تحقیق نظریة نسبیة الأخلاق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تحقیق نظریة نسبیة الأخلاق - نسخه متنی

مُرتضَی المُطهری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فهرس المطالب

تحقيق نظرية نسبية الأخلاق

الاختيار

روح العصر

رأي سارتر

مفهوم حب الإنسانية

السلوك نسبي

العناوين الأولية والثانوية

العفاف

الصدق

حديث علي (عليه السلام) ونظرية نسبية الأخلاق

طرح اشكال

أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمرة القضاء

مفهوم الجبن في الحديث

قصة صفية بنت أيوب

المرأة حاملة لأمانة إنسانية

مفهوم البخل في الحديث

الشجاعة والدفاع عن الحقوق الاجتماعية

شجاعة الزهراء عليها السلام

شجاعة زينب عليها السلام

نسبة الآداب

العبادة حاجة ثابتة للإنسان

تحقيق نظرية نسبية العدالة

مفهوم العدالة وردّ نظرية نسبية العدالة

تحقيق نظرية نسبية الأخلاق

الوجدان ومسألة نسبية الأخلاق







































بسم الله الرحمن الرحيم















إن حديثنا لهذا اليوم سيكون حول موضوع نسبية الأخلاق.















والسؤال الذي يبرز إلى الذهن ـ وينبغي الإجابة عليه ـ هو:















هل إن الأخلاق نسبية أم مطلقة؟ أي عندما يوصى بخصلة أو فعلٍ أخلاقي، فهل يعني أن هذا أمر مطلق؟ أم لا؟ أي إن الخصلة الأخلاقية تبقى تحتفظ بطابعها الأخلاقي، في كل زمان، ولكل إنسان، وفي كل الظروف؟ كما لو قلنا: إن العدد ـ 4 ـ هو ضعف العدد ـ 2 ـ؟ أو أن الأمر ليس كذلك، بل هو نسبي، حيث لا يمكن التوصية بشكل مطلق ـ في كل زمان، ومع كل فرد ـ بخصلة أو فعل أخلاقي؟















إن طرح هذه المسألة ضروري جداً، وعلى الأخص بالنسبة لنا بحكم ارتباطنا بالدين الإسلامي المقدس؛ لأن الدين الإسلامي ـ كما قال علماؤنا القدماء ـ يتكون من ثلاثة أقسام أساسية:















القسم الأول ـ وهو ما يتناول المسائل العقلية والفكرية، ويعبر عنه بـ(أصول العقائد).















القسم الثاني ـ وهو ما يتناول الأمور النفسية، ويعبر عنه بـ(الأخلاق).















القسم الثالث ـ وهو ما يتعلق بالبدن والأفعال، ويعبر عنه بـ(الأحكام).















فالقسم الأخلاقي يعتبر قسماً مهماً جداً. فقد ورد ـ في القرآن الكريم ـ سلسلة أوامر، وتوصيات أخلاقية. وبما أن الإسلام يتميز بخصوصية (الختم والخلود) كان لابد لنا أن نعتقد بأن الأخلاق مطلقة أو على الأقل أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال:















هل قوانين الإسلام في هذا الجانب تحمل ـ أيضاً ـ صفة الخلود، فيلزمنا القول بأن الأخلاق مطلقة؟ أو إن هذا الأمر يمكن التوفيق بينه وبين القول بنسبة الأخلاق؟















في البدء لابد لنا أن نعرف أولاً، هل إن الأخلاق مطلقة؟ أم نسبية؟ لنتحول بعد ذلك إلى موضوع قوانين الإسلام، لنرى ماذا تقول حول إطلاق الأخلاق أو نسبية الأخلاق.















إن هذا الموضوع يعتمد بشكل كبير على الماضي، في مسألة معيار الفعل الأخلاقي، حيث يوجد ـ في البين ـ نظرية تقول بأن الأخلاق نسبية، في حين توجد نظرية أخرى تقول بأن الأخلاق مطلقة.















فلابد لنا أولاً من ذكر هاتين النظريتين، لنعود إلى موضوع بحثنا.















الاختيار















يعتقد البعض بعدم وجود أي معيار لأخلاقية فعل معين خارج نفس الإنسان، أي بعيداً عن انتخاب الإنسان واختياره.















ولابد أنك قد سمعت بالعلماء القدماء ـ منذ عصر اليونان ـ الذين كانوا يقولون بأن مقياس كل شيء هو الإنسان، وقد شمل هذا المقياس العلم والفلسفة والحقيقة، حيث قيل بأن معيار الحقيقة هو تشخيص الإنسان لها ـ أي لا يوجد حق واقعي، فالحق الواقعي هو ما يشخصه الإنسان، فإن قال: هذا حق فهو حق. وإن قال: هذا باطل فهو باطل.















وهذا الرأي يشابه اعتقاد بعض المتكلمين المسلمين، وهم (المعتزلة) في باب الاجتهاد، حيث أنهم يرون أن الحقيقة هي ما يراه المجتهد في اجتهاده، فالاجتهاد لا يحتمل الخطأ. فلو افترضنا وجود عشرة مجتهدين، وكان لكل منهم إجتهاد يختلف به عن الآخرين، فإن الحق هو هذه الاجتهادات العشر.















كما يوجد قبال أهل هذا الرأي (المخطئة) الذين يقولون: إن الحق شيء واحد فقط، والإجتهاد، قد يكون مطابقاً للواقع ومفيداً، وقد لا يكون كذلك.















فاليونانيون أبدوا رأيهم في خصوص الحقيقة، وقالوا: إن معيار الحقيقة هو الإنسان، وليس معيار الإنسان هو الحقيقة. لقد كان بحث اليونانيين يتعلق بالحقيقة والواقعية، وبالعلوم النظرية، أي إنه يتعلق بالحقيقة والواقعية، وبالعلوم النظرية، أي إنه يتعلق بما هو موجود.















فلو قال قائل: إن الله موجود، لقالوا: بما أن هذا القائل يقول بوجود الله، فهو إذن موجود. وإن قال آخر بعدم وجود الله، لقالوا: بما إن هذا القائل يقول بعدم وجود الله، فإذن هو غير موجود. وهذا بحث نظري.















ولكن في العصور المتأخرة ظهرت نظرية في باب الأخلاق أي لا تتحدث عن الحقيقة، بل عن الأخلاق ـ حيث يوجد فرق بين الإثنين، فالحقيقة تتعلق بما هو موجود، بينما تتعلق الأخلاق بما يجب أن يكون ـ فقد قال أصحاب هذه النظرية بعدم وجود معيار غير إختيار الإنسان بخصوص ما ينبغي أن يكون. أو بعبارة أخرى بخصوص حسن الأخلاق وقبحها، وأضافوا: إن مرادنا من الأخلاق الحسنة هو الأخلاق المحمودة. فكل خلق يحمد فهو جيد، ولكن هذا (الحمد) يتغير على امتداد الزمان، لذا فإن (الأخلاق الحسنة) تتغير أيضاً. فبما أن الخلق الفلاني هو محمود ومقبول من قبل العموم ـ في زمن معين ـ إذن هو حسن، وإذا أصبح نفس هذا الخلق في زمن آخر غير محمود، وحمد خلق آخر مضاد له، فيكون الأول قبيحاً، والثاني حسناً، كما أن هذا التغير من تقييم خلق معين في الأزمنة المختلفة، إنما يكون على اساس التكامل، ومنشؤه روح العصر. وبعبارة أخرى: روح المجتمع.















روح العصر















يوجد (لهيكل) كلام حول روح العصر، حيث أنه يعتقد أن عملية التكامل هي ناموس هذا العالم، فإن روح العصر تدفع المجتمع دائماً إلى الأمام، وإن هذه الروح التي تعتبر بمنزلة روح المجتمع؛ لأنها تدفع به إلى الأمام، تترك آثارها على الأفكار والإختيارات ـ أيضاً ـ أي إن روح العصر المتوافقة مع التكامل هي التي تلهم الخلق المعين وتجعله محلاً لقبول والإختيار، وهي التي تجعل خلقاً آخر، وتبطأ بظروف سابقة منسوخاً، كما نسخت الظروف السابقة.















فهو في الواقع يعطي روح العصر، أو روح المجتمع الحالة التي يقولها الآخرون بالنسبة، إلى الله سبحانه، بقولهم: إنه سبحانه هو الذي يلهم الإنسان الأخلاق الحسنة، فهو يقول بإله، ولكن يعبر عنه بروح العصر، وروح المجتمع الذي يلهم الخلق الجيد.















وعلى كل حال، يوجد بين رأيه ورأي الإلهيين فرقان:















1 ـ إنه يعتقد بأن المُلهِم هو روح العصر، أو روح المجتمع. بينما يعتقدون هم بأن الملهم هو الله، وما وراء الطبيعة.















2 ـ إنهم يعتقدون أن المُلهٍم مطلق وثابت، بينما يعتقد هو أن الملهم أمر متغير ونسبي، وتابع للظروف الزمانية، فهو يتغير بتغيرات الزمان فينسخ إلهاماته السابقة.















إن هذا النمط الفكري هو من الأفكار التي تركتب آثاراً كبيرة على المجتمع الأوربي وبالتالي على العالم، أي إنها زلزلت قوائم المعيار الثابت عند الناس.















حدثني أحد الأصدقاء أنه عندما دعي إلى مؤتمر في الخارج هاجم هذا النمط، وقال: لقد كنتم أيها الأوروبيون تعتقدون بروح القدس، وتستلهمون منه، ثم انتقلتم إلى الاستلهام من روح العصر، فبدأت مأساتكم منذ اليوم الأول الذي اعتقدتم فيه بروح العصر، وأعطيتموه الأهمية التي كنتم تعطونها لروح القدس، ففقدتم كل الأصول والمعايير الثابتة، ولم تحترموا غير متطلبات العصر. ماذا تعني روح العصر؟ من هو الذي اكتشف هذه الروح التي تسوق المجتمع بشكل حتمي نحو التكامل.















وعلى كل، كان هذا النحو الفكري موجوداً في أوروبا، ونحن إذا قلنا به فمن البديهي أننا سنقول بنسبية الأخلاق.















كما توجد مسألة أخرى ـ أعتقد أنهم يقصدونها، رغم أني لم ألاحظها في كتاباتهم، وهي تساوي روح العصر؟ أي هل تتغير الأفكار دفعة واحدة عند انقضاء قرن من الزمان مثلاً، أو أنها تتغير تدريجاً؟















وعلى الفرض الثاني: هل يستلهم أولاً الطليعة، ثم يستلهم الآخرون منهم؟ وهل توجد دائماً طبقة الطليعة المجددة، التي لهم حكم الأنبياء؟ غاية ما في الأمر أنها تستلهم من روح العصر، لا من الله؟















إنهم يقولون: إنها الطبقة الكادحة التي تلهم أول الأمر، ثم يأخذ الآخرون عنهم. فهم في واقع الأمر، يقولون لهذه الطبقة: ينبوع عمل ينوى.















ونحن إذا قلنا بهذا الرأي سنفقد أي أصل أخلاقي ثابت، لأن المعيار سيكون هو الاستحسان. ونحن نقبل أن يكون المعيار هو الاستحسان، وأن هذا الاستحسان عرضة للتغير، ولكننا نعتقد أن تغير الاستحسان هو من نوع تغير الأمزجة، فالمزاج تكون له حالة تعادل، وتكون له حالات انحراف. والمجتمع ـ أيضاً ـ قد يكون في حالة تقدم أو في حالة إنحطاط، ولا يمكن اعتبار كل متغيرات المجتمع تكاملاً.















وهكذا في التصورات التي يطرحها القرآن الكريم قائمة على هذا الأساس. فقد يتقدم مجتمع معين، ثم يهبط نحو الفساد ـ الذي يعتبره القرآن فساداً أخلاقياً ـ والذي يقود المجتمع نحو الهلاك، كما أن التاريخ يؤكد لنا وجود مجتمعات، قد تقدمت ولكنها انحطت أحياناً، وكان هذا الإنحطاط سبباً.















نعم ربما يقبل أن العالم بمجموعة يتكامل. وهذا يختلف عن القول بتكامل كل مجتمع، فالاستحسان يرتبط بكل مجتمع على حدةٍ.















فنحن إذا أخذنا ألف سنة في الاعتبار، أمكننا القول تسعين بالمئة: إن البشرية بمجموعها قد تقدمت خلال هذه الفترة، ولكن يوجد إشكال في القول: إن الإنسان قد تقدم في كافة المجالات.















رأي سارتر















وعلى كل حال، يقال: إن المجتمع ينمو بشكل (أوتماتيكي) كما تنمو الشجرة ولكي يثمر هذا النمو تتغير اختياراته واستحساناته، فإن هذه الاختيارات تتناسق مع نموه وتكامله بشكل دائم. فعندما يتبنى إنسان هذه النظرية تصبح عنده الأخلاق نسبية مئة بالمئة، كما أن (سارتر) الذي يزن كل شيء وفق محور الانتخاب الشخصي، يقول: إن معيار أخلاقية الفعل لا يخرج عن وجود الإنسان في العمل. ولكنه يقول ـ أيضاً ـ: إن الشخص عندما ينتخب عملاً معيناً، فإن انتخابه يعني أن هذا العمل جيد، ومن البديهي أن أي شخص لا يختار عملاً باعتباره رديئاً، بل إنه يختاره باعتباره عملاً جيداً.















ويضيف ـ أيضاً ـ إن الإنسان في واقع الأمر إنما يعتقد بقيمة العمل الذي اختاره، فهو إذن يكون قد اختار هذا العمل للآخرين أيضاً.















وهذا هو ما نقوله نحن: من أن الإنسان بأدائه لعمل معين إنما يكون قد روج لهذا العمل؛ فإن كان عمله حسناً، فقد روج لعمل حسن. وإن كان عمله قبيحاً، فقد روج لعمل قبيح؛ فإن العمل الذي يختاره الإنسان إنما يضفي عليه صبغة العموم في نفس الوقت الذي يكون فيه جزئياً.















إنك ـ مثلاً ـ عندما تختار مسلكاً تتبعه، فإن عملك هذا يعتبر جزئياً ـ أي إنه يرتبط بفرد وزمان ومكان معين، ولكنه في واقع الأمر يحمل صفة عمومية أيضاً؛ فإنك تعطيه صفة كلية، لأن اختيارك لهذا العمل المعين أنه عمل جيد بشكل عام للجميع.















وحسب قوله: إن معيار أخلاقية فعل معين هو أخلاق الشخص الفاعل. إذن: تكون الأخلاق أمراً نسبياً، لأنها تنبع من إنتخاب الشخص.















ونحن هنا لا يهمنا كون هذا الكلام غير صحيح بشكل كامل.















إن معيار الأخلاقية في هذه النظرية هو اختيار الشخص. ومن البديهي أن ما انتخبه أنا، قد لا تنتخبه أنت؛ فيكون إذن ما اختاره أنا ـ ومن وجهة نظري ـ فعل أخلاقي، ويكون ـ من وجهة نظرك ـ ما اخترته أنت من فعل هو فعل أخلاقي. وهذا ما يختلف حسب الزمان.















ولكن إن غضضنا الطرف عن وجهة النظر هذه، وأخذنا بنظر الاعتبار النظريات التي ذكرناها سابقاً، لأمكننا القول بأن الأخلاق ليست نسبية، بل هي مطلقة وفق ما بيناه، أما الفعل الأخلاقي، فلا مانع من القول بأنه نسبي.















مفهوم حب الإنسانية















عندما تحدثنا عن النظريات في هذا المجال ذكرنا أن بعضها يرى أن المعيار في كون فعل ما، أخلاقياً، هو الحب ـ أي أن يكون الهدف غيرياً.















وهنا يوجد لدينا مسألتان:















الأولى ـ هي نفس الأخلاق ـ أي الخلق والخصلة الروحية الإنسانية، والتي هب حب الغير، حب الإنسان والإرتباط بمصير الناس. هذا ما يجب القول عنه بأنه مطلق، ولا يمكن ان يكون نسبياً. فلا يصح أن يكون مطلقاً، بالنسبة لشخص آخر.















إن حب الآخرين والأرتباط معهم في المصير إنما هي منشأ الخدمة للناس، وهي أمر مطلق يصدق على كل إنسان في أي ظرف زماني ومكاني.















وربما يقول: إن هذا الأمر لا يحمل صفة العمومية، لأن الإنسان ربما يكون إنساناً مؤذياً، ولربما يكون جانياً، أو قاتلاً، أو مفسداً. وإن مثل هذا الإنسان تجتمع كل المبادئ على الصراع ضده؛ وحذفه من البين. فهو إذن: لا يحمل صفة العمومية.















الجواب هو: كلا. بل هو أمر يحمل صفة العمومية، فحب الإنسانية لا ينافي الصراع ضد الإنسان المفسد، حيث إن عدم الصراع ضد الإنسان المفسد ليس أمراً لازماً لحب الإنسانية. فنحن أولاً قلنا: (الإنسانية) ولم نقل إنسان بالخصوص، فل كان شخص مضر للمجتمع البشري، فإن حب المجتمع البشري يحكم بضرورة حذف ذلك الإنسان.















وثانياً ـ عندما يقال: العلاقة بالإنسان. لا يعنى به الإنسان الحيوان المستوي القامة، والذي له رأس وأذنان، ويمشي على قدمين. بل يُعنى بالإنسان الإنسانية ـ أي الفضائل الإنسانية، وليس هذا الجسد المتكون من لحم وجلد ـ وإن أراد أن يكون هذا الجسد المادي فقط، لم يبق فرق بينه وبين الحيوان، لأن الحيوان هو أيضاً كائن حي يأكل ويشرب وينام ويمارس أعماله الشهوانية. فالإنسان الذي يرتضي لنفسه هذا المستوى لا يبقى له أية قيمة، فهو يمسى إنساناً باعتبار الكمالات والاعتبارات الإنسانية. أما عندما يكون ضد الإنسانية ـ أي إنسان بالقوة، وليس بالفعل ـ فلا يمكن اعتباره إنساناً.















وعلى كل حالٍ، إذا اعتبرنا حب الناس أساساً للأخلاق، فستكون الأخلاق ـ حينئذ ـ خصلة ثابتة.















ـ أما الفعل الأخلاقي فسنأتي إليه فيما بعد ـ.















وكذلك إذا اعتبرنا الأخلاق سلسلة إلهامات وجدانية ـ كما ذكر ذلك (گانتُ) في فسلفته ـ عندما طرح سلسلة أصول باعتبارها إلهامات الإنسان من وجدانه ـ ومن البديهي أن هذه الإلهامات تعتبر إلهامات كلية، ودائمة، وتصدق في كل زمان، لأنه اعتبر هذا المطلق أمراً كلياً ثابتاً في كل زمان.















إن (راسل) وغيره ـ كما ذكرناـ عرفوا الأخلاق بشكل آخر، حيث قالوا: إن المعيار في الأخلاق هو التناسق بين مصالح الفرد والمجتمع، لأن الإنسان موجود نفعي مئة بالمئة، وأنه لا يندفع إلا بباعث المصلحة الشخصية وفي أحسن الأحوال، إذا أردنا منه عملاً أخلاقياً تكون منفعته لغيره، فيجب علينا أن نرفع مستوى عقله بحيث يمكننا أن نفهمه أن مصالحه متناسقة مع مصالح المجتمع.















فالأخلاق ف هذه النظرية تطرح باعتبارها خصلة ذكية تنسق وتؤلف بين مصالح الفرد، ومصالح المجتمع. ووفقاً لهذه النظرية تعتبر الأخلاق خصلة وأمراً ثابتاً وليس نسبياً.















ذكرنا أن هناك مذهباً آخر في باب الأخلاق، وهو مذهب القدماء، الذين وجهة نظرهم قائمة على أصل العدل، على أساس الروح المجردة، فهم يقولون: إن الخلق الحسن هو عبارة عن نوع توازن وتعادل بين جميع القوى تحت سلطة الحكومة المطلقة للقوى العاقلة، بحيث يكون حكم كل القوى والغرائز حكم الرعية المطيعة لهذا الحاكم. وطبقاً لهذه النظرية تعتبر الأخلاق أمراً مطلقاً لا يختلف فيه من زمان عن زمان آخر. فالطاعة طاعة في كل وقت.















وكذلك رأي أفلاطون، القائم على أساس الجمال، حيث يقول: إن جذور الأخلاق هي جمال الروح، وهو يرى أن جذور هذا الجمال هي التعادل. والأخلاق هنا ـ أيضاً ـ هي أمر ثابت.















السلوك نسبي















هناك أمر آخر، ينبغي ذكره، وهو أنه لا ينبغي لنا أن نخلط بين إطلاق الأخلاق، وإطلاق الفعل الأخلاقي ـ أي لا يمكن اعتبار فعل معين أخلاقياً على الدوام، كما لا يمكن القول بأنه غير أخلاقي على الدوام. وغالباً ما يكون سبب اشتباه البعض أنهم توهموا أن ملازمة الأخلاق المطلقة والثابتة هي أن نصنف الأفعال ابتداءً إلى صنفين، صنف نعتبره أخلاقياً، والصنف الآخر نعتبره لا أخلاقياً. في حين أن الأمر ليس كذلك، بل كما يقول القدماء: إن الأفعال تختلف باعتبارات ووجوه ـ أي من الممكن أن يكون فعل معين وفق اعتبار معين أخلاقياً، ووفق اعتبار آخر لا أخلاقياً، بل ضد الأخلاق.















فهل أن هذا السلوك مطلق أم نسبي؟ وهذا غير كون الأخلاق مطلقة أو نسبية. مثل: إن ضرب اليتيم هل هو فعل أخلاقي وجيد أم سيئ وضد الأخلاق؟















الجواب: لا يمكن الحكم على مطلق ضرب اليتيم بالحسن أو القبح. ففي بعض الأحيان قد يضرب اليتيم من أجل سلب شيء منه، وفي أحيان أخرى قد يضرب من أجل تأديبه، لأن التأديب قد يقتضي ضربه؛ فالضرب إذن: ليس له حكم مطلق بالحسن والقبح. بل عندما يستعمل من أجل التأديب يكون حسناً، وعندما يستعمل من أجل سرقة ماله أو ابعاده أو قهره، يكون قبيحاً. (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر). (الضحى: 9)















أو مثلاً: عندما ينحني شخص أمام شخص آخر، فإن هذا العمل يختلف باختلاف موارده، فربما ينحني هذا الشخص أمام الشخص الآخر بقصد احترامه، وهو إنسان يستحق الاحترام، ففي هذا المورد، يكون هذا العمل أخلاقياً، وفي نفس الوقت عندما يكون هذا الإنحناء بقصد الاستهزاء، ففي هذه الحالة سيؤخذ هذا العمل عنواناً آخر. فإذن: نفس هذا الفعل يكون له أحكام مختلفة في المناسبات المختلفة، ففي مناسبة معينة يكون فعل أخلاقياً، وفي مناسبة أخرى يكون فعلاً غير أخلاقي، بل ضد الأخلاق. وحسب إصطلاح طلبة العلوم الدينية: يختلف حكمه باختلاف العناوين الثانوية.















العناوين الأولية والثانوية















إن علماءنا لديهم اصطلاح رائع، وهو (العناوين الأولية) و(العناوين الثانوية). وهم يعنون بهذا: إن كل شيء له عنوان بذاته، أي أن هناك صفة تصدق عليه، ولكن ربما يعرض له عنوان آخر. مثلاً: زيد بذاته إنسان، ولكن ربما يعرض له عنوان ثانوي أن يحصل على صفة أخرى، غير صفته الأولية، مثلاً: زيد الإنسان إنسان عالم، أو إنسان ظالم. أي أضيف له عنوان آخر ثانوي. وقد يكون له عنوان ثالث ورابع وخامس.. تماماً، كما يكون له عدة أعمال، فبالاعتبار الأولي زيد بن عمرو، ولكنه أستاذ جامعي، ورئيس مجلس. وفي نفس الوقت رئيس أحد الشركات، فيكون له عناوين مختلفة في هذه الحالة، يقال: إن كل شيء يكون له حكم معين حسب العنوان الذي يعرض له.















فلو سئلنا: هل إن لحم الضأن جائز الأكل أم لا؟ سنقول: جائز الأكل.















ثم لو سئلنا: هل إن لحم الخنزير جائز الأكل أم لا؟ سنجيب بحرمة أكله.















فالعنوان الأولي للضأن أنه جائز الأكل. والعنوان الأولي للخنزير أنه غير جائز الأكل. لكن نفس (جائز الأكل) هذا يكون بعنوان ثانوي غير جائز الأكل، إذا كان ـ مثلاً ـ ملكاً للغير، وقد سرق منه. فالضأن هذا يجوز أكل لحمه من جهة الحلية، ولكن لا يجوز أكل لحمه من جهة حرمة أكل لحم للغير بلا رضاه، وكذلك لحم الخنزير، الذي يحرم أكله، وفي وقت آخر يكون حلالاً أكله، عندما يضطر إليه الإنسان، بحيث تتوقف حياته على أكله. ففي هذه الحالة لا يكون أكل لحمه جائز فقط، بل يكون واجباً؛ فإذا لم يأكل منه ومات إنما يكون قد ارتكب حراماً. وهناك أمثلة أخرى كثيرة لدينا.















إننا قد نتحدث عن الفعل أحياناً، وقد نتحدث عن الخصلة أحياناً أخرى.















فوفق رأي (هيگل) أو (سارتر) أو غيرهما من القائلين بعدم وجود معيار للأخلاق غير انتخاب الإنسان تكون الأخلاق غير انتخاب الإنسان تكون الأخلاق أمراً نسبياً، ولكن إذا تركنا هذه المناهج، فإن الأخلاق باعتبارها خصلة، يمكن اعتبارها أمراً ثابتاً. أما الفعل الأخلاقي فليس كذلك.







العفاف















إن الذين يعتقدون بنسبية الأخلاق، يقولون: إن العفاف ـ مثلاً ـ يكون جيداً في مجتمع معين، حسب حاجة ووضع ذلك المجتمع، عندما تكون ـ مثلاً ـ حياتهم زراعية، حيث أنها تقتضي أن يكون وضع العائلة مستقلاً، وتكون حياة المرأة ضمن حياة الرجل، وهذا ما تقضيه مصلحتهم، كما يرون أنفسهم مجبرين على التأكيد على أصول العفاف. أما عندما حلت مرحلة الآلة وذهبت المرأة إلى عمق المجتمع، وإلى المعامل، أصبح العفاف أمراً غير مستحسن، رغم أنه كان في يوم ما أمراً جيداً.















ولكن هذا الرأي وفق ما ذكرناه من أسس يكون غير صحيح. فالعفاف باعتباره حالة نفسانية، يعني إنه ليس طاعة لقوة الشهوة بل لحكومة العقل والإيمان، ولا الوقوع تحت تأثير الثورة الشهوية، كما أن الشخص الذي يقع تحت تأثير الثورة الشهوية يفقد إرادته، وتتحكم به غريزته.















فالعفاف إذن هو في كل الأحيان حسن. نعم إن هذا الفعل الأخلاقي الذي نسميه العفة، لا مانع من أن يكون نسبياً، فمن جملة الأمثلة الفقهية المعروفة، التي تذكر، هو: لو مرضت إمرأة، واحتاجت إلى مراجعة الطبيب، ولم تكن هناك طبيبة، وكان تشخيص المرض يقتضي أن يمس الطبيب بدن المريض أو أنه اقتضى أن يجري فحوصات أو يقوم بعمل معين لعورة المريضة، وكانت المريضة في حالة خطرة، ففي هذه الحالة تكون مراجعة الطبيب جائزة.















أن لمس بدن المرأة الأجنبية والنظر إليه فعل مخالف للعفة.















أما نفس هذا العمل في ظروف أخرى يفقد جنبة عدم أخلاقيته.















ولكن هذا أمرا وفقدان نفس العفة ـ باعتبارها خلق وخصلة ـ قيمتها أمر آخر. إن قيمتها تبقى محفوظة، ولكن الفعل يطرأ عليه التغيير.















ومن هنا يفهم أن الأفعال والأعمال ذات الإرتباط الأوثق بالظروف الاقتصادية والفنية والصناعية يطرأ عليها التغيير بكثرة.















أما الأعمال ذات الارتباط الأضعف بمثل هذه الأمور، كما هو الحال بالنسبة للعفاف ـ مثلاً ـ والحجاب، فإنها لا يطرأ عليها التغيير بكثرة.















إن مثل هذه المسائل متعلقة بنوع ارتباط بين جنسين تقتضي أن يكونا معاً، حيث توجد عملية جذب بينهما، ولأن الأصول ثابتة، فإن فعلها الأخلاقي يكون دائماً ثابتاً أيضاً. بناء على ما تقدم لابد من التمييز بين الفعل الأخلاقي، وبين نفس الأخلاق. وأن الأشخاص الذين يتولون مهمة التبليغ للأخلاق عليهم أن يقوموا بعملين:















1 ـ عندما يحثون ويدعون إلى الخلق والصفات الحسنة، عليهم أن يبينوا بأنها أمور مطلقة.















2 ـ كما يجب عليهم في نفس الوقت أن يوَعّوا الناس على أن لا يخلطوا في مقام العمل بين الفعل الأخلاق والفعل غير الأخلاقي.















إنني أتذكر قد سمعت في الأيام الأولى التي كنت بها في (قم) أن عدداً كبيراً من أهالي اليابان ذات الأديان المنحطة، قد طلبوا إرسال مبلغين للإسلام من بعض الدول. وقد ارسل بعضهم عدداً من المبلغين من أجل الدعوة لمذاهبهم، وقد كلف المرحوم الشيخ عبد الكريم أحد الأشخاص الذين قدر فيه قدرة، وقابلية أكثر من غيره، ولكنه رفض بحجة خوفه من أن يموت في بلاد الكفر. وعلى كل حالٍ، فقد ذهب من مصر عدد من المبلغين، وكانت نتيجة عملهم إعلان إسلام عشرين ألف، وفق المذهب السني. فهل هذا ليس بعمل؟















الصدق















إننا قد نعتبر الفعل الأخلاقي مضاداً للأخلاق، والفعل الذي هو مضاد للأخلاق أخلاقياً. فالصدق ـ مثلاً، من جهة كونه صدقاً ـ حسن، ويجب قوله، والكذب ـ من حيث كونه تحريفاً ـ قبيح. ولا ينبغي قوله.















ولكن هل يمكن قول الصدق في كل مكان؟ وهل يحرم قول الكذب في كل مكان؟















من المؤكد أن قول الكذب يصبح في بعض الأحيان واجباً، ولكن ما يثير الاستغراب هو قيام البعض بشن هجوم على سعدي لقوله:















إن الكذب الذي يحقق مصلحة، هو خير من الصدق الذي يؤجج نار الفتنة.















وهن كلام صحيح جداً. ولكن البعض يقولون: إن الإنسان عندما يكذب لابد أن يكون ملاكه المصلحة في الكذب. بينما هناك فرق بين أن يكون الملاك منفعةً، وبين أن يكون مصلحة. فلماذا يطلب من الإنسان أن يقول الصدق؟ إنه لمصلحة المجتمع. ولماذا لا ينبغي قول الكذب؟ لأنه ضد مصلحة المجتمع. ولكن إذا كان الكذب في مناسبة معينة يحقق مصلحة المجتمع والفرد يجب قوله.















لقد شن الهجوم على سعدي كثيرون من جملتهم (المسيو جردن) رئيس كالج، وغيره من الأمريكان بسبب قوله السابق الذكر. وكذلك فعل الزرادشتيون. كما كتب (محيط الطباطبائي) فقال، حول هذا الموضوع في الهند ـ حيث كانت اللغة الفارسية شائعة هناك ـ لأن الإنگليز عندما دخلوا الهند منعوا تدريس (كلستان سعدي) في المدارس.















وقد أيدهم في ذلك الزاردشتيون بحجة أنه يفسد أخلاق الشباب نتيجة قوله السابق الذكر.















وأضاف: إن (رنود) كان يعرف أن سبب هذا الإجراء هو وجود البيتين التاليين من أول الكتاب:















"أيها الكريم إنك ترزق ن خزائنك الخفية أعداءك من الزادشتية، والمسيحيين، فلا يمكن أن تحرم أحباءك من كرمك، لأنك أنت الرب الذي يشمل لطفك وعنايتك حتى أعداء دينك".















فإن هؤلاء لم يكونوا راضين أن يلقن الشباب بأن المسيحيين والزرادشتيين هم أعداء الله. ولذلك اتخذوا قوله السابق عذراً لمنع تدريس الكتاب، وإلا فأي عاقل في الدنيا لا يعرف معنى الكذب والصدق، ولا يعرف أن قول الصدق في بعض الأحيان يكون ذنباً أكبر من أي ذنب آخر.















ومن الطبيعي، كما ينقل عن قصة أبي ذر، حيث قيل: إنه حمل رسول الله ووضع عليه رداءً، ومر من أمام كفار قريش، فقالوا له يا أبا ذر ماذا تحمل على ظهرك؟ قال: محمد... إنه كان صادقاً، ولكنهم لم يصدوقه، وأنه لو كان يعلم أنه لو صدق، فإنهم يصدقون قوله، لكان صدقه هنا حراماً، وحرمته أشد من أي حرمة أخرى.















ومما لاشك فيه أن لا مانع من قول الكذب في بعض المواطن، مثل إصلاح ذات البينن فهناك بعض الموارد في فقهنا يجوز فيها الكذب، مثل الصلح بين متعاديين، وهذا هو معنى المصلحة، ونجاة بريء بواسطة الكذب، وهذا ما كان يعنيه سعدي، ففي مثل هذه المواطن، يكون الأفضل قول الكذب.















القصد هو ضرورة التمييز بين الفعل الأخلاقي، ونفس الأخلاق، فالأول يطرأ عليه التغيير، ويتناسب مع الإسلام، فلو سأل سائل مثلاً:















السرقة حلال أم حرام؟















الجواب: حرام.















هل تجوز السرقة في موطن ما؟















الجواب: نعم، بل تكون واجبة وواجبة أحياناً.















حديث علي عليه السلام















ونظرية نسبية الأخلاق































كان بحثنا يدور حول نسبية الأخلاق، ونسبية التربية.















وبناء على النظرية القائلة بنسبية الأخلاق، واختلافها حسب الزمان والمكان والفرد، لا يمكننا أن نقدم طرحاً أخلاقياً لكل البشر في كل الأزمنة، وأن كل طرح أخلاقي يصدر عن أي مبدأ ـ سواء ان إسلامياً أو غير إسلامي ـ يجب أن يكون مقيداً ومحدداً بالظروف الزمانية والمكانية وغيرها. أي ما سيكون حاكماً في هذه المنطقة، لا يصلح للمنطقة الأخرى.















لقد انتهينا في بحثنا إلى أن هناك فرق بين الأخلاق والفعل:















الأخلاق التي هي عبارة عن مجموعة خصال وسجايا وملكات اكتسابية قبلها الإنسان باعتبارها أصولاً أخلاقيةً. أو بعبارة أخرى: هي إطار وقالب روحي صنعت فيه، ووفقاً لروح الإنسان؛ فكيفية كينونة روح الإنسان هي أمر ثابت ومطلق ودائم.















أما فعل الإنسان، فهو عبارة عن تحقق تلك الروحيات في الخارج، حيث تختلف باختلاف الظروف، لأنها يجب أن تختلف.















وبعبارة أخرى: إن مظاهر ومجال الأخلاق الإنسانية تختلف باختلاف الظروف، ففي مكان معين يكون رد فعله بشكل، وفي مكان آخر يكون رد فعله بشكل آخر، لا أن يكون الإنسان في مكان معين بشكلٍ، ويكون في مكان ثاني بشكل آخر. فهناك فرق بين أن نقول: يجب أن يكون الإنسان في عصر بشكل معين يختلف فيه عن العصر الآخر. ويكون في مكان معين بشكل يختلف فيه عن المكان الآخر. وبين أن نقول: إن الإنسان يمكنه أن يكون ذو شخصية عالية تحافظ على شكلها الواحد في المواطن المختلفة، ولكن مظاهر فعلها يختلف في الأزمنة المختلفة، وفي الظروف المختلفة.















طرح أشكال















من الممكن أن يقول قائل: من مقررات الإسلام في المجال الأخلاقي أن بعض الخلقيات التي تراد للمرأة، لا تراد للرجل، والعكس صحيح أيضاً. فهل أن النموذج الأخلاق والإنساني للمرأة يختلف عنه للرجل في الإسلام؟ أي إنهما نوعي إنسان من وجهة النظر الإنسانية؟ وقد وضع لهما في الإسلام طرحاً قالب روحي؟ فقد خلقت المرأة في قالب، وخلق الرجل في قالب آخر؟















فإذا كان الأمر كذلك، سيكون من المعلوم والواضح، تهافت القول بأن الخلق حقيقة مطلقة، حيث لا يبقى بعد لها أساساً. والدليل هو اختلافه بين المرأة والرجل.















فقد يطرح هذا القائل قول علي (عليه السلام) الذي ذكر في نهج البلاغة، وهو: "خيار خصال النساء شرار خصال الرجال" ثم ذكر ثلاث خصال "الزهو والجبن والبخل" ونحن نعلم أن التكبر يعتبر خلق سيئ جداً، كما أنه من الناحية النفسية يعتبر أحد الأمراض، والجبن معلوم أيضاً، لأنه يعبر عن الضعف، وعدم القدرة. وكذلك البخل، إنها خصال ثلاث، تعتبر من أسوء الخصال للرجال، في نفس الوقت الذي تكون فيه ـ كما جاء في نهج البلاغة ـ من أفضل خصال النساء. فكيف يكون ذلك؟































ثم إنه (عليه السلام) يحل هذا الإشكال عندما يقول: "فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانةً فرقت من كل شيء يعرض لها". [نهج البلاغة ـ شرح صبحي الصالح ص 509 ـ 510، حكم 234].















الجواب:















في البداية سأتحدث ـ ربما سيخطر ببالك أني سأقول: إن هذا الحديث ليس صحيحاً ـ عن المفهوم الواقعي لهذا الحديث، وماذا اراد منه الإمام علي (عليه السلام). هذا أولاً.















أما ثانياً: هل أن هذه التعليمات تتفق مع النصوص الإسلامية العامة، وبالأخص مع ما صدر عنه (عليه السلام) بالذات؟















أما المقدمة التي ورد ذكرها فهي: إن علماء الأدب وغيرهم يقولون: إن في تعبيرات اللغة العربية ـ وفي غيرها من اللغات، لأن هذا الأمر يرتبط بالإنسان لا بلغة خاصة، وفي مجال الألفاظ المرتبطة بالحالات النفسية للإنسان ـ ربما يستخدم اللفظ لا باعتبار نفس الحالة النفسية، بل باعتبار الأثر الذي يترتب على تلك الحالة الإنسانية ـ مثلاً ـ الرحمة التي هي حالة نفسية وعاطفية في الإنسان، ففي بعض الأحيان تستعمل هذه الكلمة للتعبير عن نفس الإحساس باعتباره حالة نفسية، وفي أحيان أخرى تستخدم للتعبير عن الأثر البارز من هذا العمل بغض النظر عن وجود أو عدم وجوده حقيقة الرحمة في هذا العمل أو عدم وجودها. فعندما نقول: إن فلاناً رحم فلان ـ أي أنه أدى عملاً من نوع الرحمة، بغض النظر عن وجود الرحمة في هذا العمل أو عدم وجودها أو مثلاً: عندما تستخدم هذه العبارة بالنسبة إلى الله، في حين أنها ذات مفهوم إنساني، لا تصدق بالنسبة لله سبحانه إلا في مفهوم أثرها، مثل: (الله يستهزئ بهم) (البقرة: 15) أو عندما نقول: إن الله يستحي من الشيء الفلاني، فالحياء كلمة وضعت للتعبير عن حالة إنسانية، وهي الخجل والتأثر والانفعال، وهي بالنتيجة حالة نفسية.















ومما لاشكل فيه أن هذه الحالة النفسية بهذا المعنى لا تصح بالنسبة إلى الله سبحانه، ولكن قد يتعامل الله سبحانه مع الإنسان تعاملاً يكون نظيره ما يصدر عن الحياء والخجل. قال سعدي في بداية گلستانه: إن العبد عندما يدعو الله، فلا يستجاب له، فيكرر الدعاء ثانيةً وثالثةً، فيأتي النداء: يا ملائكتي أجيبوه، فقد استحييت من عبدي. وكذلك الأمر بالنسبة على الاستهزاء. فهو بالنسبة إلى الإنسان حالة نفسية لها آثار معينة، ولكن الله سبحانه عندما يتعامل مع شخص تعاملاً من شأنه أن يجعل ذلك الشخص عرضة لاستهزاء الناس، يقول: (الله يستهزئ). إن هذا الأمر لا يختص بالله سبحانه، بل كثير من الموارد الأخرى تستخدم هذه الألفاظ، بالنسبة للإنسان باعتبار السلوك الذي يكون من النوع الذي هو معلول لتلك الحالة.















أما كيفية هذا؟ لقد استخدمت في الحديث ثلاث ألفاظ: التكبر، والجبن والبخل. فالتكبر حالة نفسية في الإنسان.















وقبل أن نبين معنى الحديث، أذكر لكم بعض القرائن: لقد قيل لنا إن (التكبر على المتكبر عبادة) أي إذا رأيت إنساناً يتكبر، فلا تتصرف معه بشكل تشجعه فيه على التكبر، بل عليك أن تتكبر أنت عليه أيضاً، لتمرغ أنفه بالتراب لعله يكفي عن هذه الحالة.















فعندما يقول: التكبر على المتكبر عبادة، لا يعني أن التكبر حالة نفسية مستساغة ومحمودة، وأنك عندما تتكبر قبال هذا التكبر، لا تنظر إلى نفسك بأنك كبير حقاً، بل إنه يعني لابد أن تكون متواضعاً على الدوام: روحك تكون متواضعة، ولكن سلوكك مع الشخص المتكبر يكون بتكبر من أجل تمريغ أنفه بالتراب. إذن: لم يوص هنا بالتكبر باعتباره خلقاً، بل أوصي به باعتباره سلوكاً مشابهاً لسلوك الشخص المتكبر.















أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمرة القضاء















إن عمرة القضاء كانت على ما يبدو في العام السابع الهجري حيث زار الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكة بعد صلح الحديبية، الذي تم عندما منعته قريش وأصحابه من دخول مكة، على أن يرجع المسلمون من قرب مكة ليعودوا إليها ثانية، وكان أهالي مكة في ذلك الوقت كفاراً، وأعداءً. وقد سمح للمسلمين وفقاً لبنود الصلح أن يدخلوا مكة في العام القادم. وعندما جاء المسلمون للزيارة، أصدرت قريش أمراً عاماً بتخلية مكة من أهاليها، كي لا يلاقوا أحداً من مكة، فلربما يؤثرون فيه، ويحولونه إلى معسكرهم. وقد كان ضمن بنود الصلح أن يمكث المسلمون في مكة ثلاثة أيام فقط.















عندما دخل المسلمون مكة خرجت قريش برجالها ونسائها، وأطفالها إلى خارج مكة، ومكثوا في مرتفعاتها القريبة.















والرسول كان يعرف أنهم يراقبون المسلمين عن بُعدٍ، فأمر بانزال ثوب الإحرام عن أحد الكتفين. والطواف بشكل تتجلى فيه الرجولة، والصلابة والشجاعة أثناء الهرولة. وقد كان طوافاً وحيداً في زمن الرسول، حيث إنهم طافوا، كما لو أنهم في ساحة معركة، من أجل أن ترى قريش فيهم القدرة والشوكة، في حين أن المناسبة كانت مناسبة عبادية، والحالة حالة دعاء وتضرع وتواضع. ولكن الرسول لم يرد منهم أن يتكبروا فعلاً، بل أراد أن يكون سلوكهم في هذا الظرف بتكبر.















مثال آخر: إنه أمر أصحابه أن يتصرفوا بتكبر في ساحة المعركة ـ أي أن يمشوا بتبختر تماماً كالمتكبر، وإن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد أن قتل عمرو بن ود العامري في معركة الخندق، وعاد إلى المسلمين كان يمشي بتبختر فلما رآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع. إنه إذن: سلوك متكبر، ولكن الإسلام يبغض نفس التكبر، حتى في ميدان الحرب، فلا أحد من أهل فقه الحديث يقول بأن نفس التكبر باعتباره خلق وخصلة وحالة نفسية تقبل الاسثناء في ميدان الحرب، فتكون جيدة، وفي غيره لا تكون جيدة. فالتكبر إذن في هذه الموارد يعني فعلاً يتكبر.















وهكذا هو بخصوص بالمرأة بقرينة (لم تمكن من نفسها) فإنه لم يقل: إن تكبر المرأة مطلقاً حسن، حتى مع المرأة الأخرى.















فالمرأة لا ينبغي لها أن تتكبر مع المرأة، وكذلك مع زوجها وأبيها وأخوتها وأخوالها وأعمامها، ثم إن الإنسان لا يمكنه أن يكون ذا خلقين، فهو إما متكبر أو غير متكبر، فذلك الحديث يقول: بالفعل المتكبر أمام غير المحارم. ومن الواضح أن كلمة (الزهو) التي جاءت في الحديث تختلف شيئاً ما عن التكبر.















إن التواضع الذي يبديه رجل أمام رجل آخر، أو تبديه إمرأة أمام إمرأة أخرى أو أمام أحد محارمها، وكلمات المجاملة التي تقولها، لا ينبغي أن تكون أمام غير المحارم.















وإذا فعلت والتزمت بهذا، فإن الرجل من غير المحارم سيرى أن هناك فاصلاً بينه وبين هذه المرأة.















فالتكبر إذن هنا ـ أي في الحديث ـ إنما هو مرتبط بالفعل، لا بالخلق. والحديث يشير إلى أن المرأة عندما تتصرف بهذا الشكل لن يتمكن منها الرجل الأجنبي.















لقد ذكرنا أن الإسلام يريد أن يسود أصل عام، وهو إيجاد حاجز عملي، مثل الحجاب، وأخلاقي ـ كما ذكر في هذا المورد، من أجل منع نشوب الحرائق التي خطرها قائم. إذن يكون هذا سلوكاً بتكبر، وليس نفس التكبر.















مفهوم الجبن في الحديث















إن المقصود من الجبن هنا هو مسألة العفاف، وليس موضوع الجبن مقابل الشجاعة مطلقاً، إن الشجاعة باعتبارها خلق روحي ـ وبمعنى قوة القلب وعدم الخوف وعدم الانحناء أمام الآخرين ـ أمر ممدوح بالنسبة للرجل أو المرأة. فالإسلام لم يقل في أي وقت من الأوقات: إن الرجل ينبغي أن يكون قوي القلب، ولكن المرأة ينبغي أن تكون جبانة، والدليل على ذلك أن كل ما لدينا من نصوص في باب مدح الشجاعة وذم الجبن ـ وهي كثيرة ـ لا تختص بالمرأة أو الرجل، بل إنها تشملهما جميعاً. هذا أولاً.















وثانياً: إن سيرة النساء المسلمات التي لدينا إنهن كن دائماً شجاعات أي إن المرأة الشجاعة عند المسلمين هي موضع افتخار وتمجيد، لأن الشجاعة تعني عدم الخوف، وعدم التراجع عن خوف على المال والولد والنفس ـ عندما تكون معرضة للخطر، والاستعداد للعطاء من المال والحيثية والروح مقابل الاعداء.















قصة صفية بنت عبد المطلب















فنحن مثلاً نرى قصة صفية بنت عبد المطلب تعتبر في التاريخ الإسلامي موضع تبجيل وتمجيد، ومما ينتظر ويتوقع من إمرأة هاشمية.















في غزوة الخندق عندما حوصر المسلمون من قبل الكفار، وضع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النساء في مكان معين.















كان مع المسلمين رجل يسمى حسان بن ثابت، وهو الشاعر المعروف المفلق، وقد خدم الإسلام خدمة كبيرة بلسانه ـ وهو من الشعراء المخضرمين ـ أي الذين شهدوا الجاهلية والإسلام، كما يعد من شعراء الدرجة الأولى عند العرب، وهو كغيره من كثير من الشعراء، والأشخاص الذين يكون عملهم الكلام، ويصرفون أكثر قدرتهم فيه، فإنه قهراً سيكون مقصراً أو قاصراً في المجال العملي، حيث أنه عندما رأى نفسه في ساحة المعركة. وقد آن أوان العمل والحرب، ترك الساحة واختفى بين النساء.















وقد وصل إلى محل النساء أحد الأعداء. وعندما عرف أن هناك نساء شن هجوماً عليهن، وقد طلب النسوة من حسان أن يأخذ السيف ويقف بوجه هذا الرجل. ولكنه رفض ـ كما فعل البعض عندما ارتدى حجاب النساء، واختفى في المواقع الخلفية ـ ولكن الظرف لم يكن ظرفاً، لا تظهر فيه المرأة شجاعتها، لذا فقد نهضت صفية، وأخذت السيف بكل شجاعة حتى استطاعت أن تهزم هذا العدو.















وكذلك الأمر بالنسبة إلى شجاعة الزهراء، وشجاعة زينب. فنحن نرى أن قوة القلب والحماس الروحي وعدم الخوف من القتل الذي كانت تتمتع به زينب، يعد نموذجاً عالياً جداً. وينقل في التاريخ الإسلامي باعتباره أسوة كاملة.















إن ما قيل بخصوص المرأة واتصافها بالجبن ـ أي أن يكون عملها عمل الجبناء، لم يكن يقصد به الخوف على النفس أو المال، بل يقصد منه الخوف على العفاف.















الرجل الشجاع لا يخاف، يقدم في موضع الإقدام، حتى لو قتل، فإن قتله موضع افتخار. وكذلك ينبغي أن تكون المرأة.















أما حينما تكون عفتها في معرض الخطر، فليس المقام مقام شجاعة، لأن الشجاعة تعني الفداء والتضحية.















والعفاف ليس أمراً شخصياً، كي يضحي به الإنسان، بل هو أمانة لدى الإنسان تماماً، كما لو أنك تضع شيئاً ثميناً جداً لدى شخص من أجل إيصاله إلى مقصده. ولكنه بدل أن يصرف كل جهده لتحقيق هذه الغاية، يجعله عرضة للخطر، ويفرط فيه.















لقد ذكر السيد همايون مرة مثلاً جيداً، ومربياً، قال:















رأيت ـ قبل أربعين أو خمسين عاماً ـ حمالاً يضع على رأسه طبقاً كبيراً يعد من ذخائر الدولة وتحفها النفيسة جداً، وربما يكون عائداً لأهل عوائل الملك أو أحد أعوانه. وكان الحمال يريد نقله من دار إلى دار. فرأى بعض المحتالين أنها مناسبة جيدة لأذيته فتقدموا نحوه، وقاموا ببعض الأعمال التي فيها إهانة له. وكان قلبي يخفق، لتوقعي أن هذا الحمال سيفقد أعصابه ويرمي بالطبق على الأرض، فيتهشم، ليدافع عن نفسه. ولكنه تحمل كل تلك الإهانات لأنه كان يعرف ماذا يحمل على رأسه، وأن المقام ليس مقام إظهار شجاعة. ودفاع عن النفس، بل المقام هو مقام إيصال الأمانة إلى محلها.















المرأة حاملة لأمانة إنسانية















تعد المرأة ـ باعتبارها صاحبة عفة ـ حاملة لأمانة إنسانية كبيرة، وليست مالكة لأمر شخصي إن تسامحت فيه تسامحت في أمر شخصي، بل هي إن تسامحت فيه تكون قد ارتكبت خيانة لأمانة إنسانية.















فكما ينبغي أن يكون الرجل عفيفاً، ينبغي أن تكون المرأة عفيفة أيضاً.















إن التشابه بين الرجل والمراة، لا يمكن لأحد أن يحققه، حتى لو ملئت الدنيا بصيحات مساواة حقوق المرأة والرجل. فما لاشك فيه أن المرأة والرجل جنسان، يشتركان في بعض الأمور الإنسانية، ويختلفان في بعض الأمور الأخرى، من جهة الكيفية. فعفة المرأة ـ مثلاً ـ تكون مورداً لاعتداء الرجل، في حين أن عفة الرجل لا تكون مورداً لتجاوز المرأة عليها.















ونحن لم نسمع لحد الآن أن المرأة الفلانية قد تجاوزت على عفة الرجل الفلاني. في أوروبا وأمريكا.















إن وضع الرجل يختلف عن وضع المرأة، فلا يمكن في أي وقت من الأوقات أن تظهر المرأة بمظهر التجاوز على عفة الرجل، بل هو الذي يمكن أن يتجاوز على عفتها.















إنك ترى دائماً أنه لو وقف شابان أمام مدرسة للبنات لأمكنهما أن يؤذيا مئات الشابات، في حين هل سمعت لحد الآن أو رأيت ـ وهل هو بالإمكان ـ أن شابات يقفن أمام مدرسة للشباب فيزاحمنهم؟















إن الاعتداء على العفاف لا يقع إلا من قبل الرجل، وإن المرأة يجب أن تكون في موقع الدفاع، والمحافظ، والمؤتمن على الأمانة الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية.















إن الحديث ـ موضع البحث ـ يوصي المرأة فقطك أن يكون سلوكها ذات طابع جبان مع الرجل الأجنبي، في مسألة العفة. ولا يقول بذلك في سلوكها مع المرأة الأخرى. أو مع الزوج أو المحارم.















إنه ليس من الشجاعة أن تقول المرأة: لأذهب وحدي مع عدد كثير من الرجال، ولن يحدث شيء، لأني شجاعة، ولا أخاف، لأن الشجاعة تعني عدم الخوف. في الحين الذي تقتضي التضحية والفداء، فالمرأة لو أخذت منها أمانتها، فإنها ستقول: إني قد ضحيت. أما لو سلبت منها عفتها ستكون قد خانت الأمانة.















بناءها على هذا يكون الجبن الذي يوصي به أمير المؤمنين (عليه السلام) المرأة أن تحتاط به، إنما يعني أن يكون سلوكها بجبن، لا في مطلق المسائل، لا في مورد الخطر على النفس أو المال أو الحيثية الإجتماعية، بل في المورد الذي تكون فيه العفة معرضة للخطر. فهي توصية للمرأة بالاحتياط.















مفهوم البخل في الحديث















وهكذا الأم بالنسبة إلى البخل. فالقرآن الكريم يقول: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9) إنها إحدى حالات الإنسان التي يسميها القرآن شح النفس، والتي هي عندما تعرض له، لو أردت أن تأخذ منه فلساً واحداً، فكأنك تريد أن تقتطع جزءاً من روحه.















فالإسلام دين التوحيد الذي يريد أن يزيل تعلقات الإنسان ـ الرجل والمرأة ـ بغير الله، فهل يحتمل أن يوصي الزهراء (عليها السلام) مثلاً بأن تكون محبة للمال حباً جماً؟ فإذا صح هذا، لماذا يعتبر إنفاق الزهراء للباس زوجها ـ في سبيل الله ـ فضيلة كبيرة، وهو حقاً فضيلة كبيرة.















لم يكن المقصود بالبخل في الحديث هو البخل في المال الشخصي، فالمرأة أمينة على مال زوجها، وبالأخص وفق عبارة "حفظت مالها ومال بعلها" التي تعني من وجهة نظري المال المشترك بينهما، فلا ينبغي أن تكون مبذرة بما تأخذه من جيب حاتم.















ففي النظام الإسلامي بشكل خاصٍ، الذي يكون فيه الرجل هو الذي يحصل المال، وتكون المرأة المدير الداخلي للعائلة. ومن الطبيعي أن من لا تنضح عرقاً على تحصيل المال، لا تعرف قدره الذي يستحقهز فالمرأة بالنسبة للمال المشترك تعتبر أمينة عليه تمتدح إذا كانت تحسب لكل فلس حسابه.















فالبخل إذن هنا: لا يعني الصفة النفسية ـ الخلق ـ بل يعني سلوك الإمساك، لا من مالها، بل من مال الزوج. وإن هذا الأمر لا يختص بالمرأة فقط، بل يشمل غيرها ـ أيضاً ـ فأمير المؤمنين الجواد الأول، كما كان الممسك الأول.















فالتاريخ يحدثنا بأنه (عليه السلام) أول الكرماء من ماله، كما كان أول الممسكين بالنسبة للمال الذي كان مؤتمناً عليه ـ أي بيت المال، حيث لم يكن مستعداً لأن يعطي أخاه عقيلاً فلساً واحداً من بيت المال. فهل كان عليه السلام يحمل صفتين متضادتين؟ كلا: إن هاتين الصفتين من وجهة نظر الأخلاق ليستا مضادتين. إن إنفاقه لما كان يحصل عليه من غنائم الحرب أو من حفر نهر أو غيره من الأعمال يعتبر جوداً. والدقة في حفظ ممتلكات بيت المال من إطفائه للشمعة العائدة لبيت المال في حالة إنجاز عمل شخصي ـ مثلاً ـ يعتبر أمانةً لا بخلاً.















إنه كان يوماً مشغولاً في بيت المال، وقد أضاء له شمعة عائدة لبيت المال، فدخل عليه البعض لحاجة شخصية غير مرتبط ببيت المال، فأطفأ الشمعة، فسئل عن السبب، فأجاب بأن الشمعة عائدة لبيت المال، في حين أن عملكم شخصي، لا علاقة له ببيت المال.















فهل يقال له: إنك بخيل بسبب إطفائك للشمعة؟ كلا.فإذا صح ذلك، كان يجب أن نعتبر عثمان كريماً جداً، لأنه أعطى بيت المال لهذا ولذاك. إن كل شخص يؤتمن على مثل هذا المال، يجب أن يكون ممسكاً، ولكن لا بمعنى أن يكون خلقه الإمساك، بل سلوكه الإمساك، وهذا لا علاقة له بالخلق.















إذن فالخلقيات الثلاث: الجبن، والكبر، والزهو، والبخل. التي ذكرها الحديث، والتي يختلف أمرها بين الرجل والمرأة، لا تتنافى مع أصل عدم نسبية الأخلاق.















ففي خصوص الجبن الذي يقابله الشجاعة والقوة، وقوة القلب التي هي مطلوبة لكل من الرجل والمرأة، والجبن باعتباره خلق يعتبر أمراً سيئاً بالنسبة للمرأة والرجل.























الشجاعة والدفاع عن الحق















في الإسلام يوجد نوعان من الدفاع:















أحدهما ـ دفاع عن الحق باعتباره حقيقةً.















وثانيهما ـ دفاع عن الحق باعتباره حقوقاً إجتماعية.















فعندما تضاع تلك الحقوق، يأتي دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومحاربة المنكرات، وإشاعة ما يراه الإسلام من أمور حسنة.















إن أحد الأدلة على كون الشجاعة باعتبارها خلق لا يختص بالرجل فقط، هو هل: إن الدفاع عن الحق باعتباره حقيقة أو هل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر من مختصات الرجل؟ أم إنها مما يشترك فيه الرجل والمرأة؟















إن أحد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الشجاعة والقدرة، فإن الشخص الجبان؛ لا يمكنه أن يقوم بهذه المهمة. والقرآن الكريم لا يخصص هذه المهمة بالرجل فقط (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71) فبعض أولياء الله أولياء بعض، بعضهم يحمي الآخر، ولكنها حماية على أساس أصول الإسلام لا على أساس الرغبات الشخصية، وبعضهم مسؤول عن البعض الآخر، وهو نفس المعنى الوارد في الحديث الشريف "كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته". (1) وقد قلنا مراراً ـ كما ذكرنا في مقالة (الولاية والتوالي) ـ: إن الولي لا يعني الصديق، بل الحامي والمسؤول. إن كلمة (ولي) قد يستعمل بصيغة إسم الفاعل ـ أي المسؤول، وقد تستعمل بصغية إسم المفعول. وقد تأتي على وزن فعيل، وهي بمعنى فاعل أو مفعول (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وكل ما جاء في القرآن (بعض وبعض) فيعني عدم وجود فرق بين الطرفين، وهي كثيراًما وردت في القرآن الكريم مثل (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) (النساء: 34) لقد رأيت في المقال الذي كتبه السيد الموسوي الزنجاي مسألة جيدة جداً، حيث قال: إن القرآن الكريم عندما قال: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) لم يقل بما فضل الله الرجال على النساء، بل إنه أراد القول بما يمتلكه البعض من مجموع الفضائل، التي يتميز بها على البعض الآخر ـ أي الرجل من جهة على المرأة، والمرأة من جهة على الرجل. فإن كون الرجال قوامون على النساء أمر كامل الصحة، وربما يحتاج إلى بيان أكثر. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.















ففي مجال الدفاع عن الحقيقة إذن لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة، وأن كل دفاع يشترط فيه الشجاعة والقدرة.















الشجاعة والدفاع عن الحقوق الاجتماعية















في الدفاع عن الحق، بمعنى الدفاع عن الحقوق الاجتماعية التي من الأصول المسلمة في الإسلام وحسب قول فقهائنا في العمومات لا يوجد إختصاص بالرجل أو المرأة (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) (النساء: 148) فإن كلمة (مَنْ) لا تختص بالرجل أو المرأة. أو الآية الكريمة الأخرى بخصوص الشعر والشعراء التي تقول: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا). (الشعراء: 224 ـ 227)















فالقرآن لا يرضى بالشعر الذي هو مجرد نسج خيال. ووسيلة تخدير ولو لبني الإنسان، وإفساد لهم. والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: "إن من الشعر لحكمة". (2)















فالإسلام لا يعارض الكلام المنظوم. فقد تكون فيه حكمة، وعندها لا يكون شعراً بالمعنى السابق. إن القرآن الكريم يذم الشعراء الذين كانوا في ذلك الزمان. ويوجد في كل العصور من أمثالهم ـ كما يوجد بينهم عدد قليل من مثل إقبال اللاهوري شاعر ملتزم، يوظف الشعر لخدمة أهدافه، ولا يجعله فناً. يستفيد منه أينما شاء.















إن القرآن الكريم يقول: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) فيوماً تراهم يمدحون هذا، وغداً يهجونه، ويتكلمون هذا اليوم عن هذا الموضوع ويتكلمون غداً عن ذلك الموضوع. يذمون هذا الأمر مرة، ويمدحونه أخرى. فيكونون مظهراً تاماً لعدم الإلتزام (إلا الذين آمنوا) المؤمنون الهادفون الذين يجعلون شعرهم في خدمة أهدافهم وكما يصطلح عليه اليوم الأدب الملتزم، والشعر الملتزم، وكذلك هو القرآن يعارض الشعر إلا الملتزم منه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا من بعد ما ظلموا) إلا الذين ظلموا، وهم مؤمنون، ويريدون أن ينصروا بشعرهم أي يحركون الأمة ضد الظالم بشعرهم.















فهنا تعبير القرآن تعبير مطلق عام لا يختص بالرجل أو المرأة، وكذلك هي عبارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: "لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد". (3)















إنها حسب تعبير الأصوليين عموميات لا تخصيص لها. إنهم يقولون كلاماً جيداً وجميلاً، وهو: إن كثيراً من العمومات ـ أي الكليات قابلة للاستثناء، فيذكروا قاعدة معينةً، ثم يأتوا باستثناء لها، ولكن بعض العمومات لا استثناء لها ـ أي إن لهجتها ومنطقها وطريقة بيانها تنطق بأني لا أقبل الاستثناء.















شجاعة الزهراء عليها السلام















إن العمومات التي وردت هنا عمومات لا تقبل الاستثناء، ولا تخصيص لها. وأفضل واسلم دليل هو الحوادث التاريخية للزهراء (عليها السلام) وزينب (عليها السلام) إن قضية الزهراء في أحد جوانبها ـ واقعاً ـ عجيبة جداً، فالزهراء مع علي (عليه السلام) من جهة نراهما زوجين لا يعيران أي إهتمام للثروة، بل للدنيا وما فيها، قال: "وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظانها في غد جدث". (4)















ماذا يفعل بفدك من انتصر على كل بهارج الدنيا؟ وماذا يصنع بفدك من هو كأنه يعيش خارج هذا العالم، إنه رجل متحرر من أبعاد العالم، مثل الثروة والمال؟ وهذا يشير إلى أنهما ـ فعلاً ـ لم يكونا يعيران إهتماماً لفدك.















ومن جهة أخرى، إننا نجد أن مسلمات التاريخ الرواية المعروفة والتي يرويها أهل السنة أكثر مما يرويها أهل الشيعة، وهي أن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما مرض مرض الوفاة، كانت الزهراء تبكي بكثرة. فدنت منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فناجاها فزاد بكاؤها، وناجاها ثانية، فتبسمت. وقد سئلت بعد ذلك عن هاتين النجوتين، فقالت ما مفاده: إن أبي أخبرني في النجوى الأولى أنه راحل لا محالة عن الدنيا، فبكيت لفراقه. وفي النجوى الثانية قال لي: ما أسرع لحاقك بي فتبسمت لذلك.















إضافة على ذلك أنها كانت مريضة راقدة على الدوام على فراش المرض، وكان واضحاًعندها أن عمرها لن يطول، ولكنها رغم ذلك كانت تؤكد على فدك، لا باعتبارها ثروة، لأنها وفق هذا الاعتبار لا قيمة لها، ولكن باعتبارها حق مغصوب يجب أن يعاد إلى أهله، ولهذا قدمت إلى المسجد مسجد المدينة على حشد من نسائها، وبحضور الخليفة، وخطبت تلك الخطبة الغراء دفاعاً عن حقها. فلماذا لم تخف؟ هل كان هذا خلافاً للتربية الإسلامية؟ هل إن هذا العمل لا يناسب المرأة؟ هل من القبيح أن تدخل المسجد أمرأة بحضور الآلاف من الناس وتدافع عن حقها؟















كلا. ليس هناك أي قبح في هذا العمل، بل هو دفاع عن الحق من قبل الزهراء التي لم تكن تعير للدنيا بما فهيا أهمية باعتبارها مالاً وثروة مادية وشخصية ووسيلة للتلذذ الفردي، وبالأخص عندما نعرف أنها كانت على يقين من أن عمرها مشرف على الإنقضاء. والإنسان عندما يعرف هذا الأمر تنقطع كلياً مطامعه المادية من الدنيا، ولكنها باعتبارها حارسة للحق ولا ينبغي لها أن تضحي بهذا الحق، وتسحق السنة، أرادت أن تبعث بهذا الحق الروح من جديد، فجاءت بكل شجاعة تدافع، كما كانت تذهب إلى دار الخليفة، فتأخذ منه الوقت، والأمر بقوة. ومرة أخرى تحاول بطريق ثانية مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد المدينة. وهكذا كانت سبباً لحوادث عجيبة.















شجاعة زينب عليها السلام















وهكذا الأمر بالنسبة إلى زينب (عليها السلام)، فإذا كان الجبن للمرأة يعد خلقاً حسناً، كان ينبغي أن تكون زينب أجبن من كل النساء، فتقبع في زاوية بيتها، ولا تحرك ساكناً. فهل أن أحداً أرغمها على الخطبة في مدخل الكوفة؟















وهل تكون الخطبة بالإكراه؟ ثم هل إن أحداً أكرهها إكراهاً أن تقف ذلك الموقف في مجلس ابن زياد، فتهينه، رغم ما في هذا العمل من خطورة على حياتها وعلى حياة أتباعها.















وأكثر من ذلك ما فعلته في مجلس يزيد نفسه. ورغم ما فيه من أبهة، فإنه يختلف عن مجلس ابن زياد.















أولاً ـ لأن يزيد كان خليفة، بينما ابن زياد أحد ولاته.















وثانياً ـ إن ابن زياد كان في الكوفة، بينما يزيد كان في الشام. والشام لها وضع خاص باعتبارها مجاورة للقسطنطينية آنذاك بحيث أن معاوية، ولهذا العذر، ولظهور شوكة الإسلام بمظهر مناسب أمام الأعداء، فقد جعل جهازه في الشام جهازاً قيصرياً وكسروياً، وملكياً.















(وهذا ما ذكر من قِبَلِ المؤرخين) من خلال ما بناه من قصور فخمة، ووضع فيها من الخدم والحشم والحرس، وما وضع فيها من تشريفات للدخول، وأثاث فخم ونادر، وأجلس فيها السفراء والأمراء، فكان مجلساً ذا أبهة فخمة، ولكن هذه المرأة عندما دخلت هذا القصر، لم تؤثر عليها كل هذه المظاهر. وخاطبت يزيد بقولها:















"وإن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، واستكثير توبيخك، ولكن العيون عبرى والصدور حرى...". (5)















فهل تستطيع أن تفعل هذا إمرأة خائفة، فعلى الأقل كانت بهذا العمل قد عرضت حياتها للخطر، ولكنها لم تخف من هذا الأمر، فزادت بهذا على عزتها عزةً وعلى شرفها شرفاً بتلك الشجاعة.















إذن، فالاختلاف الذي يحصل، إنما هو بسبب الوضع الخاص للمرأة، وفي العمل لا في الأخلاق والشخصية، فمن وجهة نظر الشخصية الأخلاقية لا يوجد أ ي فرق بين المرأة والرجل، ونحن نعرف أن الرجل أيضاً إذا وضع في ظرف معين أميناً للمجتمع، وأراد أن يحفظ هذه الأمانة لا يكون المقام مقام عفو وشجاعة أو مقام عمل بتواضع، بل هو مقام أمين وعمل بتكبر واحتياط وإمساك.















وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.















نسبة الآداب















(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين). (التبوبة: 122)















يوجد كلام نسب أخيراً لمولى المتقين، وهو "لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" أي إنكم خلقتم لزمان، بينما خلق أبناؤكم لعصر آخر، والأخلاق التي تتبعونها تعتبر حسنة بالنسبة إلى عصركم، أما أبناؤكم، فيجب أن يكون لهم حسن نسبة إلى زمانهم.















هنا توجد نقطتان ينبغي بحثهما:















الأولى ـ هي هل أن هذه العبارة هي كلام علي (عليه السلام) حقاً ـ أي ما هو مصدرها؟ وما هو سندها؟















أما الثانية ـ فهي هل أن مفهومها صحيح أم لا؟ بغض النظر عمن هو قائلها.















أما بالنسبة إلى النقطة الأولى ـ لحد الآن لم يعثر على هذه الجملة باعتبارها من أقوال عليّ (عليه السلام) ـ في أي من كتب الحديث، التي هي محل إعتماد، أو هي غير محل للإعتماد. أي إنها ليست موجودة في نهج البلاغة، ولا في الكتب الأربعة، بل لا توجد حتى في الكتب التي كتبت أخيرا، وتروى، حتى الأحاديث الضعيفة مثل بحار الأنوار.















إنها جملة أشيعت أخيراً ـ أي قبل خمسين أو ستين عاماً باعتبارها من كلام علي (عليه السلام)، وإني قبل عدة سنوات قد رأيت في أحد الكتب التاريخية القديمة، وهو (ناسخ التواريخ) أثناء ذكره لأحوال أفلاطون قوله: "لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".















ومن هنا عرفت أو أول شخص نسب هذا القول لعلي (عليه السلام): إما أن يكون مشتبهاً، أو يكون قد قالها لغرض معين، فلكي يعطي ما أراد قوله أهمية أيده بهذه الجملة، ونسبها على علي (عليه السلام) ـ رغم علمه بأنها ليست له، لعلمه بأن الكلام المنسوب لغير المعصومين لا أثر له ككلامهم (عليهم السلام).















بناء على هذا يبدو لنا ان هذه الجملة لم تصدر عن علي (عليه السلام). ولكني مع ذلك لا أنفيها بشكل قاطع، لا،ه كما يقول طلبة العلوم الدينية (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود) فما يمكننا قوله: إننا لا نملك أي دليل يثبت لنا أنها صادرة عن علي (عليه السلام).















وبما أننا لا نريد أن نستغرق في هذا المبحث، لذا ننتقل إلى المبحث الآخر. وهو هل أن مفهوم هذه الجملة بحدّ ذاته صحيح أم لا؟















هناك مسألة كانت منذ القدم مورداً للبحث بين الفلاسفة، ولا زالت لحد الآن، وهي مسألة 0نسبية الأخلاق) أي إن الأخلاق من الأمور النسبية بمعنى عدم وجود خلق حسن بشكل مطلق في كل زمان ومكان، كما أنه لا يوجد خلق رديء بشكل مطلق في كل زمان ومكان. وإنما يكون الخلق حسناً ضمن ظروفه الزمانية والمكانية المعينة، ويكون رديئاً في ظروف أخرى.















هذا هو ما يقصد بنسبية الأخلاق، التي يوجد الكثير ممن يؤيدها.















كما أن هناك موضوع آخر يطرح في باب العدالة يسمى (نسبية العدالة) فالعدالة الشيء الذي يستحسنه كل الناس، هل هي مفهوم مطلق أم نسبي؟















والمفهوم المطلق يعني أنه على الدوام عدالة وحسنة.















ولعل قصد قائل جملة (لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم) هو مفهوم نسبية الأخلاق فيكون المعنى إن خلقكم قد يكون جيداً ولكنه غير صالح لأبنائكم.















إن بحث نسبية الأخلاق، ونسبية العدالة هو ما سنتناوله فيما بعد. وما نريد ذكره الآن هو أن إدعاء نسبية الأخلاق كذب، أي إنه ليس كل ما إسمه أخلاق هو نسبي. وإن هذه الجملة يمكن أن يكون لها معنى آخر. وهو (لا تؤدبوا) حيث أننا نمتلك سلسلة أمور تسمى (آداباً) كما نمتلك سلسلة أمور أخرى تسمى (أخلاقاً).















فالأخلاق شيء آخر غير الآداب. فإذا كان قصد القائل (لا تخلقوا أولادكم بأخلاقكم) فقد أخطأ، بل ربما يكون معنى الجملة هو (لا تؤدبوا أولادكم بآدابكم).















فإذن: ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الفرق بين الأخلاق والآداب؟















الأخلاق مرتبطة بنفس الإنسان، أي مرتبطة بالنظام الذي يقوله الإنسان لغرائزه أي لطبيعته؛ كيف يصنع نفسه؟ فالنظام الذي يوضع للغرائز يسمى أخلاقاً.















إن الإنسان له غرائز مختلفة، وقد ذكرها العلماء منذ القدم. إن للإنسان ثلاث قوى رئيسة. وأحياناً أربع.















1 ـ القوة العاقلة.















2 ـ القوة الشهوية، ولا يقصد بها الشهوة الجنسية فقط.















3 ـ القو الغضبية.















وهكذا جدولوا هذه القوى، وقالوا: بأن القوة الشهوية عملها جلب المنفعة أي تدفع الإنسان للسعي باتجاه تحقيق منافعه.















والقوى الثانية هي الغضبية، ولا يعني به الغضب بالمعنى الخاص.















وهي قوة دفع، حيث تدفع الإنسان بشكل أوتماتيكي ـ تلقائي ـ لأن يدفع عنه ما يرى أنه مضر له.















وهكذا، فكما أنه يوجد في الجسم قوة دفع، فكذلك يوجد فيه روح. فالإنسان عندما يأكل الطعام يمضغه في فمه، ثم يصل إلى المعدة، وبعد هضمه هناك يصل إلى الأمعاء، ثم يمتص هناك، فيبقى بعض الفضلات التي لا تفيد البدن، حيث تدفع إلى الخارج بواسطة قوى أخرى. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الروح.















كما أن هناك قوة أخرى تسمى القوة العاقلة، وهي قوة منظمة، لأن كل قوة من القوى السابقة لا تهتم إلا بعملها، فشهوة الأكل التي توجد لدى الإنسان لا يكون عملها إلا الأكل لا غير.















فهي تحس باللذة فقط، تقول: يجب أن آكل فقط. والقوة الجنسية لا تفكر بشيء غير أداء العمل الجنسي.















وهكذا الأمر بالنسبة إلى القوة الغضبية.















فهذه القوى إذن تحتاج إلى مقنن، وتحتاج إلى من ينظم عملها لأنك إاذ أطلقت العنان لواحدة من تلك القوىن فإنها لا تجر عليك غير الخراب والفساد ـ مثلاً ـ العين تستلذ برؤية بعض الأشياء. ولا تفكر بشيء آخر. اللسان يقولك أنا أستلذ بأكل الطعام الفلاني، دعني أستلذ به، بينما هناك شيء آخر يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار. وهو لا ينبغي لنا أن نحسب حساب اللذة فقط. وإنما لابد أن نرى ماذا ستعقب هذه اللذة على مجتمع البدن وشخصية الإنسان، فلابد من منظم.















والعقل لابد أن يمارس سلطته في الحكم على هذا البدن وعلى شخصية الإنسان، ليعطي كل ذي حقه حقه، وهذا هو معنى تنظيم الغرائز.















نعم إن تنظيم الغرائز، يعني إعطاء كل واحدة من الغرائز حقها تحت سلطة العقل، فلكل منها حق.















وهكذا ورد في الأخبار: إن لعينيك عليك حق، وإن لبدنك عليك حق وإن لبطنك عليك حق. ولكل غرائزك عليك حق.















وهذه هي واحدة من مهمات الدين، فالعقل لا يستطيع وحده أن يحقق أهدافها، فالدين بأحكامه يعين لكل واحدة حقها.















هذا ما نسميه نحن بالأخلاق. ولكن سوء الخلق لا ينحصر بحالة إعطاء هذه الغريزة أكثر من حقها أو إعطاء تلك أقل من حقها، بل إن إعطاء أحدها أكثر من استحقاقه أو اقل منه يوجد مشكلات، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع الذي هو مثال للبدن، فإذا ارتكب اشتباه في المجتمع، بحيث أدى إلى تمليك مجموعة من الناس كل شيء، وحرمان الأخرى من أي شيء. فإن كلا المجموعتين ستفسد، وستجران على المجتمع سلسلة من المفاسد.















فالضرر الأول سيأتي من أولئك الذين أخذوا أكثر من حقهم، حيث سيرون أنفسهم يشكلون وجوداًَ عاطلاً، باطلاً. وإن لم يكونوا هم كذلك، فسيكون أبناؤهم كذلك. إن مثل هؤلاء الأفراد، لا يمكن أن يستمروا لأكثر من ثلاث أو أربع أجيال.















أما المشكلات التي سيوجدها المحرومون، فستنشأ من رؤيتهم لأنفسهم أنهم يكدحون ويكون نتيجة كدحهم لمصلحة غيرهم.















كيف هو العداء الذي سيحصل نتيجة ذلك؟















ستتولد الجرائم وسيرتكب القتل، وسيتحد هؤلاء الأفرادن ويثورون وستسيل الدماء، سترى الخادم في المنزل يقتل عدة أفراد.















ومعلوم لماذا؟ لأنه يرى أن كل أفراد العائلة يرفلون في ترفٍ ودلال، وضعوا يداً بيد، وغرقوا في شهواتهم.















إنه لاشك كان ينزعج، وكانت الآلام تتراكم في نفسه إلى أن تصل حالة الإنفجار كعلبة بارود، عندها ستقرأون في الصحف أن خادماً يدعى فلان قتل رب العائلة وزوجته، قتل البنين والبنات. إنهم لم يخطر ببالهم أن لا يبطروا معيشتهم أمام عينيه.















نفس هذه القضية تحدث لقوى نفس الإنسان أي إن الإنسان إذا أشبع بعض القوى، وأجاع البعض الآخر، فإن القوى الجائعة ستثور وتخرب وجود ذلك الإنسان.















ولهذا، فإن الإسلام يأمر بأداء حقوق كل القوى، ويخاطب الإنسان، ويقول له: إنك عندما تقول: إن لي روحاص، ولي جسماً، فإن لكل منهما حق عليك، إنك تدعي بأن لك غريزة دينية، وحس عبادي، ولك شهوة أيضاً. فالإسلام يأمرك بأداء حق كل منها، لا أن تضحي بواحدة من أجل الأخرى.















ولا ينبغي أن يخطر ببالك أنك إذا انقصت من حظ الشهوات النفسية والجسمية واتجهت للعبادة فقط. ستترك لك القوى مستقراً، بل إنها ستتمرد. إن البابوات الرهبان الذين قيدوا أنفسهم، ومنعوها من الزواج، قد حرموا بذلك واحدة من طبقات مجتمع البدن من حقها، بعد ذلك أنظر ما يسجل التاريخ لهم من جرائم في هذا المجال، فقد قيل عن (تزار) (6) بأنه ابن غير شرعي لأحد البابوات، فلا يصح القول بأن ذلك البابا طالح، بل إن طريقته كانت خاطئة كتب في إحدى الصحف أنه لأسباب سياسية فتشت دار أحد البابوات، فوجد في قبوها أحد عشرة إمرأة، في الوقت الذي يفترض بالقس أن يكون حارماً نفسه من الزواج وفق قانون الكنيسة.















نفس هذا الحدث يجري في بدن الإنسان. والأخلاق هي تقسيم الحقوق وفقاً لغرائز الإنسان. والآن نريد أن نرى: هل أن هذا التقسيم يختلف باختلاف الزمان ـ أي إن سهم العين أو سهم البطن أو سهم حب الجاه للإنسان غير ثابت؟ وهل أن هذا التوزيع للسهام، وتقسيم العمل الذي ينبغي أن يكون في البدن قابلاً للتغييرن لكي نقول: (لا تؤدبوا أولادكم)؟ أي إن جدول سهام أبنائك يجب أن يختلف عن جدول سهامك؟















كلا، إنها حصص ثابتة في كل زمان، لأن الإنسان لم يتغير، فلو كان الإنسان قبل مئة عام يختلف عن إنسان اليوم من ناحية من نواحي القوى والغرائز، فإن جدول الحصص يجب أن يختلف، ولكن الإنسان من هذه الناحية ثابت لا يتغير في كل الأزمنة.















ولكن تبقى لدينا مسألة أخرى، وهي مسألةالآداب، والتي لا ارتباط لها بموضوع تقسم سهام الغرائز، بل إنها مرتبطة بحاجة اخرى للإنسان، غير المسألة الأخلاقية. وهي امور إكتسابية نسميها الفنون ـ أي إن الإنسان محتاج إلى سلسلة من الفنون والصنائع عليه أن يتعلمها ـ مثلاً ـ الإنسان محتاج لأن يتعلم الخط والكتابة، (فالخط جزء من الآداب) أي أن يقرأ ويكتب، فقد قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "من حقوق الولد على الوالد أن يحسن إسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ" فالكتابة فن، وبعبارة أخرى: واحدة من الآداب والفنون، وكذلك الخياطة وركوب الخلل والسباحة، إن هذه الآداب تختلف باختلاف الزمان، فالإنسان لا ينبغي له أن يؤدب أبناءه بآدابه.















فإذا كان في زمانك من مقتضيات الآداب تعلم الكتابة، أما بعد ذلك، فقد وجدت آلة الطابعة وآلة الاستنساخ إنك نفسك كنت تعرف الكتابة، ولكنها في الزمن الآخر، لم تعد كافية لوحدها، بل يجب تعلم الضرب على الآلة الطابعة. في زمانك كانت الخيل وسيلة الحمل والنقل، وكان عليك أن تتعلم ركوب الخيل، أما الآن، فقد طرحت مسألة السياقة للسيارات. في زمانك لم يكن لهذه الفنون وجود، أما في عصر أبنائك، فلم يبق معنى لركوب الخيل، وعليك أن تعلمه السياقة، فلا ينبغي لك العناد والإصرار على أن تعلم ابناءك ما كنت تعرفه أنت. كلا (لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم).















فلربما يقول شخص مثلاً ـ ونتيجة للجهل والجمود الذي يخيم عليه ـ: بما أن عملي بيع البقاليات والبهارات، فإن ابني ـ أيضاً ـ يجب أن يكون عمله كذلك، لأني لا أعتقد أنه يمكن أن يجد عملاً آخر مثل هذا العمل، فهو خير من غيره مئة مرة لدينه ودنياه. هذا هو الجمود. إن ذلك يعد من الآداب.















ولكن هل أن الأخلاق تتبدل حسب مقتضيات العصر؟ كلا.















وهل أن مقتضيات العصر تبدل الآداب؟ نعم.















إن من جملة الآداب العادات والأعراف السائدة بين الناس، والتي لا يصح أن نقول عنها جيدة أو رديئة، فكل قوم لهم عادات وأعراف خاصة بمناسبات الأعراس ـ مثلاً ـ وفي مجالس الضيافة كذلك.















هناك جملة أخرى جاءت في الديوان الذي ينسب لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي: (بني إذا كنت في بلدة غريبة فعاشر بآدابها).















فالحديث هنا عن الآداب، فإذا ذهبت مثلاً إلى إحدى الأماكن فوجدتهم يأكلون الطعام وقوفاً، ينبغي لك أنت أن تأكل الطعام وقوفاً أيضاً.















هنا إذا أراد أحدنا أن يصنع وليمة، فعليه أن يأخذ بنظر الاعتبار مكان الاستضافة بحيث يتناسب مع عدد المدعوين.















أما عند العرب فيختلف الأمر، فقد يدعو أحدهم عدداً كبيراً من الناس وفي بيت صغير، فتأتي مجموعة من الناس تأكل طعامها وتنصرف، ثم تأتي مجموعة أخرى. وهكذا.















أما في إيران فيجب أن يتجمع الضيوف، ويعطى لهم الطعام دفعة واحدةً. فنحن إذا ذهبنا إلى هناك يجب أن نعمل وفق آدابهم تلك، ولا ينبغي أن يكون أحدنا ضيق الأفق، ويقول: يجب أن أعمل وفق آدابنا التي تعارفنا عليها فقط.















(1). الجامع الصغير: ص 95.







(2). الغدير، ج2 ص9.







(3). نهج البلاغة الخطبة 29.







(4). نهج البلاغة الرسالة 45.







(5). مقتل الحسين للمقرم: ص463.







(6). أحد أباطرة الروس الظلمة.































العبادة حاجة ثابتة للإنسان















(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم). (التوبة: 122)















بشكل عام ينبغي أن يكون لكل إنسان فكر نقاد. والنقد لا يعني إظهار العيوب فقط. بل نقد شيء معين، يعني وضعه على المحك، وتشخيص السليم والسقيم منه. فإذا أردت أن تنقد كتاباً معيناً، لا يعني أنك تضع جدولاً بعيوبه، بل أن تظهر عيوبه ومحاسنه.















والإنسان عليه أن يمحص ما يسمعه من آخرين ـ أي أن يضعه موضع النقد، فالإنسان لا ينبغي له أن يقبل الكلام لمجرد أنه مشهور بين الناس، حتى لو كان قد صيغ بلغة مشبعة بالبيان والفصاحة. وبالأخص إذا كان الكلام خاص بمسألة دينية. حينئذ يجب أن يعرض للنقد.















لقد ذكرنا في بحوث إحدى الليالي السابقة قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) "ما جاءكم عني اعرضوه على القرآن، فإن وافقه، فخذوا به، وإن خالفه، فاضربوا به عرض الجدار". وهذا هو نوع من النقد.















وهناك حديث آخر نقله أئمتنا عن المسيح (عليه السلام) لم يحضرني نص عبارته ولكن معناه هو: "إن ما تكسبوه من العلم اعرضوه للنقد، ولا تستسلموا له صماً وعمياناً، فقد يكون صالحاً، وقد لا يكون" وفي ضمن هذا الحديث "كونوا نقاداً".















وهناك حديث آخر، أذكره إجمالاً، وهو يختص بأصحاب الكهف الذين تحدث عنهم القرآن الكريم بقوله: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم). (الكهف: 13 ـ 14) فمن المعروف أنهم كانوا صيارفة، وقد فسرت هذه الكلمة على أن عملهم كان تصريف الذهب والفضة، بينما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) أن هذا التفسير كان اشتباهاً، بل إنهم كانوا (صيارفة الكلام) لا صرافي الذهب والفضة. كانوا علماء وحكماء، ولذلك، فإن ما يعرض عليهم من كلام يعرضوه للنقد والفحص، كما أن التفقه والتحليل.















إن الجملة التي نقلتها في الليلة الماضية، وذكرت بأنهانسبت أخيراً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي "لا تؤدبوا أولادكم..." فإنها من جهة اللفظ جميلة ومقبولة جداً، لذا فإنها لاقت رواجاً وقبولاً بين الناس بحيث أصبحت تردد من قبل الجميع.















تحضرني الآن هذه الحكاية. يوم كان عمري يتراوح بين الأربعة عشر والخمسة عشر سنة، ولم أكن أدرس بعد إلا بعض المقدمات في العربية، بعد أحداث خراسان، وانهدام الحوزة العلمية في مشهد، بحيث أن كل من شهد تلك الأحداث كان يقول: لن يبق أثر لعلماء الدين.















وقد وقع ما يحتاج إلى كاتب لكتابة مقال. وقد دعيت أنا لهذه المهمة وكتبت المقالة، كان في ذلك المكان شخص له منصب مهم. فعندما قرأ تلك المقالة، نظر إلي نظرة فاحصةً، وأبدى أسفه لكوني مازلت ضمن مسلك طلبة العلوم الدينية. بدأ الحديث معي ناصحاً إياي بأن: ذهب ذلك الزمان الذي كان يذهب به الناس إلى قم أو النجف ليصلوا إلى الدرجات العلمية العالية، قال علي (عليه السلام) "لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم.." ثم أضاف: هل إن الأشخاص الذين يتربعون على هذه الكراسي، ويشغلون هذه المناصب يملكون ست أصابع.. وقال أشياء أخرى كي يحرف تفكيري عما كنت أعتقد به، ولكني لم أعطه أذناً صاغيةً.















ثم ذهبت إلى قم، وقد طالت مدة إقامتي بها ستة عشر عاماً تقريباً. بعد مجيئي إلى طهران، كتبت أول آثاري العلمية، وهو كتاب (أصول الفلسفة) وقد وصل ذلك الشخص إلى عضوية المجلس الوطني، وكان ذكياً، وقد تحسنت أحواله في تلك الأيام عما كان عليه أيام الشباب كثيراً. بعد مضي ثمانية عشر عاماً تقريباً على تلك الحادثة.















نشر كتاب أصول الفلسفة، وحصل هو على نسخة منه، وبعد مطالعته له، كان أينما يجلس يبالغ بالثناء عليّ، حتى أنه مرة وبحضوري امتدحني كثيراً، بعد أن نسي أنه كان قد نصحني بأن أترك تلك الاهتمامات. في تلك اللحظة خطر ببالي: إنك نفس الشخص الذي نصحتني قبل ثمانية عشر عاماً أن لا تكون إهتماماتي هكذا. ولو أني كنت قد أخذت بنصيحتك لما كنت أكثر من موظف، يجلس خلف منضدة في إحدى الدوائر، في حين أنك الآن تثني عليّ هذا الثناء.















نعم إن جملة معينة قد تتلقف باستحسان كبير، وتنتشر بسرعة البرق تماماً، كما يحدث لبعض الأشخاص من مستقبل زاهر، نتيجة بعض الأسباب، بينما قد يكون الآخرون على العكس من ذلك. فهل لاحظت ذلك؟















إن الجمل قد تصادف حظاً جيداً دون ان يكون لها قيمة، ولكنها تنتشر بين الناس كالبرق الخاطف. وهناك جمل أفضل منها مئة مرة، ولكنها لا تلاقي ذلك الاستحسان، وتلك الشهرة.















إن جملة (لا تؤدبوا أولادكم...) من تلك الجمل والعبارات التي كسبت حظاً سعيداً جزافاً. وقد ذكرت في الليلة الماضية بخصوصها: إن من الاشتباه استعمالها بالمعنى المعروف لها الآن، في حين يمكن أن يكون هلا معنى ومفهوماً آخر، لا يقصده احد في الوقت الحاضر، وقد بينت الفرق بين الآداب والأخلاق، وأن الأول غير الثاني ـ حينئذ سيكون للآداب ـ وكما ذكرنا معنيين:















من الممكن أن يقصد منها ما يسمى في الوقت الحاضر بالفنون. إضافة إلى الأخلاق والصفات الروحية الخاصة. إضافة إلى عملية التنظيم التي يفعلها الإنسان لقواه الروحية، والتي تسمى الأخلاق. إضافةإلى أنه يجب على الشخص أن يتعلم الفنون. إضافة إلى كل ما سبق.















ومن الطبيعي أن يكون وفق ضوابط معينة، بمعنى أن يكون الفن الذي يتعلمه الإنسان من الفنون التي تترك أثراً إيجابياً على نهضة البشرية، وضمناً يدير حياته بها.















فمن الصحيح حينئذ أن يقال عن الفنون باعتبارها تابعة لمتطلبات العصر (لا تؤدبوا...) أو نقول: (لا تؤدبوا أولادكم بفنونكم) لأن الحياة متغيرة، والإنسان لا ينبغي أن يكون جامداً، ويصر أن لا يعلم أولاده إلا الفن الذي تعلمه هو، في الوقت الذي قد يكون نفس ذلك قد ظهر بشكل أفضل وأكمل.















المسألة الأخرى التي تعرضت لها، وتبين لي من خلال أسئلة السادة أنها تحتاج إلى توضيح أكثر، هي مسألة الآداب والأعراف.















إن الآداب والأعراف على قسمين:















القسم الأول منها ـ هو ما اصطلح عليه التشريع بالسنن ـ أي إن الشارع الأقدس أبدى رأياً حولها، مثل ما أسماه بالمستحبات، وبما أن الإسلام لا يصدر أمراً جزافاً، لذا فإن ما أسماه بالسنة يجب أن نعترف به باعتباره أصلاً من الأصول مثلاً ـ في الليلة الماضية كنت قد ذكرت جواباً على سؤال أحد السادة بأن الإسلام ذكر آداباً لأكل الطعام. والإسلام ليس دين رتوش ومظاهر، بل إن ما ذكره ملاكه المصلحة، فهو عندنا يقول باستحباب إطالة الجلوس عند المائدة، واستحباب مضغ الطعام، وقول بسم الله الرحمن الرحيم، وقول الحمد لله، وغسل اليدين قبل وبعد الطعام، فإن هذه الأمور ليست رتوشاً ومظاهر، بل هي حقيقة.















فالإسلام يهتم بسلامة الإنسان، ويريد له أن تبقى أسنانه ومعدته وأعصابه سالمة. إنه لا يهتم بالأمور الروحية فقط.















إن أكل الطعام بسرعة يكون سبباً للمرض، وهذا ملاك لا يختص بعصر معين، بل يسري في كل الأزمنة، لذا فالإسلام يقول باستحباب أن تكون اللقمة صغيرة، وزيادة مضغها، وغسل اليد قبل الأكل، فقد نقل (ابن نيزر) أن علياً (عليه السلام) جاء يوماً إلى المزرعة وأخذ المعول، ونزل في البئر، وبعد فترة من الحفر الجاد والسريع في تلك البئر خرج منها والعرق يتصبب من رأسه ووجهه، ثم قال ما معناه: "هل من طعام جاهز؟ قلت: نعم يوجد قرع، سآتيك به. قال: حسناً إئتني به. ثم نهض وذهب إلى نهر يجري، فغسل يديه بالرمل والماء. فعندما تنظفتا جيداً، وأراد أن يشرب بكفيه الماء، قال: إن كفي أنظف آنية" ثم شرب الماء بكفيه. هذه هي رعاية النظافة.















كما يستحب تخليل الأسنان، واستخدام المسواك، وهذه أمور أيضاً ـ لا تختص بعصر معين ومكان معين.















أما ما ذكرته سابقاً، فيحتاج إلى زمان ومكان خاصين.















إن ما ينبغي الالتفات إليه أن البعض ـ نتيجة للجمود الذي هم عليه ـ يتخيلون أن الإسلام مادام هو دين شامل، إذن يجب أن يتدخل حتى في الأمور الجزئية.















إن الإسلام ليس كذلك، وله وجهة نظر أخرى.















إن شمولية الإسلام تكون إيجابية، لأنها تأمر بشيء في بعض المسائل لا بمعنى لا رأي له مطلقاً، بل إن رأيه هو أن يكون الناس أحراراً.















وبعبارة أخرى لا تكليف له في تلك المسائل، فقد جاء في الحديث الشريف "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه" الذي هو ذو مضمون عجيب. كما قال (عليه السلام): "إن الله حدد حدوداً، فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تتركوها، وسكت لكم عن أشياء، ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها". [ نهج البلاغة الحكمة 105].















إن ما تعرضت له سابقاً إنما هو سلسلة الآداب والأعراف الموجودة بين الناس. فإذا أداها الإنسان بصورة صحيحة، فإنه لن يكون قد عمر شيئاً أو خرب آخر، وكذلك إذا تركها، إنها مسائل سكت الله عنها.















إن الإنسان له حالة تلازمه دائماً، وهي تعلقه ببعض التشريفات.















إذن: هناك سر في هذه المسائل، ولا ينبغي أن نقول له لابد أن تفعل هذا العمل، هذه هي المسألة التي رأيت من الضروري بيانها في هذه الليلة.















كما أريد أن أخصص قسماً من حديثي لواحدة من الأخلاق العامة الثابتة الغير قابلة للنسخ، والتي لا يؤثر عليها الزمان، وهي (العبادة) التي هي واحدة من حاجات الإنسان.















أما ماذا تعني العبادة؟ إنها تلك الحالة التي تدعو الإنسان، ومن داخل نفسه إلى الحقيقة التي خلقته، وهم في قبضة قدرتها، ويرى نفسه محتاجاً لها. إنها سير الإنسان من الخلق إلى الخالق، بغض النظر عن أي فائدة أو أثر، لأنها واحدة من حاجات الإنسان الروحية والتي يؤدي تركها إلى حالة عدم التوازن الروحي. ولتوضيح هذا الأمر نذكر مثالاً بسيطاً: إذا كان لنا هودج أو خرج، وأردنا أن نضعه على أحد الحيوانات بشكل متعادل، فلا يصح أن نملأ أحد طرفيه ونترك الطرف الآخر خالياً. فالإنسان في وجوده يوجد كثير من الفراغات. وفي قلبه مكان واسع لكثير من الأشياء. فإذا لم يحقق مطالبه، فإن روحه ستضطرب ويشعر بحالة عدم التوازن.















وكما ذكرنا في الليلة الماضية إذا أراد الإنسان أن يقضي كل عمره بالعبادة ويحرم نفسه من حاجاتها الأخرى، فإن تلك الحاجات سوف تسبب له عدم الراحة والعكس صحيح.















كان نهرو ـ في أيام شبابه رجلاً بلا عقيدة، وفي أواخر عمره حدث تغير في وضعه، كان يقول: إني أشعر أن هناك مكاناً في روحي. وفي العالم خالياً لا يمكن أن يملؤه شيء سوى الشيء المعنوي. وإن سبب الإضطراب في العالم أن قواه المعنوية قد ضعفت. وهذا هو سبب عدم التعادل فيه.















ثم يقول إن هذا الضنك يتجلى في الإتحاد السوفياتي بشكل صارخ إلى الوقت الذي كانوا فيه جياعاً، لم يدعهم الجوع أن يفكروا بشيء آخر.















ولكنهم دفعة واحدة أصبحوا يفكرون بلقمة العيش، وبالنضال في آن واحد.















ثم لما أصبحت حياتهم عادية ظهر بينهم مزعج آخر، وهو أنهم عندما ينهون ساعات العمل تبدأ مصيبتهم، وهي بماذا يملؤون ساعات الفراغ تلك؟















ثم يضيف قائلاً: أنا لا أظن أنهم يمكن أن يملؤوها بشيء غير معنوي، وهذا هو الفراغ الذي أعانيه أنا.















يتضح لنا إذنك إن الإنسان بحاجة ماسة إلى العبادة، وإن زيادة الأمراض النفسية في هذه الأيام، إنما هو بسبب عدم التفات الناس إلى العبادة. إننا لم نحسب حساباً كافياً لهذه المسألة ـ رغم وجودها ـ وهي أن الصلاة ـ بغض النظر عن أي شيء ـ هي طبيب حاضر في المنزل.















فإذا كانت الرياضة مفيدةً لسلامة البدن، وكان الماء الصافي لازماً لكل بيت، وكان الهواء النقي ضروري لأي شخص، وكذلك الغذاء الكامل، فإن الصلاة ـ أيضاً ـ ضرورية جداً من أجل سلامة الإنسان.















إنك قد لا تعلم كم ستتطهر روح الإنسان إذا أعطى من وقته ساعة من الليل والنهار، ليبوح فيها بأسراره إلى الله الخالق، فكل العناصر المؤذية للروح ستطرد بواسطة صلاة واحدة.















لقد تعرضت للعبادة في أحد الاجتماعات، فقلت: لا تقولوا: إن الإسلام دين إجتماعي، أو دين أخلاقي.. أما كيف؟ لأن الإسلام أعم وأشمل من أن يكون كذلك. إنه قال أرفع وأسمى الأقوال والمفاهيم في النظام الاجتماعي (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25) كما أنه قال أرفع وأسمى المفاهيم في مجال الأخلاق (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). (الجمعة:2)















ولكن هل أن الإسلام الذي أعطى هذه الأهمية للنظام الاجتماعي أنقص من قيمة العبادة؟ أبداً لم ينقص ذرة واحدةً، بل إنه احتفظ بها فوق الجميع.















إن أولى وأهم المسائل في نظر الإسلام هي العبادة، فإن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها. فإذا لم تكن عبادة، لا يتحقق أي من النظامين الأخلاقي أو الاجتماعي. فلا تتوقع أن تجد إنساناً في الدنيا ملتزم بتعليمات الإسلام الأخلاقية والاجتماعية. ولكنه غير ملتزم بالأمور العبادية.















فنحن لا نقر بشيءٍ من إسلامية من لم يؤد الصلاة. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما معناه: "لا شيء كالصلاة بعد الإيمان بالله". كما مثل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث له: الصلاة مثل "نهر على باب أحد يغتسل منه خمس مرات في اليوم" مثل من يمثلك في بيته عيناً للماء يغتسل بها خمس مرات يومياً.















وقال أيضاً عليّ (عليه السلام): "تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها". [نهج البلاغة الخطبة 197].















كما أن الله سبحانه خاطب نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: (وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه: 132) و(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من اللذين معك) (المزمل: 20) و(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً). (الإسراء: 79)















فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة الكمال بدون العبادة، فالرسول ـ رغم كونه رسولاً ـ كان على تلك الحال من العبادة والاستغفار، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما كان يجلس في مكان إلا ويستغفر خمساً وعشرين مرة، أي يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.















أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان شخصيةً مثاليةً، كان حاكماً عادلاً كما كان يحيي الليل بالعبادة، وقد أعطته تلك العبادة قوة إضافية مثل تلك الدرجة من حياة الضمير؛ لذا يجب أن لا ننسى قيمة العبادة.















جاء عدي بن حاتم إلى معاوية بعد مضي سنوات على شهادة الإمام علي (عليه السلام). وكان معاوية يعرف أن عدي هو أحد اصحاب علي (عليه السلام) القدماء، فحاول أن يحصل منه، ولو على كلمة ضد علي (عليه السلام)، فقال له: يا عدي أين الطرفات؟ (وهم أولاد عدي الثلاثة استشهدوا ضمن جيش علي (عليه السلام) في معركة صفين) وأراد معاوية بهذا السؤال أن يثير أحزانه، لعله يظهر عدم الرضا عن علي (عليه السلام).















فأجابه عدي: إنهم قتلوا في ركاب مولاهم علي (عليه السلام) عندما قاتلك، وأنت تحمل راية الكفر.















قال: يا عدي: إن علياً ما أنصفك.















قال: وكيف ذلك؟















قال: لأنه أخر بنيه وقدم بنيك للموت.















فقال عدي: يا معاوية، بل أنا ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت، يا ليتني مت وبقي هو.















فلما رأى معاوية أن سهمه لم يصب الهدف، وطبقاً لطبيعة سلوكه حيث أنه عندما يرى أن الشدة لا تنفع يستخدم اللين.















فقال: يا عدي صف لي علياً. فاستعذره عدي. فلم يعذره.















فقال له عدي: إذن سأقول الذين أعلمه عن الرجل، لا ما تريده أنت.















فقال له معاوية: قل.















فقال عدي: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول عدلاً ويحكم فصلاً، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يحاسب نفسه إذا خلان ويقلب كفيه على ما مضى، وكان فينا كأحدنا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه ولا ييأس الضعيف من عدله، فاقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وارخى الليل سرباله، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأني الآن أسمعه، وهو يقول: (يا دنيا إلي تعرضت أم إلي أقبلت، يا دنيا غري غيري).















وهكذا وصف عدي علياً (عليه السلام)، حتى أن معاوية ذا القلب القاسي دمعت عيناه، وجعل ينشفهما بكمه، ثم قال: عقمت الدنيا أن تلد مثل علي.















ومناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء















تحقيق نظرية نسبية العدالة















(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد:25)































بحثنا لهذه الليلة سيكون حول العدالة، هل أنها نسبية أم مطلقة؟















في البداية، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع لابد أن نبين وحدة الموضوع بين ما تحدثنا عنه في الليالي السابقةن وبين هذا البحث.















ذكرنا في المحاضرات السابقة أن بعض الأمور تتغير حسب مقتضيات العصر. والبعض الآخر ثابت لا يتغير مهما تغير الزمن، بل إنها مقياس فساد وانحراف الزمان.















وبعبارة أخرى: إن احتياجات الإنسان الفردية والاجتماعية على قسمين:















قسم ثابت. وقسم متغير. ونحن هنا لابد لنا أن نخوض الصراع على جبهتين:















المجموعة الأولى ـ هم الأشخاص الذين لا يعتقدون بتغير احتياجات الإنسان، ويفترضون الثبات في كل هذه الحاجات في كل الأزمنة، وهؤلاء نسميهم الجامدين.















أما المجموعة الأخرى، فهم الأشخاص الذين يسميهم الجهلة. وهؤلاء يعتقدون بأن كل شيء قابل للتغيير.















فطبقاً لرأي المجموعة الأولى لا يوجد شيء يتغير وفقاً لمتطلبات العصر. وطبقاً لتصور المجموعة الثانية لا يوجد شيء ثابت على مر الزمان.















هذا هو أصل ما كنا بصدد بحثه في الليالي الماضية.















إن مجموعة الجهلة لهم فرضيتين نصف فلسفيتين ـ إن صح التعبير ـ لأنه يوجد بين العلماء من يقول بمثل هذا الكلام، وهذا ما سنبينه شيئاً فشيئاً.















هناك فرضيتان إذا اعتقد بهما الإنسان، فإنه يعني قد اعتقد بما يعتقد به أهل الجهل، وهو أنه لا ثبات لأصل من الأصول، وهاتان الفرضيتان هما:















1 ـ نسبية الأخلاق.















2 ـ نسبية العدالة.















فالأخلاق مرتبطة بحالة الإنسان والنظام الذي يضعه لغرائزه الشخصية، والعدالة مرتبطة بالنظام الاجتماعي. إن فرضية نسبية الأخلاق تدعي بأنه لا وجود لأخلاق ثابتة؛ لذا لا يمكن أن يستقر ـ وإلى الأبد ـ بين بين البشر مذهب أخلاقي معين، لذا لا يمكن أن يتبنى مذهب معين ثابت للعدالة.















والآن يجب أن نوضح معنى الفرضيتين:















نسبية العدالة: ينبغي أولاً أن نعرف ماذا تعني النسبية.















إننا نقول عن بعض الأمور بأنها نسبية كالصفة والحالة عندما نقيسها بشيء آخر، ونصفها نسبة لذلك الشيء ـ مثلاً ـ الصغر والكبر، تعتبر من الأمور النسبية. فإذا سئلت: ما هو حدهما؟ فهل تستطيع تعيينه؟















إنك قد تقول في بعض الأحيان: إني رأيت هذا اليوم خروفاً كبيراً. ثم تبالغ في كبره فتقول: كأنه عجل. مع أن متوسط حجم الخروف إذا كان بحجم عجل عمره سنة واحدة يعتبر كبيراً جداً. أما إذا رأيت بعيراً بحجم البقرة، فمع أن متوسط حجم الخروف إذا كان بحجم عجل عمره سنة واحدة يعتبر كبيراً جداً. أما إذا رأيت بعيراً بحجم البقرة، فإنك ستتعجب من صغر حجمه. فنكون قد اعتبرنا الخروف الذي هو بحجم العجل كبيراً، واعتبرنا البعير الذي هو بحجم البقرة صغيراً. فكيف أصبح الشيء الذي هو بحجم العجل كبيراً والشيء الذي هو بحجم البقرة صغيراً، مع أن البقرة أكبر حجماً من العجل.















والقرب والبعد يعتبران من الأمور النسبية ـ أيضاً ـ فعندما يكون منزلك ـ مثلاً ـ قرب معسكر القوة الجوية تقول لشخص آخر ـ رغم أن منزله في طهران ـ: إن منزلك بعيد جداً. وقد تقول عن (قم) بأنها قريبة من طهران عندما تأخذ بنظر الاعتبار بعد المدن الأخرى عن طهران، كمقياس للقرب والبعد.















أما إذا أخذنا المسافة بين دار، ودارٍ، فستكون المسافة من هنا إلى القوة الجوية بعيدةً. لذا، فإنا نقول: إن القرب والبعد أمر نسبي، حيث لا يمكننا أن نقول: إن البعض، يعني كذا مسافة. وإن القرب يعني كذا مسافة، بل لابد أن نعرف ـ إذا أردنا أن نحدد القرب والبعد ـ ما هي أداة القياس والشيء الذي ننسب إليه القرب والبعد.















فالأمور التي تتغير حسب ما تنسب إليه نسميها أموراً نسبيةً، ولا يصح منا إطلاق حكم معين عليها دون أن نقيسها بشيء آخر، ودون أن نحدد أداة القياس التي نقيس بها؛ فلا يمكن إصدار حكم على مثل هذه المفاهيم. على عكس الأمور المطلقة.















وعلى كل حال، فهناك أمور مطلقة، مثلا الأعداد، والمقادير. فهل أن العدد عشرين تختلف باختلاف المعدود؟ أي هنا يوجد فرق بالعدد بين أن نقول: عشرين جوزة، أو نقول عشرين نجم؟ كلا، فكلا العددين واحد. أي لا فرق من حيث الكم بينهما.















كذلك المقادير لا تختلف باختلاف الزمان حيث أنها مطلقة ـ مثلاً ـ بما أن القماش يقاس بالأمتار، فإن قلنا بأن طول هذا القماش 1.80 متراً في كل مكان، ولكل شخص، لن تتبدل، بينما اريناكم الأمر غير ثابت ومتغير في مفهوم الكبر والصغر.















إلى هنا يكون قد اتضح لنا أن هناك أموراً نسبية، كما أن هناك أموراً مطلقة. وإننا يمكن أن نستفيد من تطبيق هذا البحث على أمور كثيرة، ومعرفة كونها مطلقة أو نسبية: منها الحقيقة. هل أنها نسبية أم مطلقة؟ والعلم كذلك. هل إنه نسبي أو مطلق. ولكننا لا نريد أن ندخل في هذا البحث.















ولكن الشيء الذي أريد أن نعرفه هو هل أن العدالة نسبية أم مطلقة؟ فإذا كانت نسبية آنذاك ستكون القيمة لكلام أهل الجهل، حيث ستكون في كل مجتمع، وفي كل زمان بشكل مختلف عنها في زمن، ومجتمع آخر.















فالعدالة لا يمكن أن يكون لها قانون مطلق.















وبناء على ذلك لا يمكن لأي مبدأ أن يشرع قانوناً. ويدعي أن ذلك من العدل، ويطالب بتطبيقه في كل زمان ومكان. فإنه في أفضل الأحوال يمكن أن يشرع ذلك القانون الذي تدعى له العدالة لزمانه ومكانه فقط؛ حيث أنه ـ ومن وجهة النظر هذه ـ لا يمكن أن تكون العدالة لكل زمان ومكان على نسق واحد. كما أنه لا يمكن أن يكون الكبر والصغر لكل الأشياء بشكل واحد.















فإن كان هذا الإدعاء ـ أي كون العدالة نسبية ـ صحيحاً؛ فإن كلام هؤلاء صحيح ـ أيضاً ـ وإلا فإن الصحة لكلامنا.















نحن يجب أن نعرف ما معنى العدالة كي نستطيع بواسطة هذه المعرفة أن نشخص، هل أن العدالة هي من الأمور النسبية أم مطلقة؟















وفقاً لما توصلت إليه توجد هناك ثلاثة معان للعدالة:















الأول ـ هو المساواة، لأن مادة (عدل) تعني الموازنة والمساواة. وقد استعملت لهذا المعنى في بعض آيات القرآن الكريم (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (الأنعام: 1) فانهم قد ساووا بين الله وبين غيره.















إننا قد نعرف العدالة بالمساواة، فما هو مدى صحة هذا التعريف؟















إن الجواب يتوقف على معرفة ماذا يقصد بالمساواة؟ في أي شيء تكون هذه المساواة؟















إن البعض يفسر العدالة بالمساواة، ويفهمون منالمساواة أن يكون جميع أبناء البشر يستفيدون بشكل متساوٍ من كل ما أنعم به عليهم. أي أن المساواة عندهم تعني أن الجميع يأكلون بشكل متساوٍ، ويمتلكون من الثروة بشكل متساوٍ، ويتساوون في السكن، كما يتساوون في المركب. أي إنهم يتساوون في الاستفادة من كل موجبات السعادة، وهي المال والثروة والمسكن وغيرها.















فإن كان هذا هو معنى العدالة، فذلك ليس بالأمر الصحيح، لأنها لن تكون عدالة بل ظلم؟ أما لماذا؟















أولاً ـ إن هذا النوع من العدالة غير مقبول، لأن بعض موجبات السعادة هي تحت سلطة الإنسان واختياره. والبعض الآخر ليس كذلك. ولا يمكن تقسيمها بالتساوي، لأن موجبات السعادة ليست هي الثروة والمركب، والأكل، وما شابه ذلك فقط. بل إنها جزء من موجبات السعادة. فقط قال أرسطو: إن موجبات السعادة تتسع أو تزيد: ثلاثة منها في البدن. وثلاثة منها في الروح، وثلاثة خارج وجود الإنسان، لا في بدنه ولا في روحه.















أما الثلاثة التي في البدن فهي: السلامة، والقوة، والجمال وبالأخص المرأة.















وأما الثلاثة التي في الروح فهي: الأولى العدالة. والثانية الحكمة والمعرفة؛ لأن العالم والجاهل لا يكونان في مستوى واحد من السعادة. والثالثة الشجاعة وتعني قوة القلب.















وأما الثلاثة التي هي خارج وجود الإنسان، فهي: الأولى ـ المال والثروة. والثانية ـ الجاه والمنصب. والثالثة العائلة والعشيرة.















إن قيمة هذه الموجبات غير متساوية. فإذا أردنا العدل ـ أي تقسيم هذه الموجبات بين الناس بالتساوي، فإننا سوف نجد أنفسنا غير قادرين في بعضها على الأقل، فإذا كان بالإمكان تقسيم المال فهل بالإمكان تقسيم الجاه والمنصب بالتساوي بين الناس. حتى في الدول الإشتراكية مثل الإتحاد السوفياتي والصين؛ فإن المناصب متفاوتة، فهناك شخص واحد مثل (ماوتسي تونك) و(شوان لاي) استفاد من نعمة الشهرة في العالم.















فلا يمكن أن تتساوى كل الناس في المناصب، ولا يمكن أن يقسم الاحترام بينهم بالسوية. وكذلك الحب.















وهل يمكن تقسيم الأبناء بالسوية؟















ربما يرد أحدهم على هذا الإشكال بالقول: إذا كان الأمر كذلك، فلا اقل أن نجعل المساواة في الأمور التي هي تحت اختيار الإنسان وإرادته. ـ أي في الأمور الإقتصادية، وفي كل الأمور التي لها علاقة بالجانب الاقتصادي.















والجواب على هذا: إن هذا عين عدم العدل... فهل أن كل الناس من حيث الاستعدادات والإمكانات قد خلقوا متساوون؟ وهل أن استعداداتهم الفكرية والعقلية متشابهة؟ هل أن استعداداتهم الفنية واحدة؟















فكما أننا لا نستطيع أن نجد شخصين متشابهين تماماً، من حيث الشكل الظاهري حتى التؤمين، لا يمكن أن يقال: إنها متشابهان تماماً فكذلك لا نستطيع أن نجد شخصين متشابهين تماماً في استعداداتهما الفكرية والعقلية في أنواع العلوم.















وهكذا الأمر من حيث الحالات الروحية حتى التؤمين لا يتشابهان تماماً.















ثم هل إن الناس قد خلقوا متساوين في القدرة البدنية؟ هل أن أذواقهم واحدة؟ إن أحدهم يتذوق، ويميل إلى التجارة، بينما الآخر يفضل القضاء، والثالث ذوقه السياسة، والرابع ذوقه طلب العلم.















فالناس قد خلقوا غير متساوين، إذن: لن تكون نتيجة أعمالهم واحدة أي إننا قد نجد شخصاً جاداً وفعالاً جداً، في حين نجد شخصاً جاداً وفعالاً جداً، في حين نجد الآخر كسولاً.















في الاتحاد السوفياتي لا يمتلك كل أبناء الشعب نبوغ خروشوف.















ولما كان الناس غير متساوين من حيث النبوغ والقدرة على العمل، والإبتكار، فهل من الصحيح أن تكون أجورهم واحدة، مع كل ما بينهم من فوارق؟















أي إننا ـ مثلاً ـ لو أرسلنا طفلين إلى المدرسة، وكان أحدهما فعالاً ونشطاً والآخر خاملاً، وكلاً، فهلا يجوز أن نعطيهما في نهاية العام الدراسي درجة واحدة ونقول: إن بلدنا بلد المساواة، ولا نعترف بهذه الفروق؟















وإذا وجدنا في نهاية العام أن التلميذ النشيط حصل على درجة عشرين على عشرين، والتلميذ الآخر حصل على درجة خمسة على عشرين، فهل يصح أن نأخذ معدل الدرجتين وهو إثنا عشر ونصف، ونعطيه لكل منهما، كي يتساويين؟















إن هذا خلاف العدل، بل هو عين الظلم.















إننا حينما نسرق جهد الإنسان الفعال، ونعطيه للإنسان الخامل ـ فضلاً عن أنه خلاف العدل ـ إنه خلاف المصلحة الاجتماعية، لأن مع هذا النوع من التعامل، والتقويم لن يكون الإنسان الخامل نشطاً، بل سيكون الإنسان الفعال النشط خاملاً وكلاً؛ لأني عندما أعمل ويعطى نتيجة جهدي للآخرين ـ أي إن عملت، وإن لم أعمل، فإني سأساوى بالآخرين حينئذ لست مجنوناً كي أعمل.















إن بعضهم له قدرة على الإبتكار أكثر من غيره، والبعض الآخر لا يمتلك أصلاً هذه القدرة، فإن رأى صاحب القدرة على الاختراع أن سهمه مثل سهم الآخرين ـ أي إن راتبه مثل مماثل لراتب الآخرين، ومن حيث الشهرة والسمعة ـ والتي هي مكافأة من نوع آخر ـ لم يأخذ حظه منها أيضاً. أي لا أحد يذكر إسمه، بل يقال: إن المجتمع هو الذي فعل هذا الفعل فإننا سنجد في نهاية الأمر، أن هذا الشخص لن يحصل له أي إندفاع باتجاه الاختراع. فالإنسان يتجه ويتحمس للإبتكار والإبداع، حيث أنه سيثبت إسمه في التاريخ.















لهذا فإن البشرية لم تتجرأ على العمل بمثل هذا النوع من المساواة.















بناء على ما تقدم: إن فسرنا العدالة بمعنى المساواة، والمساواة بمعنى التوازن والتماثل بالأجور والعطاء فإن هذا:















أولاً ـ غير عملي.















ثانياً ـ إنه ظلم وليس بعدل.















ثالثاً ـ إنه عامل من عوامل تخريب المجتمع؛ لأن الأشخاص مختلفون في طبيعتهم.















إلى هنا قد يسأل سائل: لماذا لم يخلق الناس متساوين في الخلقة؟















لماذا لم يَخلق الله الناس متساوين في كل الجهات؟ أي لماذا لم يعمل الله العدالة ـ والعياذ بالله ـ في الأصل؟ أي أن يتساوى الناس بالشكل وبالطول وباللون وبالاستعدادات والذوق تماماً كالأشياء الصناعية؟















إن الكمال هو من نتائج الأختلاف. إن اختلاف المستوى هو الذي يوجد الحركة. فإذا كنا أنا وأنت متشابهين شكلاً وفكراً، واستعداداً وذوقاً... أنا أتوجه للعمل الذي توجهت إليه أنت وبالعكس. وإذا كان حجم جسمي وطولي كحجم وطول جسمك... كل ما تملكه أنت أملكه أنا، وكل ما أملكه أنا تملكه أنت، فماذا سأفعل أنا هنا؟ وماذا تفعل أنت هنا؟ لماذا عملت أنت في التجارة وأنا توجهت لطلب العلم؟ فكلانا انطلق من منطلق واحد، وهو الاختلاف والتفاوت، وإن هذا الاختلاف والتفاوت ليس نقصاً أو كمالاً، فلا يصح أن نقولك إن أحدنا ناقص والآخر كامل فكل منا في طريقه كامل، ولكن الجميع ناقصون، والمجتمع هو الكامل، فقد قيل ـ مثل فارسي يعني ـ يجب أن يكون للإنسان أنف وحاجب، ولكن الأنف يجب أن يكون مستقيما والحاجب منحني، فليس من الحسن أن يكون الأنف منحنياً أو الحاجب مستقيماً. فالمطلوب هو استقامة الأنف وانحناء الحاجب.















إن العالم يجب أن يكون منظماً، ومرتباً، كتنظيم العين والخال والخط، والحاجب، حيث كل في مكانه جميل.















نعم، من خلال الحركة يتبين طبيعة الأشياء ومستواها، فإن عملية التعلم والتعليم لن تتم إذا لم يكن هناك شخص يجهل شيئاً، وشخص آخر لا يفتقد ذلك الشيء. وهذا هو علة عدم النفرة، وانشداد الناس بعضهم إلى بعض.















فلو كانوا متساوين فمن غير الممكن أن ينشد بعضهم إلى البعض الآخر، كما أن الأحجار لا تنشد، ولا تنجذب إلى بعضهان كذلك بني البشر لو كان كل واحد لا يفتقد إلى شيء يمتلكه الآخرون.















إن الفوارق الموجودة بين الرجل والمرأة، وعدم وجودها بين أنفسهن أو بين الرجال أنفسهم كانت سبباً عظيماً على طريق تشكيل الأسرة بأن ينتخب الرجل إمرأة زوجة له، وتنتخب المرأة رجلاً زوجاً لها طبقاً لقوانين تشكيل العائلة. إن التجاذب يكون بينهما، لأن كل منهما يمتلك ما يفتقده الآخر. في حين لا نرى المرأة تجتذب المرأة الأخرى، ولا الرجل يجتذب الرجل الآخر. فلا تظن إذن أن كلا من الرجل والمرأة متساويان في الخلقة.















إن القرآن الكريم يذكر هذا الاختلاف باعتباره واحدة من آيات قدرة الله سبحانه (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) ­(الروم: 22) وكذلك المجتمعات (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (البقرة: 213) كما أن هناك حديث يقول: "اختلاف أمتي رحمة".















وقد ورد هذا الحديث في بعض الروايات، ولا يقصد به الصراع والحرب، وإنما يقصد به التفاوت، حيث أن ما بينهم من تفاوت هو بنفسه رحمة.















فإذا أردنا أن نعرف العدالة بمعنى المساواة، وافترضنا أن المساواة تكون في المواهب الاجتماعية، فإن ذلك اشتباه منا، بل يمكن أن يكون معنى العدالة معنى آخر. بحيث يمكن أن يقال عنه إنه مساواة ـ أيضاً ـ ولكن مساواة بشكل آخر. إن المعنى الذي يذكره القدماء للعدالة هو إعطاء كل ذي حق حقه ـ أي إن كل شخص، وكل شيء في متن الخلقة جاء إلى الدنيا بنحو استحقاق خاص. ومن هنا ظهرت الحقوق ـ أي من ذات الأشياء. ونحن ينبغي أن نتفحص ذات كل شيء، ثم نرى ماذا يستحق؟ وما هي الاستعدادات التي يمتلكها في وجوده ـ أي إن طبيعة ماذا تريد؟ ففي جسم الإنسان العين لها حق، واليد لها حق آخر. فإن أعطينا حق العيد لليد، فلن تكون فقط لم نفد اليد، بل نكون قد أقعدناها عن العمل، كل شيء له استحقاق معين، ومنشأ ذلك هو نفس الخلقة.















إن الطفلين اللذين يذهبان إلى المدرسة، ويكون استحقاق أحدهم درجة عشرين، والآخر درجة خمسة. فإن أعطينا لصاحب درجة عشرين أقل من ذلك فقد ظلمناه، وإن أعطينا للثاني أكثر من خمسة درجات فقد كنا ظالمين أيضاً.















ومن باب المثال: لو سألت هؤلاء الذين يطلبون ويُطَلِّبون للمساواة لماذا كان زيد من بين ملايين الناس رئيساً للوزراء؟ سيقولون: هذا هو استحقاقه، كان في البداية عاملاً بسيطاً، ثم اشترك في الانتخابات، وفاز، فأصبح في هيئة عليا، ثم تدرج إلى هيئة أعلى. وبهذا الشكل طوى سلسلة من المراتب، ولأنه أبدى لياقة واستحقاقاً كافياً، أصبح رئيساً للوزراء، هذه هي العدالة.















وقد اتضح لدينا أن الأساس هي اللياقة، ومن الطبيعي إذا كان لدينا شخصان، أحدهما ذو لياقة، والآخر يفتقدها، وأعطينا ما كان ينبغي أن نعطيه لصاحب اللياقة لمن لا لياقة له، فقد جانبنا العدل.















إن مَن خلق الأقاليم السبعة أعطى لكل شخص ما يليق به. كما أن سعدي يقول:















عندما وقعت الفتنة في الشام *** ذهب كل إلى الزاوية التي اختارها







فذهب القرويون العلماء *** كي يصبحوا وزراء للملك







أما ابناء الوزير الذين هم ضعفاء العقول *** فقد ذهبوا إلى القرية للاستجداء































إن معنى العدالة هو المساواة أمام القانون. أي القانون يجب أن ينظر إلى الجميع نظرة واحدة ـ أي أن لا يفرق بين الناس، بل يراعي الاستحقاق.















وبعبارة أخرى: الناس المتساوون بالخلقة، فالقانون يجب أن يتعامل معهم بالتساوي.















أما الناس الذين ليسوا في شروط متساوية، فلا يجب أن يساوي بينهم القانون، بل يتعامل معهم كل وفق وضعه الخاص. وهذا هو المعنى الثاني للعدالة.















أما المعنى الثالث ـ فهو ما سأتعرض إليه مساء غد ـ إن شاء الله ـ







مفهوم العدالة















ورد نظرية نسبية العدالة















(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد:25)































إن مسألة نسبية العدالة لها علاقة بأساس خاتمية، وأبدية الدين. لأن الدين يقول بأن العدالة هي هدف من أهداف الأنبياء. فإن كانت في كل الأزمنة واحدة، فأي قانون يمكنه أن يكون أبدياً؟















لذا فقد وجدنا أنفسنا مضطرين أن نذكر معنى النسبية أولاً. ثم معنى العدالة ثانياً؛ لكي نرى هل أن ما شاع على الألسنة من أن العدالة أمر نسبي صحيح أم لا؟















فيما يخص معنى العدالة، توصلنا إلى أن البعض قالوا بأن العدالة هي حفظ حالة التوازن في المجتمع ـ أي إن كل حالة يكون فيها مصلحة المجتمع، ويمكنها أن تحفظه بصورة أفضل، وتسير به نحو التقدم فهي عدالة.















إن بعض الأفراد يؤمنون بنظرية خاصة في باب الحقوق، يقولون: في الأصل، إن الأفراد لا حق لهم، بل الحق للمجتمع فقط. ولا يوجد معنى لمفهوم حقوق الأفراد. وحسب تعبير أحد العلماء: إن الحق للمجتمع والتكاليف للأفراد. حيث يجب عليهم أن يؤدوا ما يكلفوا به.















والآن لنرى مدى صحة هذا الكلام؟















جاء في خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وردت في نهج البلاغة، والظاهر أنه خطبها في الأيام الأولى لخلافته، تناول فيها موضوع الحق والحقوق، وهي خطبة رائعة، وغنية جداً، جاء في جملة مشهورة فيها "الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف" أي أن الحق له ساحة كبيرة، بل أكبر الساحات من أجل الوصف ـ أي عند الكلام، وعند الدفاع، فالكلام لا ساحة له أوسع من ساحة الحق. أما عندما ينتقل الأمر إلى حالة العمل، فإن ساحة الحق تكون أضيق الساحات، وإن نفس ذلك الشخص الذي كان يصرخ بالحق سيهرب من تحمل الحق في مجال العمل.















وهناك جملة أخرى يقول فيها (عليه السلام): "لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له" أي إن الحق لا يجري لمصلحة أحد دون غيره، بل سيجري ضده أيضاً. أي إن كل شخص له حق على الآخرين، كما أن الآخرين لهم حقوق عليه. فإنك لا تجد شخصاً له حق على الآخرين دون أن يكون للآخرين حق عليه. كما أنك لن تجد إنساناً في الدنيا له مسؤولية فقط، ويتعلق به الحق دون أن يكون له حق على الآخرين أي الحق متقابل، وهو من الأمور التي إذا جرت لمصلحة إنسان معين، فانها تجري عليه أيضاً. أي إنه اضطرار، لا يوجد شخص له حق عند الآخرين إلا ويكون للآخرين حق عنده.















هذا هو الرد على نظرية الحق، والتكليف، التي يعتقد بها البعض ويقولون بأن المجتمع فقط صاحب الحق، قبال الأفراد. أما الأفراد، فليس لهم إلا التكليف ـ أي إن الحق يتعلق بالأفراد، وهذا هو معنى التكليف ـ.















أما الأفراد فليس لهم حق يتعلق بالمجتمع. وهذا ما يعارضه الإمام علي (عليه السلام) حسبما جاء في العبارة الآنفة الذكر، التي يضيف (عليه السلام) إليها بقوله: "ولو كان لأحد أن يجري له، ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه". [ نهج البلاغة الخطبة 214].















وهذا أمر صحيح جداً ـ في مورد الله ليس متقابلاً، فالحق الذي لله سبحانه على الآخري، أو على الأشياء الأخرى، يختلف عن الحق الذي هو للآخرين حيث أن الحق الذي للآخرين معناه أن بإمكانهم الانتفاع. أما حق الله سبحانه، فلا يعني الانتفاع، بل معناه أن الآخرين في مقابل الله ليس لهم إلا التكليف والمسؤولية، ولا يوجد شخص له حق على الله.















فعقلنا أضعف من أن يصدق أن أحداً له حق على الله، حتى خاتم الأنبياء ـ أي لا يوجد أحد يدين له الله، في الدنيا بشيء حتى لو كانت عبادته كعبادة الثقلين.















فهل يوجد شخص في الدنيا له حق على الله ـ أي دائن لله بشكل إذا لم يعطه الله سبحانه ذلك الحق يكون قد ظلمه؟















كلا، فلا يمكن أن يوجد مثل هذا الشخص.















إننا نقرأ في بعض الأدعية "إلهي عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك" أي عاملنا بعفوك وبفضلك، فإن ما تعطيناه إنما هو جود وكرم منك، فنحن نطلب منك أن تصدر إلينا جودك وكرمك فقط، ولا تعاملنا بعدلك لأن العدل يراعي الاستحقاق والحق، وإذا أردت يا إلهي أن تراعي الاستحقاق، فإن ذلك يعني أنك ستعطينا حقوقنا فقط، في حين نحن لا حق لنا.















فالخادم الذي يعمل في بيت أو العامل الذي يعمل في دكان شخص وأراد أن ينفصل عن صاحب الدار أو صاحب الدكان هل يستطيع أن يقول له: أعطني حقوقي؟















إن شخصين من بني الإنسان يمكن أن يكون لكل منهما حق باتجاه الآخر، أما باتجاه الله، فليس لأحد حق، حتى لو كان له عبادة الثقلين، وحتى لو كانت نياته في أعلى درجات الخلوص، وكان ممن قيل بحقه "ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين".















فمع ذلك لا يكون ذا حق تجاه الله، لأن العبد مقابل الله لا حقل له من نفسه. ثم إذا قسنا العباد بعضهم لبعض فسيكون لأحدهم شيء وللآخرين شيء آخر.















أما إذا أخذنا العباد مقابل الله، فلا يوجد عبد بنفسه له شيء، فكل ما له إنما هو منه سبحانه.















ولنذكر مثالاً بسيطاً: رجل له طفلان، فاسترى لأحدهم حذاء واشترى حذاء آخر للثاني، ثم اشترى ملابس لكل منهما، وأعطاهما نقوداً. فعندما يتقابل الطفلان يستطيعان أن يعينا حداً بينهما، فيقول أحدهما لصاحبه مثلاً: إن هذا المعطف لي، وليس لك، وهو له في واقع الأمر، لأن والده قد اشتراه له، لا لأخيه، ولكن هل يستطيعان أن يعينا حداً بينهما وبين والدهما ـ أي أن يقول أحدهما لوالده: إن هذا المعطف لي، وليس لك؟















وإذا قال له ذلك، فانه سيعتبر قولاً مضحكاً في نظر الآخرين الذين يعرفون طبيعة العلاقة بين الأب، وهذين الطفلين، لأن كل ما عندهما إنما هو من أبيهما ـ أي جزء من ملك أبيهما. أما الإبن فله أولوية، بالنسبة للإبن الآخر، لأن الشيء قد اشتري له من قبل والده.















إن نسبتنا مقابل الله هي أقوى وأشد ما يمكن أن تكون عليه من درجة من نسبة الإبن مع والده، لأن العبد كل ما عنده ـ أعم من قوة البدن وقة الروح ـ هي ملك الله، رغم أنها من وجه تعتبر في نفس الوقت ملكاً للشخص.















فالله سبحانه هو الذي أعطاها له حتى موفقيته في العمل، إنما هي من الله.















ولو صرف العبد كل جهده من أجل شكر الله، هل سيؤدي حق الشكر؟















إن من المستحيل أن يستطيع الإنسان أن يشكر الله حق شكره. لو أحسن إليك شخص لأمكنك أن تشكر إحسانه قولاً أو عملاً، لأن إحسانه عمل من الأعمال، والشكر ـ أيضاً ـ أما مقابل الله سبحانه، فإن نفس الشكر من العبد إنما هو توفيق من الله. ويحتاج إلى شكر.















فإن أردت أن تشكره على كل نعمة، فإن إحدى هذه النعم هي نفس الشكر فإن كلمة الشكر لله تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا يكون العبد عاجزاً عن شكر الله. لأن كل شكر سيحتاج إلى شكر آخر.















إن سعدي يقول: إن منة الله على العبد تتجلى في توفيقه له على الطاعة، التي توجب التقرب إليه سبحانه. وإن الشكر لها هو مزيد من النعمة.















كما ذكر الأئمة (عليهم السلام) أن لا أحد يمكنه أن يؤدي الشكر كاملاً، لأن كل شكر يحتاج إلى شكر. والإنسان ليس له قدرة على شكر نعمة الشكر فضلاً عن نعمة الحياة.















إن زين العابدين (عليه السلام) في دعاء ابي حمزة يخاطب الله سبحانه بقوله: "أفبلساني هذا الكال أشكر؟" مع أنه روي أنه (عليه السلام) كان يصلي عامة الليل، وعندما يحل السحر يرتل تلك الأدعية المعروفة والتي هي نموذج عظيم مما يجري على ألسنة البشر، وهي نموذج بلاغي وأدبي رائع جداً، إنه مقابل الله يقول: افبلساني هذا الكال أشكرك؟















وهذا هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): قد كان لي عليكم حقاً بولاية أمركم ولكم علي مثله الذي لي عليكم" أي أنا بحكم كوني متولي وحاكم عليكم فلي حق عليكم، لأن كل وال له حق على رعيته، كما أن الرعية لها حق على الوالي. فبما أني الآن خليفة عليكم، فلي إذن حق عليكم، وبما أنكم رعيتي لكم حق عَلَيَّ.















إنه (عليه السلام) ذكر هذه المقدمة لكي لا يظن الظان أن للوالي حق على الرعية وليس للرعية حق على الوالي.















إن الإنسان عندما يطلع على أقوال بعض من كتبوا في فلسفة الحقوق، فإنه سيرى فيها أفكاراً بلا معنى، ومتضادة، ومتناقضة. إن في بعضها عندما يتحدث عن حق الحاكم نرى أن عقيدته هي أن الحاكم فقط له حق على الناس، فلا حق له عليه. إن لهذا الرأي مؤيدون كثيرون، وبالأخص بين فلاسفة أوروبا الجدد، كما كانت هذه الأفكار في إيران ـ أيضاً ـ قديماً.















إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطئ هذه الفلسفة، فكل من الحاكم والأمة عنده مشمولان بهذا القانون الكلي، لأن الحقوق متقابلة.















فحق الحاكم على الرعية أن يأخذ بنظر الاعتبار صلاحهم في سلوكه، ويسعى من أجل مصلحتهم إن استقامت.















الحاكم لا يكون ـ في نظر علي (عليه السلام) ـ من غير استقامة الرعية. وإن استقامة الرعية لن تتحقق بدون استقامة الحاكم. إذن: فالقول بأن الأمر هو من طرف حق، ومن طرف آخر تكليف ليس صحيحاً. بل إينما وجد الحق في الدنيا يوجد التكليف قباله.















لقد أعطيتكم وعداً أن أبين لكم هذه الليلة وجهة نظر الإسلام في باب حقوق الفرد، والمجتمع ـ أي نرى وجهة نظر الإسلام في من هو ذو حق. الفرد أم المجتمع، أم كلاهما؟















في رأي الإسلام كل منهما ذو حق. لماذا؟















قلنا في الليلة الماضية: إني القائلين بأصالة الفرد يعتبرون المجتمع أمراً اعتبارياً، والأصالة للفرد.















أما القائلون بأصالة المجتمع، فيرون الفرد إعتبارياً، والأصالة للمجتمع.















إن كلا القولين خاطئ، لأن الفرد له أصالة، كما أن المجتمع له أصالة. أما لماذا؟















إننا في الليلة الماضية تعرضنا إلى القول بأصالة الفرد، وذكرنا أن أصحابه يعنون ـ أيضاً ـ أن المجتمع أمرا اعتبارين وقد عبرنا عن رأيهم هذا بالقول: إن المجتمع لا وجود له وإن الأفراد لا وجود لهم، إنهم موجودون، يسيرون ويأكلون ويتكلمون. إنهم يقولون: إن المجتمع هو هؤلاء الأفراد. فعندما يتجمع عدد من الأشخاص في مكان معين نسميهم (مجموع) وإلاّ، فالمجموع لا وجود له في أي وقت. فالمجتمع إذن هو أمر اعتباري.















هنا مسألة فقهية لازالت محل خلاف بين فقهائنا، وهي: هل أن الدولة تملك أم لا؟ والبحث هو: هل أن ما عند الدولة هو ملك شرعي لها أم لا؟ هل لها صلاحية التملك أم لا؟ أي إن الدولة إذا قامت بمشروع معين فهل إنها تصبح مالكة له أم لا؟ فإذا قامت الدولة ـ كالأفراد ـ بعمل تجاري أوعمل عامٍ، فهل إنها تصبح عن هذا الطريق مالكة أم لا؟، مثل خدمات البرق والبريد، فأنت الآن لو وضعت ظرفاً رسائلياً في صندوق البريد، ووضعت معه ريالين ـ عملة إيرانية ـ فإن الدولة الإسلامية ستقوم بنقل هذا الظرف لك من نقطة إلى نقطة أخرى داخل البلد. فلو لم تنجز الدولة هذا العمل وقامت به مؤسسة وطنية أخرى، وأعلنت أنها مستعدة لنقل رسائل الناس من نقطة إلى نقطة مقابل كل رسالة أربع ريالات، فمن البديهي أن هذا المعاملة شرعية.















فعندما تؤدي الدولة نفس هذا العمل، هي يعتبر عملها صحيح أم لا؟















إن العلماء قد اختلفت آراؤهم في هذا المجال. كثير من العلماء بل أغلبهم يقول: بأن الدولة يصح منها التملك، فلو كان مالها من حلال، فإنها مثل أي شخص تستطيع أن تعمل، وتحصل عىل المال من هذا العمل، وإن هذا المال يعتبر ملكها، لا يجوز التصرف به بدون مجوز. كما أنها إذا حصلت على مال من طريق غير مشروع، فإن ذلك المال يعتبر غير مشروع.















الفتوى الأخرى في باب المعاملات تقول: إذا أنجز الإنسان معاملة بشكل كلي، فإن معاملته تعتبر صحيحة حتى إذا كانت النقود التي يدفعها في مقام الأداء من حرام ـ أي إنه يجري المعاملة دون أن يبرز نقوده المحرمة.















فلو أراد الإنسان شراء دارن وكانت نقوده من حرامن ولكنه لم يجر المعاملة على تلك النقود بعينها ـ أي أن يقول ـ مثلاً ـ إني أريد أن أشتري منك الدار بهذه الأموال التي تراها، ففي هذه الصورة تكون المعاملة باطلةً ـ طبعاً ـ ولكنه ينجز المعاملة بشكل كلي، دون أن يرى صاحب الدار المبلغ، ويقول له مثلاً: أنا أشتري منك هذه الدار بمبلغ عشرين ألف تومان، وسأعطيك المبلغ غداً. أي إنه لم يشخص النقود التي سيدفعها؛ فإن المعاملة تنعقد على مبلغ عشرين ألف تومان، ويبقى هذا المبلغ بذمة المشتري عندها يكون المشتري ملزم أن يوفر هذا المبلغ مالاً حلالاً لتبرأ ذمته من الدين الذي تعلق بها، فلو أنه لم يفعل ذلك، ودفع هذا المبلغ مالاً حراماً، فإن ذمته لم تفرغ من الدين، وإن أصبح مالكاً للدار.















هذه هي فتوى أغلب العلماء ما عدا ـ حسبما سمعت ـ المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري.















فلو ضممنا هذه الفتوى لما قبلها ـ أي إذا أنجزت المعاملة بصورة كلية حتى لو أنه في مقام الأداء أعطى المشتري مالاً حراماً، فإن المعاملة تعتبر صحيحة ـ في هذه الصورة ـ تأتي الدولة وتشتري ماكنة قطار وصالات وسكة حديد وأشياء أخرى تشتريها من أي بائع، فإنه يتعلق بذمة الدولة أداء الدين. وعلى فرض أنها دفعت من مال حرام، فإن المعاملة صحيحة، وإن الدولة تصبح المالك الشرعي للقطار. وأنت يجب أن تتعامل معها المعاملة التي تنبغي مع المالك الشرعي للقطار، وأن السرقة والتحايل في هذا المجال يعتبر خلافاً للشرع.















أي إنك ـ مثلاً ـ كان عندك خمسة أمنان زيادة في الوزن، وأخفيت ذلك، فإنك ستكون مديوناً لهان كما تكون مديوناً لأي شخص.















فلو أعلن ـ مثلاً ـ أن هذا القطار ينقل الشخص الذي عمره أقل من أثني عشر عاماً مجاناً، وكان طفلك الذي يسافر معك عمره إثنا عشر عاماً، ولكنك قلت لهم إنه يبلغ إحدى عشر عاماً فقط. فضلاً عن أنك كذبت وفعلت حراماً ستبقى مديوناً.















إن مسألة هل أن الدولة تملك أم لا؟ مسألة فقهية، ولكنها قريبة جداً إلى موضوع بحثنا، مع أنها مسألة فلسفية وإجتماعية.















فطبقاً لوجهة النظر القائلة بأن الفرد موجود، وأن المجتمع غير موجود؛ لأنه أمر اعتباري تكون الملكية الاجتماعية أمراً خطأً موهوماً.















وإن الحق مع من يقول: إن المجتمع موجود، وله صلاحية التملك من الطرق المشروعة.















ونحن لا نريد الاستغراق أكثر في مسألة هل أن الدولة لها حق التملك أم لا؟ فهي ذكرت هنا بشكل اعتراضي.















فلنرى الآن لماذا المجتمع موجود؟















إن القول بأن المجتمع هو مجموع الأفراد فقط، ليس بصحيح. فالمجتمع أكثر من ذلك هنا، لابد أن أبين مسألة، قد قرأتموها في مرحلة الدراسة الثانوية، وهي أن هناك فرق بين المخلوط والمركب. والمخلوط هو مجموع الأشياء التي وضعت الواحدة جنب الأخرى، ليس أكثر.















فإنك لو خلطت مقداراً من الفاصوليا، والحمص فسيبقى الحمص حمصاً، وستبقى الفاصوليا، فاصوليا، دون أن تغير، فقط إنهما خلطا معاً.















أما الهواء فيسمى مخلوطاً، لأنه متكون من الأوكسجين والأزوت معاً، حيث الواحد منهما مع الآخر، فيوجد شيء ثالث جديد. فالماء مثلاً يسمى مركباً، لأنه يتكون من عنصري الأوكسجين والهايدروجين، فعندما يكونا معاً يتكون سائل له خصائص، يختلف عن خصائص كل من العنصرين.















إنه يوجد في هذا العالم مركبات كثيرة، وعلم الكيمياء هو علم التركيب.















فهل إن أفراد بني البشر الذين يعيشون معاً مثلهم مثل المخلوط؟ أم مثل المركب؟ أي هل حالتهم أقرب إلى حالة المخلوط؟ أم إلى حالة المركب؟















إننا لو وضعنا في صحراء مئة ألف حجراً لمدة مئة ألف عام، الواحد جنب الآخر. فإن الواحد منها لن يؤثر بغيره. وإذا زرعنا في بستان مئة ألف شجرة، فإن كل شجرة ستعيش وحدها ـ أي إن كل شجرة ستنشغل بالماء والأرض، والنور، والحرارة.















أما أفراد بني البشر، فإن شخصياتهم تؤثر الواحدة بالأخرى، أي كل منا ـ أنا وأنت ـ اكتسبنا كل شخصيتنا من المجتمع، والمجتمع اكتسب منا أيضاً. فأنا جالس هنا باحساسات خاصة، وعقائد، وأفكار خاصة، إنما هي من المجتمع ـ على الرغم من أن لنا عقل وإرادة، وننتخب ولا نجبر في العمل، أنت جالس جلست هنا بخلق طاهر خالص، وهو أنك صادق. فمن أين أتيت بالصدق؟ لو فكرت بصورة صحيحة سترى أنه المجتمع الذي أعطاك إياه. أنت تمتلك عقيدة وإيماناً بالإسلام، فمن أين أتيت بهذا؟















هل أعطتك إياه الأرض؟ أم الهواء؟ أم المجتمع الذي أخذت منه ذلك؟















ومن الطبيعي أن هذا المجتمع الذي تأخذ منه، وضعه ليس وضع المخلوط، وهو ليس كذلك، بتلك الشدة التركيبية التي عرفناها في الماء لكنه شبيه بالمركب.















إن المجتمع يؤثر بالفرد، والفرد كذلك يؤثر بالمجتمع. والمجتمع في واقع الأمر يشكل في مجموعه شيئاً واحداً له روح، وله عمر. وهذا أمر رائع استنبطه بشكل جيد وبلوره العلامة الطباطبائي ـ سلمه الله ـ حيث أنه استنبط بوضوح كامل من القرآن الكريم قوله بشخصية المجتمع وعمره. (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). (الأعراف: 34)















إنه يقول بأن للمجتمع سلامة ومرض، وسعادة وشقاء، واشتراك في المسؤولية. يتساءل البعض أحياناً: لماذا يرتكب الأكثرية جرماً، وينزل بهم العذاب يشمل حتى الصالحين الأقلية الذين يعيشون بينهم؟















إن هذا البعض لا يعرف أن حكم أفراد المجتمع حكم الجسد الواحد، عندما يصاب عضو منه بالسرطان، فإن الأعضاء الأخرى لا تستطيع أن تقول: لماذا نحن يجب أن نفنى أيضاً. وذلك بدليل أنها متصلة ومتحدة الواحدة بالأخرى، وبدليل أنها تشترك بالسعادة وبالشقاء، لذا فالقلة لابد أن تتضرر من المجتمع، فالدار الأخرى وحدها هي دار التمييز. أما في الدنيا، فإن أفراد المجتمع متصلون بعضهم ببعض حقاً، ويتقاسمون المر والحلو في الدنيا حقاً، وإنهم شركاء بالسعادة والشقاء حقاً. والدار الآخرة هي دار الامتياز (وامتازوا اليوم أيها المجرمون). (يس: 59)















في هذه الدنيا لا موقع لـ(وامتازوا) في هذه الدنيا يوجب القانون والقاعدة العملية ـ في حال سيطرة فئة فاسدة من المجتمع وتمكنها من تعميم فسادها على ذلك المجتمع، فإن البلاء سيشمل الجميع إنه سيأخذ السالم والسقيم ويحترق الأخضر واليابس، ولكن هذا يعتبر عذاباً للفاسدين. وربما سيلاحقون يوم القيامة ـ أيضاً ـ أما غير الفاسدين، الذين هم غير مستحقين للعذاب بذاتهم، فإنه يعتبر بالنسبة لهم مصيبة وابتلاء وسيثابون عليه يوم القيامة. إن كانوا قد نهوا عن المنكر.















وعلى كل حال، فإنه لا تمييز في هذه الدنيا.















إذن: بما أن المجتمع موجود كالمركب، وله وحدة، وله خطر سير خاص وإنه يتكامل، وله عمر وحياة وموت، ولا يمكن إلا أن يكون له ذلك، كما أن له حقوق.















إذن: فإن كلام القائلين بأصالة الفرد وبكون المجتمع أمر اعتباري هو كلام خاطئ، ونحن نقرأ في القرآن الكريم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (الأحزاب: 6) أي إن النبي له حق على المؤمنين أكثر من حق المؤمنين على أنفسهم ـ أي إنك تملك نفسك ومالك، واحترامك وكرامتك، ولكن الرسول له مالكية على نفسك ومالك واحترامك وكرامتك أقوى من مالكيتك لها.















أما لماذا؟















لأنك لا تمتلك نفسك أو مالك بحيث تتصرف بها كيف تشاء، حتى أنك لا تمتلك حقيقتك، كما أن بعض الأحاديث تفيد أن نفس المؤمن ليست تحت اختياره بل إن الرسول هو مالك نفس المؤمنين أي إنه يستطيع أن يضحي بأنفس المؤمنين حينما يرى المصلحة في هذه التضحية.















أما ما المقصود بأولوية الرسول على المؤمنين أنفسهم؟ هذا الحق على من وبنفع من؟ هذا الحق الذي جعله الله لنبيه لمصلحة من جعل؟















هل إنه جعل لمصلحة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ أي هل أن الله هو الذي جعل هذا الحق للنبي بأن يضحي بالمؤمنين لأجله؟















كلا، بل لأنه ولي أمر المسلمين ورئيس مجتمعهم، ولأنه الممثل لتمام مصالح المجتمع، أعطاه الله هذا الحق لأنه حينما يرى أن مصلحة المجتمع تقتضي أن يضحي بفرد من أبنائه يضحي به. وليس من قائل بأن النبي أعطي هذا الحق لينتفع به شخصياً، ولا معنى أصلاً لهذا الكلامن لأن النبي من جهة شخصية غير محتاج للناس ليضحي بهم من أجل حياته، هذا أولاً، وثانياً لم يقل أحد بهذا الرأي.















ولكن هل إن هذا الحق الذي جعل للرسول ينحصر بشخص الرسول فقط؟ كلا. بل هو ينتقل للإمام أيضاً، لأن الإمام هو أيضاً رئيس المجتمع وممثله بعد الرسول، فينتقل هذا الحق إليه. ولكن هل إن هذا الحق ينحصر بالرسول والإمام؟ أم إنه ينتقل لكل حاكم شرعي له النيابة عن الرسول والإمام؟ نعم إنه ينتقل لهذا الأخير أيضاً.















وهذا دليل على أن الإسلام يقر حقاً للمجتمع، لأنه يعترف بأصالته وبحياته، ولأنه في واقع الأمر له وحدة، وله اعتبار ليس بمطلق.















في بعض الأحيان نواجه مسائل يصعب حلها وفق وجهة نظر الفلسفات الأخرى، مثلاً لو سئلنا هذا السؤال: هل أن كل نسل يتحمل تكليف ومسؤولية بالنسبة للجيل التالي له أم لا؟ أي نحن الآن جيل حاضر، والجيل الآتي لا زال إلى هذه اللحظة غائب لم يوجد بعد. فهل نتحمل مسؤولية تجاههم أم لا؟















فإن قلنا: نعم نتحمل المسؤولية. فمعنى ذلك أن الجيل القادم الذي لم يوجد بعد، له حق علينا نحن الموجودون فعلاً.















أما إذا كان الجواب: لا، فلا يكون لهم حق علينا، إذن: فما معنى هذا الكلام الذي يترنم به كل الناس هذه الأيام من أنهم مسؤولون عن الأجيال القادمة؟ ماذا يعني هذا؟















أنا أريد هنا أن أوجه السؤال إلى الذين يريدون أن ينظروا للحقوق وفق عقيدة غير العقيدة الإسلامية: ماذا يعنون بقولهم: إنهم يتحملون مسؤولية تجاه الأجيال القادمة؟ هل أن الأجيال القادمة لها حق في أعناقهم؟ من أين جاء هذا الحق، وهم لم يأتوا بعد إلى الدنيا. ما هو منشأ إدعائهم هذا؟















نعم إن الجميع متفقون على أن كل جيل مسؤول عما بعده من أجيال، ولكن قد يسأل سائل: ما معنى هذه المسؤولية؟ إننا لا مسؤولية لنا تجاه الأجيال القادمة مثل أبي العلاء المعري الذي يقول:















هذا ما جناه عليّ أبي *** وما جنيته على أحد















إنه يعتبر وجوده ذنب ارتكبه والده، لأن الحياة لغو وشر، لذا فهو غير مستعد لأن يمارس هذه الجناية على جيل قادم؛ لأن كل من يمارس عملاً يشارك فيه بإيجاد الجيل القادم، إنما يرتكب جنايةً.















وهذا هو ـ تقريباً ـ رأي الخيام ـ أيضاً ـ لذا فإن أبا العلاء لم يتزوج إلى أن ادركته المنية. وأوصى بأن يكتب بيت الشعر هذا على قبره.















فإن لم نكن مسؤولون عنهم، لماذا نهيء الأرضية المناسبة لهم.















إن من يدعي المسؤولية عن الأجيال، عليه أن يوضح لنا ما هو حق تلك الأجيال علينا. إن الحقوق تنشأ من أن الدنيا لها رب، وأنها تجري لغاية وهدف معينين، إنهم من جهة يدعون بأن الدنيا وجدت صدفةً، وأن بني البشر وجدوا نتيجة تغيرات تصادفية، وعندما تسألهم:















هل إن الخلقة والطبيعة تسير باتجاه هادف؟















يقولون: كلا. ماذا يعني الهدف أصلاً؟ أساساً لا توجد علة نمائية في الدنيا. ومن جهة أخرى يقولون: نحن مسؤولون عن الأجيال القادمة، في حين أن هذا المسؤولية، إنما تبتني على أساس أن الدنيا قائمة على نظام محكم. وأن الخلقة تسير باتجاه هادف. فبما أن الدنيا لها هدف، فإن نفس الخلقة قد أوجدت الحق عندها نكون نحن مسؤولون أمام الخلقة، فالخلقة تقول لنا: بما أنه يوجد لديكم جهاز تناسلي وعندكم رغبة طبيعية بالجنس الآخر، فقد صنعتم هكذا، كي توجدوا الجيل الآخر. أي إنني جعلت للجيل القادم حقاً عليكم.















أما إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الذي أوجد للجيل القادم حقاً علينا إذن؟















والآن لو تركنا موضوع الجيل القادم، ونأخذ الجيل الحاضر بنظر الاعتبار.















الأب وابنه الصغير، فل يوجد لهذا الإبن حق على والده أم لا؟















هل تجد إنساناً في الدنيا، يقول بعدم وجود حق له على والده ووالدته؟















إن الجميع يقولون: بما أنك أنجبت هذا الطفل، فإنك ملزم بتربيته.















إذن: يوجد حق لهذا الطفل.















وهنا يوجد سؤال يطرح نفسه: من أين جاء حق الطفل هذا؟















وهل هو ليس إلا أن الأشخاص مرتبطون في أصل الخلقة بعضهم ببعض. وهو الحق الذي أوجده رب العالم بين بني البشر، في متن الخلقة؟















فإن لسان حال الخالق يقول: بما أنني أوجدت عندك عاطفة أبوية وأوجدت عند زوجتك عاطفة الأمومة، فقد أوجدت بينكما وبين طفلكما أولوية خاصة، وبالنتيجة، فإن لهذا الطفل حق في عنقكما وجد في متن الخلقة، فالمجتمع إذن بشكل عام له حق.















أما النظرية الأخرى القائلة بأن المجتمع موجود، والفرد غير موجود، فلا أرى أنها بحاجة إلى مناقشة، لسخافته فماذا يعنيك إن الفرد غير موجود؟ إن أقصى ما يمكن أن يقبل هذا القول بأن المجتمع موجود مركب من أفراد، إذن: كيف يمكن أن نقول: إن الفرد أصلاً غير موجود؟ وإنه أمر اعتباري؟ إذا كان الفرد أمراً اعتبارياً، فمن أين جاء هذا المركب؟















إلى هنا يمكننا أن ننتهي من البحث العلمي الذي تعرضنا له، في الليالي الثلاثة الماضية، إذا كان معنى العدالة هو التوازن، فإنه لا يخرج عن معنى (إعطاء كل ذي حق حقه). أما لماذا؟ فلأن المجتمع لن يتوازن ـ في أي وقت من الأوقات ـ إذا ديست حقوق الأفراد ـ إن توازن المجتمع برعاية حقوق أفراده ورعاية حقوق المجتمع؛ فلا يمكن أن يتوازن المجتمع مطلقاً وفق نظرية إعدام حقوق الأفراد بشكل تام.















نعم إن التوازن أن يضحي الأفراد بحقوقهم من أجل المجتمع. وهذا لا يتم ـ أيضاً ـ إلا إذا افترضنا أن هناك هدف للخلقة، وأن الحق الذي يضحي به الفرد يضمن له ويؤمن.















أما كيف؟ إنك عندما تكلف إنساناً معيناً بالذهاب إلى الجهاد، أو لأداء الخدمة العسكرية أو للتضحية بروحه، فهنا تكون تضحيته بتمام حقه من أجل المجتمع.















أما وفق أي منطق وفلسفة يقوم الفرد بهذا العمل؟















هل إن هذا الفرد له حق بروحه أم لا؟ وإن كان له حق، فلماذا يضحي به من أجل المجتمع؟ في حين أنه لا يكسب أي شيء من المجتمع بعد موته؟















نحن نقول: إن الدنيا، الآخرة، الموت، الحياة، كلها أمور متصلة ومرتبطة بعضها ببعض، وإن جهادك، وأداءك للخدمة العسكرية لا تعني إعدام حقك بشكل عام، بل تعني إن حقك سيبعث من جديد في العالم الآخر.















أما إذا لم يحرز الارتباط بين الدنيا والآخرة، وأعدمت الحقوق قهراً في المجتمع بشكل مطلق ـ أي إن الحقوق التي سيضحي بها الفرد من أجل المجتمع لا تؤمن في مكان آخر. فإن الجهاد والخدمة العسكرية والتكليف بعمل فدائي سيكون لا مبرر لها، بل ستكون ظلماً، وظلماً مطلقاً.















إلى هنا يكون قد اتضح لنا أن أساس العدالة هو وجود الحقوق الواقعية.















العدالة لا تعني ـ كما قيل المساواة ـ بل إنها لا تعني الموازنة بالشكل الذي لا تكون فيه الحقوق أساس العمل، بل إنها ـ أي العدالة ـ قائمة على أساس الحقوق الواقعية، والفطرية، فالفرد له حق، والمجتمع له حق والعدالة تكون بإعطاء كل ذي حق حقه. العدالة هي رعاية هذه الحقوق.















بناء على هذا، فإن العدالة واحدة في كل الأزمنة، ويخطئ من يقول بأنها أمر نسبي.















على هنا أختم حديثي لهذه الليلة بالدعاء.















أللهم عرفنا حقائق دينك المقدس.















تحقيق نظرية نسبية الأخلاق















(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القرب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل: 90)















كان بحثنا منذ ليلتين أو ثلاث يدور حول العدالة، وكانت خلاصته هي أن العدالة بنيت على أساس الحق، والاستحقاق، وأن عموم استحقاقات الإنسان ثابتة وواحدة ومطلقة. وأن العدالة هي أيضاً أمر مطلق، وليس نسبي.















وأريد في هذه الليلة ـ الحديث عن نسبية الأخلاق، والتي أشرنا إليها في بعض الليالي السابقة.















وبهذا أختم الحديث عن نسبية الأخلاق ونسبية العدالة.















لقد ذكرنا: أن البعض يعتقد بنسبية الأخلاق، بمعنى أن خلصة معينة لا يمكن أن تكون ـ في كل الأوقات، وفي كل الأزمنة ـ خلقاً جيداً. أو خلقاً رديئاً. بل إن كل خلق يكون جيداً في مكان معين ورديئاً في مكان آخر. يكون جيداً في زمان معين ورديئاً في زمان آخر. فالأخلاق أمر نسبي، ولأنه نسبي لا يمكن أن يكون لنا قوانين كلية ودائمة وصالحة لكل مكان وزمان، بل سيكون لنا في كل زمان قانون أخلاقي معين.















هذا هو البحث الذي سنتناوله لنرى مدى صحته.















إنه كلام غير صحيح، فنحن نسأل الذين يتفوهون بهذا الكلام: ما معنى أن يرى المجتمع شيئاً جيداً أو يراه رديئاً؟















وربما يكون قد طرح هذه المسألة ـ بشكل أولي ـ المسلمون، حينما طرحوا مسألة الحسن والقبح العقليين.















ماذا يعني الحسن والقبح العقليين، في مقابل الحسن والقبح غير العقليين؟















إن لدينا حسن واحد، وقبح واحد ـ مثلاً ـ شكل فلان حسن وجميل أو أن شكل فلان قبيح. إن فلاناً له عيون حسنة، وفلاناً عيونه قبيحة.















وعن الحيوان قد نقول: إن الغزال حيوان حسن وجميل. أما الغراب فحيوان قبيح، هذا هو الحسن والقبح. كما أنا نرى أن أحد علوم العصر هو علم الجمال.















إن الحسن والقبح العقليين يعني حسن وقبح الشيء الذي لا يرى بالبصر، يدركه العقل. ومن الطبيعي أن العقل يدرك نفس ذلك الشيء، كما يدرك حسنه وقبحه. مثلاً: لو مرض شخص غريب في صحراء، وعثر عليه شخص آخر، لا توجد بينهما أدنى معرفة، فيدفعه إحساسه بغربته ومرضه، ودون أن يتوقع منه شيئاً، إلى أن ينقله على المستشفى فوراً. لكي يوضع تحت عناية خاصة. ثم لا يكتفي بذلك، بل يكرر تفقده وزيارته له في المستشفى كثيراً، إلى أن يتماثل للشفاء، ويخرج من المستشفى، فينتبه إلى أنه لا مال معه، يعينه على الرجوع إلى موطنه، فيبادر بشراء بطاقة سفر له، تعيده إلى وطنه. ولنفترض أن هذا كان من أهل العراق. وذاك كان من أحد الدول الأفريقية، حيث أن أحدهما لا يتوقع أن يرى صاحبه إلى آخر العمر، ولو مرة واحدة.















وأنا الآن أسألك: هل أن هذا العمل الذي قام به هذا الشخص لذلك المريض جيد أم لا؟















فالجميع يتفقون على أنه عمل جيد حسن جميل، ولكن هل أن جمال هذا العمل من نوع الجمال الذي يمكن أن يرى بالعين؟















كلا، حيث أن جمال هذا العمل لا يمكن أن يدرك بالعين، كما لا يمكن للعين أن تدرك الصوت الجميل. ولكن وجدان الإنسان وضميره يدرك هذا العمل، ويعرف أنه عمل جيد وجميل، تدركه عقولنا أيضاً بشكل جيد.















ما يقابل ذلك: إن شخصاً يحسن لشخص آخر، فيتفق أن المحسَن إليه يرى المحسِن في الشارع أمامه، فلا يسعى إلى أن يقابل إحسانه بإحسان، فيأخذه ـ مثلاً ـ معه إلى داره ويحسن ضيافته، مع فرض أنه قادر على ذلك. فرغم أنه لا يفعل ذلك. بل يخفي نفسه، كي لا يراه المحسِن.















فماذا نقول عن هذا العمل؟ نقول: إنه عمل رديء. ونقول: إن هذا الرجل رجل سيئ، قام بعمل قبيح. ولكن ما هي كيفية هذا القبيح؟ هل إنها نفس كيفية قبح الشكل الذي يرى بالعين؟















إن الله قد أعطى ضميراً، ووجداناً للإنسان يستطيع العقل بواسطته أن يدرك قبح هذا العمل.















هذا هو ما يسمى بالحسن والقبح العقليين. يقال: إن كل الأعمال الأخلاقية هي الأعمال التي تكون عقلاً جميلة وحسنة، وأن الأعمال غير الأخلاقية هي التي لا تكون مقبولة عقلاً. وأنك تلاحظ في كتب الأخلاق يذكرون الصفات الحميدة، والأخلاق المقبولة، ويذكرون قبالها الصفات الرذيلة. والأخلاق غير المقبولة. فالصفات الحميدة هي الصفات التي تمتدح، والأخلاق المقبولة هي الأخلاق التي يقبلها العقل. فتكون مقبولة أو غير مقبولة من وجهة نظر العقل. فيقال: إن أساس الأخلاق هو قبولها أو عدم قبولها. حسنها أو قبحها العقلي. هذه هي المقدمة الأولى.















أما المقدمة الثانية ـ فهي ما يقال من أن قبول أو عدم قبول الحسن والقبح من وجهة نظر العقل إنما يتغير بتغير الظرف. فعقل الناس قد يعتبر شيئاً ما في زمان جيد، بينما يعتبره في زمان آخر رديء. هكذا في الأمكنة المختلفة.















إذن الحسن والقبح العقليين اللذان هما أساس الأخلاق لن يكون وضعهما ثابت، بل يتغير الزمان والمكان ـ مثلاً: إننا نرى أن قتل الحيوانات، وخصوصاً البقر في الهند يعتبر من الأعمال القبيحة، بل من أقبح الأعمال ـ أي كما يعتبر قتل الإنسان في أمم أخرى، قبيح، يعتبر قتل الحيوانات هناك قبيح أيضاً.















ولكنك عندما تتحول من الهند إلى باكستان وإيران وأفغانستان وتركيا والعراق، ترى تلك الحيوانات، تذبح، ومنها البقر بكثرة وتؤكل لحومها.















فأمة ترى أن هذا العمل قبيح، بينما أمة أخرى لا تراه كذلك.















مثال آخر: إختلاف مواقف، وأذواق الشعوب أزاء مسألة الحجاب والسفور، حيث أن الأمة التي كانت قد تربت نساؤها منذ البداية على الحجاب، فإنها تستهجن السفور، وتراه قبيحاً. فإن خلعت إحدى نسائها حجابها، فإنهم سيقولون بأنها ارتكبت عملاً قبيحاً.















ولكن في أمة أخرى: عندما تكون نساؤها قد كبرن على السفور، فإن حجبت إحداهن نفسها سترى أنها قد ارتكبت عملاً قبيحاً، لأن مجتمعها يرى أن الحجاب عمل قبيح. أي أن هذا الأمر يختلف باختلاف المكان والزمان.















إذن: الحسن والقبح العقليين لا ركن ثابت لهما.















إذن: أصبح لدينا مقدمتان: الأولى ـ إن رأي البعض هو أن أساس الأخلاق، إنما هو الحسن والقبح.















والمقدمة الثانية ـ هي: إن الحسن والقبح هما من المفاهيم النسبية.















إن كلا المقدمتين غير صحيحتين، وبالأخص المقدمة الأولى.















في البداية لابد أن نرى هل أن أساس الأخلاق الحسن والقبح أم لا؟ وإن كان الجواب بالإيجاب عند ذلك لابد أن نرى هل أن الحسن والقبح من الأمور النسبية؟ أم لا؟















في الأساس لا صحة لكون الحسن والقبح أساس الأخلاق. إن هذا ليس من الأفكار الإسلامية. فرغم أنك كثيراً ما تجد هذا الأمر يجري على لسان علماء الإسلام، ولكنه ليس هو من الإسلام. إن هذه الفكرة وصلت إلى المسلمين من اليونان، وأنها فكرة سقراطية، حيث كان رأيه أن أساس الأخلاق هما الحسن والقبح العقليين، فهو صاحب مذهب أخلاقي، يسمى بالمذهب العقلي، فحسب قناعته أن الأخلاق الحسنة هي الأعمال التي يستحسنها العقل، والأخلاق السيئة التي يجب على الإنسان أن يتطهر منها هي ما يستقبحه العقل. أي إن سقراط قد بنى مذهبه الأخلاقي على العقل ـ أي الحسن والقبح العقليين.















فالذين ترجموا كتب سقراط تقبلوا فكرته هذه، وقد بحث علماء الإسلام هذا الأمر، وعرفوا ان الحسن والقبح أساس غير ثابت، بل متغير. ولكن الشيء المهم هو لماذا نعتبر أن أساس الأخلاق الحسن والقبح العقليين لنتبنى هذا الموضوع ثم نجيب على السؤال السابق؟















كلا. فالأمر ليس كذلك، بل كما ذكرنا سابقاً، أن معنى الأخلاق هو تنظيم الغرائز، فكما ان الطب هو تنظيم قوى البدن، فإن الأخلاق تنظيم قوى الروح. وكما أن الطب ليس أساسه الحسن والقبح العقليين، كذلك الأخلاق ليس أساسها الحسن والقبح العقليين.















ولكن ماذا يعني هذا؟















لقد ذكرنا سابقاً أن الإنسان له قوى روحية، له غرائز، وإن لكل قوة منها تكاليف ـ عهد بها إلى الإنسان أي يجب على الإنسان أن يعرف حد كل قوة وقابلتها وحاجتها، ويعطيها على قدر حاجتها، دون إفراط أو تفريط، كما يفعل مع بدنه. فإن أهمل الإنسان قواه الروحية، وذلك بأن أعطى لبعضها أكثر من حاجتها وأنقص نصيب الأخرى، وتركها جائعة، فإنه سيحدث الاختلاف والاضطراب، وهذا هو ما يسمى بالأمراض الروحية، أي إن كل زيادة في عطاء القوة، يعني إيجاد متاعب للإنسان، وكذلك القلة ـ مثلاً: لو اشبع الإنسان معدته أكثر من حاجتها، بحيث كان دائم التفكير فيها، فإنه سيفسد هذه القوة، بل إنه سيفسد كل وجوده وأخلاقه. كما أنه إذا لم يشبعها بالشكل المطلوب، فإنها ستسبب له عواقب وخيمة أخرى.















إن هذا العمل لا يحتاج إلى أن يبحث، هل أنه ـ عقلاً ـ حسن أم قبيح؟ حيث أن أساس الأخلاق سلامة الروح. وأن سلامة الروح حالها حال سلامة البدن التي لا ربط لها بالحسن والقبح.















فالروح ينبغي أن تكون سليمةً، فكما أن البدن يحتاج على رياضة وتقوية، فكذلك الروح تحتاج إلى التقوية والرياضة ـ أي إن الإنسان يستطيع بواسطة أعمال معينة أن يربي حتى فكره. لقد بين هذا الأمر صاحب كتاب (أهيل) بشكل رائع جداً.















إن فكر الإنسان قد يكون دقيقاً، وقد لا يكون. وكيفية ذلك: أنا وأنت قد ندخل ونخرج من هذا المسجد مئة مرة، وعندما نُسأل عن كيفية وضع المسجد ـ ونحن في خارجه ـ عن ارتفاعه وعرضه، والقطع التي نصبت عليه... الخ. قد لا نستطيع أن نصفها بدقة ـ رغم كثرة دخولها إليه ـ لكن لو وجه هذا السؤال لفنان، حيث أنه ينظر بدقة، لاستطاع أن يصفه بشكل جيد.















إن مثل هذا الإنسان، كان قد درب عينيه، بمعنى أن قلبه صار دقيقاً ببصره. وكذلك الأمر بالنسبة لمن له معرفة بالآلات الموسيقية، حيث يستطيع أن يشخص الأصوات. وهكذا الأمر بالنسبة للملموسات. كما يشخص الطبيب المرض من خلال نبض المريض، وإن أردت أن تعرف كم هي دقيقة حاسة اللمس، عليك أن تلاحظها عند الأعمى، وبالأخص من ولد وهو أعمى، حيث سترى أن حاسة اللمس عنده تقوم بعمل كثير من القوى.















الغرض إن جميع قوى البدن تحتاج إلى رياضة، وكذلك القوى الروحية وبالأخص القوى الإنسانية العالية، مثل قوة الإرادة، وقوة العقل والفكر، وتركيز الفكر، كل تلك الأمور يجب أن تقوى. إنها أخلاق.















إن أساس الأخلاق عند الإنسان أن تكون إرادته قوية ـ أي أن تتغلب إرادته على شهوته، وعلى عادته، وعلى طبيعته، أي أن يكون الإنسان ذا إرادة بحيث أنه لو شخص لزوم أداء عمل معين يقرره أداءه، ويباشر به، ولا يسمح أن تحول بينه وبين ألأداء عادة أو طبيعة من عاداته وطبائعه. لو شخّص مثلاً: أن الصلاة هي أحد التكاليف الشرعية التي تجلب له الخير، فإن هذا يستطيع أن ينهض وقت السحر لأداء الصلاة وتلاوة الدعاء، والاستغفار، وطلب المعونة من الله، فينهض بسرعة ولكن طبيعته ستقول له: نَم واسترح، وهو لازال مأخوذاً بالنعاس ويريد أن يستلذ بالنوم. فها هنا إذا كانت إرادته قوية، فإنها ستتغلب على طبيعته، وينهض فوراً، ويشرع بأداء عمله العبادي.















أو أنه عندما يعلم بأن قلة الطعام أمر جيد ومفيد للبدن، ففي حالة جلوسه إلى المائدة، وأكله مقداراً معيناً سيرى نفسه أنه لازال جائعاً.















أما نحن الإيرانيون فقد اعتدنا التخمة، وكبرت بطوننا، لأننا نأكل أكثر من حاجتنا، فالعمل حينئذ يناديه بأن يكف عن الأكلن ويقول له: إن المقدار الذي تناولته كاف لك، أما طبيعته، فستقول له: كل، فإنك لم تشبع بَعد. فإن كانت إرادته قوية سيكف عن الطعام.















وكذلك في مجال الاعتياد، فعندما يعرف الإنسان التدخين عادة مضرة أخلاقياً ومالياً، فإن كان صاحب إرادة قوية فسيمتنع عن التدخين أي تتغلب إرادته على عادته. أما إذا كان لا يمتلك تلك الإرادة، فإن عادته هي التي ستتغلب.















الأخلاق تعني أن تتغلب إرادة الإنسان على عاداته وطبائعه أي أن يقوي إرادته بشكل يستطيع فيه الغلبة، حتى على عاداته الحسنة، لأنه من غير الصحيح أن يعتاد الإنسان حتى على العمل الحسن، مثلاً: نحن يجب أن نصلي، ولكن لا بدافع العادة؛ فمن أين نعرف أن صلاتنا هي عادة أم لا؟ علينا ان ننظر: هل أننا نؤدي كل الفرائض الإلهية بشكل يشبه أداء الصلاة؟ فإن كان الأمر كذلك نعرف حينها أن أعمالنا دوافعها إلهية. أما إذا كنا نأكل الربا ونصلي حتى النوافل، أو نخون أمانات الناس، ولكن لا نترك زيارة عاشوراء، حينها نفهم أن عملنا ليس عبادة. وإنما هو عادة، ففي الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده" أي لا يخدعنكم طول الركوع والسجود، فلربما كان هذا عادة يستوحش صاحبها من تركها. فإن أردت أن تعرف ذلك الإنسان، فامتحنه بالصدق والأمانة، لأن الأمانة والصدق ليستا من الاعتياد، كما هو حال الصلاة.















إذن يجب أن تكون إرادة الإنسان وأخلاقه قوية بحيث يمكن أن تتغلب على طبيعته، وعادته بحيث يصبح الإنسان ينجز أعماله بإرادته. حتى أن الفقهاء يذكرون ـ وكذلك الأخلاقيون ـ إن الإنسان إذا دوام على ترك المستحب إنما يتركه فترة من الزمن ليخرج عن كونه عادة. ثم يرجع إليه فينجزه بحكم الإرادة.















الغرض أنه عندما تكون حقيقة الأخلاق هي أن الإنسان له صفات وقوى، وإن كل صفة أو قوة لها حق معين، وتكليف الإنسان هو أن يعطيها ما تستحقه، وعندما يكون معنى الأخلاق: إن كل جنبة إنسانية عند الفرد ـ وبالأخص العقل والإرادة ـ يجب أن تدرب وتربى بحيث تكون سائر القوى الأخرى تحت سيطرتها حينها لا يمكن أن يقال: إن الأخلاق تختلف باختلاف الزمان والمكان.















وأنا تكون لي أخلاق معينة، وأنت تكون لك أخلاق أخرى، وتكون لي في زمن معين أخلاق خاصة، وفي زمن آخر تكون لي غيرها.















إن الذي يعتقدون بأن الأخلاق نسبية إنما هم سقراطيون في تفكيرهم، لأن الأمر ليس كذلك:















أولاً: إن أساس الأخلاق ليس الحسن والقبح العقليين.















ثانياً: إن مسألة كون الحسن والقبح قابلان للتغيير ـ أي إنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان، تعتبر مسألة خاطئة من جهة، وصحيحة من جهة أخرى. وإن العلامة الطباطبائي، قد قام بتحقيق هذه المسألة، وكان رأيه: إن أصول الحسن والقبح العقليين ثابتة، والمتغير هو فرعها.















وبما أني قد تعبت، لذا أعتذر عن مواصلة البحث وأكتفي بالدعاء.















الوجدان ومسألة نسبية الأخلاق















(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) (فاطر: 8)















كان في نيتي ومواصلة لموضوع (مقتضيات العصر) أن أبحث هذا الليلة موضوعاً من مواضيع فلسفة التاريخ، وهو: هل أن عوامل سعادة البشر تختلف باختلاف الزمان؟ أي إن فيها قديم وجديد؟ أم أن هناك سلسلة عوامل ثابتة تكون سبباً للسعادة في كل زمان؟















إن هذا الموضوع يحتاج إلى توضيح وتفسير، ولكن بما أنني تعرضت في الليالي الماضي لموضوع نسبية الأخلاق، ولم أكن أرى ضرورة للتعقيب حول ما ذكرته، ولكن بعض الأحبة أرادوا أن أواصل البحث لتتمته، وهو ما سأتناوله الليلة:















لقد اتضح لدينا: أن الأشخاص الذين يقولون بنسبية الأخلاق يرون أن أساس الأخلاق هو الحسن والقبح العقليين، إضافة إلى أن العقل يعرف الأعمال القبيحة، كما يعرف الأعمال الحسنة، ويسمي الأولى بالأخلاق الرذيلة، ويسمي الثانية بالأخلاق الحسنة، ولذا قيل: إن وجهة نظر العقل الحسن والقبح تتغير بتغير الزمان، لذا فإن أساس الأخلاق لن يكون ثابتاً وعاماً. فما يمكن أن يعتبر في محيط معين خلق حسن يعتبر رديئاً في محيط آخر. وقد ذكرنا أن هذا الاستدلال له أساسان:















الأول: إن الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح العقليين.















والثاني: إن كل من الحسن والقبح أمر نسبي، أو بتعبير المناطقة: هناك صغرى وكبرى، ولابد أن نستنتج الكبرى من الصغرى. إن صغرى هذه المسائل هي أن الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح، وإن كل منهما أمر نسبي، والكبرى هي: إن الأخلاق تكون قائمة على أساس أمر نسبي، وإن ما يكون أساسه نسبي يعتبر نسبي أيضاً. إذن: فالأخلاق نسبية.















إننا تحدثنا عن الأساس الأول ـ أي كون الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح، وذكرنا أن هذا غير صحيح، ومن الأخلاق السقراطية، وسقراط هو أحد معلمي الأخلاق، وصاحب مذهب أخلاقي خاص. إنه فيلسوف يوناني بنى مذهبه الأخلاقي على أساس الحسن والقبح.















أما الأخلاق الإسلامية، فلا تبتني على هذا الأساس.















إذن: فإن هناك إشكال، إنما يرد على الأخلاق السقراطية.















لقد اراد بعض الأحبة أن أبسط البحث حول الركن الثاني من هذا الاستدلال، وهو: هل إن الحسن والقبح هما حقاً أمر نسبي أم لا؟















لقد ذكرت في ليلة سابقة أن كون الحسن والقبح أمر نسبي ليس صحيحاً. ولكن لم أبسط البحث أكثر. والآن لنترك هذا المدخل، ونبدأ من مكان آخر؛ ليتضح الأمر أكثر.















لابد أنك سمعت بكلمة الوجدان أو الضمير، فنحن بدلاً من أن يتركز بحثنا حول الحسن والقبح، سيكون حول كلمة الوجدان أو الضمير.















فنحن نرى البعض يقول: وجداناً إن الأمر الفلاني هكذا.















أو: أنت وضميرك هل إن الموضوع الفلاني هو كذا؟















أو: إن قاضياً ذو ضمير حيّ هكذا يقضي؟















فما هو الضمير؟ هل إنه يتغير بتغير الزمان؟















أي هل إن ضمير أهل هذا العصر يختلف عن ضمير الناس الذين عاشوا قبل عشر سنوات أو قبل قرن من الزمان؟















هل إن ضمير الناس يتغير كما تتغير ألوان ملابسهم ووسائل نقلهم، ووسائل إضاءتهم؟















إن كل شخص يشعر أن في داخله قوة بإمكانها أن تصدر حكماً ضده، وهي الضمير.















يقال: إن الفيلسوف الإلماني المعروف (گانت) وهو من فلاسفة العالم المشهورين، له جملة كتبت على قبره، وهي (هناك شيئان يثيران تعجب الإنسان:















الأول ـ السماء من فوقنا المليئة بالنجوم والتي كلما حدق بها الإنسان تتضح له عظمتها أكثر.















والثاني ـ ضمير الإنسان الذي جعل في قلبه).















لقد ذكرنا: أن الضمير قد يصدر حكماً حتى على الإنسان نفسه. مثلاً: عندما ينشب خلاف بينه وبين شخص آخر، فلربما لا يستسلم ويعترف بالحق أثناء حديثه مع غريمه، بل يغمطه حقه، ولكنه عندما يخلو بنفسه ويفكر بما قال وعمل يرى أن هناك قوة داخلية تلومه وتعنفه، فتخجله أمام نفسه، فما هو الشيء الذي خجله أمام نفسه؟















يقال: إن طفلاً ذكياً ترك وحده في غرفة مع كمثرة فخرج الطفل دون أن يمد يده إلى هذه الفاكهة، فسأله أحدهم: هل كان هناك شخص آخر في الغرفةك أجاب الطفل: لازل فقال له: لماذا إذن لم تأكل الكمثرى؟ فقال الطفل: لأني كنت أنا في الغرفة.















هذا هو حساب الضمير، والقرآن يسميه بـ "النفس اللوامة".















أي القوة التي توجد في داخل الإنسان، لتلومه إذا عمل عملاً منكراً، وتقول له: يا من قلبه غافل؛ لماذا قمت بهذا العمل القبيح، لقد سودت وجهي... وما شابه.. فهل يوجد إنسان لا توجد فيه مثل هذه القوة؟















إنها موجودة بالضرورة... فكل البشر يتمشدقون بالضمير.















حتى الذين لا يعتقدون بوجود الله. لا يستطيعون أن يقولوا لأنفسهم: إننا لسنا من عشاق الحق. بل يقولون: نحن مع الحق، حتى لو كان في غير صالحنا، لأننا بشر وأصحاب إنصاف، وضمير، ونعترف بالحقيقة. ويسمون هذا إنسانية. والإنسانية توجب الوقوف مع المظلوم مثل هذا الكلام نسمعه حتى من الماديين والشيوعيين.















إن الضمير، أو الإنسانية هي قوة داخل الإنسان تعتمد على الحق والحقيقة أي إنك عندما ترى الحق مع غيرك تكون منصفاً، وتقول له: إن الحق بجانبك.















إن هذا الأمر يصدر من الناس الآن، كما كان يصدر عنهم قبل قرن من الزمان، كما كان يحصل قبل عشرة قرون، وقبل مئة قرن أيضاً.















فنحن الذين نلوم الظلمة في الدنيا، إنما نلوم الظلمة الحاليين، والذين كانوا قبل عشرة قرون، بل وقبل مئة قرن أيضاً. ونقول عن أحدهم: إنه كان إنساناً بلا ضمير، أي يتصرف خلاف مقتضيات ضميره الإنساني.















"جنكيز خان" مثلاً كان رجلاً سيئاً ـ أي إنه كان يتصرف خلاف ضميره الإنساني، وكان (سزار) رجلاً سيئاً ـ أي إنه كان يتصرف خلاف ضميره الإنساني.















إذن يتضح لنا أن كل الناس لهم ضمير إنساني واحد. وهل هناك غيره يحكم بالعدالة، دائماً، يحكم بوجوب إعطاء كل ذي حق حقه.















إنه ينظر إلى قتل الإنسان بلا ذنب، ويحكم عليه الآن، كما كان يحكم عليه قبل خمسة آلاف سنة مثلاً. إن كل بني البشر يحكمون بقبح قتل الأطفال على امتداد الزمان.















فإن كان الرأي أن الحسن والقبح مطلقاً أمر نسبي ومتغير، فإن ضمير الإنسان سيكون متغيراً بشكل مطلق أيضاً. أي أنه في كل زمان سيكون له حكماً خاصاً. وهذا ما لا يقول به أحد، حتى من الذين يتبنون هذا الرأي في فلسفتهم في المجال العلمي. وإن قالوا به نظرياً.















ففي الفلسفة الماركسية تعمم اصالة المادة في كل شيء في المجال الفلسفي والمجال الاجتماعي، حيث أنهم يقولون: إن العامل الاقتصادي هو سبب كل شيء، فهو الذي يصنع ضمير الإنسان حيث أنه تابع للعامل الاقتصادي، ولما كان هذا العامل متغيراً، فإن ضمير الإنسان يكون متغيراً أيضاً.















وبناء على هذا الرأي، لا يبق معنى للضمير أو الإنسانية، في حين أننا عندما نتفحص الإنسان، نجد أن الضمير حقيقة ثابتة فيه، وفي كل الأزمنة، وهذا ما بينه القرآن الكريم في مواضع متعددة. ففي سورة القيامة قال تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة: 1 ـ 2) أي إني لا أقسم، ولكن أعلم أن المقام مقام قسم هذا أولاً.















وثانياً: إنه يريد أن يقول: إن ما أريد قوله قطعي بحيث أني مستعد لأن أقسم عليه. وقد وضعت النفس اللوامة مرادفة ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب، يوم تشكيل محكمة العدل الإلهي لكل العالم. فكما أنه يوجد في يوم القيامة (وضع الميزان) ففي النفس الإنسانية أيضاً يوجد (وضع الميزان) و(السماء رفعها ووضع الميزان). (الرحمن: 7)















إنه يريد أن يقول: لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة أي لا أقسم بالضمير والوجدان، لأن الضمير في الإنسان يعمل كما يعمل الميزان يوم القيامة، كما يريد أن يقول: إننا أعطينا للإنسان هادياً ذاتياً لواماً، يعرف الحقيقة ويتابعها.















إنه سبحانه في مكان آخر يقول: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). (الشمس: 1 ـ 8)















لم يرد في القرآن مثل هذا القسم بحيث يتكرر عشر مرات، الواحدة بعد الأخرى. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الأمر الذي يريد أن يذكره القرآن، إنه يقسم بالشمس وضحاها، ويقسم بالنفس الإنسانية والإعتدال الذي فيها، حيث أن الله ألهمها بصورة فطرية الفجور والتقوى أي إنها بواسطة هذا الإلهام تعرف الحسن والقبح، ولا ضرورة لأن يعلم الإنسان هذه معلم بعد ذلك، لأن وجدان الإنسان وضميره كافٍ له.















هناك آية أخرى تقول: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة). (الأنبياء: 73)















فلم يقل سبحانه وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة أي أنه يقول: أوحينا إليهم، ولم يقل أمرناهم، ويقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). (المائدة: 2)















نقل أن رجلاً اسمه (وابصة) جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد نزول هذه الآية، وقال له: أريد أن أسألك ـ وقبل أن يسأل، قال له الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تريد أن تسأل عن معنى الإثم؟ قال: بلى يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).















قال: "هو ما نفر منه قلبك". فالله قد أعطى للإنسان قلباً محباً ألفاً للحسن ومستوحشاً من القبح. ثم ضرب الرسول بأصبعيه الكريمتين على صدره وقال له: "استفت قلبك يا وابصة".















فكما يسأل المجتهد باعتباره مرجعاً للتقليد يسأل القلب، فالإنسان يمكنه أن يطلب التقوى من ضميره. وقد نظم (مثنوي) الحديث السابق شعراً، فقال:















(كفت پيغمبر كه استفتوا القلوب).















كما توجد نصوص إسلامية أخرى تقرر إصالة الضمير، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: "الصدق طمأنينة والكذب ريبة" أي إن الصدق يوجد طمأنينة في القلب، بينما يوجد الكذب الشك، حيث توجد علاقة خاصة. فالقلب يقبل الكلام الصادق بسرعة، بينما يقبل الكذب بتردد ـ رغم عدم وجود قرينة على أنه كذب، وهذا ما نظمه مولوي شعراً حيث يقول:















حديث راست آرام دل است *** واستيها دانه دام دل است















إن الأشعار السالفة الذكر ذات قيمة عالية، فالشعر الفارسي مليء بالحكمة العميقة، والقيم العالية. فإنك لا تجد في أدبيات الدنيا قبل ست أو سبع قرون رجلاً قال جملة طاهرة كهذه الجمل، ولكن من أين لهم هذا الأدب؟ إنه من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأدبنا مليء بمثل هذه الأشعار، ذات الحكمة الإسلامية، ولكنه يسمى أدباً فارسياً، وهو ذو قيمة راقية.















فالعظماء مثل سعدي وحافظ، ومولوي وسنائي... الخ الذين ملؤا الدنيا حكمة، كانت عندهم قابلية، لأن يعشقوا الإسلام، وقد عشقوه وأخذوا منه وصاغوه بقالب فارسي جميل.















كما يوجد هناك حديث ورد في كتب الحديث، وقد ذكره الشيخ الأنصاري في رسائله، ويبدو أنه حديث نبوي. قال: "إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً" أي إن الحق ليس كالباطل، بل له حقيقة خاصة، وله باطن معين، وإن كل حرف صدق نور، ولكنه نوع نور يكشفه القلب.















إذن، فالضمير له حقيقة في وجود الإنسان، وإن وجوده واقعي، فهل يبقى القول بأنه متغير صحيح؟ أم لا؟















هناك توجد مسألتان لابد من تناولهما:















نحن لا نريد أن نبحث في كون الضمير يتغير في الجملة، لأنه لاشك في تغيره، ولكن ما نريد بحثه هو ما المقصود بالتغيير هنا؟ هل أنه يتغير هو بحد ذاته؟ أم أن تغيره مثل تغير أي قوة أخرى. فقد يكون فاسداً، لا يؤدي عمله بصورة صحيحة، حاله حال كل الأجهزة الأخرى، حيث أن كل جهاز يعكس أثره إن كان سالماً أو إذا كان مريضاً، فإنه لن يؤدي عمله بصورة جيدة.















فالسيارة ـ مثلاً ـ عندما يحصل بها عطل معين، فإنها لن تؤدي عملها بصورة صحيحة. والعين كذلك، فهي في الأصل مبصرة، ولكن قد يطرأ لها طارئ، فلا تعد تبصر.















الإنسان قد يمرض أحياناً وتصغر عيناه، فيرى الدنيا مصغرة. ولكن هذا لا يكون دليلاً على أن العين غير ثابتة في رؤيتها أي منحرفة، لأنها في حالة الإنحراف ترى بشكل معروج. أي ترى الشيء الواحد إثنان أو أنها ترى كل الأشياء سوداء.















هناك فرق كبير إذن بين هذا الكلام والكلام الأول الذي يقول: إن الضمائر أساساً متغيرة، بينما لا يقول القرآن بذلك، بل يقول بثباتها، ولكنها قد تمرض وفي هذه الحالة، فإنها لن تؤدي عملها بصورة صحيحة.















وهنا يبدو أن الفرق كبير جداً، كالفرق بين السماء والأرض. والآية التي قرأتها في بداية حديثي تبين هذا الأمر (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً).















فالقرآن يقبل فكرة أن الإنسان قد يرى عمله القبيح حسناً، ولكن هذا لا يعني أن الضمير ذات متغيرة، بل إنه ـ أي القرآن ـ يريد أن يقول: إن الضمير مثل كل الأشياء الأخرى في حالة السلامة، يعمل بصورة صحيحة أما في حالة المرض، فإنه لا يعمل بصورة سليمة.















ينقل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث، قد سمعتموه مراراً، وهو أن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما ورد إلى الكعبة المشرفة، ووضع يديه الشريفتين على الباب بدأ يحدث الناس عن المستقبل، وما سيؤول إليه أمر الأمم إلى أن وصل إلى قوله ـ وهو يخاطب الأمة ـ "كيف بكم إذا... ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم وشر من ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً". [ الوسائل: ج11 ص369 باب من أبواب الأمر والنهي ح12 ].















أي إن الضمائر تفسد إلى الحد الذي ترى فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً. وبعبارة أخرى: إن الضمائر تمسخ، والفطرة تمسخ، وقد عبر لنا عن هذا المسخ بعبارات مختلفة، أحدها ـ هو ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر هو ما يتعلق بالقلب، ففي الحديث "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإن أذنب ذنباً خرج من النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض ولم يرجع صاحبه إلى خير أبداً. وهو قوله ـ عز وجل ـ: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). [ أصول الكافي: ج2 ص273 ].















وفي حديث آخر "إن القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير، وهو قلب كافر. وقلب فيه نكتة سوداء، والخير والشر فيه، يعتلجان، فأيهما كانت منه غلبة عليه. وقلب مفتوح فيه مصابيح يزهر لا يطفئ نوره إلى يوم القيامة، وهو قلب مؤمن". [ أصول الكافي: ج2/ 423].















إذن من وجهة نظرنا: إن الضمائر تتغير، ولكن بمعنى أنها متغيرة لا ثبات لها، بل بمعنى أن الضمير ككل القوى الروحية والجسمية الأخرى للإنسان تكون له حالة سلامة وحال انحراف، ففي حالة الإنحراف لا يقوم لا يقوم بعمله بصورة صحيحة.















وأما المسألة الأخرى، فهي: إن الأمور التي تعتبر في نظرنا حسنة على قسمين:















بعضها حسنة بذاتها. والبعض الآخر حسنة باعتبارها وسيلة، وكذلك الأمور القبيحة بعضها قبيحة بالذات، وبعضها قبيحة باعتبارها مقدمة للشيء القبيح، فنحن نقول عن الشيء الحسن أو القبيح حسناً أو قبيحاً باعتباره مقدمة لشيء حسن أو قبيح.















إن الأمور التي تختلف حولها أفكار الناس، وتتغير بتغير الزمان أو المكان ليست هي نفس الأشياء الحسنة أو القبيحة بل إنها مقدمة القبيح أو الحسن.















فقد يكون رأى الناس في الأمر الفلاني أنه وسيلة جيد للأمر الفلاني الحسن. وقد يتغير رأى الناس هذا في زمن آخر، فيرون أن هذه الوسيلة لم تعد حسنة، بل هي قبيحة. في حين أن رأي الناس لم يتغير في نفس الشيء الحسن أو القبيح طبعاً.















نعم قد يشتبه الناس في رأيهم، ولكن هذا شيء، وتغيير الضمير شيء آخر.















فلنتأمل هذا المثال الذي يذكره أولئك أنفسهم، إنهم يقولون: إن الحجاب عند بعض الناس حسن والسفور قبيح، بينما عند البعض الآخر يعتبر السفور حسن، والحجاب قبيح. إذن فهذا الحسن والقبح ليس بالأمر الثابت.















وفي جواب هؤلاء نقول: إن المسألة التي ينبغي أن تطرح ليست مسألة الحجاب وعدمه، بل إن ما ينبغي أن تطرح هو موضوع العفة الذي هو أمر فطري عند الإنسان ـ أي إن الله سبحانه خلق الإنسان ـ والمرأة بشكل خاص ـ بشكل محترم فيه حق العائلة. ففي ضمير كل امرأة دافع لأن لا تخون زوجها، كما أنه في ضمير كل رجل دافع، لأن لا يمارس الجناية مع امرأة أخرى.















وأنا أكرر دائماً القول والدعوة لأن لا يخن كل من الرجل والمرأة، أحدهما الآخر، على إمرأة أو رجل آخر، لأن الخيانة سيكون لها مردود سلبي على النسل.















إن الرجل له حساب خاص، والمرأة لها حساب خاص.















المرأة سواء كان نسلها عن طريق مشروع أم لا، فهو نسلها. وهذا أمر محرز من قبلها، بأن هذا الطفل طفلها، بينما الرجل أعطي في متن الخلقة حالة غيرة تدفعه لأن يراقب زوجته، لأن يكون مطمئناً بأن ما تلده زوجته إنما هو نسله حقاً.















فالعفة أمر في ضمير كل رجل وأمرأة. والمسائل الأخرى تعتبر مقدمة ووسيلة لها، فالذي يقول بأن الحجاب حسن. هل إنه يعني بأن الحجاب حسن بذاته بغض النظر عن العفة؟ وأن المرأة المحجبة هي جيدة حتى لو أنها تخلت عن عفتها بشكل كبير مع الحجاب؟ أم أنه حينما يقال بأن الحجاب حسن من جهة كونه مقدمة وحارساً وحافظاً للعفة.















فلو أنك سألت من يقول بأن الحجاب قبيح. هل إن العفة أمر قبيح أيضاً؟ سيقول: لا. حتى إن أفسد نساء الدنيا تعتقد بأن عدم العفة قبح، غاية ما في الأمر إنك عندما تسألها إذن لماذا تفعلين هذا العمل؟ ستقول: إن الآخرين ـ أيضاً ـ يمارسون ما أمارسه أنا. بينما لا ينظرون إلى أعمالهم، وينظرون إلى عملي.















لماذا لم يستطع الشيوعيون أن يتقدموا أكثر بمشاعة الجنس ويستمروا بهذا المشروع بنفس الروال الذي بدؤوه فيه؟















إنهم عندما رأوا أن عملهم هذا هو ضد فطرة ووجدان وضمير الإنسان.















توقفوا عنه من سنة 1936م، وقالوا بمشاعية المال فقط.















وإن المرأة والعرض هي أمور يجب أن تبقى محفوظة.















مثال آخر، قد يقال: كان الناس في فترة معينة يوصون بالقناعة ويرونها أمراً حسناً أما الآن، فإنهم لا يوصون لها، ويقولون بقبحها ـ رغم أنها كانت في زمن ما حسنة؟















الجواب هو: ما المقصود بالقناعة؟ ما هو معناها في الأصل؟















إن القناعة مسألة تقابل الطمع "عز من قنع. وذل من طمع". [ غرر الحكم: ج2 ص528 ].















إن هذا العمل كان بالأمس حسن، وهو اليوم حسن أيضاً. إن هؤلاء يتوهمون أن القدماء حينما كانوا يوصون بالقناعة، إنما يعنون بها أن يكتفي الإنسان بأخذ القليل من الحلال، ورمي الباقي في البحر؟ في حين أن الأمر ليس كذلك، بل هي مقابلة للطمع، فيقال للإنسان: اكتف بما عندك، ولا تمدن عينيك إلى ما متع به غيرك من مال، وانشغل بمالك.















وهذا أمر حيكم به ضمير الإنسانية في كل الأزمنة، حيث لا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه.















أو أن يقال: إن ترك الدنيا كان في الماضي أمراً حسناً. أما الآن فقد أصبح أمراً قبيحاً؟















والجواب: إن ترك الدنيا الذي هو اليوم قبيح كان بالأمس قبيح أيضاً، وإن ترك الدنيا الذي كان بالأمس حسن، فهو حسن اليوم أيضاً.















فإن كان المقصود بترك الدنيا هو الكسل أو السكن في المغارات والكهوف والابتعاد عن الناس، فهو كما كان قبيحاً بالأمس يعتبر اليوم قبيحاً أيضاً.















فالقرآن يقول: (ورهبانية ابتدعوها) (الحديد: 27) فالرهبانية بدعة ما علمها الله للناس، فهي لم تكن في زمن عيسى (عليه السلام) إنما ابتدعوها من عند أنفسهم.















أما إن كان المقصود بترك الدنيا الكف عن عبادتها، فهو أمر كان في السابق حسن، وهو اليوم حسن أيضاً.















إن كل الأمور التي يقال: إن الناس قد اختلفت بها باختلاف العصر إنما هي ليست من الأمور الحسنة أو القبيحة ذاتاً، إنما هو وسائل للحسن والقبح. فرأي الناس يتبدل بالنسبة لوسائل القبح والحسن، بينما لا يتبدل بالنسبة لنفس الحسن والقبح.















المثال الآخر الذي يذكره هؤلاء يتعلق بتعدد الزوجات، فيقولون: إن تعدد الزوجات كان فيما مضى أمراً حسناً بينما هو الآن أمر قبيح.

/ 1