بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
فهرس المطالب الجزء الثاني المقصد السادس: في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا حجية القطع استحقاق العقوبة و المثوبة علي وفق القطع عدم استحقاق العقوبة على مخالفة القطع ما يرد علي بعث الرسل و غيره أقسام القطع و أحكامها الموافقة الالتزامية اتحاد القطع: قطع القطّاع القطع الإجمالي إمكان التعبد بالأمارات حجيّة الظواهر حجيّة العمل بالكتاب حجيّة كلام اللغويّين حجيّة الإجماع المنقول حجيّة الشّهرة
الصفحة 6 حجيّة الخبر الواحد الآيات التي استدلّ بها الإجماع على حجيّة الخبر الواحد الأخبار التي دلّت على اعتبار اخبار الآحاد الوجوه العقلية الدالة على حجيّة الخبر الواحد في الوجوه الدالة على حجيّة الظن مبحث انسداد باب العلم في مقدمات دليل الانسداد في نتيجة مقدمات دليل الانسداد المقصد السابع: في الأصول العملية في الأصول العملية فصل: لو شك في وجوب شيء أو حرمته و لم تنهض عليه حجة في الشبهة البدوية في الأدلة الدالة على أصالة البراءة في الشبهة البدوية فيما استدلّ به على الاحتياط في الشبهة البدوية فصل: لو شك في المكلّف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم في دوران الأمر بين المتباينين دوران الأمرين الأقل و الأكثر الارتباطيين خاتمة: في شرائط الأصول قاعدة لا ضرر و لا ضرار حجيّة الاستصحاب الاستدلال على حجيّة الاستصحاب بالأخبار بيان الفرق بين الحكم التكليفي و الحكم الوضعي تنبيهات الاستصحاب لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة خاتمة: بيان النسبة بين الاستصحاب و سائر الأصول العملية
الصفحة 7 تعارض الاستصحابين المقصد الثامن: مبحث التعادل و الترجيح مبحث التعادل و التراجيح تعارض الأدلة و الأمارات في بيان التعارض بين الأمارات
الصفحة 9
المقصد السّادس:
في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا
الصفحة 10
في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ولي التوفيق و هو حسبي و نعم المعين، و صلى اللّه على محمد
البشير النذير و على آله و أصحابه المنتجبين.
قوله «قده»: و إن كان خارجا من مسائل الفن:
و ذلك لما عرفت من ان مسائل الفن هي الباحثة عمّا تقع نتيجته في طريق الاستنباط و تحصيل العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها، فلا
يكون البحث عن نفس هذا العلم منها، و امّا وجه شباهته بمسائل الكلام، فهو: ان البحث واقع هنا عن حسن العقاب و الثواب و قبحهما
بالموافقة و المخالفة للقطع، و هذا يشبه مباحث الكلام المتضمنة للبحث عن فعل المبدأ و تمييز ما يليق صدوره منه من الأفعال عمّا لا
يليق. نعم، الموضوع في هذا المبحث حسن صدور العقاب و عدمه عن مطلق العقلاء لا خصوص. المبدأ جلّ و علا، و لذا كان شبيها بمباحث
الكلام لا نفسها، و اما مناسبته مع المقام، فلحصول الاستقصاء في مسائل الحجية، التي يتضمنها بحث حجية الظن.
قوله: فاعلم انّ البالغ الّذي وضع عليه القلم:
يعني من شمله التكليف الإنشائي و وضع عليه قلم الإنشاء، و حصل للمولى الإذعان و التصديق بصلاح فعله، و إن كان مزاحما بما يمنعه
عن الوصول إلى درجة الفعلية و الإرادة و الكراهة، و هذا تفسير
الصفحة 12
للفظ المكلّف الواقع في كلام شيخنا المرتضى «قده» دفعا للاعتراض الوارد عليه، و هو: انّ التكليف يكون في رتبة متأخّرة عن الالتفات،
فكيف يؤخذ عنوان المكلف في رتبة سابقة عليه و يجعل مقسما. و يقال: فاعلم انّ المكلّف إذا التفت إلى حكم... إلخ.
و حاصل الدفع: انّ الاعتراض متّجه ان كان المراد من المكلف من توجه إليه التكليف الفعلي، كما هو ظاهر لفظه، لكن المراد منه هو
الداخل تحت التكليف الإنشائيّ بقرينة التقييد بقوله: إذا التفت. ثم انّ التقييد بالبلوغ لم أعرف وجهه، فان الحكم الملتفت إليه ان عمّ
أحكام الغير تحقق هذا التقسيم في شأن الصبي المميّز إذا التفت إلى حكم البالغين، و ان اختصّ بحكم نفس الملتفت لم يشمل الالتفات إلى
أحكام المقلّدين. و دعوى: انّ المقسم الالتفات الّذي يكون له أثر، امّا في حقّ نفسه أو في شأن الغير، و التفات غير البالغ لا أثر له، و لذا
قيد الالتفات بالبالغ. مدفوعة: بأنّ اللازم على ذلك التقييد بسائر شرائط جواز التقليد، لأنّ التفات الفاسق إلى أحكام الغير و قطعه و
ظنّه و شكّه لا أثر له.
قوله: إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري... إلخ:
الحصر الثنائي بين الحكم الواقعي و الظاهري غير تام على مسلكه، من: أنّ مؤدّى أدلّة اعتبار الأمارات جعل الحجية دون جعل الحكم
الظاهري. و الصحيح على هذا المسلك، أن يقال: إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري أو حجة شرعية على أحدهما، فإمّا أن يحصل له
القطع أو لا، و على الثاني، المرجع هو العقل، و المتبع هو حجته. ثم انّ المصنّف العلامة «قده» غفل عمّا هو مقصد شيخه من تثليث الأقسام،
فانّه أراد بذلك بيان موضوع كل رسالة رسالة من الرسائل التي اشتمل عليها كتابه، فنبّه بحصر الأقسام في ثلاثة: على موضوع الرسالة
الأولى، و هو القطع، و موضوع الرسالة الثانية: و هو الظنّ، و موضوع الرسالة الثالثة و الرابعة، و هو الشكّ بأقسامه الأربعة، التي بيّنها
في كتابه، و هي موضوع رسالة الاستصحاب، و الأقسام الثلاثة لموضوع رسالة البراءة الباحثة عن أصول ثلاثة، و إن كان عنوانها
أصالة البراءة.
الصفحة 13
و من المعلوم انّ هذا الغرض يفوت بتلخيص العبارة و ذكر الأقسام الثلاثة في ضمن حصر ثنائي، و ليس كلّ اختصار و تلخيص مرغوب
فيه، بل ما لم يخل بالغرض و المقصود.
قوله: لعدم اختصاص أحكامه:
كما لا تختصّ أحكامه بما إذا كان متعلّقا بالحكم، بل تعم ما إذا تعلّق بالحجّة، بل لو عممنا الحجّة للحجّة العقلية انحصرت الأقسام في
واحد، فانّ الشخص إذا التفت إلى القانون الّذي ينبغي أن يعمل عليه سواء كان ذلك حكما واقعيا أو ظاهريا أم حجّة شرعية أو عقلية
حصل له القطع به البتة من غير ثان.
قوله: و إن أبيت إلاّ عن ذلك فالأولى أن يقال:
هذا شروع في بيان إشكال آخر أورده على عبارة شيخه، حيث جعل عنوان الأقسام الثلاثة: القطع و الشك و الظنّ، جاعلا الثاني
موضوعا للأصول، و الثالث موضوعا للأمارات، مع انّه ربّما تقوم في حال الشك أمارة معتبرة و التكليف يقضي بالأخذ بها دون الأصول،
كما ربّما يكون التّكليف في مورد الظنّ هو الرجوع إلى الأصول، لعدم الدليل على اعتباره، فيحصل التداخل بين القسمين في حكمهما،
فلذلك عدل إلى التقسيم الثلاثي الّذي بيّنه في المتن.
حجّيّة القطع
قوله: لا شبهة في وجوب العمل:
ليس وجوب العمل على وفق القطع من مدركات العقل، كما في حسن الإحسان و قبح الظلم، بل هو عبارة عن تأثير القطع في الحركة
الخارجية نحو المقطوع حسنه، أو في الفرار عن المقطوع ضرره و قبحه، و هذا التأثير خصوصية تكوينية و قوة عقلية عمالة، فإذا أدرك
العقل بقوته العلامة حسن فعل، كإطاعة المولى مثلا، ثم قطع بصغرى هذا الكبرى، المدركة أثر قطعه ذلك في الحركة نحو المقطوع
تأثيرا اقتضائيا ما لم يمنع عنه سائر القوى، كالقوة الشهوية
الصفحة 14
و الغضبية، فإنّ لكل من القوى هاتين الجهتين: جهة الإدراك وجهة التأثير في الحركة نحو ما أدرك ملائمته، و لو لا ذلك لم يكن مجرد
إدراك العقل ملائمة شيء، و إدراك سائر القوى ملائمة أشياء، مؤثّرا في تحريك الشخص نحو ما أدرك و يبقى واقفا لا يتحرك،
فالحركة عقلية كانت أم شهوية أم غضبيّة لا زالت نتيجة قوتين:
قوة الإدراك و قوة التحريك، فلو كان وجوب العمل على وفق القطع من قوة الإدراك لآل الأمر إلى التسلسل، فإن القطع بحكم العقل
بوجوب العمل بالقطع أيضا، مصداق للقطع، يحكم العقل بوجوب العمل على وفقه و هلمّ جرّا، و لكان هذا الحكم العقلي عين حكم العقل
بوجوب الإطاعة لا حكما آخر، و لما أثر في الحركة الخارجية.
قوله: موجبا لتنجز التكليف الفعلي:
يعني كونه موجبا لحكم العقل بحسن العقاب على مخالفته، و الثواب على موافقته فيما أصاب بناء على انّ استحقاق الثواب و العقاب عقلي،
لا بالوعد و الوعيد. و أيضا كونه موجبا لحكم العقل بقبح العقاب بموافقته فيما أخطأ. و امّا حكم العقل باستحقاق العقل بمخالفته فيما
أخطأ و كذلك الثواب بموافقته في هذا الحال، فهو من محل الإشكال، الّذي سيأتي البحث عنه مستقلا بعنوان التجري و الانقياد. ثم
الظاهر: انّ أعذار العقل في صورة الخطأ ليس بعنوان القطع بما هو قطع، بل بعنوان الجهل القصوري العام، فانّ من مصاديق الجاهل
القاصر، هو القاطع بخلاف الواقع، فعدّ ذلك من أحكام القطع، ليس على ما ينبغي.
قوله: و لا يخفى انّ ذلك لا يكون بجعل جاعل:
يعني انه خصوصيّة تكوينية لازمة لذات القطع، و ما هذا شأنه لا يكون مجعولا بسيطا، كما هو واضح و لا تأليفيا تكوينيّا و لا تشريعيّا لأنّ
جعله يرجع إلى تحصيل الحاصل بعد فرض لزومه للذات تكوينا، المستلزم لمجعوليته بجعلها، فهو حاصل مجعول بجعل محله بلا انتظار
جعل آخر، و معه لا يعقل أن يكون مجعولا بجعل آخر، مع ان جعله مستلزم للتسلسل، لتعلق القطع بهذا الجعل المحتاج أيضا إلى الجعل، و
هلمّ جرّا. ثم انّ ما ذكره من المجعولية
الصفحة 15
بجعل القطع لا بجعل آخر بالنسبة إلى الحكم الأول، أعني وجوب متابعة القطع صحيح، بناء على ما قدّمناه من معنى وجوب المتابعة، و ان
ذلك بمعنى التأثير التكويني في الحركة. و الظاهر انّه المراد من اسم الإشارة بقرينة ما سيذكره، من لزوم اجتماع الضدين في صورة
المنع. و امّا بالنسبة إلى حكم العقل بالمنجزية و المعذرية، أعني حكمه بحسن العقاب و الثواب و قبحه، فلا معنى محصل له، فان حكم
العقل بهما قائم بالنفس، و ليس من الخصوصيات القائمة بالقطع ليكون مجعولا بجعله، فلا بدّ انّ يراد من ذلك مجعولية الخصوصية
القائمة بالقطع، الموجبة لحكم العقل لا نفس حكم العقل.
قوله: مع انّه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا:
يعني وجوب الواقع المقطوع وجوبه و حرمة العمل بهذا القطع، فيكون الواقع بذاته واجبا، و بما انه مقطوع الوجوب حراما، و يكون كما
إذا قيل أكرم زيدا و لا تكرم زيدا العالم. و لا فرق في ذلك بين أن يكون القطع جزء الموضوع و ان يكون تمامه، فان اجتماع الضدين
في نظر القاطع لا محالة لازم. و يحتمل أن يراد من اجتماع الضدين وجوب العمل بالقطع المجعول بجعل ذاته تكوينا، و المنع عن العمل
به تشريعا. و من ذلك يظهر لزوم اجتماع المثلين اعتقادا مطلقا و حقيقة في صورة الإصابة من جعل وجوب المتابعة للقطع، فيكون
المتحصل من ذلك و مما ذكرناه أوّلا براهين ثلاثة في جانب عدم معقولية الجعل برهان تحصيل الحاصل، و برهان التسلسل، و برهان
اجتماع المثلين، و في جانب المنع عن العمل برهان واحد، و هو برهان اجتماع الضدين و لو اعتقادا، ثم انّ إطلاق الحجّة على القطع في
أحكامه الثلاثة، أعني وجوب المتابعة و المنجزية و المعذرية، جار على اصطلاح أهل الميزان، لأنّ القطع موضوع للأحكام الثلاثة العقلية،
فصح جعله وسطا لإثباتها، فيقال: هذا ما قطع بوجوبه، و كل ما قطع بوجوبه يجب الإتيان به عقلا، و يصحّ العقاب على مخالفته مع
الموافقة، و يقبح العقاب على مخالفته مع الموافقة.
قوله: و إن كان ربّما يوجب موافقته استحقاق المثوبة:
و ذلك فيما إذا كان المانع
الصفحة 16
عن الفعلية من قبيل مصلحة التسهيل على العباد و عدم إيقاعهم في المشاق، فان هذا يحصل بعدم توجيه تكليف إلزامي إليهم، مع كون
الفعل تام المصلحة غير مزاحمة مصلحته بمفسدة.
امّا إذا كان المانع عن الفعلية مفسدة اشتمل عليها الفعل فلا استحقاق، بل أقول: انّ الثواب و العقاب من خواص الإطاعة و العصيان، و امّا
الإتيان بالمصالح و المفاسد العارية عن الطلب، فلا يترتب عليه إلاّ المدح و اللوم من العقلاء دون الثواب و العقاب من المولى.
نعم، فيما كان المانع من فعلية التكليف مصلحة التسهيل، بأن لم تكن مصلحة الفعل بمثابة تقوى على مفسدة إيقاع الغير في المشقة
بالتكليف و الإلزام، استحق الثواب. و لكن ذلك ليس لأجل مجرد الإتيان بما فيه المصلحة بل الطلب الفعلي غير الإلزاميّ موجود على
طبقها، فان المانع لم يمنع إلاّ عن الإلزام. و امّا أصل الطلب فالمقتضي له غير مزاحم بمانع، فلا بدّ أن يكون فعليا.
و على ما ذكرنا يقع الإشكال في استحقاق الثواب بالاحتياط في مجاري البراءة و الأصول النافية للتكليف، إلاّ أن يلتزم بالاستحباب
المولوي في أوامر الاحتياط، أو يلتزم بأن ذلك ثواب الانقياد، و لذا يستحقه، خالف الواقع أو اصابه.
قوله: نعم، في كونه بهذه المرتبة موردا:
لا مناسبة معتدا بها لهذه العبارة مع المقام.
استحقاق العقوبة و المثوبة على وفق القطع
قوله: الأمر الثاني: قد عرفت أنّه لا شبهة:
انّ العقاب و الثواب في الإطاعة و المعصية الحقيقتين، امّا أن يترتّبا على الخصوصيات الكامنة في النّفس، من الشقاوة و السعادة
الذاتيتين، أو يترتّبا على ما ينشأ من القصد: و هي الحركة الخارجية المعنونة بعنوان الإطاعة تارة، و بعنوان المعصية أخرى لكن الأول
باطل بالقطع، و الثاني مختار المصنف «قده»، و الثالث مختار شيخنا المرتضى «قده».
و تحقيق هذا الكلام أجنبي عن مسألة التجري، و إن أدرجه المصنف «قده» فيها
الصفحة 17
و مزجه بها مزجا، تحتاج فيه تصفية كل من الكلامين عن الآخر إلى إمعان النّظر و البحث عن مسألة التجري وظيفة من يقول: بأنّ العقاب
أو الثواب في المعصية و الإطاعة الحقيقيّتين على الفعل. و امّا من يقول: بأنّهما على القصد أو على تلك الخصوصية الذاتيّة المستتبعة
للقصد، ففي راحة عن هذا البحث. و أيضا نزاع القائلين بترتبهما على الفعل نزاع صغروي، فانّهم مع قصدهم الثواب و العقاب على
الإطاعة و المعصية الحقيقيّتين، يبحثون عن ترتبهما على التجري و الانقياد بحثا صغرويا، و هو:
انّ القطع بحرمة شيء ليس بحرام، أو وجوب شيء ليس بواجب، هل يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من الحسن و القبح، بتأثير منه في
ذلك، و كذلك يوجب انقلاب الّذي كان عليه، فيصير الفعل المباح بالقطع بحرمته قبيحا و حراما، و يكون إتيانه حينئذ معصية، فيستحق
عقاب العصاة. و كذلك جانب القطع بالوجوب، أو لا يوجب الانقلاب، و ليس القطع من العناوين المؤثرة في الحسن و القبح و الإيجاب و
التحريم.
و الحاصل: ان النزاع واقع في انه هل من العناوين القبيحة فعل مقطوع القبح، و بالملازمة يثبت تحريمه شرعا، ثم يترتّب عليه استحقاق
العقاب؟ و الإنصاف: انّ سلب كونه من العناوين القبيحة ليس بذلك الوضوح، بل لا تبعد دعوى ذم العقلاء على إتيان ما يعتقد الشخص
قبحه، فلو أرسل العبد ماءً أو أجّج نارا أو ألقى حائطا، باعتقاد انّ ذلك يقع على مولاه و يهلكه، و كذا لو أرسل إليه سبعا أو ألقى نفسه من
شاهق، فانّه يذم في كل ذلك على فعله، فيكشف ذلك عن قبحه، و حيث انه لا قبح في ذاته، يكشف ذلك عن انّ القبح قد أتى إليه من قبل
وصف القطع بالقبح.
نعم، فيما إذا تجري بفعل واجب أو ترك حرام، لا يبعد من عدم استحقاق الذم و اللوم على الفعل، و إن كان ملوما من حيث الخبث
الفاعلي، أو يوازن بين جهات الواقع و جهات التجري، فيحكم بتأثير الأقوى منهما ملاكا، فيمكن على ذلك اتّصاف الفعل المتجري به بكل
من الأحكام الخمسة، كما ذهب إليه بعض الفحول.
الصفحة 18
ثم انّ المصنف «قده» قد استدلّ على عدم تحريم الفعل المتجري به، بأنّ الفعل بعنوان مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، و مع
ذلك كيف يكون متعلّقا للحكم، و محكوما بالوجوب و التحريم؟ و توضيح ما أفاده هو: انّ الفعل المتجري به كشرب الماء المقطوع
بحرمته أو خمريته، له عنوانان واقعيان، و هو كونه شرب ماء و كونه مقطوع الحرمة، أو شرب مقطوع الخمرية، و عنوان واحد خيالي،
و هو كونه حراما أو كونه شرب خمر، و قد تعلّق القصد به بعنوانه الخيالي، و المفروض انه ليس له واقع دون عنوانه الواقعي، أعني كونه
شرب ماء للقطع بأنّه ليس له واقع، أو عنوان كونه مقطوع الحرمة، لعدم التفات القاطع إليه، و إنّما هو متوجه إلى ذات ما قطع به دون
عنوان المقطوعيّة الآتي من قبل قطعه، فانّه غير ملتفت إليه، فما تعلق القصد به ليس له مطابق في الخارج، و ما هو المتحقق في الخارج، لم
يتعلق القصد به.
و امّا دعوى: انّ الفعل بعنوان الشرب لجنس المائع المشترك بين عنوانه الواقعي، الّذي هو شرب الماء، و عنوانه الاعتقادي المقصود،
الّذي هو شرب الخمر، مقصود لا محالة، و ان لم يكن مقصودا بعنوان شرب الماء.
فهي محجوجة: بأنّ الاختيار إذا تعلق بالجنس تحت فصل من فصوله لم يكن الجنس المطلق متعلقا للاختيار، بل كان المتعلق للاختيار
خصوص الحصة الموجودة في ضمن ذلك الفصل، و المفروض انها ليست الواقعية، فليس شيء من مراتب الأجناس المتصاعدة، صادرة
بالاختيار.
و الجواب عن هذا الاستدلال:
امّا أوّلا: فبأنه إذا قصد الفعل بعنوان حرام، و كان في الواقع معنونا بعنوان آخر حرام، كفى ذلك في كون الفعل الحرام اختياريا و في
استحقاق العقاب عليه، فلو قطع الشخص بخمرية ماء فشربه ثم ظهر انه نجس، أو اعتقد انه المصداق الكذائي للخمر فظهر انّه المصداق
الآخر لها، عوقب على شربه. و أوضح من ذلك: ما لو اعتقد انّ فعلا بمرتبة خاصة من تأكّد الحرمة فارتكبه، ثم ظهر انه بمرتبة أخرى،
فان
الصفحة 19
الفعل في الجميع بعنوان انه حرام اختياري. و السّرّ في ذلك: انّ ذات الحركة الصادرة من الشخص في صورة اشتباه العنوان اختيارية و
ليست قسريّة، فان الضرورة شاهدة بأن الانقباض و الانبساط الحاصلين حينئذ، حاصلان عن مبدأ الاختيار، و العناوين المعتقدة من
قبيل دواعي الإرادة لا من قبيل قيود المراد.
نعم، لا يكفي مجرد هذا الاختيار في ترتب التحسين و التقبيح، المترتبين عقلا على العنوان، بل يحتاج إلى قصد ذلك العنوان الحسن و
الآخر القبيح، و لكن يكفي قصد جامع كل من العنوانين، فلو قصد عنوانا حسنا فظهر انّه عنوان حسن آخر، أو قصد عنوانا قبيحا فظهر
انّه عنوان قبيح آخر، ترتب على الأول التحسين و على الثاني التقبيح.
و امّا ثانيا: فالذهول عن القطع و عن عنوان المقطوعية في الغالب، ممنوع، بل أول ما يلتفت الإنسان إليه هو علمه، و انه يعلم ما يعلم،
فيختار ما يعلم انّه أكل كذا أو شرب كذا و الذهاب إلى كذا إلى غير ذلك، و يكفي في التقبيح الإتيان بالفعل مع العلم بانطباق عنوان
قبيح عليه، و لا يلزم أن يكون ذلك العنوان هو المحرك للعمل، فلو علم بأنّ فعله هذا قتل أو ضرب كان قبيحا و يذم على فعله، و إن لم
يقصده بعنوان انّه قتل، بل كان له في ذلك غرض آخر.
قوله: و إن قلنا: بأنّه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة:
سينتهي كلام المصنف «قده» إلى ما يستلزم ترتب الثواب و العقاب على الخصوصيات الذاتيّة، الكامنة في النّفس، حيث علل تكليف العصاة
بأنه لأجل إقامة الحجة، و مرجع ذلك إلى حصول سبب العقاب، لو لا التكليف، و إنّما التكليف لأجل أن لإيجابه العبد مولاه، بان ذاتي ذات
طيبة، لو كنت كلفتني لرأيتني ممتثلا، و كي لا تكون له على اللّه الحجة.
قوله: ضرورة انّ القطع بالحسن:
بل لا يبعد أن يكون القطع من الوجوه و الاعتبارات المغيرة للفعل، فيكون من جملة الأفعال القبيحة فعل ما يعتقد الشخص قبيحة، امّا
مطلقا أو بشرط أن لا يكون فيه حسن ملزم يصادم القبح الآتي من قبل اعتقاد القبح. و ما ادعاه المصنف «قده» من الضرورة، باطل. فان
ما ذكرناه لو
الصفحة 20
لم يكن ضروريا فلا أقل من غموض المسألة، و كونها محتاجة إلى النّظر و التأمّل.
قوله: لا يقصده إلاّ بما أنّه قطع انّه عليه:
إذا علم و التفت إلى انطباق عنوان قبيح على فعله، كفى ذلك في تحقق اختيار القبيح، و ان لم يقصده بما انّه قبيح. و دعوى الذهول عن
الانطباق المذكور، و هي الدعوى الآتية قد عرفت فسادها، بل قد عرفت انّ اعتقاد انطباق عنوان قبيح خطأ، يكفي في التقبيح بالعنوان
الواقعي القبيح.
عدم استحقاق العقوبة على مخالفة القطع
قوله: إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك:
لم أعرف موقعا لهذا الإشكال بعد التصريحات السابقة: بأنّ العقاب ليس على الفعل بل على القصد، كما أجاب به عن الإشكال. و الظاهر
انّ المصنف «قده» أراد بذكره ذلك التمهيد للإشكال الآتي، و فيه ما لا يخفى. و لقد كان حق الإشكال الآتي هو التقديم، و ذكره عند ذكر
العقاب على القصد، و قد خلط المصنف «قده» بين مسألة التجري و مسألة ما يكون عليه العقاب في المعاصي، فتارة تتكلم في هذه و
أخرى في تلك.
و الحق: انّ القصد بنفسه لا يترتب عليه العقاب في أحكام العقلاء، بل العقاب على فعلية مخالفة التكليف لا على مجرد قصد المخالفة، بحيث
لو دلّ دليل على ترتب العقاب على القصد، كشف ذلك عن تعلق النهي بالقصد، و كون القصد بنفسه مخالفة عملية للتكليف، كيف، و لو
كان القصد بنفسه موجبا لاستحقاق العقاب، لزم أن يستحق من قصد مخالفة التكليف، العقاب، و ان عدل عن قصده و أطاع، أو لم يتمكن
من المخالفة، مع وضوح بطلانه.
و دعوى: انّ الندم يسدّ مسدّ العقاب، مدفوعة: بأنا نفرض عدم حصول الندم عمّا مضى ليكون توبة، بل كان مجرد عدول عن القصد فيما
سيأتي، أو كان مجرد عدم الفعل، و لو بلا اختيار ثم انّ إشكال عدم اختيارية القصد يسري إلى الفعل، فلو لم يكن القصد اختياريا يصحّ
العقاب عليه، و لم يكن الفعل - أيضا - اختياريا،
الصفحة 21
لأنه صادر بذلك القصد غير الاختياري، و المعلول لأمر غير اختياري، غير اختياري. فليس إشكال العقاب على أمر غير اختياري مختصا
بالعقاب على القصد، إلاّ أن يقال: انّ الاختياري حيث ما يطلق، يراد منه ما كان صادرا عن مبدأ العلم بالصلاح و الخير، مقابل الاضطراري
الصادر لا عن هذا المبدأ، و هذا هو الّذي يترتب عليه الثواب و العقاب في حكم العقل، و هو حاصل في الفعل و غير حاصل في القصد، و إلاّ
لزم التسلسل، إلاّ أن يلتزم بأنّ اختيارية القصد بنحو آخر و بنفس ذاته لا بقصد آخر، كي يلزم التسلسل، و امّا ما ذكره المصنف «قده»،
من:
انّ بعض مبادئ الاختيار غالبا يكون بالاختيار، و ان لم يكن مبدأه الأول، أعني تصور الفعل، و كذا مبدأه الثاني، أعني الميل إليه
بالاختيار، و قد أوضح ذلك في حاشيته على الرسائل.
ففيه: مع انّ الغلبة لا تجدي لأنّ المفروض استحقاق العقاب دائما انّ إشكال التسلسل وارد عليه و لا يكاد يتخلص منه، فان ذلك المبدأ
الّذي يكون بالاختيار يحتاج إلى مقدمات الاختيار حيث كان بالاختيار، فننقل الكلام إلى مقدمات ذلك الاختيار، فان كانت بلا اختيار
كان الاختيار بلا اختيار، و إلاّ عاد هذا الكلام إلى ما لا نهاية له و تسلسل.
و امّا ما أجاب به أخيرا من الالتزام باستحقاق العقاب على القصد، و إن لم يكن بالاختيار، فتترتب على ما لا بالاختيار، أعني القصد
المنبعث عن الخصوصية الذاتيّة الكامنة في ذات العبد، حالة في العبد يعبر عنها بالبعد عن المولى، و يكون من آثارها العقاب، فالعقاب
أثر تلك الحالة، و هي أثر قصد المعصية، و قصد المعصية أثر خصوصية كامنة في ذات العبد، مثل انّ طينته من عليين أو من سجين،
فالذات تؤثر في حصول العقاب تأثير العلل التكوينيّة في معاليلها، و لا ينافي ذلك لحوق التوبة و الشفاعة و سائر موجبات الخلاص من
النار، فانّ الذات الموفقة للتوبة و التي تشملها الشفاعة ذات خيّرة و طينتها من عليين، و الذات الشريرة التي تعصي و تقود معصيتها
صاحبها إلى أن توصله إلى جهنم، لا تتوفق للتوبة و لا تصلح أن
الصفحة 22
تشملها العناية الإلهية و الشفاعة النبوية «و لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى».
هذه خلاصة ما رامه المصنف «قده»، و أنت خبير بأنّ سلوك هذا المنهج يفضي إلى أن يكون تكليف العصاة نقمة عليهم، قائدا لهم إلى
الدركات، كما ان تكليف المطيعين يكون رحمة لهم، موصلا لهم إلى الدرجات، فإنّ ظهور الخصوصيّات الكامنة بالقرب و البعد الفعليين
يكون بسبب التكليف، فيطيع طائفة المطيعين، فيستحقون بذلك الدرجات، و يكون تكليفهم لطفا لهم و موجبا لفعلية كمالاتهم، و يعصي
طائفة العصاة فيستحقون بها الدركات، و يكون تكليفهم قهرا عليهم، موجبا لفعلية نقائصهم الذاتيّة.
و الّذي يختلج بالبال: هو انّ التكليف الّذي هو هداية السبيل المترتب عليه كون المكلف «إمّا شاكرا و إمّا كفورا»، لطف من اللّه العزيز،
لأجل تكميل النفوس و إيصالها إلى كمالاتها الفعلية، من غير فرق بين العصاة و المطيعين، و حيث انّ الوصول إلى تلك الكمالات لا يكون
إلاّ بإتعاب النّفس و حملها على المشاق، بالإرادة و الاختيار، كما قال شاعر العجم: «نابرده رنج گنج ميسّر نميشود»، و المشقة المكملة
إحدى مشقتين: مشقة العمل بالتكليف في دار التكليف، و مشقة العقاب في دار الجزاء، فإذا اختار المكلف مشقة دار التكليف، كمل في دار
التكليف و استحقّ نعيم الجنان، بمجرد الرحلة من هذه الدنيا، و إذا اختار مشقة العذاب، احتاج إلى التكميل في الدار الآخرة بالعقاب، فإذا
عوقب التحق بأولئك الأوّلين، و قد اختار المولى اختيار المشقة الأولى، لكونها أهون بمراتب في جنب عذاب الآخرة.
لكن هذا المنهج لا ينجح عموما و لا يصحح الخلود في نار جهنم، و قد أنكر الخلود في العذاب بعض أهل المعقول مع الاعتراف بالخلود في
نار جهنّم، قائلا: بأنّ أهل جهنّم ينتهي شأنهم إلى الالتذاذ بنار جهنّم و الأنس بمؤلماتها. و أنت خبير: بأنّ كلّ ما يقال في أمثال هذه
المسائل التي لا سبيل إلى العلم بحقيقة الحال فيها، ان لم يكن كفرا، فهو فضول و رجم بالغيب و تخرّص، و المتبع في ذلك كلام أهل
الوحي، فكل
الصفحة 23
ما يصدر منهم نؤمن به و كل ما سوى ذلك نكفر به.
ما يرد على بعث الرسل و غيره
قوله: و يكون حجة على من ساءت سريرته:
أي يكون قاطعا سبيل الاعتراض عنهم، بمثل «لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك»، و أنت خبير: بأنّ التكليف لغرض العقاب من أقبح
ما يكون، و يظهر من هذه العبارة: أنّ تلك الخصوصية الذاتيّة هي المستتبعة للعقاب، و انّ الاستحقاق ثابت بلا توسط قصد المعصية، و انّ
التكليف لمجرد قطع اعتراضهم و مقتضى ما سبق منه أن يكون التكليف هو المحصّل لسبب الاستحقاق، و هو القصد إلى العصيان، و هو
أشد فسادا من هذا، لما عرفت من انّه مستلزم لأن يكون التكليف نقمة على العصاة، كما كان رحمة للمؤمنين الأبرار.
قوله: إذ للخصم أن يقول: بأن استحقاق:
مقصوده: انّ المصادف قطعه للواقع هو الّذي خالف و عصى عن عهد، و امّا غير المصادف فلم يتحقق منه اختيار المعصية الواقعية.
نعم، المتحقق منه اختيار ما تخيله معصية، فظهر عدمها، فهو غير عاص بلا اختيار، و غير العاصي بلا اختيار لا يستحق العقاب كغير
العاصي بالاختيار، فان الاستحقاق يحتاج إلى سبب اختياري، فإذا انتفى، انتفى الاستحقاق، كمن ترك المعاصي نسيانا أو لا عن شعور.
قوله: بل عدم صدور فعل منه:
مقصوده: التفصيل بين الجهل بالحكم و الجهل بالموضوع.
ففي الأوّل: نفس الفعل الصادر من المتجري اختياري، و عدم كونه معصية لا بالاختيار.
و امّا في الثاني: فنفس الفعل خارج عن الاختيار. و قد تقدم توضيح القول في عدم اختيارية الفعل، مع جوابه.
الصفحة 24
قوله: كما لا وجه لتداخلهما:
نعم، لا وجه لتداخلهما إذا كان أحد الاستحقاقين بسبب القصد و الآخر بسبب الفعل، و امّا إذا كان أحد الاستحقاقين بالقصد و الآخر
بالفعل المجرد، الصادر عن القصد، و قد تكرر القصد في المقامين، فلا جرم يكون في مورد الفعل الصادر عن القصد سبب واحد، لأنّ
القصد واحد، و معه يتحد المسبب البتة، مع انّه يحتمل أن يكون المراد من التداخل اشتداد العقاب لا سقوط التأثير عن أحد السببين رأسا.
إلاّ أن يقال: أنّ الاشتداد إن كان بمعنى الجمع بين العقابين، فهو ليس تداخلا، و إلاّ فما ذا يكون عدم التداخل في المقام؟ و إن كان بمعنى
الشدة في السنخ الواحد من العقاب، فلا وجه له مع فرض اختلاف موجب العقاب في السنخ، و هو عين عدم التداخل مع فرض عدم
الاختلاف.
أقسام القطع و أحكامها
قوله: و قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف:
في العبارة تسامح، و مقصوده جواز أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر متعلق بموضوع آخر، كما إذا أخذ القطع بحرمة الخمر قيدا
لموضوع وجوب التصدق، أو لموضوع حرمة الكذب، و كون متعلق القطع هو الحكم المماثل، كما في الصورة الثانية، أو المخالف كما في
الأولى، حيث انّهما، أعني الحكم المترتب على القطع و الحكم المتعلق به القطع، في موضوعين، فلا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين.
نعم، يستحيل أخذه قيدا في نفس موضوع الحكم الأول، الّذي تعلق به القطع للزوم اجتماع المثلين أو الضدين، بنحو يكون أحدهما
استقلاليا و الآخر ضمنيا في متعلق الحكم الأوّل، و إن لم يلزم ذلك في متعلق الحكم الثاني.
قوله: و في كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف:
فانّ للقطع جهتين و حيثيتين:
جهة كونه صفة من صفات النّفس، و في هذه الجهة يشارك سائر صفات النّفس، من الجود و الشجاعة و العدالة. و جهة كونه ذا كشف و
حكاية عن متعلقه، و في هذه
الصفحة 25
الجهة يمتاز عن سائر الصفات النفسانيّة، إذ ليس فيها هذا الكشف.
و حينئذ قد يؤخذ في الموضوع بجهته الأولى، كما قد يؤخذ فيه بجهته الثانية.
و يمكن أن يؤخذ فيه بكلتا الجهتين، كأخذ زيد في الحكم بما هو عالم و هاشمي جميعا.
و لكن الحق بطلان التقسيم المذكور. بيان ذلك: انّ الحكم إن تعلق بالقطع بما هو صفة، كان اللازم أن يعم الحكم سائر الصفات أيضا،
لما تقدم من مشاركته بهذه الجهة لسائر صفات النّفس، مع انّهم لا يلتزمون به، و خلاف المفروض من تعلق الحكم بالقطع. و ان اختص
الحكم بالقطع، كان ذلك الحكم حكما على جهة كشفه و واردا على فصله، المميز له عن سائر الصفات، و ليس ذلك إلاّ جهة كشفه عن
الواقع، إذ ليس له جهة مميزة غيره.
و بالجملة: انّ تعلق الحكم بالجهة المميزة، كان ذلك حكما على القطع بما هو كاشف، و ان تعلق الحكم بالجهة المشتركة، لم يكن ذلك
حكما على القطع، بل حكما على كل صفة للنفس و من ذلك القطع.
نعم، لا بأس بالحكم عليه تارة بما هو كاشف بإلغاء جهة كونه صفة للنفس، أو أخرى بما هو صفة خاصة كاشفة عن الواقع، فيكون الدخيل
في الموضوع على الأول محض جهة الكشف، و على الثاني جهة الصفتية منضما إلى جهة الكشف.
و ربّما يتوهم: انّ القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الكشف لا يعقل أن يكون على وجه تمام الموضوع، و هو توهّم ناشئ من حسبان
انّ المراد من الكشف هنا الكشف الحقيقي، الموجود في العلم، مع انّ المراد منه الكشف الزعميّ، أعني به الكشف في نظر القاطع، فان
القطع هو الاعتقاد الجازم، و العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
نعم، أخذ العلم في الموضوع على وجه تمام الموضوع غير معقول.
قوله: من الصفات الحقيقية ذات الإضافة:
أخرج بالقيد الأول الصفات الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج، فإن العلم ان لم يكن جوهرا و عين النّفس
الصفحة 26
فلا أقلّ من كونه صفة حقيقية قائمة بها، و بالقيد الثاني أخرج سائر الصفات الحقيقية، التي لا إضافة لها إلى شيء، كالشجاعة و الجبن و
الكرم و البخل، و لكن لا يخفى ان إضافة العلم إلى الخارج، و بعبارة أخرى إضافة المعلوم بالذات إلى المعلوم بالعرض، ليست إلاّ بمعنى
التطابق بين الأمرين، و كون ما في النّفس عالما عقليا مضاهيا للعالم الحسّي، و إلاّ فأيّ نسبة و إضافة منقولية بين الصور المجرّدة
العقليّة، و الصور المادية الخارجية؟.
قوله: ثم لا ريب في قيام الطرق و الأمارات:
هذا البحث راجع إلى مقام الإثبات، و إنّ أدلة التنزيل ناهضة بتنزيل الأمارات منزلة القطع بأقسامه، أو غير ناهضة إلاّ بتنزيلها منزلة
القطع الطريقي، و خصوص القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكشف، أو غير ناهضة إلاّ بالتنزيل منزلة القطع الطريقي فقط، و إلاّ
ففي مقام الثبوت لا إشكال في إمكان قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه، و في إمكان التعبير عن ذلك بعبارة واحدة جامعة.
فالنزاع في انّ مثل تنزيل الظن منزلة القطع و نحوها من العبارات المشتملة عليها أدلّة الاعتبار، وافية بمجموع التنزيلات الثلاثة، أو غير
وافية إلاّ بتنزيل واحد، بل لا يمكن شمولهما لأزيد من تنزيل واحد حسب زعم المصنف «قده»، أو بتنزيلين، أعني بهما تنزيل الظن منزلة
القطع الطريقي و تنزيله منزلة القطع المأخوذ في الموضوع على جهة الكشف، كما ذهب إليه شيخنا المرتضى «قده».
و الحقّ: انّ أدلّة الاعتبار غير ناظرة إلى تنزيل الظن منزلة القطع المأخوذ في الموضوع رأسا، بل مفادها ليس إلاّ جعل المؤدّى، كما هو
صريح قوله عليه السلام:
«ما يقوله عنّي فعنّي يقول» فلا حاجة بعد ذلك إلى البحث عن إمكان إرادتهما جميعا من هذه العبارة.
نعم: هاهنا أمر آخر، و هو انّه هل يغني تنزيل الظن منزلة القطع الطريق عن تنزيله منزلة القطع الموضوعي مستقلا، لأنّه يستفاد تنزيله
منه بالالتزام، أو يغني تنزيل الظن منزلة القطع الموضوعي عن تنزيله منزلة القطع الطريقي، عكس ما قلناه
الصفحة 27
أوّلا، لاستفادته منه التزاما، فيترتّب على الظنّ آثار القطع الموضوعي بكلا قسميه و القطع الطريق أو لا يغني أحدهما عن الآخر. هذا بناء
على انّ المجعول في الطرق و الأمارات هو المؤدّى.
و امّا بناء على مذهب المصنف «قده» من انّ الحجية أمر قابل للجعل، و ان مؤدى أدلة الاعتبار هو ذلك، فالأمر واضح جدا. و يكفي تنزيل
الظن منزلة القطع في ترتب تمام الآثار، لأنّ الحجية من أحكام نفس القطع عقلا، فإذا فرضنا: انّ الشارع أيضا رتب عليه حكمين آخرين:
أحدهما بجهة كاشفيته و الآخر بجهة صفتيّته، فصار القطع ذا أحكام ثلاثة: أحدها عقلي و الآخران شرعيان، فتنزيل الشارع الظن منزلة
القطع تترتب عليه أحكامه الثلاثة، فيصير الظنّ منجزا شرعا، كما كان القطع منجزا عقلا، و لا حاجة في هذا التنزيل إلى لحاظ القطع آليّا،
ليلزم اجتماع اللحاظين: لحاظه كذلك مع لحاظه استقلالا، لأنّ الحجية حكم نفس القطع، و القطع موضوع فيها، كما هو موضوع في
الحكمين الآخرين، فلا حاجة إلى لحاظ المؤدي في حصول هذا التنزيل، ليكون القطع مأخوذا على سبيل المرآتية له، بل تلحظ نفس صفة
الظن و نفس صفة القطع، و تنزل تلك منزلة هذه، فتترتّب به الأحكام الثلاثة.
ثم لو أغمضنا عن هذا المسلك و قلنا: بان الحجية غير قابلة للجعل، و إنّما القابل للجعل هو الحكم التكليفي على طبق مؤدّى الأمارات،
أمكن تنزيل مؤدّى الظن منزلة المقطوع بلحاظ الظن و القطع آليّا و مرآة إلى المتعلق، فيكون هذا مدلول أدلّة الاعتبار مطابقة، ثم
يحصل تنزيل الظن منزلة القطع في أحكام القطع بالدلالة الالتزاميّة، و إن شئت قلت: تنزيل القطع بهذا الحكم الظاهري المجعول على
طبق المؤدّى، منزلة القطع بالحكم الواقعي فيما يترتّب عليه من الأحكام، بجهته الصفتية و الكشفية. و هو الّذي نقله المصنّف «قده» من
حاشيته على الرسائل، ثم أورد عليه.
و سيجيء دفع الإشكال.
لكن يتجه عليه منع التلازم بين التنزيلين، و لذا لا ملازمة بين تنزيل زيد منزلة
الصفحة 28
الأسد، و بين تنزيل أبيه منزلة أبي الأسد و أخيه منزلة أخي الأسد.
و هناك تقرير ثالث يصحح ما صار إليه شيخنا المرتضى «قده»، و هو: ان يكون دليل التنزيل متمما لجهة كشف الظن و حاكما بإلغاء
احتمال خطأه، و ان كشفه الناقص هو ذلك الكشف التام القطعي، مريدا بذلك جعل حكم القطع المترتب على جهة كشفه للظن بالمطابقة،
و أيضا جعل مؤدّى الظن بالملازمة العرفية بين الجعل الأول و الجعل الثاني.
لكن الملازمة باطلة، كما عرفت في نظيره، فيصار المتحصل عدم معقولية تكفل دليل تنزيل الظن منزلة القطع بالتنزيلين بعد عدم ثبوت
التلازم بينهما.
لكن ذلك على مسلك جعل المؤدّى في الأمارات، لا على ما ذهب إليه المصنف «قده» من جعل الحجيّة، فانّ المعقولية على هذا أوضح من
الشمس، كما عرفت.
قوله: و لحاظه في أحدهما آليّ و في الآخر استقلالي:
يعني انّ لحاظ الظن و القطع في تنزيل المؤدّى الّتي يشار به إلى المؤدّي، و قد أتي بهما للعبرة للمؤدّى، كما في لفظ التبين في قوله
تعالى «حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود» و نظيره سائر الكنايات، مثل طويل النجاد و مهزول الفصيل، و في تنزيل
أنفسهما استقلالي، كما في مثل زيد عالم و عمرو ظان، و من المعلوم: انّ في استعمال واحد لا يمكن الجمع بين المعنى الحقيقي و
الكنائي، فيراد من طويل النجاد طول النجاد و طول القامة.
قوله: في الحقيقة إلى الواقع و مؤدّى الطريق:
هذا الكلام ليس من حق المصنف «قده»، فان مؤدّى دليل الاعتبار عنده ليس هو جعل المؤدّى، بل جعل الحجية للظن، نحو ما هو منجعل
تكوينا للقطع.
نعم، الإشكال متّجه على شيخنا المرتضى «قده» حيث جمع بين التنزيلين، مع ذهابه إلى جعل المؤدّى، إلاّ ان يقول باستفادة تنزيل
المؤدّى و المنكشف من أدلة الاعتبار بالدلالة الالتزامية، على أن يكون دليل الاعتبار بمدلول المطابقي، متكفّلا
الصفحة 29
بتنزيل الكشف الناقص الظنّي منزلة الكشف التام القطعي، و بالمدلول الالتزامي، مفيدا لتنزيل المظنون منزلة المقطوع. لكن عرفت منع
الملازمة.
قوله: و لا يكاد يمكن الجمع بينهما:
بل لو أمكن الجمع بينهما لتوقف الحكم به على دلالة دليل، فهو كاستعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، إذا جوّزناه في احتياج
إرادتهما إلى قرينة، و مع عدمها يحكم بالإجمال.
قوله: نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع:
يعني لو كان في البين مفهوم واحد يكون أحد مصاديقه هو الواقع و الآخر هو الظن، و أتي به في مقام التنزيل، نهض ذلك بإثبات
التنزيل من غير حاجة إلى تعدد اللحاظ، كما يحتاج إليه في مثل عبارة الظن منزل منزلة العلم، أو صدق الظن، لكن ليس لنا مثل هذا
المفهوم.
و بالجملة: القصود انّما هو في الدليل و مقام الإثبات، و إلاّ فليس الجمع بين التنزيلين أمرا ممتنعا بحسب مقام الواقع و الثبوت.
قوله: فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه:
قد عرفت انّ جعل الحجية غير منوط بلحاظ الظن و القطع آليّا، بل اللحاظ كذلك مضرّ به، لأنّ الحجيّة من أحكام نفس القطع عقلا، فتكون
من أحكام نفس الظن بالجعل و التنزيل.
نعم، جعل المؤدّى يحتاج إلى اللحاظ فيكون القطع بهذا المؤدّى المجعول حجة عقلية، كالقطع بالحكم الواقعي، بل لا يعقل لجعل الحجية
معنى سوى ذلك و ما ليس بحجة لا يكون حجة، بقول: جعلته حجة، فالحجة منحصرة في القطع و ليس وراء القطع شيء، يكون هو الحجة.
نعم، لا فرق في القطع الّذي يكون حجة بين أن يكون متعلقا بالحكم الواقعي، و ان يكون متعلّقا بالحكم الظاهري.
و بالجملة: معنى جعلت الظن حجة جعل مؤدّاه، فيكون المظنون منجزا كالمقطوع، لكن منجزه هو القطع بذلك الحكم المجعول، و لذلك لا
يتنجز بمجرد الظن به لو لا القطع بجعل المظنون كالمقطوع، إلاّ إذا تمت مقدمات الانسداد و كانت نتيجتها حجية الظن عقلا على سبيل
الحكومة، فان الظن حينئذ هو المنجز، كالقطع عند الانفتاح.
الصفحة 30
و الحاصل: انّ ما يكون حجة بالذات لا يخرج عن الحجيّة، و ما ليس حجة بالذات لا يدخل في الحجية، فجعل الحجية باطل، كرفعها.
قوله: و امّا الأصول فلا معنى لقيامها مقامه:
إن أراد قصور أدلّة الأصول عن إفادة القيام مقام الواقع، و إن لسانها جعل الوظيفة عند عدم تيسر العلم بالواقع.
ففيه: انّ جريان هذا البحث لا يتوقف على كون أدلّة الاعتبار بلسان التنزيل منزلة الواقع، و لذا يجري هذا البحث في الاستصحاب -
باعتراف المصنف «قده» - مع اشتراك دليله مع أدلّة سائر الأصول، في عدم كونه بلسان التنزيل، بل بلسان عدم نقض اليقين. فيعلم: انّ
مناط هذا البحث و ملاكه ما يعم ذلك، و هو أخذ اليقين أو الظنّ في لسان الدليل.
و ان أراد: عدم معقولية التنزيل مقام الواقع في جعل الأصول، لعدم نظرها إلى الواقع و حكايتها عنه، كما هو قضية التعبير بقوله: فلا
معنى لقيامها مقامه.
ففيه: انّ التنزيل و معقوليته لا يختص بباب الأمارات، و هل الطواف أمارة، حتى صحّ أن يقال: الطواف بالبيت صلاة؟ فكما صحّ أن يقال:
الظن كالعلم بقصد تنزيل المؤدّى، أو بإرادة تتميم الكشف، صحّ أن يقال: ما لم تعلم حرمته كما علمت حليته بقصد جعل الحل، أو بإرادة
جعل أحكام العلم بالحل، طابق النعل بالنعل. ثم انّ العبارة، ظاهرها: انّه لا معنى لقيام الأصول مقام الواقع، كما لا معنى لقيامها مقام
القطع، فتمتاز الأصول عن الأمارات في عدم القيام مقام الواقع، حيث أنّ الأمارات كانت تقوم مقام الواقع، و انّما لم تكن تقوم مقام القطع
فقط.
هذا، و لكن مقتضى تعليله بقوله: لوضوح أن المراد... إلخ، هو عدم القيام مقام القطع.
و ذلك لوضوح: انّ التنجيز من أحكام القطع و خواصه لا من أحكام الواقع.
لكن المصنف «قده» حكم في الأمارات بالتنجيز مع حكمه بأنّ مفاد أدلة اعتبارها هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لا تنزيل نفسها منزلة
القطع. و لم أدر، كيف جمع بين الأمرين
الصفحة 31
قوله: و امّا النقلي: فإلزام الشارع به:
إلزام الشارع بالاحتياط ليس إلزاما نفسيّا في عرض الواقع، بل ناشئ من فعلية التكليف في ظرف الجهل، و عدم رفع اليد عنه بسببه. و
في الحقيقة يكون إلزامه إرشادا إلى حكم العقل و تنبيها على أن الحكم بمثابة لا يعذر فيه بالجهل، و يكون منجزا بحكم العقل بمجرد
الاحتمال، فيكون المنجز هو الاحتمال، كما في موارد الدماء و الفروج، كما انّ المنجز هو العلم التفصيليّ تارة، و الإجمالي أخرى فتأثير
كل من العلم التفصيليّ و الإجمالي و الاحتمال في تنجيز التكليف في عرض واحد عقلي ليس بجعل الشارع، بل قد عرفت: انّ التنجيز و
الحجية لا يعقل أن يكون بالجعل، بل لا بد أن يكون ذاتيا و بحكم العقل.
قوله: فانّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع:
لا يخفى أنّ الأحكام لم تجعل ابتداء بالإنشاءات اللفظية بل هي مجعولة في الواقع مرسومة في اللوح المحفوظ، و هذه الإنشاءات الصادرة
بالخطابات قوالب لتلك الواقعيات، فإذا جعل مؤدّى الاستصحاب أو سائر الأصول، و كذلك مؤدّى الأمارات، حكما ظاهريا في حق
المكلف في اللوح المحفوظ، و قلنا: بأنّ ذلك يستلزم و يستتبع جعلا آخر في ذلك المقام متعلقا بالقطع بذلك الحكم الظاهري، و انّه
كالقطع بالحكم الواقعي، فيما يترتب عليه من الأحكام، ثم علمنا: بدليل التنزيل بذلك الحكم الأول، علمنا:
بالدلالة الالتزامية الثابتة لهذا الدليل بهذا الحكم الثاني.
نعم، مصداق متعلق الحكم الثاني يتحقق بعد ورود الخطاب بالحكم الأوّل، إذ به يعلم الحكم الظاهري المجعول موضوعا للحكم الثاني و
هذا مما لا بأس به و لا محذور يترتب عليه على فرض تسليم الملازمة بين الجعلين، إلاّ أنّ الملازمة ممنوعة، فانّه يمكن التفكيك بين
التنزيلين، فينزل مؤدّى الأمارات و الأصول منزلة الحكم الواقعي و لا ينزل القطع به منزلة القطع بالحكم الواقعي.
و قد عرفت: انّ تنزيل زيد منزلة الأسد لا يستلزم تنزيل أبيه منزلة أبي الأسد و هكذا، ليكون أقارب زيد كلهم أسود بهذا التنزيل.
و بالجملة: لا مانع من جعل الحكم الظاهري و جعل القطع بالحكم الظاهري
الصفحة 32
كالقطع بالحكم الواقعي في الآثار، في عرض واحد، و إن كان حصول القطع بالحكم الظاهري في رتبة متأخّرة عن جعل الحكم
الظاهري، إلاّ انّ تنزيل القطع بالحكم الظاهري منزلة القطع بالحكم الواقعي لا يتوقف على حصول القطع في الخارج، ليكون جعل حكمه
متأخّرا عن جعل ذلك الحكم الظاهري بمرتبتين، فان الحكم متأخر عن موضوعه لحاظا و تصورا لا خارجا، فما أورده المصنف «قده«
هنا على ما أفاده في الحاشية من إشكال الدور ليس في محلّه، بل ما أفاده في الحاشية هو الصواب لو لا أنّ الملازمة بين الجعلين باطلة،
فلا يدلّ دليل جعل المؤدّى على جعل أحكام القطع بالواقع للقطع بالمؤدّى.
نعم، لو لم يكن المؤدّى بنفسه حكما شرعيا قابلا للجعل أو موضوعا لحكم شرعي مستقلا، بل كان موضوعا على سبيل قيد الموضوع و
جزئه، بأن كان الأثر مرتبا على القطع بالمؤدّى كما إذا أخبرت البيّنة بحياة الولد و لم تكن الحياة بنفسها منشأ للأثر، بل كان الأثر
للقطع بالحياة، لم يصح تنزيل المؤدّى بلحاظ ذلك الأثر المشترك، لأنّ التنزيل المذكور يتوقف على تنزيل الجزء الآخر بعد عدم
إحرازه بالوجدان، كما في المقام و تنزيل الجزء الآخر يتوقف على هذا التنزيل، لأنّ الملازمة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع و تنزيل
القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي، فيلزم الدور، كما ذكره المصنف «قده».
قوله: في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور:
و كذا لزوم الخلف، فانّ مقتضى تعلق القطع بالحكم أن يكون الحكم ثابتا للموضوع مع قطع النّظر عن متعلق القطع به فلو فرض دخل
تعلق القطع به في ثبوته، كان خلفا، و أيضا يلزم اجتماع النقيضين، أعني دخل القطع في الموضوع و عدمه.
قوله: نعم، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم:
و قيل لا يصح بعين الوجه الّذي لم يكن يصح به أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.
بيان ذلك: انّ كلّ مرتبة من الحكم تقوم بما قامت به مرتبته الأخرى، و لا تقوم مرتبة الفعلية بغير ما قامت به مرتبة الإنشاء، و إلاّ لم تكن
الفعلية فعلية
الصفحة 33
تلك الإنشاء، بل فعلية مرتبة إنشاء قائمة بما قامت به هذه الفعلية، فالإنشاء الّذي يصير بالقطع فعليا، ان كان إنشاء هذا الفعلي لزم دخل
القطع فيه، كدخله في الفعلية، فيكون القطع بالحكم الإنشائيّ دخيلا في الحكم الإنشائيّ، و هذا محال. و إن كان إنشاء غير هذا الفعلي، لم
يكن ذلك من أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع، مرتبة أخرى منه.
و لكنّ المختار: صحّة أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه، فيؤثر القطع المتعلق بالمصلحة في بلوغها إلى درجة
التأثير في الفعلية، و ذلك لأنّ مرتبة الفعلية انّما تقوم بما قامت به مرتبة الإنشاء، إذا كانت مرتبة الإنشاء علة تامّة للفعلية، امّا إذا كانت
من مجرد الاقتضاء، فلا محيص من دخل عدم المانع في الفعلية مع عدم دخله في الاقتضاء، و ليكون المقام من ذلك، فيكون القطع مزيلا
للمانع المتمم لفعلية التأثير.
قوله: لاستلزامه الظنّ باجتماع الضدين:
بل و نفس اجتماع الضدين أو المثلين في صورة الإصابة.
قوله: يمكن أن يكون الحكم فعليا:
لا يخفى أن تغيير العبارة و تسمية ما ليس بفعلي فعليا، لا يرفع الإشكال، فإنّا نقول: انّ الإرادة أو الكراهة التي هي مرتبة الفعلية إن
كانت موجودة على طبق الواقعيات و الأحكام الشرعية، من لزوم العمل بالظنّ أو حرمته، لزم ما ذكر من اجتماع الضدين أو المثلين
اعتقادا مطلقا و واقعا في صورة المصادفة، و إن لم تكن موجودة على طبقها لزم أن لا تتنجّز بالقطع بها، لأنّ القطع المتعلق بالحكم غير
الفعلي لا أثر له في التنجيز مع ضرورة تنجز الأحكام الشرعية بتعلق القطع بها. و دعوى: انّها بالقطع بها تصير فعلية، لما ذكر من جواز
أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه. يدفعها: انّ هذا القطع لا يعقل أن يكون مؤثرا في التنجيز، فان مرتبة التنجيز لا بدّ أن
تكون متأخرة عن مرتبة الفعلية، فإذا صار الحكم بالقطع (فعليا توقّف تنجزه على قطع آخر يتعلق بذلك الّذي صار فعليا بالقطع، بأن
يعلم المكلف انّ قطعه هذا أثّر في فعليّة
الصفحة 34
الحكم، و إلاّ فهو معذور في ترك الامتثال، كما في سائر الأحكام الفعلية إذا جهلها.
و الحاصل: انّ القطع الواحد لا يؤثّر في الفعلية و التنجيز جميعا، مع ضرورة تنجز الأحكام الشرعية بالقطع بها بلا قطع آخر، فيعلم انّها
فعلية مع قطع النّظر عن القطع، و قد تعلّق القطع بالحكم الفعلي، و لذا أثّر في تنجيزه. فإشكال اجتماع المثلين أو الضدين فيما إذا أوجب
العمل بالظن بتلك الأحكام، أو حرّم، يكون بحاله. و بالجملة: لا يمكن الجمع بين القول بجواز إيجاب العمل بالظن بالتكليف أو تحريمه،
و بين القول بتنجز ذلك التكليف بالعلم به، فإنّ قضية الثاني فعليته لو لا العلم، و قضية الأول عدم فعليته و إلاّ لزم اجتماع المثلين أو
الضدين، لكن تنجز الأحكام في الشريعة بالقطع مما لا ريب فيه، فلا بدّ من رفع اليد عن القول بجواز إيجاب العمل بالظن. و حينئذ يكون
معنى صدق الظن أو صدق الأمارة الفلانية فعلية الواقع عند المطابقة، و رفع اليد عنه عند المخالفة.
قوله: إن قلت كيف يمكن ذلك:
هذا الإشكال و جوابه عين الإشكال السابق و جوابه، فكان اللازم الاقتصار على أحدهما و ترك الآخر.
الموافقة الالتزامية
قوله: يقتضي موافقته التزاما:
لم أفهم المراد من الموافقة الالتزامية، و هل في النّفس شيء يقال له: الموافقة الالتزامية. وراء العزم و التوطين على الامتثال فيما سيأتي. و
وراء الإذعان و التصديق بصدور هذه التكاليف من المولى الّذي هو التصديق بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله، و وراء كون الداعي
على الامتثال طلب المولى، الّذي هو معنى إتيان الفعل على وجه العبودية و وراء إتيان الفعل بالطوع و الرغبة و طيب النّفس، مقابل
إتيانه بالكره و الإجبار و خوفا من العقاب، و ليس شيء من ذلك من الموافقة الالتزامية في كلامهم، كما هو واضح، و لا أرى في النّفس
شيئا سوى ما تقدم يكون هو الموافقة الالتزامية و يشبه أن يكون ذلك نظير
الصفحة 35
الكلام النفسيّ الّذي أثبته الأشاعرة. ثم انّ تعرض المصنف «قده» لهذا البحث هنا انّما هو لبيان جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي
مع عدم ترتب مخالفة عملية عليها. و هذا البحث يختص بمن يرى عموم أدلّة الأصول للأطراف، فيبحث حينئذ عن منع المخالفة الالتزامية
عنه، كمنع المخالفة العملية عنه، و امّا من يرى عدم العموم، ففي فسحة عن هذا البحث لهذا الغرض، و أيضا انّما يحتاج إلى هذا البحث إذا
صدقت الشرطية، أعني كان من أثر إجراء الأصول في الأطراف، إلغاء العلم الإجمالي في الالتزام، و هو عندي محل نظر، و تحقيقه يظهر
من بيان ما يجب الالتزام به من التكاليف.
فنقول: متعلق وجوب الالتزام امّا أن يكون هي التكاليف الفعلية المنجزة، كما يظهر من جعله عدلا للموافقة العملية، أو الأعم منها و من
التكاليف غير المنجزة، بل و الواقعية غير الفعلية. غاية الأمر: التزام كل على ما هو عليه من الشأن و المنزلة، فيلتزم في التكليف الفعلي
المنجز بتكليف فعلي منجز، و في التكليف غير المنجز بتكليف غير منجز، و في التكليف غير الفعلي بتكليف غير فعلي. و على كلّ تقدير
لا نعقل أن يلزم من إجزاء الأصول مخالفة التزامية أو ترك موافقة عملية.
امّا على الأول فواضح، إذ بعد جريان دليل الحكم الظاهري لتعيين حكم العمل، و حكمه بإباحة الفعل المردد بين الوجوب و الحرمة، لا
يبقى إلزام منجز ليلتزم به، فيكون الالتزام دائما في مرتبة متأخرة عن تنجز الحكم، فلا يعقل أن يكون وجوبه مزاحما لما يكون رافعا
للتنجز أو للفعلية.
و امّا على الثاني: فلأنّ الحكمين لعمل واحد، إن أمكن اجتماعهما خارجا، مع قطع النّظر عن لزوم مخالفة التزامية، بأن يكون أحدهما
واقعيا و الآخر ظاهريا، أو يكون أحدهما اختياريا و الآخر اضطراريا، لم يكن هناك ما يتصور أن يكون مانعا من التزامه، فتجري
الأصول لإثبات حكم ظاهري، و مع ذلك يكون الحكم الواقعي محفوظا في مرتبته، و يلتزم المكلف بهما معا، فأين لزوم ترك الالتزام
الصفحة 36
بالحكم الواقعي من إجزاء الأصول في الأطراف؟ و لعمري انّ ذلك، أعني عدم لزوم المخالفة الالتزامية بإجراء الأصول في الأطراف،
واضح لا سترة عليه. و لا أدري كيف خفي على هؤلاء الفحول فأتعبوا أنفسهم في منع بطلان اللازم بإنكار وجوب الالتزام رأسا، أو
الاعتراف به، و إنكار لزوم الالتزام بالأحكام تفصيلا، و انّه يلتزم بما هو الثابت في الواقع، و إن لم يعلم بتفصيله، و هو يجتمع مع إجراء
الأصول، و دعوى سقوطه بعد الاعتراف بثبوته، بعدم القدرة عليه عند الاشتباه و عدم المعرفة به، و المفروض عدم الظفر به بعد
الفحص عنه، فانّ الالتزام بالواقع تفصيلا غير مقدور، و الالتزام بأحد الاحتمالين تخييرا، فرارا عن لزوم المخالفة القطعية لخطاب التزم
مستلزم للوقوع في محذور احتمال التشريع، أو دعوى انّ الالتزام يجب بحكم العقل فيما لا يشمله عموم أدلة الأصول دون ما يشمله.
و أنت خبير: بأن كلّ ذلك مستغنى عنه، و انّ الالتزام بالحكم الواقعي تفصيلا على تقدير التمكن منه، أو الالتزام بأحد المحتملين من
الوجوب و الحرمة، فيما إذا تردد الأمر بينهما، يجتمع مع إجراء الأصول في كلّ من الاحتمالين، كالحكم بالإباحة في المردد بين الوجوب
و الحرمة.
قوله: تجب، و لو فيما لا يجب عليه الموافقة:
إذا لم تحرم الموافقة القطعية، لعدم التمكن من تركها، بل و كذا الموافقة القطعية. كان معنى ذلك سقوط التكليف بالتعذر، و مع ذلك لا
يبقى شيء يلتزم به، إلاّ أن يقال: بوجوب الالتزام بالتكاليف الواقعية، و إن لم تبلغ مرتبة الفعلية.
قوله: لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة:
و ذلك لغرض الفحص و اليأس عن الظفر بالتكليف، و وصول النوبة إلى إجراء البراءة. و يمكن أن يقال: انّ التمكن العقلي من موافقة
التكليف لا يرتفع بمجرد اليأس عن الظفر بالدليل الموجب لجريان الأصل، فلأجل امتثال وجوب الالتزام يجب الفحص حتى يحصل
القطع بعدم التكليف، و لا يقتصر على الفحص المعتبر في البراءة.
الصفحة 37
و الّذي يهوّن الأمر، بل يوجب عدم الإلزام بالفحص من جهة امتثال وجوب الالتزام، انّ الشكّ في توجه هذا التكليف عند العلم الإجمالي
بأحد الحكمين الإلزاميين، بدويّ للشك في القدرة على امتثاله بالظفر بما يدلّ على أحدهما، فتجري البراءة عن وجوب الالتزام إلاّ أن
يقال: انّ وجوب الالتزام عقلي لا شرعي، و لا معنى لإجراء البراءة عن الحكم العقلي.
نعم، لا يبعد عدم حكم العقل بوجوب الالتزام عند الفحص و اليأس عن الظفر بدليل يعين أحد الحكمين، كما لا يحكم بوجوب الإطاعة،
عملا عند الفحص و اليأس كذلك.
قوله: فانّ محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقلّ:
يعني انّه بعد عدم التمكن من الالتزام بالتكليف الواقعي على وجه القطع بالالتزام بالوجوب و الحرمة جميعا، تجب الموافقة الاحتمالية
بالالتزام بأحدهما، إن كان المكلّف متمكنا منها. لكنه غير متمكن، لدوران الأمر في ذلك بين محذورين، فانه بأيّهما التزم، امّا أن يكون
التزامه به واجبا، ان كان الحكم هو الّذي التزم به، أو يكون حراما، إن كان الحكم غيره، لأنّه تشريع محرم، و الحكم في دوران الأمر بين
المحذورين هو التخيير في مقام العمل، و العمل فيما نحن فيه هو الالتزام، فله اختيار ترك الالتزام، بل يتعين ذلك إن قلنا: بأن محذور
التشريع أشد.
سيجيء من المصنّف «قده» في مبحث دليل الانسداد، انّه لا يرى وجوب الموافقة الاحتمالية عقلا عند تعذر الموافقة القطعيّة، فهو هاهنا في
فسحة من هذه التعليلات، بإنكار حكم العقل بوجوب الالتزام بأحد الحكمين، تحصيلا للموافقة الاحتمالية بعد تعذر الموافقة القطعية
بالالتزام بكليهما.
قوله: مع ضرورة انّ التكليف لو قيل:
هذا تعليل آخر للمدعى، لكنه عليل، فانّ التخيير لا يلتزم به باقتضاء دليل التكليف، بل بحكم العقل بوجوب الموافقة الاحتمالية بالأخذ
نعم، لو قيل: انّ التكليف يقتضي ذلك، صحّ ما ذكره من المنع، و لم يكن يختص المنع بالمقام، بل يجري في التخيير في الموافقة العملية
بالأخذ بأحد الاحتمالين، عملا عند تعذر الأخذ بكليهما. و قد عرفت: انّ المصنف «قده» ليس ذلك من مذهبه، فهو في غنى من هذه
التعليلات.
قوله: إلاّ على وجه دائر:
قد ضرب على هذه العبارة في بعض النسخ المصححة، و لنعم ما صنع، فانّ الدور انّما يلزم إذا توقف جريان الأصول على تحقق عدم
المخالفة الالتزامية، أو عدم الموافقة الالتزامية في الخارج. و قد فرض: انّ عدم لزوم المخالفة الالتزامية تكون بجريان الأصول، و
يتوقف على جريانها و إخراجها للموضوع المشتبه عن موضوع الحكمين، فيلزم الدور. لكن جريان الأصول لا يتوقف على شيء من
ذلك، فانّ أدلة الأصول على الفرض تشمل كل مشتبه، و إن كان مشوبا بالعلم، و قد خرج منها ما يلزم من شمولها له محذور المخالفة
العملية، أو محذور المخالفة الالتزامية للتكليف المعلوم، و لا يلزم هذا المحذور في الأصول الموضوعية، بل و كذا الأصول الحكمية في
موارد العلم الإجمالي، حسبما ذهب إليه شيخ مشايخنا المرتضى «قده». لأنّ موضوع خطاب التزم هو الحكم، و لا حكم بعد جريان الأصل
و هذا كما في الأصول الموضوعية النافية لموضوعات التكاليف، فتجري الأصول بلا مزاحمة أدلّتها بمانع عقلي أو شرعي، فأين الدور
الّذي ذهب إليه المصنف «قده«؟ نعم، ما ذكره شيخ مشايخنا «قده» أيضا غير مستقيم، و قد عدل عنه بعد ذلك
بأسطر. فلا وجه للإشكال عليه.
قوله: مع عدم ترتب أثر عملي عليها:
الظاهر اشتباه عدم لزوم المخالفة العملية، المفروض في محل البحث، بعدم أثر عملي، و إلاّ فالأثر العملي ثابت فيما نحن فيه، إذا كانت
الشبهة موضوعية، كالمرأة المرددة بين منذورة الوطء و منذورة تركه، و مجرى الأصل بنفسه حكم العمل إذا كانت الشبهة حكمية،
كالحكم بعدم الوجوب و عدم الحرمة فيما تردد أمره بينهما.
الصفحة 39
و بالجملة: جريان الأصول من جهة وجود مصحح التنزيل لا إشكال فيه، فانّ الكلام بعد فرض كون المجرى حكما أو موضوعا ذا حكم،
فيبحث عن مانعية المخالفة الالتزاميّة.
قوله: مضافا إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه:
يعني انّ البحث عن مانعية المخالفة الالتزامية مبني على شمول أدلّة الأصول للأطراف امّا إذا لم تكن شاملة لها، فالبحث ساقط رأسا، و
الأصول غير جارية حتما، سواء كانت المخالفة الالتزامية مانعة أم لم تكن مانعة، و قد قرر عدم الشمول شيخ مشايخنا «قده» بالتعارض
بين قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشك» و قوله عليه السلام: «بل انقضه بيقين آخر»، فانّ الأولى تشمل كلاّ من أطراف العلم، و
الثانية تشمل الواحد المعلوم بالإجمال، المسقط للفقرة الأولى عن الحجية، أو الظهور في أطراف العلم. و قد أجاب المصنف «قده» عنه:
بأنّ الروايات غير المشتملة على فقرة الذيل، الموجبة للإجمال، كافية لإثبات المقصود و الأولى أن يقال: انّ هذا البيان إن صحّ لم يجر
في المقام المفروض فيه عدم لزوم مخالفة عملية من إجراء الأصول، فانّه لا معنى لنقض اليقين السابق فيما علم إجمالا بتوجه أحد
الإلزامين: امّا الإلزام بالفعل أو الإلزام بالترك، إذ ليس لهذا العلم أثر عملي ليعقل النقض و عدمه، بالإضافة إليه، و عليه يبقى خطاب «لا
تنقض» في الأطراف سالما عن المزاحم، كما بقي في الشبهات البدوية سالما عنه.
اتحاد القطع: قطع القطّاع
قوله: لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما رتب:
انّ موضوع حكم العقل بمتابعة القطع هو القطع بالواقع، على أن يكون القطع جزء الموضوع لا تمامه، و جزئه الآخر هو الواقع، بل الأمر
كذلك حتى في نظر القاطع، فانه لا يحكم بمتابعة القطع الّذي أخطأ الواقع المعبر عنه بالجهل المركب.
نعم، هو مشتبه في الصغرى و يزعم عدم الخطأ في قطعه، و من ذلك يعلم
الصفحة 40
اختصاص حكم العقل بالحجية، الّذي هو من رشحات حكمه بوجوب المتابعة بما اختصّ به وجوب المتابعة، فالحجة هو القطع المصيب، و
أوضح من هذا في الاختصاص بالقطع المصيب حكم العقل، بالمنجزية، فانّه لو لا الواقع و الإصابة تكون منجزا لأي شيء، و امّا المعذرية،
فهو حكم ثابت في موضوع القطع المخطئ، بل قد عرفت: انّه حكم مطلق الجهل بالواقع، بسيطا كان أو مركبا، ما لم يكن عن تقصير. ثم:
انّ أثر اختصاص الحجية بالقطع المصيب يظهر في حق الغير، إذا توجه إليه حكم في موضوع قيام الحجة عند القاطع، بل في حق القاطع
أيضا، فيما إذا علم قبل قطعه بخطإ مقدمات خاصة، و مع ذلك زاولها حتى أثرت في حصول القطع، فانّه لا يعذر فيه. و إن كان في حال
القطع لا يخاطب بترك العمل به، لأنّه يرى إصابة قطعه. فإذا صحّ قصر الحجية بطائفة خاصة من القطع، و قام الدليل الشرعي على النهي
عن متابعة ما يحتمل الانطباق عليه، يحكم بالانطباق. فإذا نهى الشارع عن متابعة القطع الحاصل من المقدمات العقلية، يحكم بأنّ القطع
الحاصل من هذه المقدمات كله خطأ، لا إصابة فيه، كما هو ظاهر اخباره أيضا، و في الحقيقة القصر في الحجية من العقل لا من الشرع، و
الشارع بنهيه يكشف عن خروج مورد
النهي عن موضوع الحجية العقلية.
نعم، قد عرفت: انّ لا أثر لهذا الخطاب بالنسبة إلى القاطع، و لا يوجه إليه.
ثم انّ هناك وجها آخر لقصر الحجية ببعض أقسام القطع، بل سلب الحجية عنه بالمرة.
و حاصله: انّ من المحتمل أن يؤثر القطع مطلقا أو في الجملة مفسدة في المتعلق، مزاحمة لما في متعلقه من المصلحة، مسقطة لها عن
التأثير، فيكون الحكم الثابت - لو لا القطع - مرتفعا به، و يكون القطع عنوانا ثانويا، كسائر العناوين الثانوية، رافعا للحكم المقطوع به،
في هذا لا محيص للمولى من ترك الطلب و عدم بعث العبد نحو الفعل، لأنّ ذلك نقض لغرضه، و ليس له طريق للوصول إلى مقصده إلاّ
بجعل الاحتياط فيما كان الأثر لمطلق القطع.
الصفحة 41
و امّا فيما كان الأثر لقطع خاص، فله ان ينهى عن العمل بذلك القطع الخاصّ، و يكون ذلك القطع لوجوده رافعا للحكم، مزاحما لملاك
المتعلق، فيكون الحكم فعليا إذا تعلق به غير هذا القطع الخاصّ. و لا يتوهم: انّ ذلك من باب دخل قطع خاص في موضوع الحكم، فيخرج
عن محل الكلام، و يدخل في القطع الموضوعي، الّذي لا كلام في جواز التصرف فيه بدخل نوع خاص من القطع في متعلق الحكم. و ذلك:
لأنّ هذا من باب دخل عدم قطع خاص، و هو غير ملازم لدخل ما يقابله من سائر أنواع القطع، فاعتبار أن يكون القطع حاصلا من
المقدمات العقلية أو مما لا يتعارف حصول القطع منه، لا يستلزم اعتبار أن يكون حاصلا من المقدمات النقليّة، أو مما يتعارف حصول
القطع منه.
و حسب هذين الوجهين: إذا ورد دليل رادع عن العمل ببعض أفراد القطع أخذ به، و لم يكن وجه لرده و الأخذ في تأويله، كما ورد
بالنسبة إلى الحاصل من المقدمات العقلية.
نعم: القطع الحاصل مما يتعارف حصول القطع منه، و هو المعبر عنه بقطع القطاع، لم يرد منع فيه، و لا يشمله ما دلّ على عدم اعتناء
الوسواسي بشكه. و يمكن أن يقال: انّ حكم العقل بالحجية لا يعمّه، بل هو معدود من الأمراض، و لا سيّما بعض مراتبه.
نعم، القاطع بنفسه معذور لو حصل ذلك له بلا اختيار منه و من غير تعمد النّظر إلى ما يوجبه.
قوله: كما ينادي به بأعلى صوته ما حكى:
و ينادي أيضا بأعلى صوته بمخالفته في هذا المقام، ما حكي عنه من عبارته الأخرى قال: انّ المعلوم هو انّه يجب فعل شيء أو تركه أو لا
يجب، إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما، من جهة نقل قول المعصوم أو فعله أو تقريره، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا
يجب، مع حصولهما من أي طريق كان. انتهى. و مع هذه الصراحة، كيف يكذّب نسبة الخلاف في المسألة إليهم، و هل يمتنع اجتماع
الخلاف في مسألة الملازمة مع
الصفحة 42
الخلاف في هذا المقام؟ فليكن الأخباري مخالفا في كلا المقامين.
قوله: و أنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت:
فيه انّ مراده من الخطأ الواقعي هو الخطأ الواقعي و إن لم يلتفت إليه العبد حين العمل، و هو الّذي يقبح الأمر باتباعه من غير مدخلية
للالتفات و احتمال الخطأ في قبحه.
القطع الإجمالي
قوله: فهل القطع الإجمالي كذلك:
القطع الإجمالي: إمّا أن لا يكون له تأثير في تنجيز التكليف و في الأعذار أصلا، و يكون حاله كحال الشك البدوي، أو يكون له تأثير
ناقص، و هو التأثير في حرمة المخالفة القطعية فقط، أو يكون له تأثير تام، و هو التأثير بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية أيضا، و
على فرض التأثير: إمّا أن يكون تأثيره بنحو الاقتضاء أو بنحو العلة التامة أو بالاختلاف بين تأثيره في وجوب الموافقة القطعية، فعلى
سبيل الاقتضاء، و تأثيره في حرمة المخالفة القطعية، فعلى وجه العلية التامة، فهذه ستة احتمالات، أقواها التأثير على وجه العلية التامة،
فيما كان القطع التفصيليّ مؤثرا، أعني القطع بالحكم الفعلي التام التأثير في البعث، و عدم التأثير أصلا، حتى على وجه الاقتضاء، فيما لا
يكون كذلك، فإنّ القطع الإجمالي لا يزيد على القطع التفصيليّ، و القطع التفصيليّ بحكم غير تام الفعلية لا أثر له، فكيف بالقطع الإجمالي
بمثل هذا الحكم، و لو كان عدم تمام فعليته، لتوقف تمامية فعليته على القطع التفصيليّ، إذ لا فرق بين توقف تمام الفعلية على القطع و
توقفه على أمر آخر، في انّ القطع بغير تام الفعلية لا أثر له. و قد اختار المصنف «قده» هنا تأثير العلم الإجمالي في كلتا الجهتين على
سبيل الاقتضاء. لكن كلامه هنا في غير
مفروض البحث، و هو تعلق العلم الإجمالي بالحكم التام الفعلية، لا ما تكون فعليته ناقصة، و يتوقف تمامها على العلم التفصيليّ، فان
البحث في مجرد نقص العلم و إجماله مع تمام الحكم، و إلاّ كان عدم التأثير من تلك الجهة، و لذا اختار في مسألة الاشتغال في الموضوع
الّذي ذكرناه، التأثير على سبيل العلية التامة.
الصفحة 43
و بالجملة: تأثير العلم الإجمالي في التّنجيز فيما إذا تعلق بحكم غير عادم لما سوى التنجيز، ممّا لا ريب فيه، كما لا ريب في انّ تأثيره في
ذلك على سبيل العلية التامة، غير مراعى بعدم إذن من الشارع في الأطراف كلاّ أو بعضا، فإنّ الإذن في الأطراف يعدّ مناقضا للأمر
الفعلي بالواحد المشتبه في تلك الأطراف، بل حكم العقل بالتأثير على سبيل الاقتضاء ممّا لا يعقل له معنى، و هل يعقل أن يكون وجوب
الإطاعة منوطا بأن لا يوجد أمر كذا أو حالة كذا، بحيث لو وجد رخص العقل في ترك الإطاعة و إلغاء أمر المولى، بل تمام موضوع حكم
العقل هو الإطاعة، فإن كان الفعل إطاعة وجب بلا منع مانع، و إلاّ لم يجب رأسا، فحكم المصنف «قده» بالتأثير على وجه الاقتضاء، لم
نفهم وجهه، فإنّ الحكم إذا لم يكن تام الفعلية، كما هو موضوع كلامه، لم يكن القطع التفصيليّ به مقتضيا لوجوب العمل، فضلا عن القطع
الإجمالي، كما انّه إذا كان تام الفعلية كان القطع الإجمالي مؤثرا على وجه العلية التامة، كما صرح به في باب الاشتغال، فالقول بالتأثير
على وجه الاقتضاء باطل على كل حال.
ثم انّ المصنف «قده» توهم من كلام شيخه «قده» في الرسالة، التفصيل جزما أو احتمالا، بين الموافقة القطعية و المخالفة القطعية، بتأثير
العلم في الأول على سبيل الاقتضاء، فيجوز الإذن و الترخيص في بعض الأطراف، و تأثير في الثاني على سبيل العلية التامة.
و أنت إذا تأملت الرسالة لا تشك في انّ مختاره التأثير على وجه العلية التامة في جميع الأطراف ما دام العلم الإجمالي باقيا، فإنّه صرّح
بعدم جواز الإذن في شيء من الأطراف مع بقاء العلم.
نعم، للمولى التحيّل بحل العلم الإجمالي أولا بجعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع، فيصير الشك في الآخر بدويا، فيأذن حينئذ فيه، و هذا
غير التأثير على وجه الاقتضاء في موضوع بقاء العلم الإجمالي.
و توضيح الانحلال: إنّا إذا علمنا بحرمة أحد شيئين، ثم أمر الشارع في موضوع
الصفحة 44
الاشتباه بالبناء على حرمة واحد معين، انحلّ علمنا الأول بالعلم تفصيلا بحرمة هذا المعين و الشك، بدوا في حرمة الآخر، فيعامل بما
يعامل به الشك البدوي، و هذا واضح لا إشكال فيه.
قوله: فانّه يقال: كيف المقال في موارد ثبوته:
لا يخفى انّ المصنف «قده» أيضا يرفع اليد عن فعلية الحكم الواقعي في موارد الترخيص، و لو رفعا جزئيا و من جهة واحدة، مع الالتزام
بالفعلية من سائر الجهات، فيكون تمام الفعلية منوطا بالعلم التفصيليّ بالحكم، فهو يعترف باستحالة الجعل الظاهري مع الحكم الفعلي
التام الفعلية من كلّ الجهات. سواء علم به إجمالا في أطراف محصورة أو غير محصورة، أو شك فيه، فعدم فعلية الحكم الواقعي في كل
مورد من موارد الجعل الظاهري مقطوع عنده.
و عليه لا بدّ من حمل عبادته هذه الموهمة للخلاف على إرادة الفعلية الناقصة، أعني الفعلية من غير جهة الإناطة بالعلم التفصيليّ.
و محصل الجواب عمّا ذكره، هو: انّه يلتزم بعدم الفرق مع عدم الفعلية التامة بين صور العلم تفصيلا و إجمالا، بين أطراف محصورة و
غير محصورة، و صورة الشك و الغفلة في عدم تنجز الواقع، فانّه ما لم يكن تمام الفعلية لا يتنجز بالعلم التفصيليّ فضلا عن غيره، كما لا
فرق مع الفعلية التامة بين العلم به تفصيلا و العلم به إجمالا بين أطراف محصورة أو غير محصورة في تنجز الواقع، و عدم معقولية جعل
حكم ظاهري.
نعم، صورة الاحتمال و الشك تفترق عن ذلك، فانّه يصحّ جعل الحكم الظاهري مع احتمال الحكم الواقعي الفعلي، و يكون دليل الجعل
المذكور حجة على عدم فعلية الواقع، فيصحّ الأخذ بعموم دليل الحكم الظاهري في صورة احتمال الفعلية التامة، و استكشاف عدم الفعلية
التامة من هذا الدليل، و لا يصحّ في صورة العلم بها، من غير فرق بين صور العلم، فجعل جميع الصور بنحو واحد، كما في المتن، في غير
محلّه.
قوله: مع القطع به أو احتماله، أو بدون ذلك:
لا يعقل أن يكون الواقع فعليا مع
الصفحة 45
عدم القطع و الاحتمال، أعني صورة الغفلة و الذهول، و القطع بالخلاف، فانّ التكليف مشروط بالالتفات، فلا محذور أصلا في جعل حكم
آخر مخالف أو مماثل.
قوله: نعم، كان العلم الإجمالي، كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء:
قد عرفت: بطلان القول بالتأثير على وجه الاقتضاء مطلقا، سواء كان المعلوم بالإجمال حكما تام الفعلية أم حكما غير تام، و انّ التأثير
في الأول على سبيل العلية التامة، بحيث لا يعقل الترخيص في شيء من أطراف العلم، مع بقاء هذه الفعلية، و في الثاني لا تأثير أصلا حتّى
على سبيل الاقتضاء، فانّه لو علم تفصيلا بحكم غير تام الفعلية لم يكن له تأثير، فكيف بما إذا علم به إجمالا؟ نعم، إذا كانت قاعدة
المقتضي و المانع قاعدة عقلائية أمكن أن يحكم بفعلية الحكم بعد إحراز المقتضي له و الشك في المانع، فإذا ورد دليل على الترخيص
كشف عن عدم الفعلية و وجود المانع. ثم انّ الّذي قلناه، من: انّ تأثير العلم الإجمالي على وجه العلية، بحيث يمتنع معه الإذن في الأطراف،
يختص بما إذا كان العلم الإجمالي بالحكم علما وجدانيا، امّا إذا كانت الحجة قائمة على الحكم على سبيل الإجمالي فيمكن أن يقال: انّ
عموم دليل صدق لتلك الحجة يعارض بدليل كل شيء مطلق، الشامل للأطراف، فانّ دليل الأمارة، و إن كان مقدما على دليل الأصل
حكومة أو ورودا، في غير مقام، لكن يعارض به في المقام.
و السرّ في ذلك: أنّ دليل الأمارة انّما يذهب بموضوع الأصل حقيقة أو حكما، في مورد الأمارات لا في غير موردها.
و بعبارة أخرى فيما لو كان الوجدان بدل هذه الأمارة لكان الشك ذاهبا حقيقة، و من المعلوم انّه لو كان العلم الإجمالي بدل هذه الأمارة
الإجمالية في المقام، لم يوجب ارتفاع الشك من الطرفين، فإذا لم يكن دليل الأمارة متعرضا للشك حقيقة و لا حكما، شملته أدلّة الأصول و
عارضت بشمولها لجميع أطراف العلم دليل الأمارة، فيتساقطان، و يكون المرجع الأصول العقلية.
قوله: و امّا احتمال انّه بنحو الاقتضاء بالنسبة:
هذا تعريض بشيخه «قده». و قد
الصفحة 46
عرفت: انّ كلام شيخه «قده» بريء عن هذه النسبة، بل صريح فيما اخترناه، من العلية التامة و انّه لا يجوز الإذن في شيء من الأطراف مع
بقاء العلم.
نعم للمولى أن يتحيّل بإذهاب العلم الإجمالي بجعل شيء من الأطراف بدلا عن الواقع، فيكون الطرف الآخر مشكوكا بالشك البدوي،
فيرخص حينئذ فيه.
قوله: و امّا في العبادات، فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار:
ما يحتاج إلى التكرار و ما لا يحتاج يشتركان في توجه الإشكالات و دفعها، لأنه إن اعتبرنا في الاجزاء قصد الوجه و التمييز فانّما
نعتبرهما في مجموع العمل المركب المأمور به و هو ليس إلاّ الاجزاء بالأسر فيعتبران في الاجزاء بالأسر، فإذا لم نعلم جزئية أمر، فكيف
يمكننا قصدهما في العمل المشتمل على ذلك الجزء؟ فلا تكون الاجزاء بالأسر صادرة بهما، و هكذا الحال في إشكال اللعب، و لا سيّما إذا
تردد الجزء بين أمرين و لم يعلم انّ أيّهما هو الجزء، فأتى بهما جميعا، بل لا يبعد أن يكون ذلك من قبيل ما يحتاج إلى التكرار، و يكون
تكراره بإتيانهما جميعا في ضمن عمل واحد.
قوله: فربّما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة:
يتوجه إشكال الإخلال بقصد القربة أيضا، فان الأمر من المولى انّما هو لغرض علم المكلف بطلبه و إتيانه بالفعل بتحريك علمه، و هذا
عين الإتيان بالفعل بداعي الأمر، و هو معنى قصد القربة، و من المعلوم: انّ هذا لا يكون مع عدم العلم تفصيلا بالأمر، سواء شك فيه أم
علم به إجمالا.
إن قلت: على هذا تكون كلّ الأوامر تعبدية، و يستحيل الأمر التوصلي، بمعنى أن يكون الغرض من الأمر الإتيان بالفعل و لو لا بداعي
الأمر، بل بداع نفساني.
قلت: نعم، يستحيل الأمر لغرض إتيان العبد بالفعل بدواع نفسية، فان الغرض هو الّذي يترتّب على الفعل في الوجود، و لا يترتب بين
الأمر و إتيان الفعل بالدواعي النفسانيّة، فليس امتياز الأمر التوصلي عن غيره بما ذكر، و انما يمتاز عن غيره بحصول الغرض الأقصى،
و إسقاط الأمر في التوصّلي و بذات الفعل بخلاف التعبدي، فغسل الثوب النجس الصادر لا بداعي الأمر يسقط الأمر لارتفاع موضوع
الصفحة 47
القذر الّذي أمر بغسله، فليس هذا الغسل مصداقا للواجب، بل هو و الغسل، بإطارة الريح الّذي ليس فردا للمأمور به قطعا، يسقطان الأمر
بجهة واحدة.
نعم، في الأوامر العرفية، حيث انّ سنخ الأغراض معلوم لديهم و انّه متعلق بذات المأمور به، يحكمون بسقوط الأمر بالإتيان بمتعلقه، و لو
لا بداعي الأمر، و هذا بخلاف الأوامر الشرعية التي لها أغراض خفية، و حكم لا تنالها الأفهام العرفية، و ليست من سنخ أغراضهم التي
يجدونها في أفعالهم، و لذلك يحتمل دخل الإتيان بداعي الأمر في حصول تلك الأغراض فلا سبيل حينئذ إلى الحكم بسقوط الأوامر
الشرعية بالإتيان بمتعلقاتها.
و يمكن دفع ما ذكرناه ب: ان في موارد الأمر غرضين مترتبين:
أحدهما: الغرض من البعث، الّذي يحمل المولى على الأمر، و هو حصول الفعل بداعي البعث، و هذا غرض مقدمي.
ثانيهما: الغرض الأصلي، الحاصل من نفس الفعل و الموجب لإرادته، و هذا الغرض لا يعقل دخل قصد الأمر في حصوله، و هو إشكال دخل
قصد القربة في المأمور به في العبادات، فإذا حصل ذات الفعل حصل هذا الغرض و لم يبق للبعث لأجل الغرض المقدمي محل و سقط الأمر،
فالمأتي به لا بداع البعث مصداق للمراد الأصلي و ليس مصداقا للمراد التّبعي المقدمي.
نعم، إذا كان الحاصل بتحريك البعث بقيد حصوله بتحريكه متعلقا للإرادة الأصلية، و كانت الإرادة متعلقة بالفعل الحاصل عقيب بعثه
بداعي بعثه و بتحريكه، ثم بعث إلى الفعل، يكون الفعل لا بداعي البعث خارجا عن حين الإرادة و البعث، و كان الواجب عباديا مقابل
القسم الأول، ثمّ الدخيل في متعلق الإرادة.
تارة: يكون هو قيد الحصول بتحريك العلم بالإرادة تفصيلا.
و أخرى: قيد الحصول بتحريك مطلق العلم الشامل للإجمالي منه.
و ثالثة: ما يعم الحاصل بداعي احتمال الأمر.
فإن كان الأول: بطل الاحتياط رأسا، يعني في موارد العلم الإجمالي، و وجب
الصفحة 48
تحصيل الإطاعة الظنية، و لو بالعمل بالظن، و إن كان الثاني، بطل الاحتياط في موارد الشك البدوي. و إن كان الثالث، لم يبطل
الاحتياط في شيء من الموارد، و أدلّة اعتبار النية في العبادات لا يزيد مؤدّاها على الثالث، و انّه تحتاج العبادات إلى نيّة في الجملة في
قبال عدم الحاجة إلى النية رأسا، و لذلك صحّ الاحتياط في جميع موارد الجهل.
قوله: و كونه لعبا و عبثا، ثالثة:
مآل هذا الوجه إلى عدم تحقق قصد التقرب لتحقق ما يضاده، و هو العبث بأمر المولى و التمسخر بأوامره، و ذلك لا يجتمع مع قصد
التقرب، و كيف يتأتى قصد التقرب بما هو مصداق للإهانة و الاستهزاء و السخرية، و إلاّ فاللعب بنفسه ليس من العناوين المانعة عن
صحة العمل.
ثم انّ عنوان اللعب ان حصل، فانّما هو فيما أتى بمحتملات كثيرة لإدراك واقع واحد، فتوضأ بألف إناء، أحدها ماء مطلق، و صلى في ألف
ثوب أحدها طاهر.
و هذا في الشبهات الحكمية لا يتفق إلاّ بتداخل عدة شبهات و اختلاط بعضها ببعض، فتزيد المحتملات من أجل ذلك، كما إذا علم إجمالا
بوجوب واحد من القصر و الإتمام، و واحد من الجهر و الإخفات، و هكذا.
قوله: هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن من القطع تفصيلا:
إذا كان الاحتياط باطلا و الإطاعة به غير حاصلة للوجوه المتقدمة، كلاّ أو بعضا، لم يكن معنى للتفصيل بين صورة التمكن من الإطاعة
التفصيلية قطعا أو ظنّا، و بين صورة عدم التمكن منها، بل كانت القاعدة قاضية بسقوط التكليف عند عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ
بعين الوجه الّذي كان، يوجب تحصيل الإطاعة التفصيليّة مع التمكّن منها، إلاّ ان يدل دليل على انقلاب الواجب من التعبدية إلى التوصلية
بتعذر إتيانه على وجه التعبدية.
و من ذلك ظهر عدم الفرق بين قسمي الظن، أعني الظن الخاصّ و الظن المطلق، و ان مسلك الاحتياط إذا بطل ببعض تلك الوجوه بطل
رأسا، و انحصر الامتثال بالامتثال التفصيليّ مع التمكن، و سقط التكليف مع عدم التمكن.
الصفحة 49
قوله: و ان ثبوتها لها محتاج إلى جعل:
لا تثبت الحجيّة بالجعل كي يكون غير الحجة حجّة بإنشاء حجيته، بل ما هو حجة حجة بحكم العقل امّا مطلقا أو في حال الانسداد، و ما
ليس بحجة لا يكون حجة أبدا، لا لأنّ الحجيّة غير قابلة للجعل، و إن كان الأمر كذلك، بل لأنّ الحجيّة إن كانت بالجعل لزم التسلسل إلى
حجة أخرى مثبتة للحجة الأولى، و هي إن كانت عقلية كانت الحجة في الحقيقة هي تلك الحجة العقلية لا هذه الشرعية، و إن كانت حجة
جعليّة شرعية عادة ذكرناه أوّلا، و هكذا.
و بالجملة: لا بدّ أن تكون الحجية صادرة من باب العقل، و لا محيص عن أن يكون مناخ رحال التكليف ببابه، فصحّ أن يقال: ليست الحجّة
إلاّ القطع أو الظن على الحكومة.
قوله: و لعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل:
المراد من المحتمل هنا ما يشمل الموهوم، و دفعه غير لازم، و إن قلنا بوجوب دفع الضرر المشكوك، لكن ذلك لا يجدي في المقام
المقطوع فيه توجه الضرر، فإن العقل يلزم في مثله بوجوب دفعه على سبيل القطع و لا يكتفي بالظنّ، مع بقاء احتمال عدم الدفع، و لو
ضعيفا، و هو المعبر عنه بقاعدة الاشتغال.
قوله: و عدم لزوم محال منه عقلا:
يعني أن البحث في الإمكان الوقوعي بعد التسالم على الإمكان الذاتي، لكن ظاهر كلام ابن قبّة عكس ذلك، و إن التعبد بالظنّ بنفسه
محال لا أنّه مستلزم للمحال، و هو كذلك، لأن البحث في التعبد بالظن بعد ثبوت الأحكام الواقعية، و إلاّ فلا استحالة بوجه، لا ذاتا و لا
بالغير، لو قطع النّظر عن الأحكام الواقعية، كما يراه المصوبة. و بعد ثبوت الأحكام الواقعية يكون التعبد بالظن محالا ذاتا، لأنّه من
اجتماع الضدين مع الخطأ و المثلين مع الإصابة.
نعم، يلزم من التعبد تفويت المصالح الواقعية و الإلقاء في المفاسد الواقعية، و كذلك يلزم طلب الضدين فيما إذا أخطأ و أدّى إلى طلب
ضد ما هو المطلوب واقعا، و كل منهما قبيح، ليس بمحال، و إن كان يستحيل صدوره من الحكيم.
الصفحة 50
قوله: و ليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقا:
يعني الإمكان بجميع معانيه، من الإمكان الذاتي و الوقوعي و الاستعدادي، و الإمكان بالقياس ليس ممّا يبني عليه العقلاء عند الشكّ، و
احتمال ما يقابله من الامتناع. لكن الّذي ينبغي أن يقال، هو: انّ امتناع التعبد بغير العلم مع بقاء الأحكام الواقعية على فعليتها ضروري لا
ينبغي الشك فيه، و إن الشك فيه شك في إمكان اجتماع الضدين و امتناعه، و هل يحتمل عاقل إمكانه، فلا بدّ أن يكون البحث في المقام
بحثا صغرويّا، و عن كون المقام من صغريات اجتماع الضدين و عدمه، فالقائل: بأنه ليس من صغرياته لا بدّ له من أن يرفع اليد عن أحد
أمرين، لا محيص له عن ذلك: امّا ان يرفع اليد عن فعلية الأحكام الواقعية الثابتة في موارد الظن على الخلاف، بل مطلقا، أو يرفع اليد عن
كون مفاد أدلة الاعتبار جعل أحكام ظاهرية، فليست جهة الاستحالة مجهولة حتى يتمسك بدليل وقوع التعبد بغير العلم، لإثبات إمكانه،
بل الاستحالة ثابتة ما لم يرفع اليد عن أحد الأمرين اللذين ذكرناهما، و مع رفع اليد عن أحدهما لم تكن استحالة قطعا من غير حاجة إلى
الاستدلال على الإمكان، بدليل وقوع التعبد به.
قوله: بمعنى الاحتمال القابل للقطع:
يعني احتمال وقوع الغريب المسموع، و ذلك يستلزم احتمال الإمكان أيضا، و حصول هذا الاحتمال قهرا الموجب للغوية هذا الكلام من
الشيخ الرئيس، يكون قرينة على انّ المراد إظهار هذا الإمكان بمعنى الاحتمال في مقابل المبادرة بالإنكار، كما هو شأن سواد الناس،
فيكون الكلام دستورا أخلاقيّا.
قوله: أمور، أحدها اجتماع المثلين:
لا تجتمع المحاذير الثلاثة إلاّ في مورد واحد، و هو ما إذا أدّت الأمارة أو الأصل إلى وجوب ضد ما هو الواجب، و ما عدى ذلك:
امّا يلزم فيه محذوران، و هو ما إذا أدّت الأمارة إلى خلاف الحكم الواقعي في موضوع الحكم الواقعي، فانّ اللازم اجتماع الضدين و
تفويت مصلحة الواقع.
أو يلزم فيه محذور واحد، و هو ما إذا أدّت إلى ما يوافق الحكم الواقعي، فإنّ محذوره هو اجتماع المثلين لا غير.
الصفحة 51
إمكان التعبد بالأمارات
قوله: ثالثها انّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره:
المراد من الأصل هنا القاعدة دون الأصل العملي بالمقرر في موضوع الشك، فإنّه لا شكّ في عدم الحجيّة عند الشك في الحجية، بل عدم
الحجية قطعي.
و امّا رفع المناقضة بين كون عدم الحجية قطعيا و الشكّ فيها، فيما مرّ من تعلّق الشكّ بمرتبة من الحكم و القطع بمرتبة أخرى منه، فإنّ
الحجية عند المصنف «قده» حكم مجعول له مراتب، حسب ما للحكم التكليفي من المراتب، فيشك في الحجية الإنشائيّة، و عند الشكّ في
الحجية الإنشائيّة يقطع بعدم الحجية الفعلية، لأنّ الحجيّة الفعلية قوامها القطع، و إلاّ لم يحصل تعذير و تنجيز.
قوله: و امّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام:
شرع في الإيراد على شيخه «قده» حيث تمسّك لعدم الحجيّة عند الشكّ فيها بأدلة حرمة الافتراء و التشريع، فانّ نسبة ما أدّت إليه الأمارة
إلى اللّه تعالى افتراء، كما انّ الالتزام به على انّه من الدين، تشريع.
و حاصل ما أورده، هو: انّ حرمة الافتراء و التشريع أجنبية عمّا هو المقصود، و لا يثبت بها عدم الحجية، فان الافتراء، و هو نسبة الحكم
إلى اللّه مع عدم العلم بأنّه منه، أو الالتزام به على أنّه من الدين، حرام، حتى مع القطع بالحجية، كما في الظن على الحكومة، فحرمتهما لا
تكشف عن عدم الحجية و لا هي عين عدم الحجية.
و هذا الاعتراض من المصنف «قده» في غير محله، لأنّه كلام شيخه «قده» يبتنى على ما سلكه من انّ الحجية الشرعية عبارة عن جعل
المؤدّى فان الحكم الّذي أدّت إليه الأمارة، إذا كان مجعولا بدليل اعتبار تلك الأمارة، جاز نسبته إلى اللّه تعالى، و جاز الالتزام به على أنّه
من الدين، فكان معنى عدم جوازهما عند الشكّ بأدلّة حرمة الافتراء و التشريع عدم حجية تلك الأمارة. و المصنف «قده» يختلف معه في
المبنى، لاعتقاده أن الحجية الشرعية عبارة عن المعذرية و المنجزية، و هي مجعولة بجعل مستقل.
الصفحة 52
و عليه: فلا يسمح له بالإشكال على متفرعاته في كل مورد مورد.
نعم، له حقّ النزاع في المبنى عند وقوع البحث فيه.
حجية الظواهر
لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة
قوله: فصل: لا شبهة في لزوم اتباع:
ينبغي البحث هنا في مقامين:
الأوّل: في حجيّة الظهور الملقى من المتكلم المتلقى منه بجميع مكتنفاته و قرائنه، حالية و مقالية، متصلة و منفصلة، بحيث لم يشذ مما
اعتمد عليه في أداء مقصده شيء، و مع ذلك احتمل عدم مطابقته لمقصوده، و انه ترك القرينة المفهمة لتمام مقصوده: امّا عمدا أو سهوا و
اشتباها، و هذا هو ظاهر عنوان المصنف «قده»، حيث جعل الكلام في حجية الظهور، فانّ ذلك لا يكون إلاّ مع العلم بأنّ ما وصل تمام ما
هو الصادر، و تمام ما اعتمد عليه في إفادة المقصود، و حينئذ يمكن أن يتمسك لحجيته، مضافا إلى ما ذكره المصنف «قده»: بأنّ الشارع
اختار في إفادة مقاصده هذه الطريقة، و تلك مسلك الألفاظ و إلقاء الظواهر، فلو لا انّه أراد العمل بها كان ذلك لغوا منه.
ثمّ انّ الظاهر عدم الفرق في بناء العقلاء على الأخذ بالظهور بين من قصد افهامه و من لم يقصد بعد وصول تمام ما وصل إلى المقصود
افهامه إليه، حسب ما هو المفروض.
نعم، الظاهر التفصيل في اعتبار الظنّ بالمراد، بل الاطمئنان به بين الظواهر، التي يكون بها المخاصمة و الاحتجاج، فلا يعتبر، بل لا
يضر الظنّ بالخلاف و بين الظواهر الأخرى، التي ترجع إلى مقاصد العقلاء من منافعهم و مضارّهم فلا يعملون إلاّ بالوثوق و الاطمئنان،
فانّهم كما يعتبرون في سند الحكاية، الاطمئنان، يعتبرون في دلالتها أيضا الاطمئنان، ليكون ورودهم و صدورهم عن اطمئنان.
الصفحة 53
الثاني: في حجية أصالة عدم القرينة عند الشك فيها، و عدم القطع بوصول تمام ما اعتمد عليه المتكلم في إفادة مقصوده إلى الشخص، و
قد جعل عنوان البحث شيخنا المرتضى «قده» في رسائله ذلك، و هذا لا يكون إلاّ بعد الفراغ عن المقام الأوّل، و حجية أصالة الظهور.
و الحقّ في هذا المقام، عدم الحجيّة، فانّ بناء العقلاء على حمل الكلام على ظاهره الأوّلي عند تردد الأمر بينه و بين صدوره متصلا بما
يصرفه عن ظهوره، أو منفصلا عمّا يصرفه عن حجيته، ممنوع، فانّ تردد الأمر بين صدور رأيت أسدا، أو ظهور رأيت أسدا يرمي،
كتردد الأمر بين صدور أحد ظهورين متباينين في عدم البناء منهم على صدور أحدهما إلاّ بقطع، أو ما هو كالقطع.
نعم، في خصوص المقصودين بالإفهام، إذا كان المتكلم حكيما، لا يبعد ذلك، فانّ تعمده لترك القرينة مدفوع بمنافاته للحكمة، و احتمال
الغفلة عن نصبها لا يعتنى به، و هذا بخلاف غير المقصودين بالإفهام، فان احتمال تعمّد الترك قائم.
و من هنا صحّ التفصيل في هذا المقام بين المقصودين بالإفهام و غيرهم.
نعم، لا فرق بينهما في المقام السابق، المقطوع فيه وصول تمام ما اعتمد عليه المتكلم في إفادة مقصوده.
قوله: امّا بدعوى اختصاص فهم القرآن:
الأخبار التي يستفاد منها المنع عن العمل بظواهر الكتاب و الاستقلال بالتمسك به، بل و كذلك نصوصه، لاحتمال النسخ، على طوائف
خمس:
الأولى: الأخبار الدالة على المنع من التفسير بالرأي، مثل النبويّ: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» و في آخر: «فقد افترى
على اللّه الكذب»، و في ثالث: «فأصاب فقد أخطأ»، و عن الصادق عليه السلام: «ان أصاب لم يؤجر و إن أخطأ سقط أبعد من السماء» إلى
غير ذلك.
و الجواب: انّ التفسير هو كشف المعاني المحجوبة دون الظاهرة الواضحة، فانّ ذلك هو الترجمة. و أيضا العمل طبق الكلام من دون
نسبة إرادة مفاده إلى متكلم
الصفحة 54
لا يعد تفسيرا، فيعمل على طبق ظاهر القرآن قضاء لحجية الظهور، و لا تنسب إرادة مدلوله إلى اللّه تعالى، كما تقدم ذلك من المصنف
«قده» في مطلق الحجة.
و امّا الجواب عن ذلك: بأن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني و الاستحسان العقلي.
فمدفوع: بأنّ الرّأي مطلق الاعتقاد بالشيء عن اجتهاد و استدلال و لو عن طريق معتبر، كتعيين مداليل الألفاظ بالعلائم المقررة لذلك،
كالتبادر و عدم صحّة السلب، و لذا يطلق الرّأي على ما استنبطه الفقيه من الأدلّة الشرعية.
الثانية: الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن و معرفته بمن خوطب به، و هذا يحتمل أن يكون من جهة عدم استقلاله بإفادة المقصود،
بل بقرائن منصوبة للمخاطب، و يحتمل أن يكون من جهة غموض مطالبه و عدم نيل الإفهام لدركها، فان الكتب العلمية لا ينال معانيها
كلّ أحد، مع الالتفات إلى معاني كل جملة منها و فهم ظواهرها.
لكن ظاهر رواية زيد الشحام، اختصاص تفسير القرآن بمن خوطب به، لا فهم ظواهره، فترجع حينئذ إلى الطائفة الأولى. قال: دخل
قتادة على أبي جعفر عليه السلام فقال عليه السلام له: «أنت فقيه أهل البصرة» فقال: هكذا يزعمون. فقال عليه السلام: «بلغني انّك تفسّر
القرآن». قال: نعم، إلى أن قال عليه السلام: «يا قتادة ان كنت قد فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسّرت من
الرّجال فقد هلكت، و أهلكت يا قتادة، ويحك انّما يعرف القرآن من خوطب به.» الثالثة: ما دلّ على النهي عن الأخذ بالمتشابه بدعوى
شمول المتشابه لغير النص، سواء كان ظاهرا أم لم يكن.
و الأولى أن يقال: انّ المتشابه هو كلّ ما له ظاهر أريد منه خلافه، مع عدم نصب قرينة واضحة، مثل (الرحمن على العرش استوى)، و مثل
(يد اللّه فوق أيديهم)، و مثل (و ما رميت إذ رميت و لكن اللّه رمى)، فيكون المتشابه قسما واقعيا من الظواهر، فإذا نهى عن اتباع هذا
القسم الواقعي و لم يعلم به المكلّف عينا،
الصفحة 55
وجب أن لا يؤخذ بشيء من الظواهر مقدمة لترك العمل بالمتشابه الواقعي.
الرابعة: ما دلّ على النهي عن التمسك بالقرآن لإرادة خلاف الظاهر فيه بالنسخ و التخصيص و نحوهما، عما لا يعرف مواقعه إلاّ أهل بيت
الوحي.
الخامسة: ما دلّ على وقوع التحريف في القرآن، و ما هذا شأنه، لا يتمسك به.
و يضاف إلى هذه الطوائف الخمس من الأخبار: دعوى العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر فيه، كما هو مؤدّى الطائفة الرابعة، و يفترق
هذا الوجه عنها، بأنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي بالظفر بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال، لا تجري في التمسك
بالأخبار التي عزلت جميع الظواهر عن الحجية، باشتمالها على تصرفات واقعا، مع انّ دعوى انحلال العلم الإجمالي في بناء العقلاء، كما
ترى، فانّ العلم الإجمالي بارتكاب خلاف الظاهر في أطراف، يوجب إلغاء تلك الأطراف، و عدم العمل بشيء منها حتى يحصل الظفر بما
يعلم انّما تمام ما وقع من التصرف في تلك الأطراف، و لا يجري الظفر بمقدار المعلوم في العمل بالباقي، و لا أقلّ من عدم إحراز بنائهم
على ذلك، و كون الحال في التكاليف كذلك لا يقتضي أن تكون في العمل بأصالة عدم القرينة كذلك، بل عرفت: انّ لا أصل لأصالة عدم
القرينة مطلقا، و انه يلزم القطع بعدمها.
ثمّ انّه يذكر بإزاء الطوائف الخمس اخبارا أخرى دلّت على الأخذ بظواهر الكتاب، فيجمع بين الطائفتين بحمل المانعة على المجملات، و
لكن لا دلالة في شيء منها، فمن جملة تلك الأخبار حديث الثقلين، و فيه: انّ جواز التمسك بالكتاب، بل وجوبه بمعنى الأخذ بمضمونه، ممّا
لم ينكره أحد، و انّما أنكر جواز استقلال كل شخص بتعيين ذلك المضمون من دون دلالة العترة، التي هي الثقل الآخر، و لا سيما بعد
ورود الأخبار بالمنع عنه، الّذي يوجب كون التمسك بظواهره بعد ذلك تركا للتمسك بالعترة، أ ترى انّ حديث الثقلين يقتضي أن يأخذ
ما يفهمه من الكتاب كل سوقي و بدوي من أهل اللسان و غيرهم كلاّ، و أهل اللسان بعد ورود ما يدلّ على اختصاص فهم القرآن بأهل
البيت عليهم السلام، يكون حالهم حال
الصفحة 56
الأجانب من اللسان.
و من جملتها ما دلّ على الأخذ بما وافق الكتاب من الخبرين المتعارضين.
و فيه: انّه لم يدّع أحد اختصاص تشخيص ظاهر الكتاب بالمعصوم، و انّما المدعى عدم جواز الأخذ بظاهره ما لم ترد على طبقه رواية
من المعصوم، و بعد ورود خبر يوافق ظاهر الكتاب، يخرج عن موضوع المنع الأدلّة المانعة، و يكون مما ورد على طبقه رواية.
و من جملتها: ما دلّ على ردّ ما خالف الكتاب من الشروط.
و فيه: انّ المخالفة و المطابقة تتصوران بالنسبة إلى مضمون الكتاب لا لفظه، و لا إشكال في بطلان مضمون ما خالف الكتاب، و لا دلالة
فيه بوجه على جواز تشخيص هذا المضمون لكل أحد بالأخذ بظواهره، و لا سيما بعد ورود الاخبار بالمنع.
و من جملتها عدة روايات تمسّك فيها المعصوم بظاهر الكتاب، و لا يخفى الاستدلال بها انّما يتم إذا كان الإمام عليه السلام بصدد
التنبيه على التمسك و إرجاع الناس إلى الأخذ بظاهر الكتاب، و هو ممنوع، حتى في قوله عليه السلام في رواية عبد الأعلى: «هذا و
أشباهه يعرف من كتاب اللّه»، «ما جعل عليكم في الدين من حرج» ثم قال عليه السلام: «امسح عليه» مشيرا إلى المرارة التي وضعها على
إصبعه. لأنه لم يثبت انّ المراد من «يعرف» معرفة كلّ أحد، بل الظاهر معرفة أهل المعرفة بالقرآن، و هم أنفسهم عليهم السلام. و يشهد
له انّه لا يستفاد من الآية ما استفاده عليه السلام، أعني المسح على المرارة، لو لا تنبيهه عليه السلام على ذلك.
و من جملتها: ما دلّ على عدم العذر لمن سمع بالآية ثم ترك الأخذ بظاهرها.
منها: ما ورد فيمن أتمّ في السفر من انّه إن قرأ عليه آية التقصير أعاد و إلاّ فلا، و فيه: انّ ذلك مقيد بما ورد في روايات اخر من انّه إن
قرئت عليه و فسّرت له، بل يجب تقييده بذلك و لو لم ترد هذه الروايات، لأنّ الآية من الظواهر التي أريد خلافها لظهور، لا جناح في
الترخيص دون الإيجاب.
الصفحة 57
و منها قوله عليه السلام في جواب من أطال الجلوس، في بيت الخلإ لاستماع الغناء، معتذرا بأنه لم يكن شيء أتاه برجله: «أما سمعت قول
اللّه عز و جلّ (انّ السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا). و فيه انّ الآية لو كانت دليلا على حرمة استماع الغناء صحّ
الاستدلال بالرواية للمقام، لكن الآية بمعزل عن ذلك، و انّما مدلولها تعذيب اللّه على ارتكاب المعاصي الثابت كونها من المعاصي بالأدلّة
الخارجية، فيعلم انّ المخاطب كان عالما بالحكم، متحيلا في ارتكابه، و العذاب على المعاصي مع انّه ليس من أحكام العمل، ممّا ثبت
بالضرورة من الدين، و مثل هذا الظاهر المطابق للدليل القطعي لا منع عن الأخذ به، بل لا يسوغ المنع، بل ليس الأخذ به حقيقة إلاّ أخذا
بذلك الدليل القطعي.
و بما ذكرناه تقدر على الجواب عن كلّ ما استدلّ به للمقام، مثل ما دلّ على الأمر بقراءة القرآن و التفكر في معانيه و غير ذلك.
حجيّة العمل بالكتاب
قوله: نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره:
لا يخفى انّ الخلل الحاصل بالتحريف من هذا القبيل فانّه خلل حاصل بالمتصل امّا في هذا أو غيره، و قد عرفت انّ الاحتمال البدوي
للقرينة المتصلة مضرّ بالأخذ بالظهور، فضلا عمّا إذا علم بها إجمالا، لأنّ الظهور الملقى من المتكلم غير معلوم على التعيين، و لم يثبت
البناء على أصالة عدم القرينة في تعيين الظاهر الصادر، بل و كذلك الحال في احتمال القرينة المنفصلة، و يحتمل أن يكون المراد من
العبارة إحراز اتصال شيء بالكلام، و العلم الإجمالي بكونه مخلا بظاهره أو بأظهر غيره، فلا يتجه عليه ما ذكرناه، و إن كان يتجه عليه
انّ العلم الإجمالي بحصول الخلل غير لازم، بل يكفي في السقوط عن الحجية الشك البدوي، كما سيجيء.
قوله: و لم يثبت تواتر القراءات:
و لو ثبت تواتر القراءات، فإن كان هناك جمع
الصفحة 58
دلالي بين الإثنين أخذ به كما في كلّ ظاهرين تعارضا، فان كلتا الآيتين بعد التواتر تكونان من القرآن و يكون المنزل من اللّه تعالى
كلتاهما، فيجمع بينهما إن أمكن و إلاّ تساقطتا، و كان المرجع العموم إن كان، و إلاّ فالأصل، فيحكم في مثل آية يطهرن بجواز إتيانهنّ
بعد انقطاع دم الحيض قبل الاغتسال، بمقتضى العموم الأزماني، في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) و لو فرض
عدم العموم، كان المحكم استصحاب الحرمة.
قوله: فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها:
بل يمكن أن يقال: لا وجه للجمع الدلالي أيضا إن أمكن، لأنّ الاستدلال بهما الظاهر في الأخذ بظاهر كلتيهما الّذي قام عليه الدليل لا
يمكن، و ترك ظاهر إحداهما و الأخذ بظاهر الأخرى لم يدل عليه دليل إلاّ في ظاهرين مقطوعي الصدور أو في حكم مقطوعي الصدور
لقيام الدليل على التعبد بالصدور، و المفروض هاهنا عدم قيام دليل على التعبد بالصدور، بل على الأخذ و الاستدلال.
حجية كلام اللغويّين
قوله: فلا خلاف في انّ الأصل عدمها:
لا أصل لهذا الأصل و لا سيّما إذا احتملت القرينة المتّصلة، إذ في الحقيقة الظهور الصادر من المولى غير محرز، فانّ اللفظ مع القرينة له
ظهور، و بلا قرينة له ظهور، و لا يعلم انّ أيّهما هو الصادر، و بناء أهل المحاورات على صدور معيّن عند الشك الّذي هو معنى أصالة عدم
القرينة غير ثابت، بل حال هذه الصورة حال صورة احتمال قرينية الموجود المتصل.
قوله: لكن الظاهر انّه معه يبنى على المعنى الّذي:
يعني إذا كان عدم القرينة و العراء عنها قرينة على معنى غير ما هو معنى اللفظ في حد ذاته، كعدم البيان في مقام البيان، الّذي هو قرينة
إرادة الشيوع و السريان من لفظ اسم الجنس الموضوع للماهيّة المهملة، كانت قضية أصالة عدم القرينة، حمل اللفظ على ما هو معناه
الصفحة 59
الوضعي الأولي لا ما هو معناه بقيد عدم القرينة، فليس بناء العقلاء على عدم القرينة بناء على عدم القرينة، من حيث انّ نفس عدم القرينة
بنفسه قرينة، ليكون ذلك منهم بناء على القرينة، بل بناء منهم على ترتيب آثار عدم كلّ قرينة حتّى عدم القرينة من حيث كونه قرينة، و
أثر و مقتضى ذلك حمل اللفظ على ما هو معناه الأولى مع قطع النّظر عن كلّ قرينة، و لكن يمكن أن يقال: انّ ظهور اللفظ في معناه
الحقيقي، أعني إبرام هذا الظهور و استقراره، انّما يكون مع عدم انضمام قرينة صارفة بحيث كان عدم الانضمام هو الموجب لاستقرار
الظهور، فعلى ما ذكره يلزم عدم حمل اللفظ على معناه الحقيقي بأصالة عدم القرينة، و لا يكون لأصالة عدم القرينة أثر و فائدة في مورد
من الموارد.
قوله: لا انّه يبنى عليه:
العبارة لا تخلو عن استخدام، فانّ ضمير عليه لا يرجع إلى ما ذكره من المعنى بما أريد منه هناك، بل إلى مطلق المعنى.
قوله: بناء على حجيّة أصالة الحقيقة:
الشكّ في انّ حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبد أو من باب الأخذ بالظهور، صار منشأ الإشكال، لا انّ الإشكال مبني على اعتبارها من
باب التعبد، كما يوهمه ظاهر العبارة، فالمقصود انّ أصالة عدم القرينة إن كان معناها الأخذ بالظهور و دفع احتمال القرينة بسببه، فلا
ظهور في صورة الاتصال بما يحتمل القرينيّة ليدفع آخذا به احتمال قرينيته ما اتّصل و إن كان معناها البناء على عدم القرينة تعبدا من
العقلاء و إن لم يكن ظهور في البين، جرت أصالة عدم القرينة في الصورة المذكورة. و قد عرفت منع البناء على أصالة عدم القرينة
مطلقا في هذه الصورة و في صورة الشك في وجود القرينة و لا سيما المتصلة، فانّ الظهور غير محرز هناك أيضا، ثم انّ الشك في
القرينية لا معنى له، فان الصالح للقرينية هو الأقوى دلالة، فمع كون المتصل متصفا بقوة الدلالة كان قرينة فعلية و إلاّ لم تكن قرينة
قطعا. نعم، يتصور ذلك مع الجهل بمقدار الدلالة، و الظاهر ان ليس الكلام فيه و انّما المراد ان يتصل بالكلام ما يساويه في الظهور و
يعانده في الدلالة، فان ذلك يوجب إجمال الكلام، كما انّ اتصال الأقوى ظهورا يوجب
الصفحة 60
صرف الكلام عن ظاهره إلى ظهور ثانوي.
حجية الإجماع المنقول
قوله: فصل: الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة:
اعلم انّ البحث عن حجية الإجماع المنقول يكون بعد القول بحجية المحصل منه، بأحد الطرق الآتية، إذ مع إنكار حجيته لعدم الإذعان
بمسلك التضمن و بقاعدة اللطف، كما هو واضح، و عدم الحدس القطعي برأي المعصوم من الإجماع لا يبقى للبحث عن المنقول منه
مجال، و أيضا البحث عنه مبني على عدم اختيار مسلك التضمن و إلاّ كان سبيله سبيل خبر الواحد في انّه نقل لقول المعصوم عن حسّ.
غاية الأمر، عدم معرفة الإمام تفصيلا، و من المعلوم عدم دخل ذلك في الحجية، و مثل ذلك ما إذا نقل عن الإمام في زماننا، كبعض
الأدعية الّتي أخبر السيد الجليل ابن طاوس انه سمعها من الإمام عليه السلام، فان شمول دليل صدق له واضح، و لا مجال للتأمل فيه
بمجرد الاستبعاد، و لا ينافيه ما ورد من الأمر بتكذيب مدعي الرؤية إذ لم يدع الرؤية بل ادّعى السماع.
نعم، لو نقل رأي المعصوم حدسا، جاء الإشكال من جهة شبهة اختصاص اعتبار دليل حجية الخبر بالأخبار عن حسّ، و ذلك غير بعيد
بالنسبة إلى الأدلة اللفظية الّتي أقيمت على اعتباره، فانّ ظاهر أكثرها عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب من حيث اعتبارها الوثاقة،
فيعلم انّ مورده ما إذا كان احتمال الخطأ ملغى ببناء العقلاء و هذا ليس إلاّ في الاخبار عن حسّ فانّ احتمال الخطأ في الحدس مما يعتنون
به نعم، في بعض الاخبار ما ظاهره العموم، مثل ما عن أبي الحسن عليه السلام فيما كتبه جوابا عن السؤال عمن يعتمد عليه في الدين،
قال: «اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، كثير القدم في أمرنا».
و امّا الإجماع الّذي أقيم على حجية خبر الواحد، فاختصاصه بالخبر الحسّي
الصفحة 61
لا إشكال فيه لاختلاف المجمعين على حجية الخبر الواحد في حجيّة الإجماع المنقول.
نعم، لا يبعد أن يقال: انّ بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد لا يختص بالخبر الحسّي، بل بنائهم على العمل بالخبر الموثوق به مطلقا. نعم،
في الخبر الحدسي يعتبرون مع ذلك كون المخبر من أهل الخبرة، و ممن يكون الغالب في حدسه الإصابة، و إن شئت قلت: انّ بناءهم
على العمل بما يثقون به، و هذا يحصل في الخبر الحسي بكون المخبر ثقة لا يتعمد الكذب، و في الخبر الحدسي بكونه ثقة لا يتعمد
الكذب في الاخبار عن حدسه، و كونه من أهل الخبرة الذين لا يخطئون في حدسهم غالبا، لغلبة الخطأ في الحدس دون الحسّ. ثم انّا لو
لم نقل بحجية نقل الإجماع من باب نقل المسبب و قول المعصوم لكونه عن حدس، فلا وجه لاعتباره من باب نقل السبب، و قول
المجمعين سواء كان المنقول تمام السبب أو بعضه، و قد احتاج إلى تحصيل ما يكون متمّما له، فان السبب المذكور انّما كان معتبرا من
جهة حصول الحدس القطعي منه لا بما هو، و من المعلوم ان الحدس لا يحصل ما لم يقطع بالسبب.
نعم، إذا كان السبب ملازما لقول المعصوم و كاشفا عنه كشفا عقليا أو عاديا، و لم يكن بنحو يحدس المنقول إليه منه اتّفاقا، بحيث كان
معنى دليل صدق الشامل له ترتيب قول المعصوم عليه، كدليل صدق الشامل لألفاظ المعصوم، الكاشف عن إرادة معناه، اعتبر نقل
الإجماع من حيث نقل السبب، فان كان تمام السبب ترتّب عليه لازمه و إلاّ توقف ترتّبه على تتميمه بما يكون معه تمام السبب، و من ذلك
يظهر الكلام في نقل التواتر، فانّ الكلام فيه كالكلام في نقل الإجماع، من حيث نقل السبب و المسبب، بل لا يبعد اعتبار نقل التواتر من
حيث نقل المسبب، و إن لم نقل به في الإجماع، لقرب الحدس هنا من الحسّ، فيكون كالشهادة بالعدالة و الاجتهاد، من الأمور الحدسية
القريبة من الإحساس، فانّ كلّ واحد من الرّواة ينقل الرواية حسّا من المعصوم و يحصل الحدس القطعي من المجموع بقول المعصوم، و
هذا بخلاف فتوى المجمعين، فانّها ناشئة عن مقدمات حدسية، فيكون الحدس
الصفحة 62
فيها بقول المعصوم حدسا ناشئا من الحدس، فيبعد من أجل ذلك عن الإحساس.
قوله: و أخرى لا ينقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله:
إذا نقل ما هو السبب عند ناقله فلا جرم يكون قد نقل المسبب. نعم، نفس ما نقله من السبب، حيث اختصت سببيته بنظره، لا يكون كاشفا
و لو بالالتزام عن نقل المسبب، فان ذلك انّما يكون إذا كانت علاقة السببية عقلية أو عادية دون ما إذا كانت في نظرنا، فله كذلك، لكن
إذا انضمّ اعتقاده إلى نقله كشف عن نقل المسبب، فنقل السبب لا ينفك عن نقل المسبب.
قوله: إلاّ انّه كان سببا بنظر المنقول إليه:
قد عرفت عدم كفاية السببية بنظر المنقول إليه ما لم يكن سببا عقليا أو عاديا كاشفا عن المسبب، ليكون معنى صدّق المتوجه إليه
ترتيب لازمه و إثبات قول المعصوم به.
قوله: إذ المتيقن من بناء العقلاء:
قد عرفت عموم بناء العقلاء و شموله للخبر عن حدس إذا كان الحدس من أهل الخبرة، بل لا يبعد أن يكون بناؤهم بملاك حصول
الوثوق و الاطمئنان بلا خصوصية في سببه، و لذا لا يفحصون عن حال الخبر و انه عن حسّ أو حدس فيما إذا جهلوا ذلك، و قد التجأ
المصنف إلى الالتزام بتحقق بنائهم على العمل لدى الجهل، ما لم تكن أمارة على الحدس.
قوله: إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة:
قد تقدم انّه إذا كانت حكاية رأي الإمام عن حدس لا تشملها أدلة الاعتبار، و مجرد ان المنقول إليه ممن يعتقد الملازمة لا يجدي في ذلك.
نعم، تعتبر حينئذ من حيث نقل السبب، لكن بما عرفته من الشرط كون الملازمة بين ذلك السبب و قول المعصوم عادية أو عقلية، ليكون
كاشفا عنه لا مجرد اعتقاد المنقول إليه بالملازمة.
قوله: نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر:
لا يخفى انّ اخباره حينئذ يكون اخبارا عن موضوع خارجي ذي أثر، و هو اعتقاده، فيتوقف ثبوته على البيّنة إلاّ ان يكتفى باخباره من
باب انّه مما لا يعلم إلاّ من قبله.
الصفحة 63
حجية الشهرة
قوله: لوضوح أن المراد بالموصول:
لا يخفى انّ اشتهار الرواية بين الأصحاب لا يصدق إلاّ مع تلقيهم لها بالقبول و أخذهم إيّاها و إذعانهم بها، و ان اتّحد سندها، نقلهم لها
معرضين عنها غير حاملين بها، فلا يعدّ من الاشتهار بين الأصحاب و إن تعدد سندها و تكثر رواتها، فالعبرة في الصدق باشتهار
الفتوى دون مجرد النقل من غير اعتماد و اتكال. ثمّ انّ المقبولة و إن دلّت على وجوب الأخذ بالرواية المشتهرة بين الأصحاب، لكن
تعليلها يقتضي التسرية إلى كلّ ما اشتهر، و إن كان حكما ليس في مورده رواية.
قوله: لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد:
كون بناء العقلاء دائرا مدار الاطمئنان و سكون النّفس، بلا دخل شيء من الأسباب فيه، من الواضحات التي لا تنكر، بل عملهم بالعلم أيضا
بهذا الملاك لا بما هو علم، غير محتمل للخلاف.
حجيّة الخبر الواحد
قوله: و عليه لا يكاد يفيد في ذلك:
يفيد في ذلك إذا كان المراد من الأدلّة الأدلّة الحاكية، فيكون المراد من السنة الاخبار الحاكية عن قول المعصوم و فعله و تقريره، فانّ
البحث عن حجيتها بحث عن عوارضها، و لا سيما على مذاق المصنف من كون الحجية بنفسها امرا مجعولا قائما بذات الحجة، و انّها غير
وجوب العمل، و إلاّ أمكن أن يقال أيضا: انّ الوجوب ليس من عوارض الخبر، بل من عوارض فعل المكلف و عمله، على طبق الخبر.
قوله: مع انّه لازم لما يبحث عنه في المسألة:
يريد انّ عنوان البحث هو حجية الخبر لا ثبوت السنة بالخبر، نعم، هو لازمه، و المناط في الدخول و الخروج عن مسائل
الصفحة 64
الفن نفس ما هو عنوان البحث لا ما هو لازمه. قلت: بل هو عينها لا يختلف عنها إلاّ في مجرد التعبير، و اختلاف التعبير عن مطلب واحد لا
يضرّ بحقيقة المطلب إذا كان بحقيقته داخلا في مسائل الفنّ، و إن عبّر عنه بتعبير يوهم الخروج.
قوله: و الجواب: امّا عن الآيات فبان الظاهر منها:
لا تخفى قوة ظهورها في العموم بملاحظة ما فيها من التعليل، فان قوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن و إنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئا» و
قوله تعالى: «لا تقف ما ليس لك به علم انّ السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا» كيف يسوغ دعوى اختصاصها بالظنّ في
الأصول الاعتقادية، و إن فرض انّ مورد الآية الأولى ذلك، و منه يظهر ما في دعوى تخصيصها بما دلّ على حجيّة خبر العدل، فانها
بملاحظة ما فيه من التعليل غير قابلة للتخصيص.
فالصواب في الجواب أن يقال: انّ مفاد الآيات لا يتجاوز ما يحكم به العقل من عدم جواز الاتكال و الاعتماد على مجرد الظنّ، و امّا الأخذ
بدليل ظنّي قامت الحجة القطعية على اعتباره، فليس اعتمادا على الظن، بل على تلك الحجة القطعية، و إن شئت قلت: انّ الحكم الظاهري
المنشأ على طبق الأمارة الظنية يكون قطعيا، فيؤخذ بهذا الحكم القطعي، فالدليل القطعي على اعتبار أمارة ظنية لا يزاحم ظهور الآيات،
بل يوجب خروج مورد موضوعها على سبيل التخصيص.
قوله: فبان الاستدلال بها خال عن السداد، فانها اخبار آحاد:
يمكن أن يقال:
انّها و إن كانت اخبار آحاد لكنها القدر المتيقن من الحجة، لأنها موافقة للكتاب، أعني الآيات الناهية عن اتباع الظنّ، و قد دلّت على عدم
حجية الأخبار المخالفة، فتكون حجة على ذلك و تعارض الأخبار الدّالة على حجية خبر العدل بالعموم من وجه، فامّا أن تقدّم هذه
بموافقة الكتاب أو تتساقطان، و يكون المرجع أصالة عدم حجية المخالف، لا يقال: انّها مخالفة للكتاب، أعني آية النبأ و نحوها، مما دلّ
على حجيّة خبر العدل. قلت: انّ سلّمت دلالة آية النبأ فهي معارضة للآيات المتقدمة بعد أن عرفت عدم قبولها للتخصيص، و بعد التساقط
تكون الأخبار الناهية غير
الصفحة 65
مخالفة للكتاب، و قد دلّت على عدم حجية الأخبار المخالفة، و يمكن أن يكون التمسك بهذه الأخبار على عدم حجية أخبار الآحاد مع
كونها بنفسها أخبار آحاد لا لإثبات عدم الحجية بها، بل لتحطيم أخبار الحجية، فانّ تلك الأخبار لو كانت بنفسها مفيدة للقطع لو لا هذه
لم تكن مع هذه مفيدة له.
قوله: بل لا محيص عنه في مقام المعارضة:
يعني انّ مآل عدم حجية المخالف للكتاب و السنة جميعا إلى ترجيح أحد الخبرين المتعارضين، أعني السنة الموافقة للكتاب على هذا
الخبر المخالف له و للكتاب، و ترجيح السنة على الخبر بموافقة الكتاب، و هذا مما لا محيص عنه، و فيه:
أوّلا: انّ ذلك لا يصحّ فيما يمكن الجمع الدلالي بين الكتاب و السنة و بين الخبر المخالف لهما، كما إذا كان الخبر خاصا و الكتاب و السنة
عامين، فانّ السّنة لا ترجح حينئذ بموافقة الكتاب، بل يخصصان جميعا بالخبر.
و ثانيا: انّه يمكن دعوى تواتر بقية الأخبار مما عدا ما تضمن الأمر بطرح ما خالف الكتاب و السنة، فينبغي الأخذ بالأخص من البقية، مع
انّه يمكن دعوى الجزم بأنّ المراد من هذا أيضا هو مخالفة كلّ واحد من الكتاب و السّنة لا مخالفة مجموعهما، فتكون الواو بمعنى أو.
فالجواب الحاسم لمادة الإشكال، هو: أنّ هذه الأخبار طائفتان: طائفة دلّت على انّ ما خالف الكتاب باطل و زخرف، و لم يقولوه. و
أخرى دلّت على الأمر بطرح ما خالف أو ما لم يوافق أو لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب اللّه تعالى. فامّا الطائفة الأولى: فهي
أجنبية عن المقام و مضمونها مقطوع به لو لا هذه الروايات أيضا، فانّ المراد من الكتاب فيها واقع الكتاب و حكمه لا ظاهره و ما نفهمه
منه.
و امّا الطائفة الثانية: فهي و إن دلّت على أنّ المقياس فيما يؤخذ و ما يطرح هي المخالفة و عدم المخالفة، أو الموافقة و عدم الموافقة
للكتاب، اللتين لا محيص من حملهما على المخالفة و الموافقة بحسب ما نفهمه من الكتاب لا ما هو واقعه، لكنّ الأخبار التي دلّت على
تصديق العادل حاكمة على هذه.
الصفحة 66
بتقريب، انّ هذه الأخبار لا مزاحمة لها بوجه مع ما نسمعه من الإمام من المخالفات لظواهر الكتاب مخالفة جزئيّة، فانّها لا تدلّ إلاّ على
طرح الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب لا أقوالهم المخالفة لظاهره، فما تسمعه منهم أو نقطع بصدوره منهم يؤخذ به و يتصرف في ظاهر
الكتاب، و حينئذ فإذا دلّ الدليل على تنزيل قول العادل منزلة السماع منهم، مثل قوله عليه السلام: «ما يقوله عنّي فعنّي يقول» كان ذلك
دليلا حاكما على دليل طرح ما خالف من الأخبار، و يكون المتحصل من المجموع حجية قول العدل مطلقا، و قول غير العدل إذا وافق
الكتاب.
قوله: خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمّل:
فانّ دليل حجية الإجماع المنقول هو دليل حجية الخبر الواحد، فالتمسك به على عدم حجية الخبر تمسك بالخبر على نفي حجية الخبر، و
يمكن إصلاحه بالنسبة إلى عدم حجية خصوص الأخبار المخالفة، بما تقدم في التمسك بالأخبار على طرح ما خالف الكتاب.
قوله: و لا يخفى انّه على هذا التقرير لا يرد انّ الشرط:
فيه أوّلا: انّ هذا التقرير بمعزل عن ظاهر الآية، فانّ المعلق عليه، المدخول لأداة الشرط فيها هو مجيء الفاسق بالنبإ لا فسق الجائي،
ليكون المفهوم عدم فسقه بعد مفروغية أصل النبأ.
و ثانيا: انّ هذا التقرير أيضا لا يسلم عن الإشكال أيضا، و ذلك لوضوح انّ موضوع التبين الّذي هو كناية عن عدم العمل في تالي القضية،
هو التبين عن ما جاء به الفاسق من النبأ لا كلّ نبأ و لا طبيعة النبأ بما هي طبيعة، و قانون المفهوم، هو انتفاء هذا التالي عند انتفاء المقدم،
و من المعلوم انّ انتفاء هذا التالي عند كون الجائي بالنبإ عادلا، يكون من السالبة بانتفاء الموضوع فانّ موضوع النبأ الّذي جاء به
الفاسق يكون منفيا حينئذ، فينتفي حكمه، و امّا النبأ الّذي جاء به العادل فلا يكون تعرض لحكمه في جانب شرطية المنطوق ليكون بذلك
قد تعرض له في جانب شرطية المفهوم، و من المعلوم أنّ الشرطيتين لا تختلفان في غير جهة الإيجاب و السلب، إن قلت: لا ريب في
ثبوت المفهوم في قولنا: زيد إن أكرمك أكرمه، و يكون مفهومه ان لم يكن كذلك لا يجب إكرامه. و ما نحن فيه يكون من ذلك
الصفحة 67
القبيل، و تكون القضية هكذا: النبأ إن كان الجائي به فاسقا تبين عنه و لا تعمل به، و يكون مفهومه: النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقا لا
تبيّن عنه، بل اعتمد به.
قلت: فرق بين المقام و المثال، فانّ زيدا موجود خارجي، يكون له حالتان:
حالة الإكرام و حالة عدمه، و هذا الموجود الخارجي جعل موضوعا للحكم معلقا على تحقق إحدى الحالتين، فينتفي عنه الحكم عند انتفاء
هذه الحالة، و هذا بخلاف النبأ، فانّه لا تحقق له إلاّ بالمجيء به، و يكون المجيء به عبارة عن إيجاده، كما انّ رزق الولد يكون عبارة عن
وجوده، فيكون الحكم في التالي معلقا على موضوعه، و هو وجود بناء الفاسق، فحينئذ يتوجه إشكال انّه لا يكون مفهوم له أصلا، أو
يكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع، و عليه، فلا فرق بين الشرطية التي فسّرها المصنف و بين الشرطية الأخرى التي هي ظاهر الآية،
و من هنا ظهر الكلام عليها و انّ التالي إذا كان هو وجوب التبين في خبر الفاسق و عدم العمل به لم ينتف بانتفاء المقدم إلاّ هو، فيكون
المفهوم إن كان سالبة بانتفاء الموضوع، و لا يكون تعرض عن خبر العادل بخبر في جانب المنطوق ليكون عنه التعرض في جانب
الموضوع، فانّ المفهوم لا يختلف عن المنطوق إلاّ في الإيجاب و السلب.
قوله: إلاّ انّها ظاهرة في انّ انحصار:
هذا الظهور مبنى على كون الآية في مقام بيان تمام ما يتبين فيه، و لم تذكر سوى خبر الفاسق، لكنه لم يثبت، بل لا يبعد أن تكون في
مقام الردع عمّا كان فعلا مظنة العمل، و هو خبر خالد. نعم، في الاقتصار في الردع على خبر الفاسق إيماء إلى التقرير بالنسبة إلى خبر
العادل، لكنه لا تبلغ مرتبة الدلالة لتكون حجة.
الآيات التي استدلّ بها
قوله: و لا يخفى انّ الإشكال انّما يبتنى:
الظاهر عدم الإشكال حتّى بناء على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، كما هو الظاهر، و سنشير إلى وجهه، فانّه لا جهالة في نظر العرف
في خبر العادل المأمون من الكذب، فانّه يفيد العلم العادي، بل في الآية
الصفحة 68
أيضا إيماء إلى ذلك، فانّ تخصيص الأمر بالتبين بخبر الفاسق ثم الإشارة إلى علته، بأنه الإصابة بجهالة، يشير إلى اختصاص هذا الخبر
بها و عدم وجودها في خبر العادل.
و امّا حمل الجهالة على السفاهة فيأباه ذيل الآية، أعني قوله: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فانّ مقتضاه كون خوف الندم و عدم الأمن
هو السبب لترك العمل، و هو يناسب أن تكون الجهالة، بمعنى عدم العلم، و إلاّ فالجهالة بمعنى السفاهة بنفسه باطل و لا يعلل بخوف
الندم.
ثمّ انّه لو سلمنا عموم التعليل و شموله لخبر العادل لم يكن ريب في انّه أقوى دلالة من المفهوم، فيمنع أن ينعقد للقضية ظهور في
المفهوم، فيستدلّ حينئذ بالآية على عدم حجية خبر الواحد، و لو فرض التكافؤ حصل الإجمال فلم يستدل بالآية على شيء من المذهبين.
قوله: ربّما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمام عليه السلام
: قد ذكر هاهنا إشكالان متعاكسان، أحدهما شمول دليل اعتبار الخبر للخبر مع الواسطة، أعني للخبر الحاكي عن الخبر، و الآخر
شموله للخبر المحكي بالخبر، و مناط الإشكالين متعدد.
فمناط الأول هو: انّ دليل صدق لا يتوجه إلى مورد خلي عن الأثر لعدم معقولية التصديق و اللا تصديق. فيه، فكلّ مورد كان محكي الخبر
ممّا يشتمل على الحكم بحيث لو كان المخبر له عالما بالمحكي بلا واسطة الحاكي لتوجه إليه الحكم، توجه هناك دليل صدق، و كان معنى
توجهه إنشاء ما يماثل المحكي من الحكم، و كل مورد لا يكون كذلك للتوجه دليل صدق، فإذا فرضنا انّ خطاب صدق انحصر في خطاب
واحد لم يعقل أن يشمل إلاّ الخبر الحاكي عن الإمام بلا واسطة، لأنه المشتمل على الأثر بلا لحاظ نفس صدق، و امّا شموله للخبر الحاكي
عن الحاكي فذاك يتوقف على شمول صدق ابتداء للحاكي الأول ليكون بشموله له ذو أثر، فيشمل بلحاظه للحاكي الثاني، و ذلك
مستحيل، لاستلزامه اتحاد الحكم و الموضوع،
الصفحة 69
كما في كل خبري صادق لو شمل نفسه، إذ كما انّ صادق حينئذ يكون موضوعا و محمولا، كذلك صدق الّذي هو بمعنى رتب الأثر يكون
في الخبر مع الواسطة حكما و موضوعا للحكم، فانّه فيه يكون بمعنى رتب الأثر الّذي هو عبارة عن نفس رتب هذا.
و لا يخفى انّ حمل القضية على الطبيعية في كلّ خبري صادق و إرادة طبيعة الأثر في صدق العادل لا يدفع المحذور، فانّه إن أريد من
الطبيعة، الطبيعة في الجملة لم يجد ذلك، و إن أريد منها الطبيعة السارية حتّى في هذا الفرد عاد المحذور، إذ كفى في توجه المحذور
إرادة الحصة الموجودة في هذا الفرد و إن خرجت الخصوصيات الشخصية عن حيّز الحكم، فالصواب في دفع الإشكال، هو أن يقال: إنّ
دليل صدق معناه فرض الخبر صادقا و المعاملة معه معاملة ما إذا كان قاطعا بالصدق، فإذا كان قاطعا بصدق الخبر بلا واسطة عن حكم
عملي كان عمله هو القيام بمقتضى ذلك الحكم، و امّا إذا كان قاطعا بصدق الخبر مع الواسطة فذاك، و إن لم يكن له أثر مطلقا لكن له أثر
إذا كان قاطعا أيضا بصدق ذلك الخبر الواسطة، فإذا قام دليل الاعتبار على تنزيل كلا الخبرين الواسطة و ذي الواسطة جميعا في عرض
واحد منزلة المقطوع صدورهما لم يكن مانع من الأخذ بمؤداه، و لا يكون ذلك، كما إذا لم يكن لفرض صدق الخبر أثر أصلا، فدليل
صدق يفيد الحكم بتصديق الخبر بلا واسطة، و أيضا يفيد الحكم بتصديق الخبر مع الواسطة، و لكن بواسطته لا مجردا، كي يشكل بعدم
الأثر. هذا تمام الكلام في الإشكال الأول.
و امّا الإشكال الثاني: فمناطه عدم شمول عموم دليل الحكم للفرد المتولد من موضوعه بنفس الحكم في القضية، و إلاّ لزم تأخر
الموضوع عن حكمه، مع انّه سابق عليه، و امّا كون ما نحن فيه على تقدير شمول دليل صدق لخصوص الوسائط من ذاك القبيل، فهو: أن
ثبوت خبر المفيد الّذي حكاه الشيخ يكون بنفس شمول دليل صدق لخبر الشيخ، فكيف يكون هذا الثابت بدليل صدق مشمولا لدليل
صدق؟
الصفحة 70
و الجواب: بأنّ الموضوع طبيعة الخبر الشاملة للفرد المتولد من الحكم في القضية عليها، قد عرف ما فيه. فالصواب في الجواب، أن يقال:
انّ شمول دليل صدق للخبر المحكي ليس من حقيقة الشمول، كي يتوقف على ثبوت الموضوع و تحققه، فيلزم المحذور المذكور، بل من
باب المعاملة معه معاملة الثبوت، و التحقق بترتيب أثره عليه و هو حكم صدق، كما في الأصول الموضوعية و الأمارات القائمة على
الموضوعات.
قوله: و هو الترجي الإيقاعي الإنشائي:
لا يبعد أن يقال: انّ مفهوم الترجي، و هو ترقب حصول ما هو مطلوب و محبوب، غير منوط معنى تحققه بالجهل بالحصول، بل يحصل
من العالم كما يحصل من الجاهل، فانّ ترقّب حصول ما يعلم انّه سيتحقق رجاء له، كما انّ هذا المعنى بعينه في جانب المكروه خوف،
فالعالم بتحقق العقاب، و انّه سيعاقب خائف، و على ذلك، فحقيقة الرجاء يتحقق من اللّه تبارك و تعالى بلا حاجة إلى التكلفات التي
ارتكبوها، مع انّ فيها ما فيها، فانّه أية علاقة بين الترجي و المحبوبية، فانّ كون الترجّي ترقب أمر محبوب، لا يصحح الاستعمال في قيد
الموضوع له، و كذا كون الداعي لإنشاء الترجي هو المحبوبية، من غير استعمال اللفظ في المحبوبية، كما صنعه المصنف، فانّه أية مناسبة
بين الأمرين ليكون أحدهما داعيا محركا لإيجاد الآخر؟
قوله: لعدم الفصل:
لا حاجة إلى ضمّ عدم الفصل، فانّ إطلاق الحكم بالمحبوبية لموارد اخبار العدل بالوجوب مع احتمال الحرمة، و كذلك العكس يكشف عن
الوجوب و الحجية لعدم تصوير المحبوبية في الموردين اللذين كان العمل بهما على خلاف الاحتياط لو لا الحجية.
نعم، الآية لا تعمّ أخبار العدل عن الأحكام غير الإلزامية، فلا بدّ فيها من ضمّ عدم القول بالفصل.
قوله: لوجوبه مع وجود ما يقتضيه:
هذا مبني على انحصار مادة التحذّر بالفرار عن العقاب، امّا إذا قلنا بعمومها و شمولها للفرار عن المفاسد أو فوت المصالح الدنيوية،
الصفحة 71
فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بعد ضمّ ما ذكرناه، من إطلاق الآية لمورد عدم إمكان الاحتياط لاحتمال حكمين إلزاميين، فانّه لا يمكن ذلك الفرار
حينئذ، فإن كان العمل بقول العادل مع ذلك محبوبا كان ذلك لحجيته، بل يمكن أن يقال: انّ مادة الحذر إن أطلقت على الفرار عن
المفاسد أو ترك المصالح، فانّها لا تطلق إلاّ على الفرار عن أحد الملزمتين منهما دون غيرها، و من المعلوم أنه لا إلزام في المفاسد و
المصالح الموجودة في مورد اخبار العدل، إذا لم يكن اخباره حجة.
قوله: ثانيها: انّه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب:
لا يخفى عدم توقف هذا الوجه من الاستدلال على وجوب الإنذار، بل لو كان الإنذار راجحا أيضا كفى في الاستدلال على وجوب القبول
للزوم اللغوية لولاه، و هذا الوجه يحتاج إلى ضمّ ما تقدم في ذيل الوجه الأول، من عدم معقولية محبوبية الحذر و رجحانه من غير وجوب
و إلاّ كفى ذلك في خروج الأمر بالإنذار عن اللغوية، و لم يمكن إثبات وجوب الحذر ببرهان اللغوية.
قوله: ثالثها: انّه جعل غاية للإنذار الواجب:
الأولى في تقرير هذا الوجه أن يقال: انّ كلمة لو لا تدلّ على وجوب مدخولها، و هو النفر، فإذا وجب النفر وجب جميع غاياته ما كان بلا
واسطة، كالتفقه و الإنذار، أو ما كان مع الواسطة، كالحذر، و ذلك لأنّ غاية الواجب لا بدّ أن تكون مما لا يرضى الأمر بعدمها، و لازمه
أن تكون واجبة إذا كانت من الأفعال الاختيارية.
و فيه: انّ المراد من غاية الواجب إن كان هو الفعل الاختياري الّذي ترشح وجوب ذي الغاية من وجوبه، فيكون وجوب ذي الغاية ناشئا
من وجوبه، فلا إشكال في انّه لو ثبت وجوب ذي الغاية بهذا الوجوب الغيري كان ذلك كاشفا عن وجوب الغاية، لكن المقام بمعزل عن
ذلك، فانّ وجوب النفر و التفقه و الإنذار لا يكاد يترشح من وجوب الحذر على القوم لعدم وجوب فعل على أحد، وجب بوجوب غايته
على آخر، و إن كان المراد من غاية الواجب الحكم و المصالح المترتبة عليه، فهذا ممّا لا يجب بوجوب الواجب، بل يتحقق بتحققه البتة، إن
كان
الصفحة 72
الواجب علة تامّة له، هذا مضافا إلى أنّ غاية النفر ثمّ التفقه و الإنذار ليس هو الحذر الخارجي حتّى يقال: انّ غاية الواجب واجبة، و انّما
احتمال الحذر و ترقبه في نفس المولى، هو الّذي دعى المولى إلى الأمر، و هذا لا يقتضي وجوب نفس الحذر في الخارج.
و الجواب العام الشامل لجميع وجوه الاستدلال: انّ الآية ليست في مقام إيجاب التحذر تعبدا، بل مسوقة بعد الفراغ عن اقتضاء الإنذار
للتحذر، امّا الحصول القطع أو لأجل بناء العقلاء على العمل بخبر العدل، لبيان وجوب الإنذار، لترقب ترتب مسبب عليه، طبعا في مقابل
تخلفه عنه عمدا و عصيانا. نعم، لو قيل: انّ الآية بإطلاقها الشامل لغير مورد إفادة الإنذار للعلم، تدلّ على تقرير بناء العقلاء على العمل
باخبار الثقة، لكان قريبا.
قوله: و يشكل الوجه الأول بأن:
قد تقدم الجواب عن هذا الإشكال بوجهين:
أحدهما: إطلاق الآية و شمولها، لما إذا أخبر العادل بالحرمة، و احتمل الوجوب أو العكس، فانّه لا يجري هنا ما أفاده من الإشكال.
و الثاني: انّ الحذر عن المفسدة أو ترك المصلحة انّما يطلق إذا كانت المفسدة و المصلحة المذكورتان ملزمتين، فلا يطلق على الاحتياط
في الشبهات البدوية، فصحّ انّ مادة الحذر لا يطلق إلاّ مع الإلزام.
قوله: و الوجه الثاني و الثالث:
بعد الاعتراف بإطلاق الآية في إيجاب النفر الشامل لما إذا أفاد العلم و ما إذا لم يفد، تمّ الاستدلال سيما إذا علم بعدم تيسّر ضمّ ما يحصل
به العلم و الإنذار من إنذار سائر الناس، و لم يحتج إلى إثبات إطلاق آخر في جانب غائية التحذر، فانّه بعد فرض كونه غاية و كون
المغيا مطلقا، كانت الغاية أيضا مطلقة. نعم، إذا كانت الآية مهملة في إيجاب النفر و الإنذار، كما صحّ ما ذكره «ره» لكن منع الإطلاق، ممّا
لا وجه له.
قوله: عند إحراز انّ الإنذار بها:
لا يخفى أنّ الخطاب ليس. للمنذرين بالفتح بأنّكم إذا أنذرتم احذروا، ليتجه ما أفاده «ره» بل للنافرين المتفقهين، بأنه أنذروا،
الصفحة 73
و المنذر يعلم بأنّه منذر بالأحكام، و هو موضوع وجوب الحذر على المنذرين بالفتح، مع انّ صدق عنوان الإنذار بشيء أو الاخبار به
يحصل بمجرد إنذار المنذر و المخبر بلا توقف على إحراز تحقق المنذر به أو المخبر به، فانّ الاخبار بقيام زيد يحصل بمجرد قول
المخبر: زيد قائم. و إن لم يعلم بتحقق القيام منه في الخارج، بل و إن علم بعدم تحققه، و لذا يتصف الخبر بكل من الصدق و الكذب.
ثمّ انّه إن صحّ هذا الجواب اتّجه على جميع وجوه الاستدلال و لا يختصّ بالوجهين الأخيرين، و كان لازمه عدم وجوب النفر و الإنذار إذا
علم بعدم حصول العلم للمنذرين، و لو من جهة عدم انضمام إنذار من يحصل بانضمام إنذارهم العلم.
قوله: لا يذهب عليك انّه ليس حال الرّواة:
يظهر من هذا الجواب انّ المصنف لم يصل إلى حقيقة الإشكال، و هو: انّ عنوان الرواية انّما ينطبق على نقل ما سمعه الشخص من الإمام
بلفظه أو بمعناه: و عنوان الإنذار ينطبق على الاجتهاد في فهم ما سمعه و بذل ما اعتقده، و لو بلفظ يجب و يحرم من غير تصريح
بالعقاب، فانّ ذلك متضمن للوعيد بالعقاب بمدلوله الالتزامي، و كذلك عنوان الإنذار ينطبق على التخويف الحاصل من الوعّاظ، مع علم
المنذرين بأصل الحكم أو تلقيهم له من طريق معتبر عندهم، من اجتهاد أو تقليد، فالراوي بما هو راوي، الّذي يراد إثبات حجية روايته
في حق مجتهد آخر لا يطلق عليه المنذر، لتكون الآية من أدلّة حجية الرواية، كما انّه بما هو منذر، لو انضمّ إلى روايته الإنذار و التخويف،
لا يكون إنذاره حجة إلاّ للعوام، إذ اعتقدوه جامعا للشرائط، فانّ منذريته تكون متقومة بجهة فهمه للرواية، الّذي هو عبارة عن فتواه
بمؤدّاها، و فهمه ليس حجة على مجتهد آخر.
و من ذلك يظهر انّ الاستدلال بالآية على حجية نقل الراوي إذا انضمّ إلى نقله الإنذار، ثمّ تتميم المدعى في ما لم ينضمّ بالإجماع في غير
موقعه، فانّه في ما إذا انضمّ، ليس نقله حجة لينضم إليه الإجماع، و إنّما الحجة إنذاره، فيختصّ بمن يجوز له تقليده.
الصفحة 74
قوله: و تقريب الاستدلال بها: انّ حرمة الكتمان يستلزم القبول:
حرمة الكتمان انّما كان يستلزم القبول إذا كان مستلزما لوجوب الإظهار، و هو ممنوع، فانّ الظاهر ثبوت الواسطة بين الكتمان و
الإظهار و ليس الكتمان عبارة عن مجرد عدم الإظهار، بل عبارة عن الستر و الإخفاء، لما من شأنه الظهور لو لا الستر، كما في آية
كتمان الحمل، فيكون مفاد الآية لعن من يكتم و يستر الهدى و البينات و يمنعها عن الظهور، و ذلك بمعزل عن المطلوب.
نعم، يستعمل مادة الكتمان في التعمد بعدم إظهار ما ينبغي إظهاره، كما في آية كتمان الشهادة، فلو كان الكتمان في هذه الآية بذاك
المعنى صحّ التمسك بها للمقام. و لعلّ الاستثناء في الآية الثانية بقوله عزّ من قائل: (إلاّ الذين تابوا و أصلحوا و بيّنوا) يشهد على ذلك، إلاّ
أن يقال: انّ الارتداع عن الكتمان بعد تحققه انّما يكون بالبيان، و إلاّ بقي الأمر مكتوما، فاستمرّ بذلك العصيان.
قوله: و لا يخفى انّه لو سلمت هذه الملازمة:
لا يخفى: انّ الملازمة تتبع الإطلاق، و شمول الآية إذا لم يكن إظهار البيّنات و الهدى مفيدا للعلم لا بنفسه و لا بانضمام إظهار من يفيد
انضمام إظهاره للعلم، فانه لو كان الإظهار حينئذ واجبا لاقتضى وجوبه جواز القبول، و إلاّ لزم اللغوية، فلو لم يكن للآية إطلاق يشمل
هذه الصورة، و كان ظاهرها أو متيقّنها صورة إفادة العلم لم تتمّ الملازمة. و منه يظهر ما في كلام المصنف، من انّه لا مجال لمنع الإطلاق
مع تسليم الملازمة، فانّ الأمر على العكس:
لا مجال لمنع الملازمة مع تسليم الإطلاق.
قوله: لا مجال للإيراد على هذه الآية:
لعل عدم المجال من جهة إفادة الموصول للعموم في صلته، فيكون العموم وضعيا.
قوله: لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب:
نعم، الظاهر انّ هذه الآية و بقيتها ليست بصدد بيان الحكم الشرعي و إعطاء التعبد، بل و كذا آية النبأ، و لكنّها تدلّ بإطلاقها على كون
الجواب معمولا به بالطبع، و لو لم يفد، فتكشف عن العلم ثبوت بناء من العقلاء على العمل و تكون الآيات تقريرا له.
الصفحة 75
نعم، يجب التقييد بخصوص ما إذا حصل العلم في مورد هذه الآية، حيث انّه من الأمور الاعتقادية، بل التمسك بها في غير موردها غير
صحيح، لعدم ثبوت الإطلاق فيها و ان فرض عموم أهل الذّكر لغير الأئمة، و أيضا عدم إرادة خصوص علماء أهل الكتاب منها.
قوله: و فيه: انّ كثيرا من الرّواة يصدق عليهم انّهم أهل الذّكر:
قد تقدّم في ذيل آية النفر ما في هذا الإيراد من الضعف و الوهن. نعم، قد أضاف هنا شيئا آخر، و هو إطلاق الأمر بالسؤال و شموله لما
إذا كان السائل بنفسه من أهل العلم، و كأنّه يريد أن قضية الإطلاق المزبور هو أن يكون السؤال بما هم رواة لا بما هم أهل العلم، و إلاّ لم
تكن تشمل لمن هم مثلهم في قوة الاجتهاد.
و فيه: انّ ظهور دخل حيثية كون المسئول منه من أهل العلم، ظهور لفظي يمنع من انعقاد الإطلاق في جانب السائل، مع انّ فقرة (إن كنتم لا تعلمون) كالصريح في خروج السائل عن عنوان أهل الذّكر، مع انّ عدم جواز تقليد من له قوة الاجتهاد، بالإجماع، و خروجه عن
إطلاق الآية لا يوجب التصرف في الآية إلاّ بالتقييد دون التصرف في ظهورها في التقليد بحملها على العمل بالرواية، فانّ التقييد أقرب
وجوه التصرف.
قوله: فانه تبارك و تعالى مدح نبيّه بأنّه يصدق المؤمنين:
يحتمل أن يكون من الإيمان للمؤمنين بمعنى الأمان لهم لا بمعنى التصديق لقولهم، و يكون اختلاف التعدية بالباء و اللام في الموردين
للإشارة إلى ذلك، و يكون من أمانه لهم عدم مؤاخذتهم بأقوالهم بعضهم في حقّ بعض و في حقّ أنفسهم.
قوله: انّما مدحه بأنّه اذن، و هو سريع القطع:
كون الاذن هو سريع القطع ممنوع، و إن كان يشهد له قوله عزّ شأنه (يؤمن باللَّه و يؤمن للمؤمنين) إذا قلنا: بأنّ المراد منه هو الإيمان
بمعنى التصديق، فانّ الاذن فسّر بالمستمع القابل لما يقال له، و هو أعم من المستمع عن تصديق و من مجرد ترتيب الأثر. و يساعده انّ
سرعة القطع بنفسها ليست من الصّفات المحمودة، فانّ القاطع يمشي على مقتضى قطعه، ان
الصفحة 76
أضرّ الناس أو نفعهم. نعم، بمنكشفه، حيث انّه يكشف عن صفاء النّفس من الغلّ و الغش، حتى لا يتصور الدغل في حقّ أحد من الصفات
الكريمة، و يساعده أيضا انّه لا معنى للقطع باخبار اللّه و باخبار غير اللّه، على طرفي النقيض، كما نقل في مورد الآية، فلا بدّ من أن
يكون المراد من الاذن هو المستمع و من الإيمان للمؤمنين هو مجرد الاستماع بترتيب الأثر الخارجي، فيما ينفعهم من دون حصول
إذعان له على طبقه.
قوله: هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم:
و يشهد لذلك انّه لو كان المراد ترتيب جميع الآثار لما كان ذلك خيرا، و مما يستحق الشخص للمدح عليه، و أيضا يشهد له تعدية الإيمان
باللام الدال على إرادة ترتيب ما ينفعهم من الآثار، لا يقال:
يثبت المطلوب بذلك أيضا في الجملة، و هو حجية خبر الواحد فيما كان مفاده ينفع المؤمنين، بل لو ضمّ ذلك الإجماع على عدم الفضل
يثبت المطلوب على سبيل العموم، فانه يقال: لم يثبت انّ ذلك كان لأجل حجيته حتى يزاحم حجة أخرى إذا كانت على الخلاف، بل الظاهر
انّ ذلك من باب انّه ينفعهم و لا يضرّ أحد، و لا يكون فيه إلغاء لحكم شرعي.
الأخبار التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد
قوله: إلاّ انّها متواترة إجمالا:
يمكن منع حصول القطع بصدور واحد على سبيل الإجمال بعد ملاحظة الاخبار المانعة، و إن كان يحصل القطع لولاها، و لو سلّم حصول
القطع فلا ريب انّ الاخبار المانعة أيضا، مفيدة للقطع كذلك، إلاّ أن يقال: ان الجمع العرفي يقتضي الأخذ بهذه، فلا ينتهي الأمر إلى
التساقط، فراجع ما تقدم. و يمكن أن يقال: انّ الاخبار كالآيات ليست في مقام تشريع حكم، بل وردت على العادة الجارية على العمل
بخبر الثقة، و ليس مناط العادة الجارية هو
الصفحة 77
العمل بالخبر بما هو خبر مطلق أو خبر مخصوص مفيد للوثوق، بل العمل على الوثوق و سكون النّفس، كان ذلك حاصلا من الخبر أو
غيره، فصحّ دعوى انّ العمل بالخبر عند الإمامية جار مجرى العمل بالقياس في البطلان.
و بالجملة: مناط السيرة ما ذكرناه، و الأدلّة الاخر كلّها ظاهرة في تقرير السيرة لا تفيد جعلا تعبديا وراء ما جرت عليه السيرة، و امّا
الإجماع فينهدم بوجود من يعمل بالخبر بمناط الاطمئنان في جملة المجمعين، ثم الفرق بين التواتر الإجمالي و المعنوي، هو اتفاق
المجمعين في المعنوي على الحكم بعنوان واحد تحت مفهوم فارد، و لو كان ذلك مستفادا من لازم كلامهم و اتفاقهم في الإجمالي على
الحكم في مصداق واحد و لو بعناوين متعددة و مفاهيم متشتتة، فالخبر الواحد المشتمل لمجموع الخصوصيات معتبر عند الكل، لكن
واحد يعتبره لخصوصيته و آخر لأخرى و ثالث لثالثة و هكذا، لكن الوجه في اعتباره خبر واحد خصوصية عند الآخر غيرها، و هكذا.
الإجماع على حجية الخبر الواحد
قوله: إلاّ انّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها:
انّ مجرد فرض وجود خبر كذائي لا يجدي شيئا، بل اللازم في مقام الاستدلال إحراز وجود مثل هذا الخبر، و ينبغي أن يكون هذا الخبر
خارجا عن ما يتمّ به التواتر، و إلاّ لم يكن حجة بنفس هذا التواتر.
قوله: من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه:
لم أعلم وجه خصوصيته لزمان الشيخ، فامّا أن يلزم انتهاء ذلك إلى ما بعد زمان الشيخ، أو لا يلزم الوصول إلى زمان الشيخ أيضا.
قوله: أو من تتبع الإجماع المنقولة:
إذا اختلفت مباني نقلة الإجماع، فواحد ينقل على سبيل الحدس بأحد وجوه الحدس، و آخر على سبيل الحس، لم تكن عبرة بتواتر النقل،
بل و كذلك إذا اتّفق الكلّ على النقل من باب الحدس إلاّ من باب نقل السبب على الوجه المتقدم، فيكون السبب قطعيا و يحتاج إلى ضمّ
المتمم هنا، كما كان يحتاج في الإجماع المنقول.
قوله: اللهم إلاّ أن يدّعى تواطؤها على الحجية:
التواطؤ على الحجية حاصل على كل حال، و المقصود من العبارة تواطؤ طوائف المجمعين على الحجية التي هي الكلمة
الصفحة 78
الجامعة بلا رفع اليد عنها في حال من الأحوال، لو فرض رفع اليد عن ما يعتبره من الخصوصية، و لكن يتجه عليه منع الجدوى في هذا
الإجماع التقديري إن لم يكن يجدي الإجماع الفعلي، من جهة اختلاف المجمعين فيما اعتبروه من الخصوصيات.
قوله: و من الواضح انّه يكشف عن رضا الشارع:
يكشف كشفا قطعيا عن تقرير الشارع، و مع ذلك يحتمل أن لا يكون الحكم الواقعي ذلك، لاحتمال التّقية و شبهها في التقرير.
قوله: فانّه مضافا إلى انّها وردت:
قد عرفت: انّ الآيات عامة و إن خصّت موارد بعضها، بل بتعليلاتها بالغة إلى حيث لا يمكن تطرق التخصيص إليها.
نعم، الظنّ الّذي قام على اعتباره حجة قطعية خارج عن مدلولها تخصصا، لكن ذلك لا يمنع عن شمولها للسيرة و ردعها لها، لأنّ السيرة
ممّا لم يقم على حجّيتها دليل قطعي، فهي مندرجة تحتها.
نعم، لو لا الآيات لكان على اعتبارها دليل قطعي، و امّا ما ذكره المصنف من الدور فهو ممّا لا أصل له، و لذا خالفه عند التمسك على
حجية الاستصحاب بالسيرة.
و وجهه: انّ كشف السيرة و أماريتها كشف طولي و فيما لا أمارة و لا ظهور يقضي بالردع، فأول مرتبة من الظهور في الردع يكون
متبعا، و تنتفي معه أمارية السيرة، كما في الغلبة مع سائر الأمارات، و لا يكون مجال لمزاحمته بالسيرة و إلاّ لم يحصل الردع بالنص
القطعي أيضا، بل زاحمته السيرة، فيسقطان من الجانبين، فانّ السيرة المخصصة للظاهر تكون معارضة للنص البتة.
و بالجملة: بناء العقلاء انّما هو الأخذ بظهور دليل الردع و رفع اليد عن ما جرت عليه سيرتهم، و إن شئت قلت: انّ اعتبار السيرة انّما هو
لاستكشاف رأي المعصوم استكشافا قطعيا لا للتعبد، و لا يبقى للاستكشاف القطعي مجال مع قيام ما ظاهره الردع، بل و ما يكون
محتمله ذلك.
قوله: انّما يكفي في حجيته بها، عدم ثبوت الردع عنها:
بل يكفي في حجية عموم
الصفحة 79
دليل الردع عدم ثبوت التخصيص له بالسيرة، فالأولى ان يجاب بهذا عمّا أورده من الدور هناك، لأنّ بناء العقلاء و أهل المحاورة على
العمل بالعموم، حتّى يثبت التخصيص، و هذا بخلاف السيرة، فانّها ليست دليلا تعبديّا، بل العمل بها من باب الاستكشاف القطعي لرأي
المعصوم، و لا استكشاف مع احتمال الردع و دعوى قيام السيرة، و بناء العقلاء على العمل بالسيرة ما لم يثبت الردع، باطلة، لأنّا ننقل
الكلام إلى هذه السيرة، فانّها مع احتمال الردع عنها كيف يعمل بها هذا، مع انّ ما أفاده المصنف من كفاية عدم ثبوت الردع يكشف عن
تسليمه كون عدم الردع دوريا، و لذا أنكر التوقف عليه، مع أنّه لا يعقل أن يكون الردع و عدمه دوريا، و إلاّ كان اللازم ارتفاع
النقيضين.
الوجوه العقلية الدالة على حجية الخبر الواحد
قوله: و لازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الاخبار:
الأول بمقتضى قاعدة الاحتياط و الثاني بمقتضى قاعدة البراءة بعد انحلال العلم الإجمالي، و لذا أشكل عليه: بأنّ قضية ذلك اختصاصه
بما إذا لم تقم حجة على الخلاف، كقيام أمارة معتبرة مطلقا أو قيام استصحاب مثبت للتكليف أو قاعدة اشتغال في مورد الأمارات
النافية لعدم جريان الأصل في مقابل الأمارة و لا البراءة في مقابل الاستصحاب، أو قاعدة الاشتغال، إذا كان المقام موردا لقاعدة
الاشتغال، كما لو علم إجمالا بوجوب واحد من الظهر و الجمعة، و دلّ خبر من أطراف ما علم بصدوره على عدم وجوب الجمعة، أو شك
في جزئية السورة على القول فيه بالاشتغال، و دلّ خبر على عدم الجزئية.
قوله: أو الاستصحاب بناء على جريانه في أطراف علم إجمالا:
إذا كان الأصل في مسألة جزئية هو الاستصحاب، كما في الشك في وجوب صلاة الجمعة، و يدلّ خبر من أطراف العلم الإجمالي بالصدور
على النفي، يكون العمل على الاستصحاب من غير ابتناء على ما ذكره، لعدم كون المسألة من أطراف العلم الإجمالي
الصفحة 80
بالانتقاض، و كذلك إذا أريد استصحاب الحكم من الشريعة السابقة، فان العلم الإجمالي بانتقاض أكثر أحكام تلك الشريعة لا يمنع من
هذا الاستصحاب بعد انحلال هذا العلم الإجمالي بالظفر على أحكام ثابتة في هذه الشريعة في طيّ جريان الاخبار المثبتة للتكليف، و إن
لم يعلم كونها بعنوان النسخ للشريعة السابقة أو بعنوان التقرير، فانّ ذلك لا يمنع من الانحلال، و إلاّ لم يجرّ أصالة عدم النسخ في شيء
من الموارد.
قوله: و فيه أنّه لا يكاد ينهض على حجية الخبر:
و أيضا لا يكاد ينهض على وجوب العمل على طبق الخبر المثبت للتكليف فيما إذا دلّ الخبر على وجوب شيء، و احتمل في المسألة، مع
كون تلك الحرمة المحتملة أهمّ، فانه مع أهمية الحرمة المحتملة في مسألة دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة، يتعين الأخذ بالحرمة و
ترك الاعتداد باحتمال الوجوب.
قوله: ثانيها: ما ذكره في الوافية:
ان ما ذكره في الوافية يرجع إلى الوجه الأول، و لذا كان الجواب عنه هو الجواب عنه. نعم، قد خصّ صاحب الوافية العلم الإجمالي بالأخبار
الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة مع عمل جمع به، و ذلك لا يوجب عدة، وجها مستقلا في مقابل الوجه الأول.
قوله: ثالثها: ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: أنا
: ان وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة إن كان بمعنى استعلام الأحكام من الكتاب و السنة، وجوبا نفسيا في عرض سائر التكاليف
الشرعية، أو كان بمعنى العمل بالأحكام من طريق الكتاب و السنة من باب تعدد المطلوب، على أن يكون الإتيان بالتكاليف الشرعية
مطلوبا، و كون العمل منبعثا من العلم الحاصل من الكتاب و السنة مطلوبا آخر، فذلك لا يقتضي بطلان العمل الحاصل لا من غير الكتاب
و السنة، بل العمل صحيح. غاية الأمر، يفوت الواجب الآخر الأكيد بانتفاء موضوعه، فلا بدّ أن يكون مراد بعض المحققين: كون انّ
الواجبات الواقعية و المحرمات الواقعية مقيدة بأن يكون حصولها من طريق الكتاب و السنة، ليكون الحاصل لا من طريقهما باطلا
عاطلا،
الصفحة 81
فيتنزل عند انسداد باب العلم إلى ما ظنّ كونه واقعا، و كان حاصلا من طريق ظنّ انّه الكتاب و السنة، فحيث انتفى أحد الظنين لم يجد
ذلك.
و فيه: منع هذا التقييد، فانّ وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة وجوب طريقي، لمحض إدراك الواقع، لا من باب الموضوعية و السببية
كسائر الاجزاء و الشرائط المعتبرة في متعلق التكليف، ليتنزل من العلم بالكتاب و السنة إلى الظنّ بهما.
مع انّ العلم إذا كان سببا دخيلا فلا وجه لقيام الظن مقامه عند تعذره، بل سقط التكليف كما في الظنّ في أصول الدين، و انّما يقوم الظنّ
مقام العلم الطريقي عند تعذره، و أيضا مقتضى هذا الوجه هو العمل بالأخبار المظنون الصدور أو مظنون الاعتبار إذا أريد بالسنة ما
يعمّ حكاية قول المعصوم إذا أفاد الظنّ بالحكم لا مطلقا.
في الوجوه الدالة على حجيّة الظن
قوله: الا انّه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه:
لعل ذلك من جهة العلم الإجمالي بالتكليف، و كون تأثيره مختصا بالأطراف المظنون، كونها موردا للتكليف دون الموهوم كونه كذلك.
مبحث انسداد باب العلم
في مقدمات دليل الانسداد
قوله: و لا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة:
لا مطلقا، بل بمقداره المحتمل مطابقته للواقع. و إلاّ فمقدار منه كاذب لا يوجب الانحلال قطعا.
قوله: بمقدار المعلوم إجمالا:
هذا انّما يكون، إذا كان العلم بثبوت أحكام جديدة في هذه الشريعة، على خلاف الشريعة السابقة في الجملة، بان احتمل أن يكون جميع
ذلك في موارد الأصول المثبتة، على خلاف الحالة السابقة، و عليه، فلا ينبغي
الصفحة 82
التأمل في جريان الأصول النافية و المثبتة جميعا.
و امّا إذا علم بارتفاع جملة من الإلزاميات في الشريعة السابقة، بالإباحة لا بالإلزام على الخلاف و جملة من غير الإلزاميات بالإلزام، فلا
يكاد يجدي جريان الأصول المثبتة في الانحلال، فالانحلال في فرض العلم بالنسخ، و عدمه في فرض آخر.
قوله: من جهة ما أوردنا على المقدمة الأولى:
و من جهة ما أوردنا على المقدمة الثانية، من انفتاح باب العلمي بمقدار واف بمعظم الفقه.
في نتيجة مقدمات دليل الانسداد
قوله: بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا:
أقول: يعتبر العلم بالبقاء، لو لم يكن مضرّا لاقتضائه الاحتياط في ما بأيدينا، كما سيذكره المصنف «قده» فلو علمنا بنصب طرق خاصة
أعم ممّا في أيدينا و ممّا لم يصل إلينا، الّذي مثاله إلى التقييد، أعني العلم بالتكليف في مؤديات هذه الأمارات التي بأيدينا، و التي ليست
بأيدينا، و حسب الاحتياط في جميع ما احتمل كونه مؤدّى الأمارة، و حيث ينجر إلى العسر يجب التنزل إلى الظنّ.
قوله: و كذا فيما إذا تعارض فردان:
هذا مبني على العلم بحجية الثاني، على تقدير حجية المثبت.
و لعلّ ذلك هو المراد من قوله: فردان من بعض الأطراف، و إن عمّت العبارة.
امّا إذا احتمل حجية المثبت خاصة، فيجب الأخذ به، و لو كان المرجح مع النافي، فانه من تعارض الحجة و اللاحجة، و ليس مورد الملاحظة
الترجيح.
قوله: و كذا كل مورد لم يجر فيه الأصل:
هذا انّما يفيد مع احتمال انتقاض حكم الجميع، و إلاّ وجب الاحتياط أيضا، مع جهة العلم الإجمالي.
قوله: و ثانيا: لو سلّم ان قضيته:
هذا الإشكال ناشئ عن عدم تحرير وجه دلالة ما أفاده من العلمين الإجماليين على ما ادّعاه من قصر الحجية بالظن بالطريق.
الصفحة 83
و الظاهر: انّ الوجه: امّا الصرف و التقييد في الأحكام الواقعية.
و امّا تعدد المطلوب، بأن يكون الأخذ بالطرق الخاصة مخلا للتكليف النفسيّ.
و الأوّل مضافا إلى فساده، خلاف ظاهر تعليله الأخير للأخذ بالظن بالطريق، بكونه أقرب إلى الواقع ممّا عداه.
و امّا الثاني فلا ينتج فساد العمل بالظن بالواقع، غايته حصول المخالفة للتكليف الآخر، المتوجه إلى العمل بالطريق.
قوله: لا بما هو مؤدى طريق القطع:
هذا لا يعلم من الإجماع. فالأولى ان يقال:
انّ العمل المصادف للواقع يجزي، و لو لم يكن حين العمل، ممّا تعلق القطع به، و لا مؤدى دليل معتبر.
قوله: لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدّى:
لكن لا بقيد كونه فيما بأيدينا، بل يعلم انّه ليس فيما بأيدينا من الطريق، و الفرض انّ العلم الإجمالي عنوان بذلك.
قوله: غير مجد:
بل مجد، كما في صورة القطع بالطريق، فانّه ربّما لا يورث الظن بالواقع، و مع ذلك يجب العمل به، امّا لأنّه الواقع أو عذر عنه.
قوله: و الفرض عدم اللزوم:
فيما إذا كان الطريق المعلوم نصبه على سبيل الإجمال، لم يعلم كونه فيما بأيدينا، أو علم بعدم كونه فيما بأيدينا، فانّ رعايته يفضي إلى
ترك التكاليف رأسا، لتعذر قيده، باعتبار تعذر الاحتياط في أطراف الطرق المحتملة.
قوله: بل عدم الجواز:
لم يعلم وجه عدم الجواز، فانّه ليس نظير الاحتياط التام.
الصفحة 85
المقصد السّابع:
في الأصول العمليّة
الصفحة 87
في الأصول العمليةقوله: ممّا دلّ عليه حكم العقل أو عموم النقل:
لا يخفى انّ المستفاد من الأصول العملية التي دلّ عليها النقل أحكام فرعية كلّيّة ظاهريّة، متعلقة بالعمل و الأصول ما بمعونتها تستنبط
هذه الأحكام و أضرابها، كليّة و جزئية، من أدلّتها التفصيلية، و امّا الأصول العقلية، فالبحث عنها ليس بحثا عن مدرك الحكم الشرعي، و
لا يراد بها استفادة الحكم الشرعي منها بقاعدة الملازمة، ليكون بحثا عمّا يقع في طريق الاستنباط، و لذا التجأ المصنف في أول الكتاب
لأجل إدراج مثل ذلك في علم الأصول بزيادة قيد أو التي ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل في تعريف الأصول، و كلامه هناك - و إن
كان مطلقا - يشمل الأصول النقليّة.
لكن عرفت: انّ الأصول النقليّة أحكام فرعية عملية، و علم الأصول ما بمعونته تستنبط مثل هذه الأحكام عن الأدلة، و مجرد ان ذلك
أحكام الشك، فيكون موضوعها متأخّرا عمّا إذا قام دليل خاص على الحكم الجزئي، فيختصّ بما بعد الفحص و اليأس لا يجعله من علم
الأصول.
الصفحة 88
قوله: و لم تنهض عليه حجة:
و لو مثل دليل الاستصحاب فيما كان هناك حالة سابقة متيقنة، أو العلم الإجمالي بواحد من الوجوب و الحرمة لا على سبيل التعيين أو
العلم إجمالا بأحدهما معينا في أطراف محصورة أو غير معيّن، كما إذا علم بوجوب هذا، أو حرمة ذلك، فيخرج مجاري الأصول الثلاثة عن
موضوع البحث.
فصل:
لو شك في وجوب شيء أو حرمته و لم تنهض عليه حجة
قوله: و كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص:
هذا تعريض على شيخه حيث أفرد لكل من فقد النصّ و إجماله و تعارض النصين مسألة مستقلة. و أضاف إلى ذلك بمسألة رابعة للشبهات
الخارجية، و لكن لا يخفى من راجع كلامه «ره» انّ ذلك منه لأجل اختصاص بعض تلك المسائل بخصوصية، من ثبوت خلاف أو وفاق و