب تربيع الدائرة، وكتاب المثلثات، وكتاب تسبيع الدائرة للرياضي الشهير ارخميدس (312 ق.م). 3 - كتاب المخروطات، لابلونيوس المهندس والمنجم اليوناني المعروف (205 ق.م). رابعا - علم النجوم:1 - كتاب النمودار في الاعمار للعالم الهندي (كنكه)، ولهايضا: اسرار المواليد. 2 - كتاب المواليد عربي، لجودر الهندي. 3 - كتاب المواليد الكبير، لنهق الهندي. ويكفي القارىء الرجوع الى ما اورده ابن النديم في (الفهرست) وابن خلدون في (المقدمة) للاطلاع على فهارس المؤلفات والمؤلفين وانواع العلوم والصناعات في مرحلة ما قبل التاريخ وبعده. وما ان بزغتشمس الاسلام حتى قام بتاسيس جملة من العلوم الجديدة التي رفد بها حركة العلم وزاد في رصيدها وشجع على الاهتمام بها، بل لم يعهد دين حض على طلب العلم كالاسلام، فاكب المسلمون على ذلك وشغلوا به قرونا طويلة حتى اخذت تلك العلوم طابع القداسة في نفوسهم، فكانتحصيلة ذلك تشييد صرح جملة من ابواب المعرفة، كالتفسير والفقه والحديث والكلام والادب، وظهور طبقات من المفسرين والفقهاء والمحدثين والفلاسفة والمتكلمين، وسطروا في ذلك مصنفات قيمة. وقد كان لائمة اهل البيتعليهمالسلام: واصحابهم دور رياديوتاسيسي في هذا المضمار، فترعرعت في مدرسة الامامة اجيال من العلماء شعت علومهم على العالم الاسلامي ودونوا فيها ما ملا الخافقين، ويكفينا لاثبات ذلك مراجعة بسيطة لكتاب «تاسيس الشيعة لعلوم الاسلام» وكتاب «الشيعة وفنون الاسلام» لآية الله السيد حسن الصدر للوقوف على دور اهل البيتعليهمالسلام: في ترشيد الحركة العلمية في عصر عرف بعصر ازدهار العلم، بكل ما للعلم من امتداد وتجذر في واقع الحياة، فلم يقف شغف المسلمين بقضايا العلم عند علوم الاسلام والشريعة، بل امتد ليكشف عن مجاهيل في العلوم الطبيعية لم تنلها يد الحضارات السابقة. لا يخفى ما وكان للائمة ايضا في هذا من دور طليعي وفضللا ينكر، فنشط لمثل هذه العلوم جملة من تلامذتهم المبرزين ونبغوا فيها، اضراب جابر بن حيان الطرطوسي الذي ذاع صيته في بعض العلوم الغربية مما اخذه عن استاذه وشيخه الامام الصادق(ع) حتى ان ابن خلكان في وفيات الاعيان يقول في حديثه عن الامام الصادق(ع): «وكان تلميذه ابو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي، قد الف كتابا يشتمل على الف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق، وهي خمسمئة رسالة»، وقال العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني «رايتخمسين كتابا خطيا عن جابر يقول فيها: القى علي جعفر او قال لي جعفر او حدثني مولاي جعفر، وفي رسالة: اخذت هذا العلم من سيدي جعفر بن محمد سيد اهل زمانه». اضف لذلك كله ما تميزت به تلك البرهة من انفتاح الحدودالفكرية والعلمية بين الامم بحيث لم يعد التراث العلمي لامة حكرا عليها، فنقلت جملة من علوم تلك الامم الى حوزة المسلمين العلمية بعد ترجمتها، فتلقتها النفوس المرهفة وهذبتها بما يتطابق ومعارف الاسلام وتعاليمه. والحصيلة التي تمخضت عنها هذه الحركة العلمية تدوين تراث علمي يزخر بمختلف ابعاده واتجاهاته. وقد اتسم منهج التحصيل والتدوين في تلك الاعصار بالموسوعية في البحث، وعرف جيل من الاعلام بالموسوعين، كما عرفت جملة من مدوناتهم بالموسوعات او دوائر المعارف، اعتمدوا في تاليفها منهجا خاصا. بيد ان هذا المنهج ضعف في القرون التي اعقبت ذلك - ولعلالقرن الرابع الهجري اول القرون التي ظهرت فيها آيات ذلك - لاسباب سنلمح اليها، واكتسب العلم طابعا جديدا في التدوين والتحصيل ينحو باتجاه التخصص وحصر دوائر البحث بدلا عن الموسوعية والاستيعاب. وقد لو حظ على كلا المنهجين في تراثنا امران مهمان: الاول: غياب الضابطة او المنهجية في البحث، ويتجسد هذافي تشتت الموضوع الواحد في مواطن كثيرة من البحث بمناسبة او بدونها الامر الذي يصعب معه على الباحث استقصاؤها لتكوين تصور كامل عن الموضوع وحدوده، هذا اذا كان الباحث من اهل الممارسة في تلك العلوم، واما لو يكن من اهلها فان الالمام باطراف البحثيعد من المحالات بالنسبة اليه. يضاف الى ذلك كثرة البحوث الاستطرادية التي لا طائل تحتها مما يشغل الباحث ويصرفه عن المهم من غرضه. الثاني: صعوبة اللغة الحاكمة على كتب التراث، حيثيحيطهافي كثير من الاحيان التعقيد والاغلاق في البيان مما يجعل على علومها في بعض الحالات اقفالا لا يملك مفاتحها الا ذوو الاختصاص والدربة. الامر الذي يجعل الافادة من تلك المعارف والعلوم محصورا في اطار خاص. واما القطاع العام من متوسطي الثقافة بل وحتى الراقين فيها فهم محجوبون عن ذلك. وبالطبع فان ثمة عوامل موضوعية كانت تدعو السلف للكتابة بمثل هذا الاسلوب الذي يهتم - او ربما يبالغ - في التانق في تنضيد العبائر وسبكها باسلوب علمي رصين. بحيث اضحى هذا الامر في تلك الازمنة صناعة وفنا يتنافس فيه، وربما عد معيارا للتفوق عند البعض. مشكلة التراث في العصر الحاضر:ان التراث بكافة امتداداته وابعاده فضلا عن انه ماض نعتز بهونفخر، هو في الحاضر ضرورة وجود وحياة، فان الاستقلال الفكري لاية امة او جماعة انما يقاس بمدى ارتباطها بتراثها ووعيها لعمقها العلمي والحضاري في التاريخ. ولكن كيف ننفتح على التراث، وكيف نمد جسور الوصل بينناوبينه، بحيث تقراه الاجيال المعاصرة من دون اي التواء او تعقيد؟ وهنا تكمن المشكلة في كيفية الارتباط بالتراث الذي ربما تحول بيننا وبينه فواصل زمنية، واخرى بيئية وربما روحية توحي بالدعوة لنبذ التراث لانه جزء من الماضي ولانه خلق لغير عصرنا ولا يعنينا في شيء من حاضرنا او مستقبلنا، خصوصا وان اجزاء من هذا التراث لا زالت في كتب صفراء يعلوها الغبار في اقبية المتاحف والمكتبات، او حبيس العبارات والمصطلحات والرموز، او غدا كما متراكما لا يسهل النفوذ اليه بسرعة، وكل هذا يهدد تراثنا بالعزلة والانكفاء من قبل اجيالنا المعاصرة; لان هذه الاجيال الفت في دراساتها الحديثة طرقا ومنا هج اخرى، ولم تعد تقرا او تطالع او تبحث بهذه الطريقة. ولا يخفى على الخبير الواعي ما تتركه هذه العزلة من آثارسيئة على الامة الاسلامية، حيث الضياع الفكري وفقدان الاصالة والانتماء، وهذا ما يحتاج الى عودة ووثبة ترجع الامة الى ثقافتها وتراثها اللذين صنعا اصالتها واستقلالها في كافة الابعاد... لابد من معالجة لفكر التراث تجعله امرا ميسورا تقراه جميع الطبقات الواعية للخروج به من حالة الركود او الانحصار والتفرد بهذه الطبقة او تلك، سيما التراث الفقهي، ذلك الوعاء المعرفي الكبير الذي يعتبر مادة تشريعية وقانونية للبشرية جمعاء، خصوصا وان الحياة المعاصرة تفرض كثيرا من المستجدات التي لم تتوقف في يوم من الايام، مما يشعرنا دائما بضرورة تراثنا الديني والفقهي للموائمة بين ما يفرضه الدين وما تواجهنا به الحياة الحديثة. الطريقة الموسوعية:ومن جملة المعالجات الناجحة التي يمكن ان تخدم تراثناوتيسر فهمه وتختصر الطريق في ذلك ما اشرنا اليه وهو تشكيل دوائرة المعارف والموسوعات. وقد اضحى هذا النمط من التدوين والبحث ضرورة علمية يحتمها الواجب الديني لتقريب المسافة بين الحاضر والماضي، وردم الهوة بينهما. ومن هنا كان امام العمل الموسوعي في سائر العلوم الاسلامية هدفان بارزان يراد تحقيقهما والبلوغ اليهما: 1 - عرض التراث الفقهي والفكري الذي حوته المصادروالكتب القديمة باسلوب ميسر ومفهوم. 2 - بحث المسائل بحثا موضوعيا، وذلك بجمع شتاتها المتفرق وفروعها العديدة ليسهل على الباحث - سواء كان من ذوي التخصص في تلك العلوم او لم يكن كذلك - ان يقف على نظرة متكاملة وراي جامع في الموضوع الذي يكون بصدده، الامر الذي يغنيه عن مراجعة عشرات المصادر مع ما يوفره من وقت وجهد. وياتي في صدارة العلوم التي يجب اعادة صياغتها وتنظيم بحوثها على الترتيب الموسوعي ودوائر المعارف علم الفقه; وذلك لجملة من الدواعي، وهي: 1 - قداسة هذا العلم ومسائله في نفوس المسلمين مما يدعوهم للعناية به اكثر من غيره. 2 - تضخم مباحث هذا العلوم بشكل مطرد ومستمر، سيما مع فتح باب الاجتهاد طوال هذه الفترة من تاسيس علم الفقه، الامر الذي يجعل الاحاطة بفروع البحث الفقهي امرا عسيرا. 3 - انحسار علم الفقه عن عامة الناس نتيجة التعقيد وصعوبة الالفاظ، مما يشعر بالحاجة الى وجود ادوات خاصة لنشر الثقافة الفقهية بين الاوساط المثقفة، وكذا الاوساط العلمية والحقوقية في العالم التي ابدت في مناسبات عديدة رغبتها في التعرف على المادة الفقهية والقانونية للفقه الاسلامي خاصة الفقه الامامي، لما يمتاز به من عناصر الغنى والاصالة وخصوبة المادة وسعتها. من اجل ذلك ادركت كثير من الاوساط العلمية والاسلاميةضرورة هذا الامر فتنادت لذلك، واطلقت دعوات عديدة في هذا المضمار لاستنهاض الطاقات وحشدها للقيام بهذا المهم، فكانت ثمة مبادرات ومحاولات نجح بعضها فيما اخفق الآخر منها، وفي هذا المقال نسلط الضوء على بعض الموسوعات ودوائر المعارف الفقهية التي صدرت في عالمنا الاسلامي، وسوف نقدم لذلك تعرفة اجمالية عن دوائر المعارف وتاريخها واقسامها وما يتصل بذلك. دائرة المعارف في الاصطلاح:تطلق دائرة المعارف او الموسوعة على البحوث المستفيضةالواسعة التي تجمع بين دفتيها من الحقائق والمعارف جميع ما يدخل في دائرة العلم الانساني مما يحتاجه البشر في حياته او تشتمل على فرع من فروع المعرفة البشرية بطريقه خاصة. ويقابل هذا الاصطلاح كلمة: الانسيكلوپديا (چخحرردحشحذب) وهو تعبير يوناني قديم يطلق على سبعة موضوعات تعتبر العلوم آنذاك، وهي: (الصرف والنحو) والمنطق والبلاغة والحساب والهندسة والموسيقى والهيئة. وقد استعملت الانسيكلوپديا لاول مرة في انجلترا عام 1531 م، وفي فرنسا سنة 1532 م، وفي المانيا سنة 1559 م، فاطلقت على المدونات الجامعة لعدة علوم وفنون مختلفة، ففي فرنسا اطلقت الانسيكلوپديا على القاموس العام للعلوم والفنون والحرف، وكان صاحب الفكرة في وضعه جان پول دي مالف، ولكن توقف فيه فعهد به الى ديدرو الذي اصدر الجزء الاول سنة 1751 بمساعدة مونتسكيو وفولتير وروسو، واستمر حتى انجزه سنة 1772 م. وتختلف دوائر المعارف عن القواميس، حيث ان الثانية تقدم تعريفا لغويا مختصرا عن الكلمة او المادة التي يراد تعريفها، فيما تتوسع دوائر المعارف لبيان معناها الاصطلاحي في هذا العلم او ذاك مع التعرض لتاريخ الفكرة واقسامها وجميع ما يتصل بالفكرة من بحوث ومطالب. ثم ان الترتيب الذي تنتظم على اساسه بحوث دائرة المعارفاما هو الموضوع بحيثيكون هو المحور، واما هو الترتيب الالفبائي بحيثيكون تهجي حروف الكلمة هو الاساس. ويطلق على الاولى دوائر المعارف الموضوعية ويطلق على الثانية دوائر المعارف القاموسية او الالفبائية. وسياتي مزيد بيان لهذين النوعين عند الحديث عن اقسام دوائر المعارف والموسوعات. وليس هنا ما يذكر بعد تحديد المعنى المصطلح لدائرة المعارف سوى التعليق على ما افاده بعض الباحثين حيث قال في مقام التفرقة بين دائرة المعارف والموسوعة: «والفرق بين الموسوعة والمعجم او دائرة المعارف فيما جرى عليه الاصطلاح الحديث هو ان نظام التاليف في المعجم وفي دائرة المعارف قائم على الحروف الهجائية.. اما الموسوعة فلا تلتزم بحوثها باي نظام في طريقة التاليفغير نظام المواضيع على ان تكون واسعة الغرض، كثيرة الاحاطة ليكون اطلاق اسم (الموسوعة) عليها مطابقا للواقع...». والنص السابق وان كان يعطي تحديدا لمصطلح «الموسوعة» على ضوء ما كتب من بحوث ومؤلفات موسوعية تجمع في طياتها علوما شتى وفنونا مختلفة في الادب والتاريخ والطب والاخلاق والشرائع واساليب الكتابة والانشاء وغير ذلك مما يتحكم في جمع شتاته وحدة الموضوع وجرى عليه نظام التاليف عند المتقدمين، الا انه يمكن ان نلاحظ في استعمالات المحدثين والمتاخرين تزاوجا وتقاربا بين الاصطلاحين فنجدهم في الوقت الذي لا يجانبون فيه الطريقة الموسوعية في استدعاء المعلومات المتصلة البحثيوظفون ايضا الطريقة القاموسية في ترتيب البحوث وتنسيقها مغفلين في ذلك الطريق الموسوعية القديمة القائمة على اساس وحدة الموضوع. وعلى ضوء هذا التوسع في اطلاق «الموسوعة» فقد زاوج المصطلح الجديد بين خصوصية دوائر المعارف فيما تتوفر عليه من اعتماد الطريقة القاموسية وبين صفة الموسوعية في البحث وجمع متفرقاته وشتاته. ولعل اول من توسع في هذا الاطلاق في العالم العربي بطرسالبستاني عندما قام بانشاء دائرة معارفه المعروفة في لبنان سنة 1876 م، والتي لم تلق رواجا في العالم العربي من حيث الاسم; اذ كان اسم الموسوعة اكثر شيوعا، ولكن لم يمض وقت طويل على صدور بقية الاجزاء حتى شقت دائرة المعارف طريقها، سيما بعد صدور دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي سنة 1938 م، ودائرة معارف فؤاد افرام البستاني، وغيرهما من دوائر المعارف. مساس الحاجة الى دائرة المعارف:لاريب ان غريزة حب الاطلاع والكشف عن المجهولات تعتبراحدى اهم الغرائز التي ركبت في الوجود البشري لتجسد البعد الروحي في شخصيته، شان الغرائز الروحية الاخرى كغريزة حب الخير والكمال، وغريزة التدين، وغريزة حب الجمال والفن وغيرها من الميول التي تجنح بالانسان الى ارواء تلك الرغبات، تماما كما تدعوه غرائزه المادية الى اشباع حاجاته الجسدية. ومن الواضح فان البشر يتفاوتون - كما ونوعا - في التاثر بهذه الغريزة والانبعاث لندائها، فمنهم من يستجيب لها قليلا ومنهم من يستجيب لها كثيرا، ومنهم من يلبي دعوتها في واحد من المجالات فيحرم من المجالات الاخرى.. ومنهم من يشارك في اكثر من باب من ابواب العلم والمعرفة كما كان عليه الطراز الاول من علمائنا ممن يسمون بالموسوعيين.. فكل اذن يحمل من بحر العلم بقدر عزمه ونشاطه. ولا ننسى طائفة اخرى من الناس خصوصا في العصور الاخيرة ممن يطلب العلم بالمجان او باقل التكالى حتى اقترن اسم العلم لدى بعض - نتيجة لممارسات خاطئة - بالدعة والخمول. وطريف ما كتبه احد كتاب «مذكرات تريفو» في اغسطس منسنة 1715 م وهو يشكو من هذه الظاهرة في مجتمعه الاوربي آنذاك: «لا يجب على كل امرىء ان يكون عالما ولكنه يحاول ان يصير كذلك بثمن رخيص، تلك هي عبقرية عصرنا»، ولا غرابة في الامر فان ثمة اسباب ودواع تساعد على ظهور مثل هذه الظواهر المتطفلة على العلم، وتحدثنا احدى المصادر عن محنة هذه الفئة من الناس والاسباب التي دعتها لذلك فتكتب «هل كانوا يريدون ان يتعلموا الهندسة دون ان يلاقوا كثيرا من المشقة؟ ويتعلموا العلوم في وقت قصير وبلا مساعدة اي استاذ؟ واللاتينية وهم يلهون؟ والقواعد النحوية في سرعة وطريقة لذيذة؟ لاريب انهم في كل مرة كانوا يظفرون بما يريدون، لان هناك كتبا ظهرت حديثا تعرض عناوين مغرية مثل: (الرياضة صناعة هينة) و (منهج جديد به يستطيع المرء ان يصير عالما بلا استاذ وبلا دراسة وبلا مشقة) كان هذا الاتجاه ثابتا لا يتغير» . اجل، ولعل من آيات ثباته ما نلحظه في الفترات المتاخرة فينفوس انصاف واعشار المتفقهة والمتعلمين ممن يريد ان يثب على العلم فيطوي مراحله ببضع سنين ليحظى بذلك على لقب يخلع عليه، او موقع بين الناس يتمكن منه، وحقا ما قيل في هؤلاء! انهم يطلبون العلم يوم السبت، ويدرسونه يوم الاحد، ويعملون اساتذة له يوم الاثنين، اما يوم الثلاثاء فيطاولون الائمة الكبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال!! نستجير من يوم يسف فيه العلم فيقع زمام الامة الثقافي بيد امثال هؤلاء من ادعياء المعرفة. ان الحقيقة التي تاخذ بناصية الجميع وتفرض نفسها واقعاماثلا لا يمكن المحيد عنه هي انرقعة العلوم والفنون والمعارف قد اخذت بالتشع ب والاتساع والتخصص، ولا تزال كذلك مطردة في هذا الاتجاه يوما بعد آخر، فالفلسفة التي كانت في يوم من ايام التاريخ تعني شطرا عظيما من العلم - لما تحويه من علوم كان الانسان القديم محيطا بها او باكثرها - تفرق جمعها وتشعبتحتى صار كل فرع من فروعها تتكفل بدراسته جامعة من جامعات العالم اليوم. اضف الى ذلك اتساع الثقافات والحضارات والاتصالات بينالشعوب والامم، مما جعل العالم المعاصر كالقرية الواحدة التي يرتبط اقصاها بادناها في لحظة واحدة، وصارت ثقافة الامة - اية امة - ملكا طلقا وحقا عاما للجميع عبر مختلف وسائل النقل والاتصال، الامر الذي يدعو الانسان المعاصر - فضلا عن العالم المعاصر - الى مواكبة الحركة العلمية والفكرية والثقافية وتطورها من حوله، ليعرف حضارات الشعوب وثقافاتها المتباينة. وعنصر آخر يفرض نفسه ويلقي بشبحه المخيف بشكل دائم هو محدودية العمر البشري، فان هذه الذخيرة لابد ان تقف يوما عند نقطة الانتهاء. وهذا ما يشير اليه قول علي(ع) «خذوا من كل علم ارواحه، ودعوا ظروفه، فان العلم كثير والعمر قصير». وقيل ايضا: «لو اوتي الانسان عمر نوح، واموال قارون على ان يجمع العلم لما استطاع». وعليه، فاذا اراد الانسان ان يوازن بين هذه القضايا المتفرقة(غريزة حب الاطلاع تشعب العلوم وتضخمها، اتساع الثقافات وتوارد الحضارات، محدودية العمر البشري والامكانات) فلابد اذن من صياغة او طريقة توفق بين جميع تلك القضايا. وتعتبر دوائر المعارف المعاصرة هي الصياغة المثلى التي تتكفل بالاجابة على ما تقدم، فهي خير دليل للوصول بالباحث او القارىء المثقف الى ما يريده من معلومات في مختلف ابواب الثقافة والعلم بطريقة يسيرة، وحسبه في ذلك القيام بحركة بسيطة لتناول الكتاب ثم العثور على مطلوبه. وقد اطلق على هذا النمط من التدوين اسم «دائرة المعارف»او «الموسوعة»، وبهذا تكون دوائر المعارف قد اسدت خدمة علمية جسيمة، وقدمت متاعا فكريا ضخما لرواد العلم والمعرفة، ذللت به صعبا، وقربت به قاصيا، واختزلت به جهدا. وبالطبع فان وجود هذا الطرز من المصادر لا يلغي دور واهمية المصادر الام في كل علم من العلوم. وبكلمة اكثر وضوحا انها لا تلغي دور البحث والتحقيق، بحيث تعزل الباحث المحقق عن المصادر الاصلية، وتفقده روح التتبع والتنقيب والمثابرة وتدعوه للاكتفاء بما هو موجود في دوائر المعارف بقدر ما تكون بحوثها بمنزلة المدخل للباحث المتعمق تفيده في اعطاء تصور عام عن البحث، مضافا لدلالتها على مصادره التي تدرج عادة في ذيل كل مقالة منها. ومما يشهد لما ذكرنا انه لم يعهد حتى الآن ان احدا تخصص في احد العلوم كالفقه او الطب او الفلسفة او غيرها عن طريق مطالعة دوائر المعارف مهما كانت متخصصة ومتقنة لتلك العلوم.