فهرس المطالب
مقدمة
الفصل الأول
مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو الثقافي والتبادل الثقافي
مفهوم الغزو الثقافي
أهمية الإيمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته
الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي
الخلفية التأريخية والجذور العلمية والثقافية لإيران المسلمة
أ ـ الصلة التأريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما
ب ـ ازدهار العلم هدف أساسي للثورة الإسلامية
مسؤولية الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي
الفصل الثاني
العالم الإسلامي والغزو الثقافي
القسم الأول: لمحة تأريخية عن خط مواجهة الثقافة الاستكبارية للثقافة الإسلامية
ازدهار العلموية في أوربا بداية لمواجهة الثقافة الدينية
نفوذ المبشرين المسيحيين والشركات الغربية في المجتمعات الإسلامية
تبعات الاستعمار الثقافي في المجتمعات الإسلامية
القسم الثاني: علل وجذور الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الإسلامي
الإسلام عائق كبير أمام المستعمرين
الحيلولة دون نهوض الشعوب الإسلامية
القسم الثالث: الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الإسلامي ـ الوسائل والأدوات
تحريف تاريخ الإسلام وتشويهه
إشاعة الشهوات والانحلال الاجتماعي
استخدام أجهزة الاتصال المتطورة
اقصاء الإسلام سياسياً واجتماعياً وعزله عن المسلمين
تشويه صورة الثورة الإسلامية
القسم الرابع
نهوض المسلمين لإحياء حاكمية الإسلام
تبيين الحقائق الإسلامية عن طريق الفن والوسائل الأدبية
اتفاق المسلمين ووحدة كلمتهم
تصدير الثورة معناه بث الثقافة الإسلامية الأصيلة
الفصل الثالث
الثورة الإسلامية والغزو الثقافي
القسم الأول: نبذة عن تأريخ الغزو الثقافي في إيران
الغزو الثقافي في العهد البهلوي البائد وقبله
تأسيس الجامعات بهدف نبذ الدين واعداد العناصر التابعة
القسم الثاني: علل وجذور الغزو الثقافي المناهض للثورة الإسلامية
إحياء الإسلام الثوري في إيران والعالم
الثورة الإسلامية بداية عصر الدين بالمعنى
الجمهورية الإسلامية هي أم القرى
تضاد الثورة الإسلامية مع النظام السلطوي العالمي
القسم الثالث: وسائل وأدوات العدو في الغزو الثقافي المضاد للثورة الإسلامية
إشاعة الثقافة الخاطئة والفساد والفحشاء بين الشباب
تضعيف العلماء من خلال الدعاية
اهمال التيار الثوري في الأدب والفن والثقافة
اتهام النظام الإسلامي بسلب الحرية
بسم اللّه الرحمن الرحيم
مقدمة المترجم
يفترض في الكثير من البحوث انها تتجاوز البديهيات وتكف عن الشروع من الصفر دائماً. ولكن يبدو أن هذا الأمر غير ممكن بالأخص في المسائل التي تُثير جدلاً، فإذا وجدت ـ مثلاً ـ مَن لا يزال يناقش في جدوى دوام التحديث وفق النماذج الموروثة التي ألفها عالمنا العربي ـ الإسلامي من مشروع التحديث الغربي، ومَن لا يزال يشك في ان أزمة الديموقراطية وحقوق الإنسان تعود أصلاً إلى أزمة الشرعية السياسية في المنطقة، وإذا رأيت من لا يزال يجادل في دور الثقافة والمثقف متغافلاً أزمة الثقافة والمثقف التي يمكن أن تنتهي أهم عناصرها إلى مخلفات التكوين وطبيعة علاقة المثقف مع السلطة والمجتمع؛ إذا رأيت من وقد قيل: من أشكل المشكلات اثبات البديهيات.
في قضية مثل الغزو الثقافي نجد أنفسنا مضطرين للانطلاق من تأكيد البديهيات والتذكير بها قبل ان ندخل التحليل، لاسيّما مع تشابك وجهات النظر التي يذهب بعضها إلى ان القضية متكلفة ومبالغ فيها، أو انها وهمية مصطنعة؛ إذ لا مجال في عالم اليوم الذي تتواصل فيه الثقافات وتتفاعل انماط السلوك الإنساني للحديث عن «غزو ثقافي» بالأخص بعد أن سقطت الجدران والأسوار الحديدية التي كانت تحيط بعض البلدان «ولم يعد أحد بقادر على رفع سياج حول بلده» على حد تعبير إدغار بيزاني مدير معهد العالم العربي في حديث له عن جانب من جوانب القضية(1).
إلتباسان
يبدو ان هناك التباسين لعبا دورهما في تعويم قضية الغزو الثقافي الذي يتعرض له العالم العربي ـ الإسلامي عامة، ليس من الآن وانما من يوم أن فقد مؤهلات القدرة والقوة والمعرفة وصار أسير الضعف والتبعيات. وبقدر ما يبدو هذان الالتباسان شكليان إلاّ ان لهما الدور المهم في دفع التيار الناكر للغزو إلى التشنج وأحياناً السخرية التي لا يمكن أن تعود إلاّ بالضرر على الجميع.
والالتباسان هذان، هما:
أولاً: ان الإسلاميين هُم الذين تبنّوا قضية الغزو الثقافي وحملوا رايتها باكراً. ومفاد مقالتهم انَّ العالم العربي ـ الإسلامي واقع في معرض مخططات الغرب وأهدافه لاستلاب مجتمعاته والنيل من دينها وقيمها وثقافتها وسلوكها وهويتها، وان الغرب يهدف من الغزو ابقاء سمة التخلف مستمرة في هذا الجزء من العالم.
ثانياً: ان الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم تكاد أن تكون الدولة الوحيدة من بلاد العالم الإسلامي التي تتبنّى القضية رسمياً وتحمل رايتها وتدعو لمواجهة التغريب وموجات الغزو على أساس تخطيط جاد وموحد تقف من ورائه دولة.
فرفع الإسلاميين لشعار القضية وتبنّي إيران لها اليوم هما سببان ألّبا الذهنية العامة لبعض الاتجاهات الثقافية والرسمية، حتى باتت لا تنظر إليها في حجمها الحقيقي ولا تمنحها الاهتمام الذي تستحقه. بل ذهبت بعض التيارات الثقافية في المنطقة العربية ـ الإسلامية لحمل قضية الغزو الثقافي في طرح الإسلاميين، على انها قضية آيديولوجية غير واقعية تُرفع كشعار في ادارة الإسلاميين لمعركتهم الفكرية والاجتماعية مع الاتجاهات الأُخر وبالذات الاتجاهات العلمانية.
وفي مسألة إيران ذهبت الأغلبية إلى ان القادة الفكريين والسياسيين في البلد مدفوعون لطرح قضية الغزو الثقافي كشعار أيضاً يهدف إلى دوام أوار المعركة بين مشروع الثورة الإسلامية والمشروع الغربي، وخلصوا ببساطة عجيبة إلى ان الطرح في إيران هو الآخر طرح آيديولوجي (غير واقعي أو مضخّم على أقل تقدير، يستبطن غير ما يعلن) يهدف تحقيق غايات سياسية واجتماعية؛ وان الغزو الثقافي مسألة وهمية مختلقة لا اثر لها ولا وجود في الواقع الخارجي، وهي لا تعدو أن تكون أداة وحسب.
من المؤكد اننا نتفهم بعض المواقف التي انطلقت من الآخرين وهي تقر بالغزو الثقافي كقضية حقيقية لها واقعها وأطرافها، بيد انها لم تبغ الاصطفاف مع الإسلاميين خشية مما سجلته بعض أطروحاتهم من ضيق نظر في رفض كل شيء والتنكر لجميع الرؤى بذريعة الغزو الثقافي، حتى غدا الغزو الثقافي ـ في بعض أطروحات الإسلاميين ـ تهمة جاهزة للحدّ من التفاعل الثقافي الخلاق وقيداً على الابداع، وتبريراً للانزواء والتقوقع، ومثابة لتسويغ الكسل عن العمل الثقافي الجاد الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا.
لطمأنة هؤلاء ستطالعنا هذه الرؤية التي يضمها الكتاب بنصوص صريحة أكدت مراراً ان الغزو الثقافي لا ينبغي ان يتحوّل إلى حربة لضرب التفاعل المشروع وضروب الابداع، ولا أن يكون قيداً على التبادل الثقافي المتكافئ مع العالم؛ كما لا يجوز ان يتحوّل إلى ذريعة لتبرير الكسل عن الانتاج الثقافي والاكتفاء بما هو موجود والانكفاء في دائرة العزلة والتقوقع.
اطروحات الآخرين
لكي نعالج الالتباسين الآنفين سوف نختار طريقاً سهلاً وموضوعياً في اعادة بناء القضية. فبدلاً من أن ندخل في نقاش مع الآخرين حيال ما يسوقه الإسلاميون من حجج وبراهين وما يستندون إليه من وقائع في الحديث عن الغزو الثقافي سواء تعلق الأمر بإيران أو ببلدان العالم الإسلامي الاُخرى؛ بدلاً من ذلك كلّه سنوجه أنظار الرافضين لوجود الغزو الثقافي، وأُولئك المتحاملين على الإسلاميين وهم يرمونهم باختلاق القضية لتحقيق أغراض آيديولوجية تفرضها ظروف الصراع الداخلي مع التيارات الأُخر، إلى بلدان أُخرى من العالم تشاركنا رفع شعار الغزو الثقافي، وتتبنى القضية بشكل جاد وبحساسية ربما توازي في بعض البلدان (كفرنسا وألمانيا من البلدان الأوربية) درجة الحساسية التي بلغتها القضية في منطقتنا. فببساطة تعضدها الوقائع والأرقام نجد ان أُوربا تتحدّث صراحة عن غزو ثقافي أمريكي، برغم ان أوربا تشترك مع أمريكا في بناء حضاري موحد. ليس هذا وحده، انما تكتسب قضية الغزو الثقافي الأمريكي لأوربا أهمية استثنائية متزايدة في بلدين: الأول فرنسا، والثاني ألمانيا.
وبالنسبة إلى روسيا ـ وهي مركز من مراكز القوة العالمية لا يُستهان به ـ نلمس عموماً وجود تيار مهم في محتواه الثقافي والفكري وفي مضمونه الاجتماعي والسياسي يحذّر من الغزو الثقافي الأمريكي بل حتى الأوربي، وينبّه إلى المخاطر الشديدة المترتبة على الانفتاح، ويدعو في المقابل إلى احياء الهوية والثقافة السلافية بحيث تكون هي المنحدر الذي تلتقي فيه الأُمة الروسية في بناء هويتها المتميزة وذاتيتها وثقافتها الخاصة.
ضمن هذه الرؤية بالذات، وليس لأسباب اقتصادية محضة ـ كما درجت العادة في قول ذلك ـ تتوزع الاتجاهات السياسية في روسيا، بين تيارين، يدعو الأول للانفتاح على أمريكا وأوروبا دون أن يبدي حساسية خاصة بشأن مسألة الثقافة القومية والهوية والانتماء السلافيين، فيما يدعو الثاني لالتزام النزعة القومية المحضة كأسلوب من اساليب حماية الثقافة والذات القومية.
هذا في أوربا وروسيا، أما في اليابان، فانَّ الياباني قد يسمح ـ قد سمح فعلاً ـ ضمن تكتيكات السياسة والمصالح الاقتصادية الوطنية بتحوّل نسبي لميزان التبادل التجاري مع أمريكا ومع أوربا، بيد انه لا يسمح باختراق منظومته الثقافية والقيمية الخاصة التي ما برحت تجمع اليابانيين في اطار نسيج اجتماعي متين، ما يزال يستعصي على أدوات الاختراق الأمريكي ـ الأوربي. فما لبث الياباني مع كل التقدم الذي أحرزه البلد وبرغم مظاهر التحديث والأوربة والأمركة منشداً إلى ثقافته الخاصة، وما يزال الأمريكي يعيش حيرة كبيرة في فهم هذا اللغز: كيف يكون الياباني بمثل هذه الذهنية الخلاقة في الانتاج والتقنية، وبمثل هذه القدرة المذهلة في التأقلم مع مظاهر التحديث الطاغية، وإلى جوار ذلك يعيش هذا الاصرار الكبير على الالتحام مع ثقافته الخاصة وتقاليده وأعرافه.
وإذا تركنا هذا الصف من العالم المتقدم ونظرنا إلى الرقعة التي يطلق عليها العالم الثالث واعتبرنا الصين ـ تجاوزاً ـ في عداده، لرأينا ان بقاعاً كثيرة من هذه الرقعة الممتدة تتحدث عن مخاطر الغزو الثقافي وتؤكد في مقابل ذلك على نزوعات خاصة للهوية والذات والثقافة القومية تلجأ إليها وتحتمي بها.
يتبيّن من حصيلة العرض السريع ان قضية الغزو الثقافي هي قضية واقعية حقيقية يعيشها العالم على مستوى عالمي. وهي من ثمَّ لا تقتصر على إيران وحدها ولا على الإسلاميين دون خلق اللّه الآخرين
الفوارق
الذي يبدو من سياق هذا العرض ان أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تطرح حتى الآن شعار الغزو الثقافي ولا تعاني من قضية على هذا المستوى. والباعث لذلك ليست أسباب نفسية وتأريخية كما اعتدنا أن نقول؛ حيث تفتقد أمريكا إلى العمق الحضاري والهوية التأريخية المتميزة اللتين تخشا عليهما ازاء تهديدات الثقافات الأُخرى، وحسب، وانما أيضاً لأنها تملك مقدرات السلطة في مجالات القوة والقدرة والمعرفة، والمتفوق لا يطرح عادة شعار الغزو ولا يهابه، بل هو الذي يغزو.
وهذه حقيقة ينبغي ان تكون حاضرة في وعينا، وعلينا أن لا نغيّبها وسط لغة الشكوى والتظلم والبكاء على الأمجاد التأريخية الدارسة، فلا سبيل إلى صدّ الغزو الثقافي، إلاّ بتحقيق شروط النهضة واحراز التقدم على الصعيد الموضوعي. ورحم اللّه السيد محمد حسين الطباطبائي المفسّر القرآني الكبير، حيث كتب: «وانما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية، من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي ولا نصب، ولا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد، والمسعى قد يخيب، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية».
أجل، لا فرق بين المشروع سواء أكان منحدره من منطلق الخير أو من منطلق الشرّ، فكلاهما يحتاج إلى الهمة والتوفر على اسبابه الموضوعية التي تحرز الغلبة وتضمن التفوق فيه.
وعودة مجدّدة إلى السياق حيث نجد ان الكثير من بلدان العالم من بينها دول متقدمة تشاركنا الحديث عن الغزو الثقافي. أجل، ما يختلف هو مستوى الطرح وطبيعة فهم القضية وزاوية النظر إليها، مضافاً لتفاوت البواعث والمبررات. فحين نرى المانيا تهتم بموضوع الغزو الثقافي الأمريكي بالذات، علينا ان لا ننس تلك النزعة التأريخية في هذا البلد العريق إلى هوية المانية تكون قاعدة ومظلة ليست للحضارة الأوربية وحدها وانما للعالم أجمع. وهذا النزوع تغلّف في حياة الألمان بالفلسفة والفكر والسياسة حيث أُصطنعت تيارات فلسفية وفكرية لتبريره.
في فرنسا يترافق الحديث المكثّف عن مخاطر الغزو الثقافي الأمريكي مع نزعة مماثلة تعبِّر الفرانكفونية عن أحد مظاهرها.
وفي العالم الإسلامي يتلازم الحديث عن الغزو الثقافي الآخر مع نزوع لتأكيد الهوية الإسلامية، ليس ذلك وحسب، بل اعتبار الإسلام قاعدة لنهوض العالم الإسلامي، ومنطلقاً لاشعاع قيم الخير والإنسانية على العالم أجمع، كون الإسلام وحي اللّه وآخر رسالات السماء إلى الأرض.
هذه كلها ـ وثَمَّ غيرها أيضاً ـ فوارق موجودة لا مجال لانكارها والنظر لقضية الغزو من خلال رؤية نمطية واحدة. وما يهمنا منها هو دلالتها الأكيدة على وجود قضية واقعية وحقيقية تتداولها بلدان العالم تحت عنوان: الغزو الثقافي.
وإليكم فرنسا كمثال يسبق حتى المثال الإسلامي في إيران.
المثال الفرنسي
المثال الفرنسي في حديثه عن محاولات الغزو الثقافي الأمريكي في سلخ الهوية الثقافية المميزة لفرنسا وأوربا، يعطينا بكثافة معطياته من أرقام وشهادات رجال الفكر والسياسة، صور جلية وواضحة وبالألوان أيضاً عن تقاسيم الموضوع الذي نتحدث عنه.
تشير بعض الدراسات ان موضوع الغزو الثقافي طرق الساحة الأوروبية للمرة الأولى مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي فتحت أبواب القارة على المشاريع الأمريكية.
وفي نهاية السبعينات صدرت كتب فرنسية متعدّدة عن الموضوع، من بينها «الحرب الثقافية» لهنري غوبار، و«فرنسا المستعمَرة» (بفتح الميم) لجاك تيبو. وفي مطلع الثمانينات شرعت الصحف الفرنسية بسلسلة من المعالجات باتجاه القضية، كان من بينها المقال الذي كتبه رئيس تحرير لوموند (عدد 4/7/1980) بعنوان: «حيث تنتصر أمريكا».
ماذا أرادت ان تقول الأصوات الفرنسية من خلال ذلك؟ يجيب دارس عربي عن السؤال: «ان القاسم المشترك الأعظم بينها هو لفت النظر بالحاح وتحذير إلى مخاطر الغزو الثقافي الأمريكي على فرنسا والدول الأوربية الأُخرى، وتهديدها لهوياتها الثقافية ومسخها التدريجي للمواطن الأوربي ليصبح تدريجياً عاشقاً ومقلداً لنموذج الحياة الأمريكي، ببنطلون «الجينز» والثياب المزركشة والكوكاكولا والهامبرغر و«الديسكو» الصاخبة، و«السوبرمان» والعنف والانحلال الجنسي والعبثية واللامبالاة والضياع، وليكون ضحية الاعلانات التجارية المثيرة»(2).
أما غوبار مؤلف كتاب «الحرب الثقافية» فيستخدم تعبير «المطرقة الثقافية الأمريكية» التي ما فتئت تضرب وتدق منذ عام 1945، حتى تحقق ما يراه استسلاماً ثقافياً فرنسياً وأوربياً في كل ميدان. ثم يضيف: وباسم «الجديد.. الجديد دائماً» يتم استيراد آخر التقليعات الثقافية الأمريكية(3).
وفي مكان آخر من كتابه يسجّل مؤلف «الحرب الثقافية» انَّ «هذه الحرب هي أخطر والعن من الحرب الساخنة، لأن الأخيرة تعبئ الجماهير بينما الأولى تشل الارادات حيث تتسلل بمكر وتدريجياً، وتدق بمطرقتها بالحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتسممها ليصبح المرء عبد قيم وأخلاقيات مستوردة غريبة». ازاء ذلك أصبح «استسلام الأوربيين أمام طريقة الحياة الأمريكية يتجلى في كل مكان: في أسلوب الاستهلاك والملبس ووسائل اللهو، وحتى في الجامعة»(4).
وفي مقال رئيس تحرير لوموند تجد ما يشير إلى مصاعب أمريكا العالمية، ولكن باستثناء الميدان الثقافي الذي تتقدم فيه «فلغتها وقيمها ونتاجاتها الثقافية والفنية أخذت تهدّد بلدان العالم كلّه في هويتها الثقافية». ثم تستمر الدراسات بعد ذلك بذكر معطيات خطيرة عن هيمنة اللغة الأمريكية (الانجليزية) على الفضاء الثقافي والعلمي في فرنسا حيث 60% من الباحثين في البلدان الناطقة بالفرنسية يستعملون مصادر انكليزية، وان من (615) بحثاً أعده (586) باحثاً فرنسياً لم ينشر منها بالفرنسية غير (142) فقط.
وبعد اللغة يستعرض جوانب الموسيقى والفن والغناء والسينما والاذاعة والتلفزيون.
ثم يخلص هؤلاء الباحثون في تحليل بنية الغزو الثقافي الأمريكي، إلى انه لا يعود إلى اسباب التفوق التقني، وانما «لأنَّ هذه الهيمنة هي نتاج سلطان جهاز اقتصادي وقوة نظام آيديولوجي واستراتيجية جيش ثقافي هائل»(5).
وعلى الصعيد السياسي الرسمي أبدى الرئيس الفرنسي ديستان في نيسان 1976 قلقه لتدهور الانتاج الفرنسي التلفزيوني وطغيان الانتاج الأمريكي في التلفزيون الفرنسي. وفي حزيران 1979 حذّر تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي من عواقب الوضع السيء للتلفزيون الفرنسي اثر أمركة البرامج التلفزيونية كأحد أهم أسباب المشكلة.
وفي تشرين الأول عام 1989 شهدت باريس اجتماعاً لخبراء ومختصين في الاعلام بحثوا إمكانية وضع حد للتدفق الثقافي الأمريكي احادي الجانب الذي ينهمر خلال الشبكات الفرنسية. وفي هذا الاجتماع شارك الرئيس ميتران بكلمة أعرب فيها عن خشيته على الهوية الفرنسية والأوربية وقال: انها في خطر؛ فمن مجموع (125) ألف ساعة بث تلفزيوني فرنسي لا تزيد حصة الانتاج الفرنسي على (20) ألف ساعة فقط والباقي أمريكي(6).
وآخر رقم نقتبسه من مؤتمر مؤسسة راما التي انشأت عام 1990 للعمل في مجال «السمعيات البصرية والسينما» حيث اشار ادغار بيزاني رئيس معهد العالم العربي (مؤسسة فرنسية) في مؤتمر عقد في باريس في آذار 1993، ان فرنسا تتعرض هي الأُخرى ـ كالعالم العربي ـ إلى الغزو الأمريكي في المجال السمعي البصري. بل ذهب وزير خارجية فرنسا الأسبق كلود شيسون في كلمته إلى القول نصاً: «اننا ـ العرب والفرنسيين ـ نواجه مأزقاً متشابهاً بفعل الأمريكان، فما علينا إلاّ أن نوحد جهودنا لنوجد حالة توازن وتعاون وانفتاح متزن، بدلاً من التقوقع أو الاستمرار فقط بالتذمر، وانما يجب أخذ المبادرة وذلك قبل فوات الأوان»(7).
تحديدات ضرورية
نسعى في هذه الفقرة ان نعطي خلفية ولو إجمالية لمقولة الغزو الثقافي كما أُثيرت وتبلورت في إيران خلال السنوات الأخيرة. ففي 6/حزيران/1992 التقى آية اللّه السيد علي الخامنئي بجمع من المفكرين والباحثين والمسؤولين في الأجهزة الثقافية والفنية والإعلامية، وقد دار الحديث في هذا اللقاء عن الغزو الثقافي بلغة صريحة دالة وأرقام مبسوطة.
لنا أن نوضح ان حديث السيد الخامنئي هذا جاء إثر احتدام النقاش في وسائل الاعلام الداخلية عن شيوع مظاهر مكثّفة في الشارع هي خلاف قيم المجتمع وفي تعارض مع مشروع الثورة الإسلامية، مضافاً إلى انها تعكس مظاهر بارزة للتغريب.
ورغم ان حديث آية اللّه السيد الخامنئي فتح المجال لتناول أكثر صراحة وجرأة لموضوع الغزو الثقافي ودوره في تشويه السلوك الاجتماعي وهدر طاقات الشباب أو تحييدها، إلاّ ان الاطار العام للقضية بقي في حدود النقاط التالية:
أولاً: يبدو بديهياً ان تكون إيران التي يقوم كيانها السياسي على مشروع الثورة الإسلامية مستهدفة بفعل غربي، وذلك على قاعدة الصراع بين الإسلام ـ الغرب الذي يُفسّر بدوره في ضوء التضاد بين الفكرين والثقافتين الغربية والإسلامية. وهذا الاستهداف سيكون ناجزاً ما دامت إيران متمسكة بمبادئ نهضة الإمام الخميني، تطرّد نسبته مع قدر الالتزام بمنطلقات الفكر الخميني، ويخف بمقدار الابتعاد عن ذلك الفكر.
ثانياً: ازدادت الهجمة الثقافية واكتسبت طابع الخطة المبرمجة بعد نهاية حرب السنوات الثماني. وبذلك يكتب أحد الدارسين لمقولة الغزو الثقافي: «لم يكن هدوء صوت المدافع ليعلن عن نهاية الحرب، بل كان اشارة إلى بداية الحرب الحقيقية»(8).
وهذا أمر طبيعي ونتيجة منطقية للنقطة الأولى، فلطالما ظلت إيران مشروعاً قائماً على أساس الإسلام ومرتكزات الفكر الخميني سيتواصل استهدافها، وسيكون تخفيف الضغط عنها علامة على ابتعادها عن مرتكزات الفكر الخميني.
ثالثاً: في الأوقات العادية يكون من السهل التمييز بين الأفكار والمواقف والمصطلحات، بيد ان الأمر يتطلب جهوداً مضاعفة في أوقات الأزمة. وفي المسألة الثقافية حصل خلط كبير ـ ولا يزال ـ بين الغزو الثقافي والتبادل الثقافي، فبقدر ما ان الأول هو خطيئة تحتاج إلى كفاح ومواجهة فانَّ الثاني فضيلة تحتاج إلى ان تدخل حياتنا الثقافية.
لذلك دأبت الأطراف المعنية ـ وبالأخص الرؤية التي يحويها هذا الكتاب ـ إلى التزام الحذر على أساس التمييز بين الغزو والتبادل، وألاّ يُصار إلى الرفض المطلق وتبرير حالات الكسل والتقاعس باسم الخوف من الغزو الثقافي، ولا أيضاً تحويل المقولة إلى عصا غليظة يهوى بها على الرؤوس لقمع الابداع والحدّ من الحريات وتسويغ الجمود والتقوقع؛ تماماً كما من الضروري أن لا يورّط المجتمع بمتاهات مظلمة باسم الانفتاح والتبادل الثقافيين. فحالتا التطرف مرفوضتان كلتاهما.
رابعاً: يتحرك الغزو الثقافي في أوساط المجتمع الإيراني عبر جبهتين. في الداخل عبر النخب الثقافية التي تنحدر من ذات المبادئ التي نهضت بها النخبة الثقافية في التاريخ الإيراني الحديث منذ قرن ونصف تقريباً. ومن الخارج عبر التهديدات الثقافية الغربية لقيم وسلوك المجتمع في الثقافة والسلوك الاجتماعي وفي الاقتصاد أيضاً عبر طغيان النزعة الاستهلاكية.
وقد لاقا العاملان الداخلي والخارجي أرضية مساعدة في أجواء إقتصاد السوق الذي ازدهر خلال السنوات الأخيرة، وراح يُعزز ذات النتائج الخطرة التي يستبطنها هذا النمط من الممارسة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية علاوة على نتائج إضافية ناتجة عن الطابع الطفيلي القشري لهذه الممارسة التي بقيت على السطح واكتست طابعاً مظهرياً في بعض أجزائها لعدم توافر إمكانات تحقيقها في العمق(9).
خامساً: الذي يسترعي الانتباه ان الخطر الثقافي وهو يصدر من الجبهتين لا يمثل تهديداً يعتد به على الصعيد الفكري المباشر، وانما تنصب نتائجه في تأثيرات بليغة على السلوك الاجتماعي وبالأخص فئات الشباب في العاصمة والمدن الكبرى.
ومرد ذلك ثقافياً يعود أولاً إلى طبيعة فكر النخبة، ففكر النخبة محدود التأثير على الدوام لا يتسم بالمرونة ويفتقر في الغالب إلى العملية والوضوح، لذلك لا تستسيغه الجماهير العريضة ولا تتفاعل معه.
وفكر النخبة الثقافية في إيران لا يختلف عن غيره، بل يزداد عجزه وانحساره ويفقد قدرته على أن يتحول إلى تيار مؤثر في فكر الناس إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجوانب الأُخرى.
وأما ثانياً: فانَّ المجتمع الإيراني يسجّل بحصيلة المقاييس المتوفرة خصوصية واضحة في الالتزام الديني والارتباط المذهبي والولاء للفقهاء والعلماء. وعناصر مثل هذه الخصوصية وفرت بشكل عام جداراً عازلاً حال دون تأثير فكر النخبة التغريبي على عقول الناس، وان كان التغريب قد نفذ عبر المظاهر السلوكية. وهذا العامل ربما يفسّر لنا بعض مظاهر الازدواج التي تجمع في الشخص الواحد بين العقيدة الإيمانية والولاء المذهبي والديني وبين مظاهر السلوك التغريبي.
هذا على الصعيد الثقافي، وأما على الصعيد الاقتصادي فان السبب وراء تراجع الصبغة الفكرية للغزو الثقافي وتأكد مظاهره السلوكية ورسوخها بين الشباب خاصة في العاصمة والمدن الكبرى، فيعود إلى الازدهار المالي، حيث تستقطب العاصمة ومراكز المدن الكبرى قدراً كبيراً من الأنشطة الاقتصادية حتى لو كانت طفيلية وكاذبة. وفي ظل هذا الازدهار تتدفق الأموال التي تجلب مع غياب الانفاق الرشيد مظاهر التغريب، وتكون أرضية مساعدة لتضعضع الالتزام وتصدع المنظومة القيمية، ومن ثم رواج المظاهر السلوكية للغزو الثقافي.
السبب الآخر وربما الأهم في عدم اكتساب الغزو الثقافي الداخلي والخارجي لصبغة فكرية في إيران، فيعود في المرحلة الراهنة على الأقل، إلى وجود الدولة الإسلامية. فما يهدف إليه الغزو هو خلخلة البناء الاجتماعي لمجتمع الدولة وهزّ الثقة في صحة الاختيار الإسلامي الماثل في الكيان السياسي الراهن.
ومعنى ذلك ان المعركة تستهدف تحقيق أغراض عملية، لذلك يتوجه الغزو إلى الواقع مباشرة ليقارع الدولة على أرضها ويحاول ضربها في مواطن قوتها. بعبارة أوضح، يهدف الغزو تحييد قطاعات من الشعب ولاسيّما قطاعات الشباب وعزلها عن الدولة من خلال تحويلها إلى فئات عاطلة فاسدة ومخربة أيضاً.
والمعركة حين تبلغ هذه المرحلة تكون خطيرة، لأن الصراع على الأرض مباشرة، والإنسان عرضة لاغراءات عملية ولإفساد سلوكي، لا يفلح الفكر لوحده في مواجهته بل لابدّ من تحصين الأرض، وتأمين حاجات المجتمع كي لا ينفلت الإنسان ولا ينهزم أمام غزو الواقع.
من هنا لا يكفي في مواجهة هذا الضرب من الغزو ان نتحدّث فقط عن دوافعه ووسائله، ولا أن نؤلف الكتب نمجّد فيها بالإسلام وندين الغرب، فهذه جميعاً وسائل تدخل في شروط المرحلة الأولى في صدّ الغزو. أما المرحلة التالية فهي تحتاج إلى عمل وإلى انجازات يشهدها الواقع على الأرض ويستفيد منها الإنسان مُباشرة.
فالشباب الذي تحاصره أفلام الفيديو وتنهمر عليه الصور الماجنة في المدرسة والشارع وخلوات البيت، وتوفر بين يديه أنواع المخدرات، يحتاج حتى يملك الضمانة لعدم الانحدار صوب شباك العدو، إلى شروط موضوعية وأعمال ناجزة على أرض الواقع، من زواج وعمل ورفاه معقول، بالاضافة إلى الحصانة الأخلاقية والوازع الديني؛ بل لنقل إنَّ الوازع الديني والحصانة الأخلاقية يتصلبان من خلال الشروط الموضوعية وعبرها.
هذه هي القاعدة العامة التي تحكم المساحة العريضة من الناس، وان كان للاستثناءات موقعها.
ولاستهداف الغزو الثقافي سلوك الإنسان على الأرض؛ ولأنَّ الخطة الغربية ترمي زعزعة ثقة الإنسان الإيراني بكيانه السياسي القائم في محاولة لتذويب قناعته بجدوى المشروع الخميني، نجد ان تأثيرات هذا الغزو تكاد تنحصر راهناً على محيط العاصمة والجامعات والشرائح الممعنة في الطابع المدني وبالذات في المدن الكبرى، تساعد على امتدادها النتائج الطفيلية لاقتصاد السوق. أما الفئات الاجتماعية العريضة في الأرياف والمدن الصغيرة فلا زالت ثقافة التغريب وتأثيرات الغزو الثقافي عاجزة حتى اللحظة عن اختراقها.
هذه النقاط الخمسة توجز لنا محددات القضية التي تشتهر في إيران الآن بقضية الغزو الثقافي.
معنى الغزو الثقافي
طالما كنّا مع الغزو الثقافي أمام ظاهرة اجتماعية وسلوكية أكثر من كوننا أمام حالة فكرية، فاننا سنبتعد عن التحديدات النظرية الصارمة التي تلتزم بها الأُطر الأكاديمية في البحث.
فحين نتحدث عن معنى الغزو الثقافي فلا نبحث عن تعريف أكاديمي، وانما نتقصى الظاهرة كما تتحرك في المحيط الاجتماعي وتعكس حركتها ومضمونها بأوضح ما يدل عليها. أي اننا نستخدم التعريف لأغراض اجرائية تنفيذية تفي برصد الظواهر وتقريب مضامينها إلينا. ولنتذكر جيداً ان كتّاباً مرموقين كالذين أشرنا لبعضهم حين تحدثنا عن قضية الغزو الثقافي الأمريكي للمجتمع الفرنسي، يكتفون بمثل هذه البيانات الاجرائية التي تفي بايصال المدلول إلى القارئ. لأن المهم لدى أولئك التنبيه إلى الخطر، وليس ممارسة استعراض القوة كما هو شأن بعض الباحثين في عالمنا الإسلامي الذين اهتموا في القضايا التي يطرقونها بالتأسيس والتأصيل المنهجيين أكثر من اهتمامهم بأزمة الواقع ونظرية الحل.
يلخص لنا المسؤول الأول في البلد آية اللّه السيد على الخامنئي مؤدّى الغزو الثقافي الذي يتعرض إليه المجتمع الإيراني، بقوله: «أما معنى الهجوم الثقافي فهو أن تشن قوة سياسية أو اقتصادية حرباً على المبادئ الثقافية لشعب من الشعوب، لتنفيذ أهدافها الخاصة والتحكم بمصير ذلك الشعب. انهم يفرضون بالقوة عقائد جديدة على تلك الدولة وعلى شعبها من أجل ترسيخها بدلاً من ثقافة ومعتقدات ذلك الشعب»، ثم يضيف: «الهدف من الهجوم الثقافي هو اجتثاث أصول الثقافة الوطنية والقضاء عليها».
أحمد توكلي الوزير السابق في حكومة المهندس مير حسين الموسوي والمرشح الأقوى الذي نافس الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني في الدورة السادسة لانتخابات الرئاسة (حزيران 1993) وحاز على ثلاثة ملايين صوت، حدّد معنى الغزو ومصداقه في برنامجه الانتخابي على نحو واضح، حين أعاد الغزو إلى طبيعة الصراع بين الإسلام والغرب؛ بين «ثقافة (إسلامية) تدّعي ان بإمكانها ان تقول كلمة جديدة في عالم اليوم ازاء سلطة الثقافة الغربية المادية وهيمنتها».
ثم أوضح انّ هذا الصراع اكتسب بعد انهيار الشيوعية أبعاداً متقدمة. ومن الطبيعي أن تكون إيران المرتبطة بالمشروع الخميني أول ما يُستهدف.
من مظاهر الحملة على إيران، التركيز على الجانب الدنيوي المفرط في المعاش، وجرّ المجتمع للروح الاستهلاكية، وتحريك الشهوات واثارتها على صعيد الأخلاق الفردية.
وفي الجانب السياسي التركيز على ما يطرح تحت عنوان عجز نظام ولاية الفقيه عن ادارة الدولة، وعدم كفاية الأحكام والقيم الإسلامية في ادارة المجتمع؛ وبكلمة عدم كفاية المشروع الخميني. وما يعتقده السيد أحمد توكلي، ان العلوم الاجتماعية هي واحدة من ذرائع هؤلاء في تحقيق أهداف هذا الجانب من الغزو(10).
رئيس الجمهورية السابق هاشمي رفسنجاني وأحد القيادات البارزة في البلد أوضح في مؤتمر صحفي، ان هناك نظرة قاصرة في الداخل تتعامل بسذاجة وسطحية مع قضية الغزو، سواء أكان ذلك على مستوى ادراك بواعث القضية أم على مستوى رصد مظاهرها.
والذي يؤكد عليه رفسنجاني وكذلك أكثر من مسؤول بارز في البلد؛ ان مظاهر عدم الالتزام الكامل بالحجاب هي ليست الغزو الثقافي، وان كانت بحدّ ذاتها ظاهرة سلبية يمكن أن تكون احدى أدوات الغزو، وانما «المسألة أكثر عمقاً وجذرية من هذا المظهر بكثير. الغزو يهدف ان يسلبنا شبابنا ويقطعهم عنا من الجذور، ونحن في المجلس الأعلى للثقافة وفي المراكز الأُخرى نحاول أن نواجه الظاهرة بشكل جاد، بيد إنّا نواجه مع الأسف نظرة تتسم بالكثير من السطحية».
وعند هذه النقطة ـ استهداف الشباب ـ يلتقي الشيخ رفسنجاني مع آية اللّه الخامنئي الذي يقول صراحة: «لو انهم أرادوا أن يحاصروا الشاب الذي سبق أن ذهب إلى الجبهة، فانهم يعطونه في البداية جهاز فيديو، ثم يثيرون شهوته بوضع الأفلام الجنسية القذرة في متناول يده، ثم يجرّونه إلى عدة مجالس لهو وفجور...؛ أنا لدي أخبار كثيرة من مختلف مدن البلاد، ولا يمر يوم وليلة إلاّ ونسمع بأخبار من هذا القبيل»(11).
أما كتاب «الهجوم الثقافي» الصادر عن مؤسسة كيهان الصحفية، فيعطي صورة مجسمة لضخامة النشاط المعادي للمجتمع حين يعكس مصاديق الغزو والنيل من قيم المجتمع واختراق سلوكه، كما يلي: «توزيع ألوف أجهزة الفيديو بالشكل الذي تحوّل فيه هذا الجهاز إلى واحد من المصادر الأصيلة للتغذية الثقافية، وبث الملايين من أفلام الفيديو، ونشر الملايين من المجلات والكتب الأدبية والثقافية التي تعدّ مصداقاً تاماً وبارزاً من مصاديق «كتب الضلال»، وانتشار الحلويات المغلفة بصور مبتذلة بين الأطفال والشباب الغافل عمّا يراد به، وشيوع الملصقات التي تحمل صور مبتذلة لأبطال السينما التجارية التركية والهندية والأمريكية، وطبع العلامات (تجارية أو ملصقات على الملابس والسيارات) التي تحمل دلالات نفي الهوية، وتصميم الأشكال التي ترمز إلى ثقافة الأجنبي، وتحوّل ملابس الأطفال والشباب إلى لوحة اعلان سيّارة، هي جميعها أمثلة بارزة للهجوم الثقافي الذي يهدف إلى قطع الشاب تدريجياً عن هويته المعنوية والوطنية، وأفقاده عنصر الثقة بنفسه والاعتماد على ذاته، وربطه ببهارج دنيا الغرب الملونة حتى يتحوّل الغرب إلى قبلة آمال ينزع إليها ويصبو لها.
ومن الطبيعي ان هذا الجيش المهاجم إذا نجح في حملته فسوف لن يحتاج حتى إلى اطلاق رصاصة واحدة»(12).
حقيقة أم وَهم؟
قد يخطر في ذهن البعض ان في الأمر مبالغة ما، وان هذه المظاهر وغيرها هي محطات يمر بها الشباب في حياته قبل أن يرسو على طموحات ناضجة ويبلغ الرشد المطلوب. وقد يتعلل البعض انَّ هذه المظاهر باتت صوراً مألوفة للحياة في المجتمعات الإسلامية في جميع بلاد المسلمين.
ولا يتصور البعض ان اشاعة هذه البضاعة الاستهلاكية المفسدة تتم بدوافع تجارية محضة وبهدف استبقاء أكبر قدر من الارباح دون أن تهدف ابتداء إلىتحقيق مرامي النيل من قيم المجتمع وسلوكه عبر ما يطلق عليه الغزو الثقافي.
أخيراً قد يقال: ان المسألة بكاملها تنطوي على ضرب من التهويل يحاول أن يخفي جوانب التقصير عن النهوض بأعباء البناء والتغيير الثقافي والاجتماعي. ومن ثمَّ تحولت هذه المظاهر إلى مجرد وسيلة لتسويغ التقاعس عن الانتاج الثقافي وتوفير شروط الخصوبة الثقافية والاجتماعية في مجتمع المسلمين عامة، ومجتمع الدولة الإسلامية خاصة.
إذا شئنا ان نناقش بعض علامات الاستفهام هذه لاحتجنا أن نعود إلى لغة البديهيات التي طوينا الحديث عنها في بدء هذه المقدمة. وانما نكتفي بالتذكير بما يلي:
1 ـ الغزو الثقافي هو قضية عالمية تعاني منه المجتمعات بأغلبها. وبالنسبة لنا نحن المسلمون، فنحن في مرمى الآخرين، وبالذات في مرمى الحضارة الغربية، لا فرق في أن تكون دوافع الغرب اقتصادية أو حضارية، وانما العبرة بوجود القصد المسبق والخطة المدبّرة، وواقع المجتمعات الإسلامية حتى في أشدّ بلاد المسلمين تقليدية ومحافظة خير شاهد على ما نقول.
2 ـ أما بشأن إيران فأعتقد ان الجميع يعرف ان لها حساباً خاصاً بعد ان فاحت أجواءها بعطر نهضة الإمام روح اللّه الموسوي الخميني. فالغرب ومن يتحالف ويلتقي معه لا يألوا جهداً في استخدام جميع الوسائل المتاحة للتأثير على التجربة الإسلامية وتذويبها. المطلوب صراحة هو وأد المشروع الخميني والقضاء على الآمال التي أوجدها في دنيا المسلمين. وكل شيء سينتهي أو يخف إذا ما أيقن الغرب وحلفاؤه ومن يلتقي معه من أي مشرب كان وفي كل مكان، انطفاء شعلة النور التي أوقدها الإمام الخميني.
وبعدُ ما أحرانا ان نتمثل كلاماً لأميرالمؤمنين الإمام علي بن ابي طالب، وهو يهتف بنا «من نام لم يُنم عنه»، فحتى لو كنا في غفلة فان عدونا لن يغفل عنا أبداً.
وإذا رغب البعض بمزيد من الأرقام فسأترجم مقطعاً من خطاب أدلى به السيد الخامنئي ـ وهو المسؤول الأول في البلد ـ تحدث فيه بصراحة شديدة عن مظاهر الغزو، وعودة هذه المظاهر إلى خطة مدبّرة تتحرك ببواعث غير مالية، حيث قال: «انظروا إلى أعمال هؤلاء المهربين، وتلك الفئة التي توزّع أفلام الفيديو وأشرطة الأفلام الجنسية، والصور والكتب المثيرة للشهوة، ومجلات العري والاثارة، فستجدون انها لا تحقق لهم ربحاً تجارياً. وأنا أقول هذا الكلام من خلال معرفة مباشرة بالحقائق. فالمال والربح يتوافران لهؤلاء من غير هذا الطريق، وانما يقوم هؤلاء بهذه الأعمال تنفيذاً لخطة مدبّرة تهدف بث الفساد واشاعة الشهوة بين المجتمع الإيراني وبالأخص في أوساط الشباب وبين العوائل»(13).
3 ـ أجل، يبقى من بين الاستفهامات المشار إليها آنفاً، الاستفهام الأخير الذي يتضمن شيئاً كثيراً من الحقيقة. فالجميع يعترف ـ أو الأغلبية ـ أنّ قضية الغزو الثقافي سُطّحت في إيران وفي العالم الإسلامي، وانه مازالت هناك أشواط تفصلنا عن تحصين الداخل عبر بنائه وتأمين احتياجاته.
وعلى الصعيد النظري نعترف ان هناك من يريد أن يصطاد في الماء العكر، فيتوارى خلف مقولة الغزو الثقافي لتغطية العجز وتبرير الجمود ومنع التبادل الثقافي المتوازن القائم على أساس الندّية، وضرب الحريات الطبيعية، كما ثَمَّ من يتخفى وراء مقولة التفاعل الثقافي لتذويب مقومات الذات ومرتكزات أصالتها.
لذلك كان لابدَّ أن نترسم الحدود واضحة بين المقولات انطلاقاً من الرؤية التي يضمها هذا الكتاب.
التفاعل الثقافي والغزو الثقاقي
بعضهم يتجاوز الاستفزاز ولا يكتفي به، ويتحوّل إلى الارهاب الفكري وغير الفكري في طرح القضايا الثقافية ذات المساس بالمجتمع. وهؤلاء حين تترقبهم من بعيد تجدهم أحرص الناس على الدعوة إلى الحوار العقلاني والتغنّي بالعقلانية، ولكن حين تقترب منهم وتتفحص مقولاتهم وتفككها جيداً تألفهم ارهابيين من الطراز الأول. فهم يمارسون الارهاب الفكري بأبشع صوره، تارة بالرمي بالتجهيل، وتارة بالتضخيم والتهويل، وتارة ثالثة باقحام مناهج وسوق مصطلحات لا دخل لها بالموضوع، وربما لم يقف كاتبها على محتواها بشكل تام
موضوع الغزو الثقافي في الساحة العربية وفي بلاد المسلمين تعدّى دائرة الحوار الفاعل ليدخل دائرة المزايدة المشار إليها. حصل ذلك على مستوى المقولة ذاتها فيما تدل عليه من مواقف ازاء ثقافة الغرب. إذ لا يمكن الحديث عن الغزو الفكري والثقافي لبلاد المسلمين دون ان يرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً برؤية معينة للغرب عامة ولثقافته وفكره خاصة.
وثَمَّ من يتجافى عن حقائق الواقع لدوافع كرّرنا الاشارة إليها فيما سبق، فيشهّر مقولة ضرورة التفاعل ليواري مقولة الغزو، أو يذهب إلى ان الغزو وسيلة الضعيف للتغطية على صنعه وعجزه، وكأنه بذلك يقدم فتوحات عجز عنها الآخرون
بديهي ان الغزو يحكي ضعفاً والضعيف هو الذي يغزى. وطبيعي ان هناك من يتوكأ على مقولة الغزو ليبرّر تقاعسه وجموده ويثبط حركة الابداع ويحول دون تفتح الحريات وايناعها.
تعيش بلاد المسلمين حال ضعف مشهود لامجال لانكاره. وهذه الحالة ليست وليدة الساعة بل تتلابس في خلفيتها مجموعة من العوامل. وعلى أرضية الضعف وجد التيار الفكري المضاد طريقه إلى المسلمين وتبلور مصطلح الغزو الثقافي أو الغزو الفكري.
ومع ذلك تجد من يتحرك ضدَّ البداهة ويروم حجب الشمس بغربال.
بديهي نجانب الانصاف إذا وضعنا الجميع في دائرة واحدة دون تمييز. ومع ذلك من المفيد أن نمرّ ـ سريعاً ـ على الذين يمارسون ارهاب الفكر بمقولات الفكر وبغيرها، ليحجبوا واقعاً يظل يفرض نفسه على الدوام.
ذهب بعضهم انه لا معنى للغزو الثقافي أو الفكري، ولا معنى للأفكار المستوردة، لأن الغزو مصطلح عسكري، والاستيراد مصطلح اقتصادي
يكتب أحدهم معبراً عن رأيه: «اني أستبعد مصطلح الغزو لأنه محض عسكري». ثم يوضح: «ان مصطلح الغزو هو عديم القيمة في تفسير العلاقة بين الثقافات والأفكار. فهو مصطلح عسكري ينطوي على معاني القهر والغلبة»(14).
وتحت عنوان «المسلمون والأفكار المستوردة» يناقش مفكر عربي بارز المصطلح ويردّ عليه بالطريقة التالية: «إن المستورد في الأصل صفة تتعلق بميدان التجارة، والتجارة الخارجية بالذات». ثم يضيف: «والنتيجة التي نخلص إليها من هذه المقدمة هي ان تعبير (الأفكار المستوردة) تعبير مجازي، ينقل إلى ميدان الفكر لفظاً ينتمي في الأصل إلى ميدان الاقتصاد والتبادل التجاري»(15).
عجيب أمر هؤلاء وهم لا يكفون في لغتهم الحديثة عن استخدام مصطلحات، مثل: حفريات المعرفة، منتجات العقل، تقنيات، آليات، البيئة الفكرية، مع ان الحفريات تختص بعلم الأرض، والمنتجات مصطلح اقتصادي، والتقنيات والآليات من مصلحات علم الميكانيك، والبيئة من مصطلحات الجغرافيا؟
ويحمل بعضهم على الغزو الثقافي لكونه شعاراً آيديولوجياً يخدم أغراضاً سياسية(16)، ويغطي على واقع ضعيف، حيث تعدّ المقولة «دليل قصور عقلي وخواء فكري»(17).
ولا ندري إذا كان الاستخدام الخاطئ والتوظيف السياسي يغيران من الواقع شيئاً أم لا؟
كل مصطلح مرشح للاستخدام الخاطئ وللتوظيف السياسي أيضاً، بيد ان ذلك لم ولن يمنع البشر من معالجة واقعهم، كما ان التزوير وان كان يحجب الحقائق ويدلس على وعي الناس لزمن، إلاّ انه لا يقوى على تغيير الواقع.
ثم لماذا يستمرئ بعض المثقفين في الساحة، حديثاً عن الهوية يتزايد في المانيا، وآخر في الغزو الأمريكي للثقافة الفرنسية تتصاعد وتيرته باطراد في فرنسا، ويذعن بأصالة اليابان وذاتيتها وخصوصيتها، ولكن ينكر على العالم الإسلامي وعلى المسلمين حقهم في ذلك؟
بشأن هذه الالتباسات وفي طليعتها الفارق بين الغزو والتبادل الثقافيين، والموقف من ثقافة الغرب وعلومه سنقدم رؤية نستمد عناصرها من نصوص الكتاب الذي بين أيدينا.
عناصر الرؤية
لكي نعين القارئ على اختصار المسافة، نشير إلى أهم أفكار الرؤية التي يطويها الكتاب كما يلي:
أولاً: نحن إيرانيون مسلمون، كلمات تتردّد بكثرة في طيّ هذه النصوص. ولكن لا تعني لا الإسلامية ولا الإيرانية ان تنأى عن التعلّم من الآخر. فالآخرون لهم أشياء وأفكار جيدة؛ وان كان من الأفضل تذويب ما يكتسب من الآخرين في بنية الثقافة الذاتية. نقرأ: «نحن إيرانيون، علينا إذن ان نبحث عما يرتبط بنا، ونعثر عليه. بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلم من محاسن الآخرين؛ فالإنسان يتعلم مما عند الآخرين من محاسن واشياء جيدة، ولكن من الأفضل ان يذوّب ما يكسبه في ثقافته، ثم يستفيد منه»(18).
ثانياً: لا ضير من أخذ ثقافة الآخرين بشرط أن نملك حرية الاختيار، وتكون لنا القدرة على الهضم فنأخذ ما ينفعنا «لقد تحدثت مرّة عن الثقافة وقلت لا ضير من أخذ ثقافة الآخرين، ولكن على نحو يتم التمييز بين كيفيتين».
الذي نرفضه هو القسر والاجبار في تلقي ثقافة الآخر، وإذا كان الآخر عدواً، فلنا أن نتصور ماذا يدفع لنا من ثقافته.
ثالثاً: الغزو الثقافي وان كان يأتي من جهة الغرب، إلاّ انه يتحرك بآليات محلية ويسري ثم يستفحل على أرضية ضعفنا في الداخل. بل لا معنى للغزو من دون ضعفنا؛ فلضعفنا وبضعفنا يتم الغزو، وضعفنا هو أرضية الغازي. وطريق المواجهة لا يتمثل بتشييد السدود وحدها ووضع المتاريس بل بابداع الفكر وابتكار الحلول وبناء الواقع وتقوية البناء؛ أي بتجاوز الضعف وتماسك الداخل فكرياً وموضوعياً.
ثالثاً: ليس لدينا حساسية من الغرب لكونه غرباً، بل نحن نعترف بتقدمه، والأكثر من ذلك بوجود أفكار ومنتجات مفيدة في حضارته، بل نسعى إليها بجد. ولكن بشرط ان نملك حرية الاختيار، لا أن يدفع لنا الآخر ما يشاء، كيف يشاء من ثقافة إستهلاكية مسخ، تأتينا باسم الحداثة وغيرها. «لو عثرنا في معارف الغرب، على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء؛ اذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال مع ثقافة الغرب إذ علينا ان نتعامل معها تعامل الجسم الحي تعاملاً عضوياً، نأخذ ما يفيدنا ونلفظ ما لا ينفعنا».
وفي اتجاه أوضح يسجّل النص: «وإذا شئنا الانصاف، فان ثقافة الغرب الآن تنطوي على عناصر ايجابية مفيدة، وهي مصيرية بالنسبة إلينا.. علينا ان نجذبها ونتعلمها.. الأشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة.. لذلك كله ينبغي ان نأخذ العناصر الايجابية في ثقافتهم ونستفيد منها».
وعن العلم وحاجتنا الماسة إليه يشير النص صراحة: «يحصل أحياناً أن يكون العلم بيد أعدائنا، فنذهب إليهم وننحني أمامهم لكسبه، ليس في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأواً من ان ينصرف عنه الإنسان لعداوة مع من يستحوذ عليه».
بيد انه لا يحسن ان نتعامل مع ثقافة الغرب وكأننا فاضون من أي شيء، تماماً كالطبل الأجوف أو الورقة البيضاء «لا يصح لنا ان نتعامل مع ثقافة الآخر تعامل الإنسان الخالي من أي شيء.. الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح ان نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر الثمل المدهوش».
رابعاً: الانفتاح شرط في كسب المناعة «إذا انفتح مجتمع ما على المعارف والمعلومات، فستزداد مناعته مقابل العدو». والتواصل مع ثقافات الشعوب فرصة لانماء الحياة الثقافية وإخصابها «الاستفادة من ثقافة الآخرين أمر يبعث على التكامل».
خامساً: يتركز هجوم النص على دعاة التغريب الأوائل في إيران، فأولئك مهما كانت ظروفهم، جنحوا إلى التعميم، ودعوا إلى تغريب إيران بحسب نص تعبير أحدهم، ظاهراً وباطناً، في الثقافة والمعاش واللباس(19). وهذا المسخ لم يعد يرضاه لشعبه الآن أعتى دعاة العالمية.
ولو كان روّاد التغريب الأوائل قد اكتفوا بالدعوة لكسب العلم الغربي لما اعترض عليهم أحد «نحن الآن نعلنها صراحة؛ ان العالم شهد تقدماً في العلوم، وابقانا متخلفين قرنين أو ثلاثة قرون عن ركبه». وأولئك الرموز والروّاد الأوائل من دعاة ربط إيران بالغرب «لم يدعوا مواطنيهم الإيرانيين أبداً إلى كسب ما يستطيعون كسبه من العلم الغربي. ولو كانوا قد دعوا إلى ذلك لاستقبلنا دعوتهم».
سادساً: أخيراً، بين الغزو والتبادل أو التفاعل الثقافي خطوط ينبغي ان تكون واضحة. فالغزو فرض وقسر، والتبادل اختيار. والغزو يفرض على الأمة لاستئصال ثقافتها، والتبادل ضرورة للتكامل.
والغزو يكون في حال الضعف، في حين يقوم التبادل على الندّية والتكافؤ.
وفيما يلي النصوص الدالة على هذه المعاني أوضح دلالة:
«ثَمَّ فارق بين الغزو الثقافي، وبين التفاعل أو التبادل الثقافي.. التفاعل الثقافي يعبّر عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب. فليس ثَمَّ شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن التعلّم من معارف الشعوب الأُخرى، بما في ذلك الثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي».
«ان حالة التفاعل والتبادل هذه باتت أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحياة والتجدّد».
«الهدف من التبادل الثقافي هو اثراء الثقافة الوطنية وسوقها صوب التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف لاستئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها. وفي مسار عملية التبادل الثقافي تأخذ الأُمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما تميل هي إليه. افرضوا ـ مثلاً ـ ان الشعب الإيراني رأى في الشعوب الأوربية انها تتسم بصفات العناد والمثابرة (بمعنى الصبر والمجاهدة والاصرار على انجاز العلم) والتوثب وروح المغامرة، فلو انه أخذ هذه الصفات عنها، لكان ذلك أمراً حسناً».
«التبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من جانبنا، أما الغزو فهو مبادرة يمسك العدو بزمامها ويمارس عبرها الهجوم ضدّنا؛ لكي يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي ايجابياً، أما الغزو فهو ممارسة سلبية.
ومن جهة أُخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوة الأمة وقدرتها وامتلائها، أما الغزو فيكون في زمن ضعف الأمة وهزالها».
هذا الكتاب
على مدى بضع سنوات طرح آية اللّه السيد الخامنئي رؤية حيال مقولة الغزو الثقافي، وظلّ يتابع الموضوع خلال هذه المدّة، حتى تجمعت من حصيلة هذه المتابعة نصوص شكّلت كتاباً ضخماً حمل عنوان «الثقافة والغزو الثقافي»(20).
ما يميّز رؤية السيد الخامنئي هو اللغة المباشرة والتوجه صوب الواقع، لماذا؟ لأن سماحته لا يُمارس مسؤوليته في هذا المضمار من واقع انه منظر ثقافي، بل من واقع كونه مسؤولاً.
ومع ذلك لم نجد هذه الرؤية غائبة تماماً عن مرتكزاتها الثقافية كما في معالجة مفهوم الغزو الثقافي والتمييز بين هذه المقولة ومقولة التفاعل أو التبادل الثقافي، والموقف من الغرب ومعطياته العلمية والثقافية، وما يتخلل الموضوع من عشرات الأفكار الأُخرى، كما سيلمس القارئ في النصوص.
ولما كان الكتاب ضخماً في حجمه الأصلي، فقد بادرنا إلى توزيعه على ثلاثة أجزاء، شجعنا على ذلك توزع مادته على ثلاثة محاور، هي:
1 ـ بعد مقدمات تمهيدية في معنى الغزو الثقافي والفرق بينه وبين التفاعل الثقافي، تناول المحور الأول موضوع الغزو الثقافي للعالم الإسلامي ولإيران قبل الثورة الإسلامية وبالأخص بعدها.
2 ـ أكبَّ المحور الثاني على اضاءة المشهد من خلال رسم خطوط واضحة في طبيعة الوظيفة التي ينبغي أن ينهض بها الشعب ويضطلع بها المسؤولون في مواجهة الغزو الثقافي.
3 ـ أما المحور الثالث فقد تناول مفصلاً مهام الأجهزة الثقافية ورسالة المراكز الفنية والأدبية في مواجهة هذا المعضل.
لقد توفر هذا الكتاب على تغطية المحور الأول آملين ان يتبعه الجزءان الآخران في أقرب فرصة ممكنة ان شاء اللّه.
تبقى الاشارة الأساسية التي تمثل جوهر عمل المترجم، ان آية اللّه السيد الخامنئي لم يكتب هذه النصوص مباشرة لكي تكون كتاب، بل هي مقتطفات من خطابات وبيانات صدرت من قبل سماحته في مناسبات مختلفة، آملين ملاحظة الفرق بين النص المكتوب لغرض التأليف وبين الكلام المقول.
وبشأن «دار الولاية» فقد انبثقت المؤسسة على خلفية أن تكون مشروعاً إسلامياً ثقافياً واعلامياً يتحرك في أفق يطمح ان يسد جزءاً من الحاجات الثقافية ويستجيب لشيء من الهموم الاعلامية في حياة المسلمين.
وعلى خلفية هذا الشاغل يساور المؤسسة طموح إلى بناء جسر بين الثقافة الإسلامية المكتوبة بالعربية وتلك المكتوبة بالفارسية، لغرض التفاعل والتكامل بين ساحات الفكر الإسلامي، بعيداً عن لغة الاقصاء التي تتوسل بذرائع واهية في تسويغ الالغاء وبناء الأسوار العازلة على أُسس مذهبية أو لغوية أو اقليمية وفي طريق هذا الطموح قدمت «دار الولاية» بعض الأعمال، تضيف إليها هذه المبادرة الجديدة، وما قد يستجد مستقبلاً من مشاريع.
آمل أن يكون هذا الجهد في عداد الكلمة الطيبة السديدة التي تنفع المسلمين بحيث لا يتحوّل وبالاً على صاحبه يوم تُبلى السرائر، وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته المعصومين.
وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين.
جواد علي كسار
(خالد توفيق)
1 / ربيع الأول / 1419 هـ
الفصل الأول
مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو الثقافي والتبادل الثقافي
1 ـ مفهوم الغزو الثقافي
(1)
معنى الغزو الثقافي والمرادُ منه، هو ان تقوم مجموعة سياسية أو اقتصادية بالهجوم على الأُسس والمقومات الثقافية لأمة من الأمم، بقصد تحقيق مآربها، ووضع تلك الأمة في إسار تبعيتها. وفي سياق هذا الغزو تعمد المجموعة الغازية إلى أن تُحِلَّ في ذلك البلد وبالقسر، معتقدات وثقافة جديدة، مكان الثقافة والمعتقدات الوطنية لتلك الأمة(1).
(2)
الغزو الثقافي كالعمل الثقافي؛ إذ هو ممارسة تتسم بالهدوء وعدم اثارة الضجيج ولفت الانتباه(2).
(3)
يروم الغزو الثقافي ان يسلخ الجيل الجديد عن معتقداته بضروبها المختلفة. فهو من ناحية يهزّ قناعة هذا الجيل بمعتقده الديني، ويقطعه من ناحية ثانية عن الاعتقاد بالأصول الثورية، ويهدف من ناحية ثالثة إلى قلعه عن هذا الطراز من الفكر الفعّال الذي دفع الاستكبار والقدرات الكبرى لاستشعار حالة الخوف والخطر(3).
(4)
في عملية الغزو الثقافي يقوم العدو بدفع ذلك الجزء من ثقافته الذي يرغب هو بدفعه، إلى البلد الذي يروم غزوه، ويغذي الأمة التي يستهدفها بما يريد.. ومعلوم ماذا يريد العدو وَما الذي يرغب فيه(4).
(5)
يقوم الغزو الثقافي ـ وهو المصطلح الذي كررته مراراً وأشعر أزاءه بحساسية خاصة تملأ وجودي وتأخذ بكياني قلباً وروحاً ـ على ركنين، جديرين باهتمامكم:
الركن الأول: ويتمثل في استبدال الثقافة المحلية (الثقافة الوطنية الخاصة) بالثقافة الأجنبية. وهذه الممارسة هي في واقعها استمرار لتلك السياسة التي كانت قائمة في العهد البهلوي، وكان يُرَوَّجُ لها بشكل كبير، وتشيع على نطاق واسع من دون ان يكون ثمة حاجز أو رادع. ثم ما لبثت ان انقطعت ـ بحمد اللّه ـ مع انتصار الثورة الإسلامية، بَيدَ انّهم لازالوا يمارسون الضغوط من أجل استئناف ذلك المسار في ترويج الثقافة الأجنبية واشاعتها.
الركن الثاني: ويتمثل في الهجوم الثقافي على الجمهورية الإسلامية، وقيم هذه الجمهورية وقيم شعبها، بوسائل مختلفة، من مصاديقها في داخل بلدنا انتاج الأفلام والمسلسلات التمثيلية التي تتسق مع أهدافهم، ونشر الكتب والمجلات التي تغذى بتوجيه خارجي(5).
2 ـ أهمية الإيمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته
(1)
علينا أن نصدّق حقاً، ونقتنع بأننا عُرضة اليوم لأمواج مُتدافعة من ضروب الغزو الثقافي(6).
(2)
اننا اليوم عُرضة من كل جهة لسهام خصومنا من الأعداء الأصليين في العالم، ولعدونا الثقافي الذي يحمل علينا من كل صوب. والخصومة الثقافية ضدّنا تستهدفنا على أرضية ثقافتنا العامة، وعلى صعيد ضرب ذهنية الشعب والنيل من جهده الثقافي، كما انها تستهدفنا على صعيد النشاط التعليمي وجهدنا في تربية القوى الإنسانية، وذلك لكي يحولوا دون بلوغنا مقاصدنا(7).
(3)
أعتقد انّ هناك هجوماً (ثقافياً) شاملاً ومنظماً ومخطّط له ضدنا. بديهي انَّ الثورة لم تستطع في البداية ان تجذب فئات المثقفين والفنانين، وهم ممّن لا ينسجم مع الدين والإيمان والعلماء. نعم، ثمَّ مجموعة من أولئك استطاعت الثورة أن تجذبهم نظراً لما يتحلّوا به من وجدان يقظ، وبقيت المجموعة الأُخرى في العزلة بعيداً ولم تستطع الثورة ان تجذبهم.
وقصة هؤلاء أنّ أحداً منهم لم يكن يجرؤفي السنوات الأولى من عمر الثورة على عمل أدنى شيء. ومردّ ذلك يعود إلى طبيعة هؤلاء.. فأنا أعرف أكثرهم عن قرب قبل الثورة.. هم يتهيبون الأخطار،وينأون بأنفسهم عن خوض الميادين الصعبة. لذلك لم يكن لهذه الفئة خطر يذكر. لقد دفع الحماس الثوري الذي ترافق مع بداية الثورة، هذه المجموعة إلى ان تختار العزلة والقعود في الدار، والاستغراق في الذات والانطواء عليها، والاختباء وراء همومها، بحيث لم يكن يصدر عنهم في الأكثر إلاّ همسات تشهدها حَلَقهم الخاصة في البيوت وخلف الجدران، يتباحثون خلالها همومهم الشخصية.
بيد انهم عادوا ليدخلوا الساحة تدريجياً. أصدروا في البداية نشرة، ثم عادوا لممارسة الكتابة والخطابة والشعر، وشجعهم كلام قيل من أحد بنفعهم، فتشجعوا أكثر حين لم يجدوا أحداً يعترض عليهم.. حينئذ أحسّوا انه يمكنهم العمل في مثل هذا الجوّ بشكل مُنظّم ومخطط.
كان مبتغاهم أن يكسبوا الخطوط الخلفية للثورة إلى صفّهم. وإذا عرفنا انَّ الخط الأول يتمثل بالمسؤولين ومن يرتبط بهم، فانَّ الخطوط الخلفية تتمثل بالقاعدة الشعبية العريضة والعظيمة. فهدفهم إذن كسب الجمهور العريض من أبناء الشعب.
كان منطقهم يقوم على أساس التفكير التالي: إذا استطعنا ان نكسب إلى صفّنا هذه القاعدة الشعبية العريضة التي تدين بالولاء للمسؤولين، ونقطعها عنهم، فان كلّ شيء سينتهي. وهذا تفكير صحيح وصائب.
فإذا كان قُدَّر لهذا التيار ان ينجز هذا الهدف، لكان قد ألحق بالثورة ضربة موجعة. فإذا قُدِّر لهؤلاء ان يهيمنوا فعلاً على أفكار وقلوب ورغبات الخطوط الخلفية (الجماهير) ويتحكّموا أحياناً بمسار الاختيارات العقلانية)أي: المواقف) للقاعدة الشعبية، وأن ينجحوا في جذبها، ومن ثَمَّ سوقها نحو اتجاه معين، لاستطاعوا فعلاً ان يهيمنوا عليها.
وَهذا تفكير صحيح، ولكن هل استطاعوا فعل ذلك؟ أقول: كلا. ومرده ان تقديرهم كان ساذجاً سطحياً منذ البداية، ولكن على أي حال، خيّل إليهم انهم يستطيعون، فشرعوا بالعمل
هدفوا في البداية ان ينفذوا إلى السينما والمطبوعات؛ بل وحتى إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التي تملكها الدولة، وجهدوا أن يكون لهم حضورهم في كلّ جزء من المجال الثقافي، وان يكون منهم رجل في كلّ نشاط ووجود ثقافي.
تحركوا أولاً بلباس النشاط الثقافي المحض، ولكنهم عادوا الآن ليخوضوا المسائل السياسية. فبادروا إلى توجيه نقدهم إلى الدولة والنظام، بل وضعوا الخلفية الأساسية التي تقوم عليها مشروعية النظام، في دائرة السؤال والاستفهام.
هذا هو الذي حصل، وهو أمر خطير جداً. وحينما نصفه بأنه خطير جداً لا نعني انه لا علاج له، أو انه صعب العلاج. كلا، فعلاجه في غاية السهولة واليسر، بشرط ان يشعر المريض وكذلك الطبيب بأنّ هناك مرضاً بالفعل. فمع استشعار المرض والاحساس به، يكون العلاج سهلاً.
انّ الخطر هو ان نجهل أنا وأنتم ما يدور، ولا نستشعر وجود شيء.
نحن ننتمي إلى الصفّ الثقافي، وبذلك لنا قدرة التمييز الثقافي. والذي يعيش في الجوّ الثقافي ويستنشق هواءه، لا حاجة به إلى اللمس حتى يفهم الشيء ويستشعر وجوده ـ انما يكفيه حسّه الثقافي الخاص ـ.
يجب ان يعرف هذه الحقيقة ويدرك مغزاها الكتّاب الصحفيون ومؤسساتنا الثقافية من قبيل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ووزارة الارشاد، ومؤسسة الاعلام الإسلامي، والتربية والتعليم والجهات الأُخرى
بديهي ان تكوين هؤلاء)النفسي والداخلي) وطبيعتهم ليست طبيعة مؤمنة صلبة، لذا فهم ينسحبون إلى الوراء بأقل اشارة.. كلامهم وان كانَ جميل المظهر، إلاّ أنه لا يقوم على بُنية إيمانية ومرتكز عقائدي.
وفي الحقيقة، هذه صفة الكتّاب والمثقفين من ذوي المنهج المادي، فهم حين تنظر إليهم من بُعد، تجدهم يجيدون الكلام، تظهر عليهم الحماسة الفائضة، حتى كأنهم يتحدثون من أعماق نفوسهم، بيدَ انك حين تقترب منهم لا تجد شيئاً، فكلامهم لا يزيد عن لقلقة لسان، وليس له مستقر أبعد من ذلك.
كتب الكثيرُ من هؤلاء عن الاستعمار والصهيونية والظلم وما شاكل ذلك، ولكنه لم يكن على استعداد ان يتحرك خطوة، ويكون مع الشعب في الميدان، بل كان يطعن الجمهور.
هؤلاء أسرى الأهواء النفسانية؛ غرقى بأوهام ذواتهم(8).
(4)
علينا أن نتعاطى مع مسألة الغزو الثقافي بجد؛ وبوصفها مقولة حقيقية. فالمعركة الثقافية ضدَّ الفكر الإسلامي والجمهورية الإسلامية، هي مسألة تنطوي على فروع وشُعب مُتعدِّدة. وإذا شاء الإنسان ان يتوفر على احصائها والبحث فيها، فسيجد انها مفتوحة على مجال وسيع جداً.
لو افترضنا على سبيل المثال، انَّ الفكر السياسي الإسلامي أصبح عُرضة للشكوك ولعلامات الاستفهام في الصحف والدوريات، وفي الكتب المختلفة، والمترجمات وحتى في عملية تدوين التأريخ، فستكون تبعات ذلك خطيرة حينئذ، لانَّ هذه الثورة ركيزتها الأولى مباني الفكر السياسي الإسلامي، فإذا لم يكن الإسلام ينطوي على فكر سياسي، لم يكن ثمة معنى لثورة تقوم على أساس الإسلام، ومن ثم لما انبثق نظام يقوم على أساس مباني)أُصول ومرتكزات) ذلك الفكر.
وفي كل الأحوال، فقد تشكل هذا النظام وابتنى على أساس الفكر السياسي الإسلامي، وهو يتحرك في ضوئه. لذلك لا معنى أن نتصوّر بأن يبقى هذا الفكر السياسي من دون معارض، بل ثمَّ أزاءه أفكار ومدارس ورؤى واتجاهات سياسية أُخرى.
اننا نشهد اليوم الكثير من البحوث والمقالات والكتب والتواريخ وحتى السّيَر الذاتية وتراجم الشخصيات، وهي تنهض لمواجهة هذه الصيغة من الفكر السياسي الذي يقوم عليه نظام الجمهورية الإسلامية.
بديهي اننا لا نستغرب أن ينهض أحد المعارضين الفكريين (للنظام) ويقوم بكتابة مقال أو تأليف كتاب، فهذا السلوك متوقع، وينبغي علينا أن لا نضيق به، ولا نقع في ردّ فعل شديد إزاءَ ذلك. بل يمكن أن يقوم أحدهم بوضع كتاب ضدَّ التوحيد نفسه، وهذا أمر طبيعي فهم يكتبون ضدَّ التوحيد، وَنحنُ نكتب في التوحيد.
بيدَ انَّ المسألة تكتسب شكلاً آخر حينما نضع الأعمال المتفرقة هذه إلى جوار بعضها بعض. إذ نكتشف بالتأمل ان هذه الممارسات لم تكن وليدة صدفة محضة، بل هي بمجموعها تصدر عن خطة محسوبة، وان ثمة ارادة تحرّك القضية برمتها.. وهي في الواقع جزء من النشاط السياسي لمواجهة الفكر السياسي الإسلامي على صعيد حركة المطبوعات.
ثمة أشكال أُخرى لحركة المواجهة هذه، تتمثل هذه المرَّة بإثارة علامات الاستفهام حيال عقائد الإسلام الأساسية، والردّ عليها بشكل يكشف عن ذكاء وَمكر. يحصل ذلك من خلال الكتب العامة، والكتب والملازم الدرسية، ومن خلال صفوف الدرس نفسها.
إلا انَّ الشكل الأساس والأهم الذي تتلوّن به حركة المواجهة ضدَّ الفكر السياسي الإسلامي، والذي يُعَدّ من أهم عناصر الغزو الثقافي، يتمثل ببذل الجهود لجرّ جيل الشباب نحو مستنقع الفساد والابتذال.
والذي يبعث على الأسف، اننا حينما نتحدَّث عن الغزو الثقافي وضرورة مواجهته، وعن النهي عن المنكر، فانَّ ذهنية الناس تنصرف في الغالب نحو مصاديق صغيرة؛ بتأثير السوابق الذهنية أو أية مؤثرات أُخرى.
وثمة نتيجتان سلبيتان تترتبان على هذا التداعي الذهني، هما:
الأولى: ان مجموعة من الناس السطحيين لا تلبث أن تحصر القضية في حدود هذه المصاديق الصغيرة، فيعبّئوا جهودهم ويستهلكوها في حدود هذه الأمثلة والوقائع الصغيرة العابرة، التي لا أهمية لها.
الثانية: حين يرى مفكرو المجتمع وقواه الثقافية الخلاّقة، انَّ القضية تقتصر على مثل هذه المسائل التي لا شأن ولا أهمية لها، ترى اهتمامهم يتضاءل بأهمية القضية الأساسية المتمثلة بالغزو الثقافي.
وهذا ما يبعث على القلق.
على سبيل المثال يمكن ان تتجلى قضية الغزو الثقافي في سلوك بعض النساء (المتبرجات) من خلال طبيعة زينتهن ولباسهن وكيفية حركتهن في الشارع، من دون أن يُعير أحد هذا المنكر الاهتمام الذي يستحقه، ولكن القضية لا تقتصر على ذلك، بل تنطوي على أبعاد أعمق، إذ هي تكشف في حقيقتها عن وجود جبهة واسعة من قبل العدو، يوظّف فيها الوسائل المؤثرة، الخطيرة والفاعلة، ويستفيد من العلم والتقنيّة، في مواجهة الجمهورية الإسلامية من خلال الغزو الثقافي.
تحتاج هذه الحركة إلى مواجهة جادَّة، وإذا لم تُواجه بحركة مضادَّة، فهي مُنتصرة بلا ريب.
والذي أؤمن به شخصياً، اننا إذا لم نتحرك بذكاء في مواجهة موجات هذا الغزو، بحيث نوظّف له الوسائل الصحيحة الناجحة، ونعتمد الحكمة والتدبير، فانَّ آثاره ستكون خطيرة جداً ومدمِّرة.
علينا إذن ان نتعاطى مع هذه القضية، وان نتجنب إعمال الأذواق والأمزجة الخاصة. فإذا كان لمسؤول في أحد مجالاتنا الثقافية، ذوق خاص ومزاج خاص أزاء مسألة معينة، فلا ينبغي ان يتحوَّل هذا الذوق أو المزاج إلى معيار خاص وملاك في الموضوع. وانما ينبغي رؤية الخطر بحجمه الحقيقي، وادراك ما ينطوي عليه من أهمية(9).
(5)
الغزو الثقافي الذي أكّدنا عليه مراراً، هو تعبير عن قضية واقعية واضحة، لا يسعنا ان نقضي على وجودها عملياً بمجرد إنكارها. الغزو الثقافي هو واقع قائم وموجود، وإذا أنكرناه نكون مصداقاً لكلام أميرالمؤمنين علي(صلوات اللّه عليه) حيث يقول: «وَمَن نام لم يُنم عنه». فإذا غفلت أو أخذك النوم وأنت في خندقك، فذلك لا يعني أبداً أن عدوّك في الخندق المقابل اعتراه النعاس وأخذه النوم أيضاً.
لذلك يجب أن تحرص على ان تستيقظ وتخرج من حال الغفلة
علينا ان ننتبه أنَّ الثورة الثقافية في خطر. كما انَّ أصل ثقافتنا الوطنية والإسلامية هي تحت طائلة تهديد الأعداء(10).
(6)
لا يسعنا ان ننكر ما هو موجود واضح للعيان)يعني به مظاهر الغزو الثقافي) في الجامعة وخارج الجامعة، بل وحتى في وسائلنا الاعلامية وأجهزة الاتصال العامة التي تختص بنا. كما لا يسعنا ان ننكر ما هو موجود في ثنايا الكتب التي تؤلف، وتلك التي تُترجم.. وفي الشعر الذي ينظم ويلقى.. وفي البرامج الثقافية العالمية.. التي تبدو في الظاهر وكأنّها لا صلة لها بنا.. مما يحيط باخباره السادة الحضور، لكونهم من العناصر الثقافية.
ثمَّ تهيّؤواستعداد ثقافي في كلّ مكان ضدّ الثورة. وهذا الاستعداد من الخطورة بمكان.. وهو لا يشبه ما كانَ موجوداً قبل مائة عام مثلاً.
أجل، قبل مائة عام كان هُناك غزو ثقافي ضد الإسلام، ولكن ليس على الشاكلة التي هو عليها الآن. والفارق بين الحالتين يمكن أن نوضحه بمثال، فعندما يواجه الإنسان عدواً كسولاً لا همة له، سيكون على ضرب من الاستعداد العسكري يختلف تمام الاختلاف عن الاستعداد والتجهيز العسكري الذي يتحلى به الإنسان عند مواجهته لعدو يقظ منتبه.
كان العالمُ الإسلامي يومذاك يغطّ في سبات عميق، ويعيش حالة خدر بل كان ثملاً غائباً عن الوعي. لذلك كان العدو يكتفي آنذاك بضربات يوجهها إلى الجسم الإسلامي في بعض الأحيان، أو انه يزرق (سمومه) في دمائه وينتهي كلّ شيء. أمّا اليوم فانَّ الإسلام ـ وهو العدو الرئيس لدنيا الغرب ـ أضحى يقظاً.. الإسلام اليوم أمسى ذكره يترافق مع ذكرى مواقف ممتدة لا تنتهي، كتلك التي تنطوي عليها شخصية مثل شخصية الإمام الخميني(رضوان اللّه عليه).. وَله اليوم كلّ هذه الذخائر الثورية.. والشباب الملتزم.
هذه الحالة لا تسمح للآخر أن يتعاطى مع الإسلام اليوم باهمال وعدم جديّة(11).
(7)
ثمَّ اليوم غزو ثقافي عظيم يمارس ضدَّ الإسلام وفي مواجهته. وهذا الهجوم الواسع لا يقتصر على الثورة الإسلامية ولا يستهدفها لوحدها، بل هو يتعدّاها إلى الإسلام نفسه.
يكتسب الغزو الثقافي الآن، لشدّته، وضعاً استثنائياً عجيباً، وهو يمتد على أبعاد وسيعة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً.. وهذا الهجوم لا يقتصر على أحد، بل هو ينال حتى صيغة الإسلام السائد بين جماهير الناس)ما يعرف بالإسلام الشعبي) في الجزائر مثلاً.
أجل، الصيغة الوحيدة المستثناة من الهجوم، هي صيغة الإسلام المرتبط بالأجهزة الاستعمارية، والأجهزة السعودية.
فالمواقع التي ترتبط بهذه الصيغ ـ من الإسلام ـ هي وحدها المستثناة من الهجوم.
وإذا كان الهجوم لا يوفّر الإسلام بمعنى كونه عقيدة شعبية لعامة الناس، فما بالك بالإسلام الأصيل.. الإسلام الثوري.. الإسلام بالفهم الإيراني)الإسلام الإيراني) على حدّ تعبيرهم.
الممارسات التي تسمعون بها حيال موقف فرنسا من حجاب الطالبات، لا تعدو أن تكون شرارة، وجذوة تتقد تحت الرماد، تنذر بآتٍ عظيم لازال خفياً وراء الستار. المسألة في قضية الطالبات المحجبات لا تقتصر كما يزعمون على دولة علمانية ترفض وجود المحجبات، بل تأخذ بُعداً أعمق.
ينتابهم احساس عميق، بأنَّ الإسلام يمثّل خطراً بالنسبة إليهم. وليس في هذه المسألة جديد، وانما لها خلفية في الهند. فقد ذكرتُ في كتابي ـ ولا تحضرني العبارة نصاً الآن ـ انَّ أحد حكّام الهند قبل الاستقلال، أي قبل سنة 1947، كان قد ذكر في أوائل نفوذ الانكليز إلى شبه القارة، ان مشكلتهم الأساسية هم المسلمون. وعليه، فإنَّ أول ما يجب ان يقوموا به هو قمع المسلمين واستئصالهم، كي يخلو لهم الجو.. ولابدّ انكم سمعتم بمقولة غلادستون الذي أعلنها صريحة: «يجب أن يمحى هذا القرآن من الوجود».
انهم إذاً يخشون الإسلام منذ قديم الزمان ويهابونه، ويتمثلونه خطراً عليهم.
وهذا الشعور لم ينشأ من فراغ، أو من لا شيء، بل لأُمور لمسوها في حركة الإسلام. فهم اطلعوا على سبيل المثال، على حركة «التنباك»)التبغ) وقضايا أُخرى جرت في الهند وافغانستان وإيران ومصر، بيد انهم سرعان ما غفلوا عما يمثله الإسلام من خطر على منافعهم، وَلم يعد الاستعمار يبدي حساسية كبيرة ازاءه.
والسبب في ذلك يعود إلى انَّ المسار الإسلامي لم يُبدِ فعلاً ملموساً، مما أدّى إلى ان يغفل الاستكبار عن الإسلام لفترة.
حالة الغفلة هذه لم تمكث طويلاً، فبعد مرور عدّة عقود انتصرت الثورة الإسلامية، مما أدّى إلى أن يعود الاستعمار إلى ذاكرته، ويستحضر ما كان قد حفظه في ارشيفه وخزائنه من معلومات، جمعها عن المسلمين، بواسطة مفكريه وجواسيسه، ثم عاد ليضيف إلى هذا الخزين حصيلة بحوثه التحليلية الجديدة.. ومن هذه الزاوية بالذات ننظر إلى ما تقوم به «اسرائيل» على سبيل المثال، من المبادرة لعقد مؤتمر حول الإسلام، أو حول الإسلام في إيران، أو حول التشيّع. فأمثال هذه النشاطات تتحرك في المسار الذي يركز معلومات الغرب ويزيدها حيال الإسلام.
لقد تحرك الغرب والعالم الرأسمالي للحفاظ على وجوده بكل ما يملك، وتوسَّل بالطريقة العلمية في توجيه الأحداث العالمية. ومردّ ذلك انه يعرف، بأنه إذا لم يفكر.. ولم يستخدم الأرقام والاحصائيات.. ولم يستشرف المستقبل.. ويستشعر حالة القلق، فسيمنى بضربة تنال من وجوده.
وقد وُضعت في هذا المضمار، بين يدي الأجهزة الاستكبارية أرقى المؤسسات البحثية، وأفضل الخبرات الفكرية، التي أخذ يوظفها للتخطيط لقضاياه على المدى البعيد. هُم منهمكون مُنذ عقد ونصف أو عقدين، أو أكثر من ذلك في التخطيط والتفكير ووضع البرامج.
المهم انَّ هذه الأجهزة دخلت حال الاستنفار حين أحسَّت انَّ الإسلام ـ وهو الخطر القديم الذي يخاف منه الاستعمار ويخشاه ـ عاد إلى الساحة في إيران، بقدرة عظيمة.
لكي تدركوا وطأة عودة الإسلام على الاستعمار والغرب، أعود قليلاً إلى مثال يمكن أن تقاس عليه أوضاعهم وما ألمَّ بهم بعد انتصار الثورة. ففي عام (36) أو (37) وقع انقلاب عسكري في العراق أطاح بالملك فيصل ونوري السعيد، فجاءت ردّة فعل الانكليز والجهاز الاستعماري عنيفة لا توصف. ومما يذكره ايدن رئيس وزراء بريطانيا في مذكراته، انه كان يمضي فترة استراحة آخر الاسبوع، في جزيرة، حين سمع بالخبر، فأحسَّ حينها ـ وكما يقول ـ وكأنَّ ضربة موجعة نزلت على دماغه، وانَّ الدنيا أخذت تدور برأسه.. لا أتذكر الآن نصّ تعبيره بيدَ انه كانَ يدور حول هذا المضمون.
ثم توالت على هذا المنوال، كتابات الانكليز بعد ايدن في كتب المذكرات وغيرها، وهي تؤكد لعدّة سنوات على حجم الضربة وشدّتها.
وَلكم الآن أن تقارنوا بين واقعة بحجم الثورة الإسلامية، وَبين انقلاب عسكري، لتدركوا ثقل الوطأة التي ألمّت بالاستعمار.
لم يتحملوا انقلاباً عسكرياً عادياً، لجهة ان العراق كان مستعمرة انكليزية، مع انه كان للأجهزة الاستعمارية نفسها يد في هذا الانقلاب كما تأكدَّ فيما بعد.. وبالرغم أيضاً من ان التبعات التي ترتبت عليه، والتي ظهرت بعد عشرين أو ثلاثين سنة، متمثلة في طبيعة الحكم الراهن الذي يسيطر على العراق.
طبيعي لا يمكن قياس حدث الثورة الإسلامية بانقلاب عسكري، ولكن قارنوا بين الواقعتين، لتدركوا ماذا دهى الاستكبار.
لقد وضعت الثورة الإسلامية بانتصارها، حيثية النظام القيمي للاستعمار الغربي والعالم الرأسمالي، في دائرة الشك والسؤال، وبالتالي أخذت تُهدّد مستقبلهم بالكامل. ولما كانت الثورة قد نهضت على أساس الإسلام، فانَّ معنى ذلك انَّ الثورة أضحت مشروعاً ممكناً بالقوة، وقابلة للتحقّق الفعلي في كل مكان يتواجد فيه المسلمون، كما رأوا ذلك فيما بعد في نماذج وأحداث مختلفة.
لقد نهض الإسلام في مدار المحور الإسلامي برمته، من أفغانستان حتى اندونيسيا، مروراً بماليزيا ومصر وتونس وجميع البلدان الأُخرى، حتى تلك التي يسود فيها ما يطلق عليها بالأنظمة الثورية كالجزائر أو ليبيا.. فالإسلام على امتداد هذه الرقعة، كان ولا يزال ينادي: هل مِن مُبارز. وعلى حدِّ كلمته تتحدَّد ملامح خريطة المستقبل في هذه البلدان.
بعثت هذه الحالة من النهوض، في كيان العالم الرأسمالي الاستكباري، احساساً بالخوف، دفعهم لتظافر الأيدي واجتماعها في مواجهة الإسلام.
وكذا كان الحال في العالم الاشتراكي، ولكن على نحوٍ آخر. ومردّ ذلك انَّ العالم الاشتراكي تنقصه الأدوات الفكرية اللازمة، وهو بالتالي يفتقر إلى النظرة المستقبلية التي يتحلى بها الغرب في هذا المضمار. وسبب هذا التخلف يعود إلى أنَّ الأرقام وتخزين المعلومات والاحصائيات المتخصصة، وبحوث التنبؤات (بالمستقبل) هي جميعها جزء من الحضارة الصناعية. وتخلُّف المعسكر الشرقي في هذا المضمار يتناسب مع نسبة تخلفه عن الغربيين في المجال الصناعي والتقني.
لذلك كلّه لم يكن انتباه المعسكر الشرقي (للانبعاث الإسلامي) على قدر انتباه الغرب ويقظته.
علاوة على ذلك، كان ثمة احساس يُخامر المعسكر الشرقي يوحي لهم بمنافع مُشتركة مع الثورة.. فالمعسكر الاشتراكي رأى صدمة الغرب من الثورة، فخيّل إليه انَّ هذه الحالة ايجابية بالنسبة إليه.
لقد انتهت الآن قصة الغرب والشرق، ولم يعد ثمة معنى للمعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. فالاتحاد السوفياتي انتهى، وتلاشى تبعاً له المعسكر الشرقي، ليُسدل الستار بذلك على التطلعات الماركسية، ويغلق ملف الاشتراكية.
وفي كل الأحوال، يستهدف التفكير المضاد)الغربي ـ الاستعماري) الإسلام الأصيل، وإذا شئنا ان نكون أكثر دقة، فهو يستهدف الدين الأصيل. والذي نعنيه بالدين الأصيل النقي، هو نمط من الفكر يتجاوز الثورة الإسلامية. فالهجوم المضاد لا يقتصر على الثورة وحدها، بل هو يستهدف الإسلام برمته.. وهو يستهدف في وجه من الوجوه، أي دين يحسّ (الغرب) انه ينطوي على أصالة.
ومعنى ذلك، انَّ رجل الدين المسيحي في أمريكا اللاتينية، مغضوب عليه بنفس الدرجة التي يُغضب فيها على العلماء الثوريين المصريين أو التونسيين.
مثل هذه الحالة من الأصالة والنقاء الديني مستهدفة في أنحاء العالم كافة، بيدَ أنَّ المركز الأصلي (الأساس) لها في ايران. وقد انتبه (الغرب) إلى ان ايران أضحتهي الموطن الأصيل لهذه الحالة.
يمكن تصوير الموقف الآن بوجود جبهة ثقافية عظيمة تتعاضد في دعمها السياسة والتقنيَّة والمال وضروب الدعم الأُخرى، وهي اليوم تنحدر كالسيل ضدّنا. وهذه الحرب ليست حرباً عسكرية، ومن ثمَّ لا أثر للتعبئة العسكرية العامة في مواجهتها.. الخطير فيها اننا في اللحظة التي ننتبه إلى آثارها نكون قد أُصبنا بها وشملنا بلاؤها.
الغزو الثقافي يشبه قنبلة كيميائية تنفلق غلسة دون أن يحسّ بها أحد، ولكن بعد انفجارها ببضع ساعات، ترى الوجوه والأيدي قد أصيبت جميعاً.
يتحرك الغزو الثقافي المعادي على نفس هذه الشاكلة، إذ نراه فجأة وقد ظهرت علائمه وانبثت آثاره في مدارسنا وشوارعنا وجبهاتنا، وفي حوزاتنا ومدارسنا.. بتنا الآن نرى شيئاً من هذه العلامات وستبرز هذه المظاهر في المستقبل أكثر.
من علامات الحالة اليوم، هي طبع كتاب هنا، وانتاج فلم هُناك، ونفوذ الفيديو إلى البلد. والمستهدفون هُم نحنُ والإسلام والثورة.
أمّا بصدد مُواجهة الغزو الثقافي وصدّه، فلا ينبغي ان نشك في أننا بحاجة إلى المال والميزانية الخاصة، وإلى إمكانات الدولة ودعمها السياسي. بيَد انَّ الدولة تريد من اعطاء المال وتقديم الدعم، ان توجد تياراً فكرياً، ولكن أين يُنتج هذا الفكر وكيف(12)؟
(8)
بات العدو يؤكد الآن أكثر ما يكون على الغزو الثقافي. حين أنظر الآن إلى المشهد، من موقعي كإنسان أُمارس الثقافة والسياسة، أجد انَّ المعركة محتدمة بينك.. أنت أيّها الشعب الإيراني الذي تأخذ جانب الإسلام والمستضعفين، وتعادي الاستكبار في العالم، وبين أعدائك من أركان جبهة الاستكبار، المعادين للإسلام، وذيولهم من الأرذال الذين دفعتهم مصالحهم الشخصية وأهواؤهم النفسية، لكي يكونوا بوقاً للاستكبار ومطايا له.. الصراع ناشب بين الطرفين.
لقد انتهت الحرب المسلّحة، ولو استطاع الاستكبار العالمي لأشعل شرارة الحرب العسكرية ضدّنا مرةً أُخرى. بيدَ انها ليست مهمة سهلة بالنسبة إليه.. ولكن انبثقت بديلاً عن الحرب، حالة مِن الصراع الفكري والحرب الثقافية السياسية.. فكل إنسان له دراية بالأخبار واحاطة ذهنية بما يجري في العالم، يستطيع ان يلمس مِن خلال نظرة يلقيها على الساحة، ان العدو بصدد أن ينفذ عن طريق الوسائل الثقافية، وَيمارس أكثر ضغوطاته بهذا الأُسلوب.. وهذا الأمر يبدو من المسلّمات.
انّهم ليسوا قلّة أولئك المأجورون من حملة الأقلام والمتعلمين الذين باعوا دينهم وتجاوزوا وجدانهم وضميرهم، وَجلسوا على مائدة الفساد الاستكباري، وراحوا يحققون بأقلامهم مآرب الاستكبار.. ينظمون الشعر.. ويمارسون شتى الفعاليات.. أغلب هؤلاء في الخارج، وبعض جماعاتهم تمارس نشاطها ولا تزال في داخل البلد(13).
(9)
هناك في أمريكا الآن مجاميع.. تستلم الأموال.. تأخذ الأموال من صدام، وتنشط ضدَّ الجمهورية الإسلامية.. وهي تحتاج إلى غطاء ثقافي تتستر به.. واصدار مجلة هناك، وكتاب روائي هُنا، هو الذي يوفّر الغطاء المطلوب. انهم يستهدفون تهيئة الساحة من خلال النشاط الثقافي.
ومن الخطأ ان ينظر إلى ممارسات هؤلاء على أنّها نشاط ثقافي محض.. وفي الواقع لو كانت هذه أعمال ثقافية محضة، فهي تحتاج أيضاً إلى تعبئة المؤمنين إزاءها، ومواجهتها؛ لكونها تمارس تخريباً ثقافياً.
بيدَ انّها ليست ممارسة ثقافية محضة، بل هي ممارسة ثقافية سياسية، وهي ممارسة اقتصادية في جهة من الجهات، لأنها مدعومة من الشركات.. ومن أجهزة الاستكبار.. حتى إذا ما توارت العوامل الحقيقية عن الواجهة وانسحبت إلى الوراء، ظهرت الأعمال بالصورة (الثقافية) التي نعاينها.
وَمردّ ذلك ان الخط الأول الذي يكون في مواجهة الشعب، لا يمكن إلاّ أن يكون بهذه الكيفية.. فالقاعدة الجماهيرية العريضة لا تُواجه بالدبابة والمدفع والرشاش، وانما بالكتاب والمجلة والقلم(14).)أي بالتخريب الثقافي).
(10)
أضحى الإسلام اليوم، بالفهم الثوري، أو بحسب تعبير الإمام الراحل؛ الإسلام المحمّدي الأصيل، حضوره بازاء جميع مظاهر استعراض القوة التي تمارس استكبارياً، بحيث يخشاه الأعداء. فها هو ذا الإسلام يجذب إليه الشعوب، بحيث انك حيثما تتنقل في بقاع العالم الإسلامي أو غير الإسلامي، تجد أعداداً كبيرة من الناس.. من الشباب، يدفعهم الشوق إليه ـ الشوق إلى هذا الشبح الذي يسمع به ويلمسه عن بعد ـ وقد عقدوا الآمال عليه. ومرد هذه الحالة إلى انّ الإسلام أضحى الآن الخندق الوحيد الذي بقي يواجه الاستكبار بمثل هذه العظمة والجلال، ويقارع الشيطان وأحابيله.
وأضحى العداء نتيجة ذلك، أكثر عمقاً وتجذراً للإسلام وللنظام السياسي الذي يحمي حقيقته ويروّج له ويرفع لواءه.. وفي الواقع هذا هو الجانب الآخر في القضية.
ومعنى هذا، ان علينا ان ننتظر عداءاً عميقاً جاداً ومعقّداً من جهة الاستكبار. ولمّا كانَ من المستبعد ان يتجسَّد هذا العداء في شكل هجوم عسكري مسلّح؛ بلحاظ التجارب السابقة. لذا من المحتمل جداً ان يُلجأ إلى خيارات أُخرى للمواجهة، مِنها تضييق حلقة الحصار الاقتصادي، وزيادة الضغط السياسي، وممارسة الضغوط عبر ترويج مراكز الفساد والابتذال في الداخل.
إن حديثي مكرراً عن وجود مؤامرة ثقافية.. أراها رأي العين.. واتمثلها مجسدة أمامي، هو حديث يستند إلى الأدلة وليس محض شعار. وهذه المقدمات (التي تبرز على السطح الآن) يمكن ان تؤكد ادعاءنا وتقرّبه كثيراً إلى الأذهان.. هذا الادّعاء القائل انَّ العدو اليوم يخوض حرباً ثقافية ضدّنا بتمام المعنى، يوجهها في الداخل بأساليب ذكية جداً(15).
(11)
يعود مبعث تأكيدي على الغزو الثقافي إلى انه يُشكّل جبهة لم تُكتَشف بعد.. وإذا لم نكتشف الجبهة التي يتحرك مِن خلالها العدو، وتتجمع عناصره عِندها.. وإذا لم نعرف نقطة نفوذه، فكيف يمكننا ان نمارس الدفاع؟ الأمور الضرورية للمجتمع الآن والتي ينبغي ان لا تهمل في مثل هذه الأوضاع، هي أولاً حفظ التوجهات، وثانياً حفظ الإيمان، ثم ثالثاً عدم نسيان العدو والغفلة عن خصومته(16).
(12)
يحصل أحياناً وان تبعث بعض الأحاديث على الملل لكثرة تكرارها وعدم التعاطي العميق معها.. وعدم الاقدام على انجاز الأعمال التي تتطلبها، واتخاذ المواقف التي تستحقها.. وكذلك التعاطي السطحي العابر معها.
في مثل هذه الحالة يشعر الإنسان ان تكرار مثل هذه الأحاديث يبعث فعلاً على الملالة. والمتصوّر ـ لدى البعض ـ ان مصطلح الغزو الثقافي هو على هذا الغرار.. لذلك لا ينبغي تكراره، في حين أعتقد انَّ هذه القضية ليست من سنخ القضايا التكرارية، ولا يمكن تجاوزها بهذه السهولة.
وبالنسبة لي، وان كنت لا أملك الوقت الكافي، إلاّ اني في الغالب أتصفّح المجلات التي تصدر والكتب التي تُطبع، وعلى الأخص الكتب الأدبية والثقافية، وأمرّ على المقالات الجيدة، بيدَ اني لا ألحظ إلاّ القليل من الاهتمام بقضية المواجهة الثقافية، رغم انها تتحرك في اطار جبهة، تمارس عملها ضدّنا، وتشن الهجوم علينا بشكل منظّم ومخطّط.
ورغم انجاز الكثير من الخطوات في هذا المضمار، إلا اننا لم نصل في الدفاع إلى مستوى تشكيل حركة منظمة وتيار فاعل، لذلك يشعر الإنسان بالخطر.
ما ننتظره هو ان تحاط هذه القضايا حقاً بالاهتمام الجاد وبالمثابرة(17).
(13)
بادر العدو في البرهة الراهنة إلى تشكيل جبهة واسعة، وظّف فيها أدوات ووسائل مؤثرة، خطيرة وفاعلة، مستفيداً في تعضيدها من العلم والتقنيَّة. وهدف هذه الجبهة هو شنّ هجوم ثقافي شامل ضد ّالجمهورية الإسلامية. طبيعي ان مواجهة هذا الهجوم الثقافي الخطير جداً، والمدمِّر، يحتاج إلى ذكاء.. وإلى توظيف أدوات ووسائل مشابهة لما يستخدمه العدو، أو ما يكون بديلاً فاعلاً لها(18).
(14)
الحرب الثقافية تواجه بمثلها. فالفعل الثقافي.. والهجوم الثقافي لا يمكن ان يُواجه بالبندقية.. بل القلم هو الذي يحلّ هُنا مكان البندقية(19).
(15)
أُريد أن أوصي الكتّاب وأهل الرأي وحملة الأقلام.. وأصحاب المنابر الاعلامية، ان لا يخشوا الرأي المخالف.. ترى لماذا يجب ان نهاب الرأي الآخر؟ اننا أصحاب منطق وحجة واستدلال.. وكلامنا لا يقتصر قبوله على شعبنا وحده، بل نحن نوجهه إلى مئات الملايين من المسلمين وغير المسلمين.. وحين يكون الكلام منطقياً مدعماً بالحجة والدليل، فلماذا إذاً نهاب الرأي الآخر ونخشى من إنسانٍ يبدي رأياً معارضاً؟
أجل، أي كلام يجانب الصواب، يجب أن يُردّ عليه، ولا يبقى هكذا دون جواب، ولكن بشرط ان لا نحيد عن جادّة الأدب(20).
مقولة الثقافة تختلف عن مقولة ساحة المعركة، والمقولة الثقافية لا تخضع للعصا والسوط (القمع والقوة)، فكل ميدان يتطلب اداة وسلاحاً من سنخه. ونحنُ لسنا قلقين حتى مما يقوم به المعارضون للجمهورية الإسلامية، من حشدٍ لأساليب فكرية دقيقة، ووسائل وأدوات ثقافية، في توجيه الحملة المعارضة لها، وشنّ الحملات الفكرية ضدّها، وبث الأفكار التي تختلف معها.
وبالنسبة لي شخصياً، لستُ غير قلق وحسب، بل أشعر بالفرح في بعض الأوقات، لما يتسبّب به طرح الفكر المعارض من بث حركة في المجتمع، تعدّ مغنماً بالنسبة لنا.. لذلك لا نستاء من هذه الحالة بل نستقبلها. ولكن شرط أن يكون إلى جوارها تيار (نقدي) من بين الأُدباء والمثقفين والكتّاب والشعراء والفنانين والسينمائيين والأساتذة والعلماء، يتحرك بشكل جبهة عريضة لمواجهة الهجوم الثقافي الذي يوجه العدو مساره...
والمسألة جدُّ مهمة.. انها ترتبط بايران والإسلام، فالعدو يبغي العبث بأعزّ ثروات الأمّة.. يريد ان يسخر منها، لذلك علينا ان نبادر لايجاد الجبهة الثقافية، وان نضع المتاريس الثقافية.. فاليوم عمل ومثابرة.. وعلى كلّ مستطيع ذي استعداد ان يبادر للعمل في المجال الثقافي.. لاسيّما وان هُناك الكثير ممّا يجب عمله في هذا المضمار.
من الضروري ان نتحرك، وان نبادر في هذا المجال، وأنا أوجه خطابي إلى جميع أهل الفكر والثقافة، والأدب والفن، والعلم والمعرفة(21).
3 ـ الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي
(1)
نحنُ إيرانيون.. فعلينا إذاً ان نبحث عما يتصل بنا، ونعثر عليه. بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلّم من محاسن الآخرين. فالإنسان يتعلّم مما لدى الآخرين من محاسن وأشياء جيدة، ولكن من الأفضل ان يذوّب ما يكسبه داخل إطاره الثقافي، ثم يستفيد منه.
لقد تحدّثت مرَّة عن الثقافة؛ وقلت لا ضير من تلقي ثقافة الآخرين، ولكن على نحوٍ يتم فيه التمييز بين كيفيتين. ولتقريب المسألة نضرب لها مثالاً من عمل جسم الإنسان.. فجسم الإنسان يتعاطى مع العناصر الغريبة عنه بكيفيتين.. في الكيفية الأولى يتناول الإنسان طعاماً يحوي فيتامينات مختلفة، فيخلط الطعام باللعاب ويدفعه إلى داخل المعدة. وحينئذ تمتص المعدة ما تراه مفيداً مناسباً للجسم، وتترك الباقي، فتدفعه وتلفظه.
هذا هو التعاطي الايجابي. وبازائه ثمة نوع آخر من التعاطي، إذ نأتي بالإنسان ونرسف يديه بالقيود، ثم نزرق في بدنه مادة لا يريدها ولا يرغب بها. هذه الحالة هي غير الحالة الأولى في التعاطي مع العناصر الغريبة عن الجسم، وكان يمكن للمسألة أن تهون لو ان التزريق في الحالة الثانية، يتم من قبل طبيب عارف، وحريص على الإنسان.
ولكن ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يزرق بجسم خصمه؟
هذا المثال، يلخص قصتنا مع الثقافة الغربية، فنحن اليوم مع الأسف، نستهلك الثقافة الأجنبية، وهي تجدُ طريقها سالكاً إلى أجسامنا، من دون ان يصدر عنّا ردّ فعل.
وهذا هو ما يصطلح عليه بالغزو الثقافي.
يتخيل بعضهم انه هو المعني بالقضية. في حين انَّ المسألة تأخذ بعداً آخر، فالغزو الثقافي يأتينا من جهة معادية.. من جهة الغرب، وعلينا ان نستيقظ ونعي المسألة.. فنحن لا يسعنا ان نقول للعدو لا تتعامل معنا بعداوة وخصومة، لأنَّ العداوة من طبيعة العدو. لذلك لا نملك، أنا وأنتم، سوى ان نستيقظ ونلتزم جانب الحذر.
أجل، لو عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال ـ مع منتجات ثقافة الغرب ـ إذ علينا ان نتعامل معها تعامل الجسم السليم الحي.. نأخذ ما يفيدنا ونلفظ مالا ينفعنا.
في ضوء ذلك، لا يصح ان نتعامل مع ثقافة الآخر، تعامل الإنسان الفارغ، الخالي من أي شيء.. الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح ان نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر الثَّمِل.
لا أدري ماذا دهانا، حتى تزرق الثقافة الغربية بمثل هذا الشكل في أبداننا، في حين اننا نملك إمكانية الاختيار؟ ما هو حاصل الآن ان موج الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال الراديو
والتلفزيون وكتب الموضة والموديلات والمجلات، ومن خلال الموج الدعائي والصخب الاعلامي(22).
(2)
إذا انفتح مجتمع ما على المعارف، فستزداد مناعته في مقابل العدو. وإذا كان للمجتمع رغبة وولع في العلم، فسيبادر حين يتواصل مع البلاد والمجتمعات الأُخرى، لكسب العلم وأخذه منها.
لقد مارست القدرات الاستعمارية نشاطها في إيران منذ سنوات بعيدة، وعندما جاء الحديث عن التبادل والتفاعل فيما بين بلدنا والبلدان الأُخرى، رأينا المسألة تأخذ مساراً ضاراً. فبدلاً من ان نعرض ثقافتنا العظيمة أمام العالم ليتعلّم الآخرون منها، ونستفيد نحن في المقابل من علوم الآخرين، رأينا أنفسنا نعرض صناعاتنا اليدوية مثلاً في معارض الآخرين، ونعطيهم نفطنا لكي يدير عجلة مصانعهم، وبالمقابل، نبقى جلوساً هكذا بانتظار ان يهبونا ثقافتهم الفاسدة
هذه هي خلاصة قصة طلائع دعوة ارتباط إيران ثقافياً مع الغرب. فأولئك الرموز والروّاد الأوائل، لم يَدْعوا مواطنيهم الايرانيين أبداً إلى كسب ما يستطيعون كسبه من العلم من الغرب. ولو كانوا قد دعوا إلى ذلك لاستقبلنا دعوتهم.
ونحنُ الآن نعلنها بصراحة.. ان العالم شهد تقدماً في العلوم، وأبقانا متخلفين قرنين أو ثلاثة قرون عن ركبه.. علينا ان نلحق بالركب ونبلغ التقدم.. علينا ان نستفيد من علومهم ونكتسبها. الدعاة الأوائل لارتباط إيران والتحاقها بالغرب (المتغربون الأوائل) لم يقولوا هذا، وانما دعوا إلى ان تلتحق إيران بالغرب ظاهراً وباطناً.. في الشكل والمظهر.. وفي اللباس.. وان تكتسب شكلاً غربياً في الأخلاق وفي الارتباطات والعلاقات اللامشروعة وفي كلّ شيء.
وقد لمسنا تبعات هذا الارتباط غير السليم أواخر العهد الملكي المنحوس، وما زالت رواسب ذلك العهد ـ في مجتمعنا ـ حتى الآن.
التعليم والتعلم أمران ضروريان.. وعلى كل واحد منّا ان يتعلّم.. فحين نعود إلى الإسلام في الحديث المشهور «اطلبوا العلم ولو في الصين»، نجد انه لم يكن ثمَّ ما هو أبعد منها، من البلدان عن وطن المسلمين. ومؤدّى المثال ان يكابد المسلم المشاق ليكسب العلم وليتعلّم.
هكذا علّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين.. ونحنُ اليوم على هذه العقيدة.. علينا ان نستفيد من جميع العلوم، ولكن بشرط ان يكون مبتغانا تعلم العلم ونيله، وليس كسب مفاسد الأخلاق.. التلوّث الأخلاقي.. الادمان.. الأمراض الخطيرة المميتة كالطاعون الأمريكي المسمى بالأيدز، وبقية ضروب المفاسد الأخلاقية.
ينبغي ان ينفتح المحيط الاجتماعي على قضية التعليم، بحيث يشيع حالة التعليم والتعلّم وتنشط في أجوائنا. بديهي اننا نحتاج إلى التربية والتهذيب الأخلاقيين إلى جوار التعليم. ولو سلكنا الطريق السليم في التعليم، فهو ينطوي على التزكية(23).
(3)
يحصل أحياناً وان يكون العلم بيد أعدائنا، فنذهب إليهم وننحني أمامهم لكسبه.. ليسَ في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأواً من ان ينصرف عنه الإنسان لعداوةٍ مع من يستحوذ عليه. ولكن ما نريد الوقوف عنده هو ان يخضع الإنسان إلى تأثير العدو ويكون تبعاً له وتحت سلطته، وذلك في المسائل التي لا تنتسب إلى العلم.. أي في السياسة والثقافة وما شابه ذلك.
ما يريدونه لما يطلق عليه بالعالم الثالث، وما يخططون له، هو التبعية الثقافية والسياسية. لقد رتبوا الأمور على نحو لا يتم فيه تبادل العلم والتقنيَّة.
ويمكن ان ندرج معضلة فرار العقول وهجرة الأدمغة، التي يعاني منها العالم المتخلّف منذ عشرات السنين، في هذا المضمار.. فهم يخطفون أفضل الطاقات والعقول التي تتحلى بها بلادنا، بل ولم يسمحوا ـ في اطار ابقاء حالة التخلّف وترسيخ التبعية ـ للطاقات المستعدّة التي تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، ان تعود للخدمة إلى بلادها(24).
(4)
ثَمّ فارق بين الغزو الثقافي وبين التفاعل أو التبادل الثقافي. يُعبّر التفاعل الثقافي عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب. فليسَ ثمة شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن الافادة من معارف الشعوب الأُخرى.. والثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي هي من بين ذلك.
لقد كان مسار التاريخ كاشفاً أبداً، عن حالة التفاعل هذه ويشهد عليها.
قادت العلاقة بين الشعوب والتواصل فيما بينها، إلى التفاعل فيما بينها على صعيد آداب العشرة.. الأخلاقيات العامة.. العلم.. شكل اللباس.. طراز الحياة..اللغة.. المعارف.. والدين. وهذا الضرب من التفاعل يفوق في أهميته عملية التبادل الاقتصادي والسلعي.
شهدنا طوال التأريخ أمثلة قادَ فيها التفاعل (التبادل) الثقافي إلى تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل على سبيل المثال في شرق آسيا، أي في شرق المنطقة الإسلامية، هو دخول الإسلام إلى بلاد من أمثال اندونيسيا وماليزيا، وأجزاء مهمة من شبه القارة، عن طريق أفراد قلائل (آحاد) من الشعب الإيراني. وَلم يتم نشر الإسلام هُناك عن طريق ممارسة المبلغين للدعوة.. وانما تحوّل الشعب الأندونيسي الذي ربّما يعد اليوم أكبر الشعوب الإسلامية، إلى الإسلام عن طريق حركة التجار والسيّاح الإيرانيين.
إذن لم يصل الإسلام إلى تلك المنطقة للمرة الأولى، لا عن طريق الدعاة والمبلغين الدينيين، ولا عن طريق السيف والحرب، بل كانت الفضيلة لعملية التزاور والتبادل الثقافي.
لماذا نذهب بعيداً، ونحن نجد ان شعبنا تعلّم أشياء كثيرة طوال تأريخه من الأمم الأُخرى. وحالة التفاعل هذه تعدّ أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحيوية والتجدّد.
هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي والمطلوب(25).
(5)
الهدف من التبادل الثقافي هو اثراء الثقافة الوطنية وسوقها صوب التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها.
في مسار عملية التبادل، تأخذ الأمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما هو مورد علاقة بالنسبة إليها.
افرضوا مثلاً.. ان الشعب الإيراني رأى في الشعوب الأوربية انها تتصف بالمثابرة)بمعنى الصبر والاصرار على انجاز الشيء) والتوثّب وروح المغامرة، فلو انه أخذ هذه الصفات منها، لكان ذلك أمراً حسناً.
وفي مثال آخر، نرى انَّ الإيراني حين يذهب إلى أقصى نقاط شرق آسيا يجد الناس تتحلى بالاحساس بالمسؤولية، وبوجدان يقظ في الانكباب على العمل.. وبالمثابرة والانضباط والنظم.. وتظهر شوقاً وافراً للعمل.. تستثمر الوقت وتقدّر قيمته.. تتبادل المحبة فيما بينها، وتتحلى بالأدب، فلو انه اكتسب منها هذه الخصال لكان ذلك أمراً حسناً.
يبادر الشعب في التبادل الثقافي إلى النقاط الايجابية، وما يقود إلى تكامل ثقافته واثرائها فيستعمله، تماماً كالإنسان الذي يُصاب بالضعف في بدنه، فينكب على تناول الغذاء الجيّد أو الدواء المناسب، لكي يتعافى وتعود إليه السلامة مجدداً.
أمّا في الغزو الثقافي، فإنَّ الأمة المستهدفة بالغزو تُغذى بأمور سلبية وثقافة ضارَّة. على سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي الأوربي لبلدنا، لم يصطحب الأوربيون معهم قيماً من قبيل روحية احترام قيمة الوقت.. الشجاعة والاقدام.. تحمل الأخطار في مواجهة الأمور.. وروحية التدقيق والمثابرة في البحث العلمي، ولم يريدوا لشعبنا ان يتربى على هذه القيم ويتبعها، لكي لا يكون الشعب الإيراني شعباً يتحلى بالمسؤولية وبضمير يقظ في الانكباب على العمل.. ولا أن يتصف بالمثابرة العلمية.
كلّ الذي جلبوه إلى هذه البلاد هو التحلّل والاباحية الجنسية(26).
(6)
إذا شئنا ان نشبّه الشعب الذي يتلقى ثقافة الآخر في اطار التبادل الثقافي، بمثال من الحياة الإنسانية، فيمكن ان نستفيد من حالة انسان يذهب إلى السوق وينتخب ما يشاء من الطعام والدواء. أمّا في الغزو الثقافي، فانَّ الشعب المستهدف يكون كالمريض الذي سقط إلى الارض لا يقوى على الحراك. ثم يأتي إليه العدو مُنتهزاً الفرصة، ويزرقه بدواء، وحينئذ علينا ان نعرف طبيعة الدواء الذي يزرقه العدو في جسم خصمه؟
الفرق واضح بين الحالتين.. بين ان تنتخب الدواء أو الغذاء المناسب لحاجة بدنك، وبين ان يختار لك عدّوك.
وعليه، يكون التبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من عندنا، أما الغزو فهو مُبادرة يمسك بها العدو، ومعركة يشنها العدو ضدّنا، كي يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي ايجابياً، أما الغزو الثقافي فهو أمر سلبي.
ومن جهة أُخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوة الأمة واقتدارها وامتلائها، أما الغزو فيحصل في زمن ضعف الأُمة وهزالها(27).
(7)
الاستفادة من ثقافة الآخرين هو أمر يبعث على التكامل. ولكن ثمَّ فرق بين حالة يمتلك فيها الإنسان حرية انتخاب الطعام أو الدواء الذي يوائم جسمه وصحته، بحيث يختار ما يحتاج إليه من بين مئات الأطعمة والأدوية، بمعرفة ويقظة ووعي، وبين ان يُجبر على طعام أو دواء يكون بضرره. ليفترض أحدنا انه بحاجة إلى فيتامين (C) فحينئذ ينصرف للبحث عنه، ثم يتناوله على قدر حاجة جسمه له. وهذا فعل ايجابي، لا ضير فيه، حتى لو كان من منتجات الأجانب وصناعتهم.
وثمة إلى جوار هذه الحالة، حالة ثانية يسقط فيها الإنسان مغشياً عليه، فيأتي أحدهم ويزرق جسمه بدواء ما.. لا نعرف طبيعة هذا الدواء.. ولا مقداره وكميته.. وفيما إذا كان نافعاً ومفيداً.. أو مخدراً ضاراً أو سماً ذعافاً، في مثل هذه الحالة يسقط الاختيار ولا يكون ثمة معنى للانتخاب.
هذه أُمور ينبغي ان ننتبه إليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي البائد هو ممارسة من هذا القبيل، حيث كان هذا الشعب يغذّى بثقافة الأجانب. بمعنى انَّ أخذ ثقافة الآخر في الماضي لم يكن بهدف تحقيق التكامل، بل بهدف اغراق الشعب بمستهلكات الثقافة الأجنبية التي لا قيمة لها.
والشكلُ السليم هو أن يكون ثمة اختيار وانتخاب، لكن لم يكن للشعب اختيار في المسألة.
وإذا شئنا الانصاف، فانَّ ثقافة الغرب الآن، تنطوي على عناصر ايجابية مفيدة.. وهذه مصيرية بالنسبة إلينا.. علينا ان نجذبها ونتعلمها.. الأشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة.. وإذا لم يكن ثمة وجود لهذه الأشياء النافعة لم يكن الغرب يصل إلى ما وصل إليه اليوم.
الفساد الواسع الذي يضرب ببجرانه المحيط الغربي، وكان يفترض ان يأتي على الغرب، ويستأصل وجوده من الجذور، إلا انَّ سبب بقاء كيانه واستمراره يعودُ إلى وجود عناصر، هي حقاً عناصر متينة في وجودهم، من قبيل ان انسانهم انسان منظم.. مثابر.. كثير العمل.. لا يتعب.. عنده اصرار.
لذلك كله يجب علينا ان نأخذ العناصر الايجابية في ثقافتهم ونستفيد منها(28).
(8)
حين نعود إلى أُولئك الذين فتحوا أبواب البلد طوال سنوات متمادية أمام الثقافة الغربية، لا يصح ان نقول انهم لم يكونوا يعرفوا (طبيعة) الثقافة الوافدة، ولم يدركوا الموقف؛ وانهم أُخذوا بالأمر الواقع واضطروا لقبول هذه الثقافة المستوردة التي دخلت إلى ايران. أبداً، بل أقبلوا عليها لسبب كونها ثقافة أجنبية.. وهم من عباد الأجنبي ومحبيه.. يعيشون إحساساً بالاستلاب والتعاسة في ذواتهم.. لذلك فتحوا أبواب البلاد، وأضحى مثلهم ـ في ذلك التنصل من ذواتهم والانسلاخ عنها والميل إلى عبادة الأجنبي؛ الغربي تحديداً ـ مثل الطفل الجاهل الذي لا يقيم وزناً لقيم أبيه، وانما تدفعه الجهالة للارتباط بشخص بعيد، وللميل إليه، رغم انه أقل وأضعف من أبيه(29).
(9)
هناك فرق بين العلم والتقنيَّة وتبعاتهما، وبين الثقافة. فهما مقولتان منفصلتان، وان كان العلم يعدّ فرعاً من الثقافة. فالثقافة بمعناها الخاص، هي بالنسبة لأمة من الأمم، عبارة عن الأفكار والمعتقدات والسنن والآداب والذهنية العامة، والذخائر الفكرية والعقلية لتلك الأمة.
ومن هذه الجهة بالذات لسنا فقط غير متأخرين عن ركب العالم المتقدم علمياً وتقنياً، بل نحن متفوقون عليهم في الكثير من هذه الجهات.
بديهي لا نريد ان ننساق وراء التهويل والمبالغة ولا أن نسقط في هوّة الأحكام المطلقة، فالأجانب والأوربيون بالذات متقدمون علينا في بعض فروع الثقافة(30).
4 ـ الخلفية التأريخية والجذور العلمية والثقافية لإيران المسلمة
(1)
نحن شعب عريق فلماذا نخاف؟ لنا إمكانات كثيرة.. وشعبنا يتحلّى باستعدادات علمية وله الكثير من الذخائر المادية، بالاضافة إلى خلفيته التأريخية والجذور العلمية والثقافية التي يستند إليها.. وعندنا ما هو أهم من ذلك.. الإيمان الإسلامي والتوكل على اللّه.
شعبنا شعب مستقل، يجب عليه ان يتكئ على نفسه.. وعلى المسؤولين ان يعتمدوا على استعداد الشعب وقابليته، ولا يمدّوا يد الحاجة إلى العدو.. العدو ينتظر من الشعب الملتف حول القرآن والإسلام، ان يظهر ضعفه وعجزه، وعلينا ان لا نعطي العدو مثل هذه الفرصة.. بحيث يشعر انَّ الضعف يدبّ بيننا. بين صفوف شعبنا شباب له استعداد ومؤهلات علمية.. روح الابتكار متوفرة بكثرة في شعبنا.. وهذا الشعب يستطيع ان ينهض ويعتمد على نفسه ويقف على قدميه.
إنّهم على عداء مع الإسلام.. والذي ينصب العداء للمؤمنين بالإسلام لن يمدّ يد العون إلى المؤمنين.. هذه حقيقة يجب ان يعيها جميع المسؤولين في القطاعات المختلفة.
لا نملك إلاّ ان نعتمد على أنفسنا.. ونتكئ على ذخائرنا العلمية والقدرات المادية، وثروات أرضنا. طبيعي لا يجب ان نغلق باب التبادل التجاري، ولكن علينا في الوقت نفسه ان لا نستسلم أمام العدو، ونُقهر بازاء قدرته(31).
انّه أمر يبعث على الأسف الشديد)ان تبرز مظاهر الغزو الثقافي وتميل بعض التيارات إلى الغرب) في شعب مثل شعبنا، له خلفية حضارية وثقافية ومعرفية عريقة.. ان جزءاً من عراقة شعبنا تمتد طوال 1300 سنة بعد دخول الإسلام، وهذه الفترة مملؤة حقاً، بالانجازات والنقاط المضيئة.
لا نملك المعلومات الكافية عن فترة ما قبل الإسلام، بيدَ انّا نفهم اجمالاً، ان شعباً بهذه الخصوصيات، كانت له وـ لابدّ ـ ثقافة بالغة.
ما يعنينا هو تأريخ الإسلام، فببركة الإسلام برز الشعب الإيراني وأظهر نبوغاً وتميزاً.. فعادت انجازاته ومآثره لتعم ليس دنيا الإسلام وحده، بل العالم بأسره.. وقد دوّن التأريخ مآثره وخطّها سطراً سطراً.
وإذا كنا في غفلة عن هذه المسألة، فبمقدورنا ان نعود إلى التأريخ كي نتلمسها(32).
ونبقى في هذا المضمار لنشير إلى نقطتين لهما صلة بالموضوع، هُما:
أ ـ الصلة التأريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما.
ب ـ التفتح العلمي هدف أساسي للثورة الإسلامية في إيران.
أ) الصلة التاريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما
(1)
مضى ألف عام والعلم والدين توأمان يعيش احدهما إلى كنف الآخر في تأريخ هذا البلد. فلم يكن كبار العلماء في تأريخنا من أطباء بارزين.. وفلكيين كبار.. ورياضيين نوابغ، وغيرهم ممن مازالت أسماؤهم معروفة واكتشافاتهم متداولة في العالم، سوى علماء باللّه.. أصحاب دين ومفكرين دينيين.
حين نأتي إلى ابن سينا على سبيل المثال، الذي لازال كتابه في الطبّ يُعدّ كتاباً علمياً حياً، وكانت له آثار بارزة في مختلف الشؤون خلال ألف عام، بحيث أضحى له حضوره كوجه لامع في تأريخ البشر، وفي مختلف ضروب المعرفة، وكان اسمه متداولاً ومايزال، وقد ارتبطت باسمه بعض الانجازات العلمية في تأريخ العلم.. حين نأتي إليه نجده من العلماء باللّه.. والمفكرين الدينيين.
والذي نراه ان ثمة عاملين كان لهما أثرهما في تخلف المجتمع الإسلامي، وبقائه بمعزل عن ركب التقدم:
الأول: نظرة سوء الظن والشك، التي استحوذت على موقف علماء الدين ازاء العلم، وذلك بعد ان أضحى الغربيون مهيمنين على ناصية العلم الطبيعي في العالم. فموقف الريبة من الغرب دفع بعلماء الدين إلى رفض (العلم الغربي) ونبذه من الساحة.
الثاني: انَّ العدو الكافر لم يكن على استعداد ليسمح لعلمه أن ينفذ إلى داخل الحوزات العلمية التي تعدّ مركزاً للدين.
كان أحدهما يفرّ من الآخر وأصبحا عدوين. ومردّ ذلك ان (العلم الغربي) تحوّل في كلّ جزء من العالم، ومنه العالم الإسلامي، إلى سلاح بيد السياسات المضادة للدين. كان القرن التاسع الذي بلغ البحث العلمي فيه أوجَه في الغرب، هو قرن الانفصال عن الدين، وطرده من معترك الحياة. وقد أثر هذا المسار على بلادنا، فكان أن أُرسيت دعائم الجامعة على أُسس غير دينية، مما أدّى بالعلماء إلى ان يصدّوا عنها، وفي الوقت نفسه صدّت الجامعة عن العلماء والحوزات العلمية ـ ووقعت القطيعة بين الاثنين ـ.
لقد كان لهذه الظاهرة المؤلمة تبعات سيئة على الحوزة العلمية.. لأنها صرفت علماء الدين للاهتمام بالمسائل الدينية الذهنية (النظرية) والاقتصار عليها وحدها.. صاروا في عزلة عن التحولات التي تطرأ على الدنيا من حولهم، وبقي مسار التقدم العلمي المطّرد خافياً عليهم.
لقد اختفت إثر ذلك روح التحوّل (التجدّد) في فقه الإسلام، وغابت هذه الحركية في استنباط الأحكام الدينية، داخل الحوزات(33).
وبذلك بقيت الحوزات بعيدة عن وقائع الحياة والتحولات العظيمة التي شهدها المحيط العالمي.. وانشغلت في الغالب بسلسلة من المسائل الفقهية الفرعية، مما أدّى في نهاية المطاف إلى ترك امهات مسائل الفقه من قبيل قضايا الجهاد.. تأسيس الحكومة، اقتصاديات المجتمعات الإسلامي، وكل ما يدخل في فقه الدولة (فقه الحكومة) بحيث اضحى هذا اللون من ضروب الفقه منزوياً، بل نسياً منسياً. لقد توفر جلّ اهتمام (القوم) على المسائل الفرعية، وعلى فروع الفروع، في حين بقيت الوقائع المهمة وقضايا الحياة الملحة بعيدة في الأغلب عن مدار الاهتمام. وكانت هذه ضربة ألمّت بالحوزات العلمية.
لقد استغلت التيارات السياسية هذه الحالة وعززت انفصال الحوزة عن الحياة من خلال الدعاية، وعبر توظيف أساليب شيطانية في هذا المضمار.
أما الجامعات التي أُسست على أساس ان تكون اللبنة الأولى في صرح القطيعة مع الحوزات العلمية ومع الدين، فقد وقعت بيد حثالة تفتقر إلى الدين والأخلاق الإسلامية، وتفتقد المؤهلات السياسية، وبعيدة عن النظم(34).
(2)
علينا ان ننمّي الروح العلمية بحيث تنبث روحية التطلّع العلمي بين جميع المستويات في المجتمع. فالتوجه نحو العلم (روحية التطلع العلمي) هي مسألة في غاية الأهمية. بديهي يتوهم بعضهم خطأً أنَّ التوجه صوب العلم لا يتوافق مع التوجه نحو الدين.
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة دعوات بعضها ينطوي على غرض سياسي، وبعضها خالٍ من الغرض السياسي.. نحن نعرف هؤلاء، فقد يخفى الهدف السياسي على عامة الشعب، بيدَ إنّا نعرف ماذا يهدف فلان من دعوته، ونحدس سريعاً ما الذي يريده، لأنّنا أدرى بسوابقه وأعرف بها.
المهم ان بعضهم يروّج التوجه نحو العلم ليحقق غرضاً مؤدّاه: انَّ التوجه الذي يشهده مجتمعنا نحو الدين في الوقت الحاضر يتنافى مع التوجه نحو العلم، ومن ثمَّ يمكن صدم وعي الناس الديني من خلال ترويج الروح العلمية واشاعة العلم
هؤلاء على خطأ.. فإذا كان منظورهم من الدين هو الإسلام الذي ننتمي إليه، فهذا الدين هو الذي صنع الثورة.. وربى المقاتلين لميادين القتال.. وهو الدين الذي يدعوا الناس إلى العلم.
فحينما نعود وتفحص العلة التي جعلت المسلمين يحملون مشعل العلم ويمسكون به في العالم، طوال عدّة قرون، ويمثلوه على أعلى مستوى، نجدها متمثلة بهذا الدين؛ بالإسلام، فالأسماء التي لمعت بين الفارابي وحتى الخواجه نصير الدين الطوسي، هم ثمرة هذه القرون..
وما يهمنا الاشارة إليه انَّ رؤى أمثال الخوارزمي أو ابن سينا لم تنسخ في مجال اختصاصها (العلمي) الذي تحركت فيه، وهي لم تبطل، بل هي صحيحة، وان استكملت برؤى جديدة، كانت تلك أساسها.. قد انبثقت من الإسلام برمتها.
كان الإسلام هو العامل الأساس الذي رفع المسلمين إلى ذروة العلم.
انكم تعرفون ان اوربا شهدت في قرون ضديتها للدين، ظهور روّاد العلم وهم من الحملة الأوائل لمشعل العلم الديني أيضاً.. من هؤلاء روجر بيكون الذي كان قسيساً فرانسيسياً)نسبة إلى سان فرانسيس القديس: 1182 ـ 1226م) ـ والفرانسيسيون جماعة من القساوسة الزهّاد الذين كانوا يتبعون سان فرانسيس؛ الذي كان بدوره قديساً معروفاً تنسب إليه مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية لميلهم إلى اطلاق الأسماء المقدسة على المدن. كان سان فرانسيس هذا قديساً معروفاً، عاداه جهاز البابا لما كان يبديه من نقد لبذخ الجهاز، عداوةً شديدة. وكان مبعث العداوة موقف القسيس فرانسيس المعارض لمظاهر الجاه والثراء والبذخ في جهاز البابا، وميله إلى الزهد ـ.
وإذا أردنا على سبيل المثال ان نعثر من بين الفرق الإسلامية على مثال لروجر بيكون، فهو يشبه فرقة (دراويش خاكساري) من الصوفية، الذين كان عملهم الدروشة. وفي مجال القسوسة برز روجر بيكون من روّاد العلم، الذي ربما كان في القرن الثالث عشر.
ومعنى ذلك ان أول التجليات العلمية التي ظهرت في أوربا وقادت في نهاية المطاف إلى التحوّل العلمي الذي شهدته هذه القارة، حصل من قبل شخصيات دينية.. شخصيات دينية متفتحة وليست متبلدة الذهن.. هذه الشخصيات هي التي أوقدت أُولى جذوات التحوّل العلمي.
وحينما نعود إلى ابن سينا ـ الشخصية المنبثة من داخل تربتنا الإسلامية ـ نجده هو الآخر عالماً دينياً، بل كان كما نعرف، وكما يظهر من كتابه «الاشارات» عارفاً بمعنى من المعاني.
كذلك كان غيره.. فالبيروني مثلاً هو عالم ديني، رغم تفوقه في الرياضيات والنجوم وعلوم أُخرى، وكان من الشخصيات اللامعة.. أو البهائي الذي كان «آخوند ـ ملاّ» عالمَ دين فقيهاً بمعنى الكلمة ومن أهل العبادة والتهجّد أيضاً.. والذي حصل في عصر الشيخ البهائي انَّ العلوم الدينية اكتسبت مسيرها العلمائي الصنفي الذي هي عليه الآن، وذلك خلافاً لما كانت عليه قبل ذلك، إذ كانت لا تقتصر معارف عالِم الدين على أصناف العلوم (الرسمية المتداولة) في الصنف العلمائي ـ الحوزوي اليوم ـ بل كان عالم الدين عارفاً بجميع العلوم والفنون)العلوم الدينية وغيرها) فابن سينا مثلاً كان له تلاميذ في الفلسفة كما كان له تلاميذ في الطب.
أما الشيخ البهائي فقد برز في بيئة كانت فيها العلوم قد انفصلت بحيث أضحى العالم الديني مختصاً بتحصيل لون معين من المعرفة)الدروس الرسمية المتعارفة حوزوياً) وعليه ان يعتلي المنبر ويقوم في المحراب وحسب.
وحين نرجع إلى أبي ريحان ـ مثلاً ـ نجد من بين مؤلفاته كتاب «تحقيق ما للهند»، والعنوان في الواقع جزء من بيت شعر نصه:
تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة
لم تكن الروح الدينية إذاً على تنافٍ مع الروح العلمية، بل كانت سنداً لها.
ينبغي لكم ان تنموا الروح العلمية في المجتمع وتزيدوا من توجهه نحو العلم.
ان هذا الكون يقوم على قاعدة وله قانون ينبسط على جميع أجزائه، وقد أمرنا الدين ان نكشف عن هذا القانون كي يكون بمقدورنا ان ندير الوجود.. ومردّ ذلك انّ الإنسان خلق لكي يكون حاكماً للأرض ومسخراً لما فيها وتحتها، لا أن يكون محكوماً من قبلها.
لذلك لا يمكن للإنسان ان يتمثل موقع الحاكمية ومركز الخلافة في الأرض، هذا الموقع الذي يعكس فلسفة وجوده والوظيفة الأصيلة التي يجب ان ينهض بها، من دون ان يعرف قوانين الأرض.. قوانين الطبيعة.فما لم يكشف الإنسان عن هذه القوانين لا يستطيع ان يحقق حاكميته (خلافته).. وهذه القوانين تعرف بالعلم.. وعليه تكون الروح العلمية من الأهداف المهمة(35).
ب) ازدهار العلم هدف أساسي للثورة الإسلامية
(1)
تملك هذه الأمة استعدادات بزغت طوال سنوات متمادية، بيدَ انَّ السؤال: ما الذي حال بينها وبين ذلك، بحيث أضحت متخلّفة عن ركب العلم وقافلة المعرفة قرنين وربما أكثر؟ يعود سبب ذلك يقيناً إلى الأيدي غير الأمينة التي تسلطت على الأمة، السلاطين المستبدون الظلمة الذين استحوذوا عليها طوال هذه السنين، هم سبب البلاء الذي نزل على البلد. فلو قدِّر وان انبثقت حكومة إسلامية أخذت على عاتقها تنفيذ أحكام الإسلام وقوانينه لزالت الموانع من أمام الناس.
والثورة الإسلامية في إيران، يجب عليها في الواقع، ان تنهض بهذا الدور الكبير وان تحقق المعجزة في هذا المضمار(36).
(2)
من الأهداف الأساسية للثورة هو تنمية الروح العلمية، وبسط العلم، وزيادة التوجه نحو التحقيق، وتفتح الاستعدادات الإنسانية، وتوسيع مدارات الوعي والمعرفة العامة. فالمجتمع الذي ينشده الإسلام، هو المجتمع الذي يستطيع ان يستخرج كنوز الفكر الإنساني ويوظّف الطاقة الذهنية للبشر، التي تعد أثمن الثروات الوطنية لأيّ مجتمع.
والمجتمع الإسلامي هو الذي يستطيع أن يستأصل جذور الأمية والجهل، وتفلح فيه المدارس في جذب جميع الأطفال والأزهار المتفتحة.. بحيث تكتسب مراكزه المعرفية والعلمية من حوزات وجامعات رونقاً خاصاً، وتنشط فيه مراكز التحقيق والبحث، ويكتسب الكِتاب موقعاً مميزاً بحيث تروج القراءة في كلّ مكان.. وفي أوساط الجميع.
تنطوي المطبوعات في المجتمع الإسلامي على مادة ثرّة وهي تقوم ببث الوعي.. ينهض الاساتذة والعلماء في ممارسة عملهم بنشاط وحيوية، وتفيض روحية المبدعين والفنانين والكتّاب بالحركية والدفئ.
إنّ المسافة شاسعة الآن بين ما نحن فيه وبين الوضع الذي يريدهُ لنا الإسلام. ولكن المهم، انَّ هذا الطريق قابل للطي بحيث يمكن ردم الفجوة.
على إيران الإسلامية ان تثبت اليوم انها مازالت قادرةعلى تنمية الاستعدادات العلمية وتربية النابغين، وان قرنين من الاستبداد والاستعمار، لم يقضيا على الجوهر الذاتي لهذا الشعب.
فإذا كان التسلط الاستبدادي والاستعمارُ قد منعا تفتح الاستعدادات خلال القرنين الماضيين، فيجب ان نتدارك التخلف الذي أصابنا، في ظلال عصر الحرية واليقظة الذي نحياه ببركة الثورة الإسلامية(37).
(3)
تعرفون ان مسار العلم يتقدم إلى الأمام بحركة مطّردة. ومثل (الشعوب) التي تريد ان تلحق بالركب مثل انسان يريد أن يلحق بسيارة تسير وهو يسعى وراءها ماشياً على قدميه، وآخر يتوسّل بالدراجة الهوائية لكي يبلغها. بديهي ان صاحب الدراجة أوفر حظاً في اللحاق بالسيارة، في حين ستكون الفاصلة كبيرة بالنسبة للذي يقطع المسافة مشياً.
ومع ذلك فالسيارة في هذا المثال ليست نهاية المطاف بالنسبة للتقدم العلمي، بل تأتي بعدها مرحلة الطائرة حيث تزداد سرعة المسير مئات المرّات.
والسؤال: ماذا علينا ان نفعل والمسافة تزداد لحظة بعد آُخرى بيننا وبين البلدان المتقدمة؟ علينا ان نختصر الطريق، وان نستفيد من جميع الاستعدادات الكامنة في البلد. ولا يمكن تحقيق ذلك، إلا إذا عاش البلد حالة صميمية في حركته، وفي مواجهته للأعداء وللسياسات الاستعمارية، مما لا يمكن ان نرجوه حاضراً ومستقبلاً إلاّ في ظلال الثورة وبركاتها.
هذه الروح ضرورية لمستقبل البلد.. وإذا قدّر لكم النهوض بهذه المسؤولية، فسيكون الأجر الإلهي العظيم من نصيبكم.. وأقول حقاً ستعجز الملائكة الكرام عن احصاء ثوابكم(38).
5 ـ مسؤولية الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي والتقدم الصناعي في البلد
(1)
إنّ ما تحقق للجمهورية الإسلامية الآن، انما جاء بفضل همة أبنائها.. بحيث لم تضطر للانحناء أمام أحد في العالم. طبيعي اننا استفدنا ـ ونستفيد بعد ذلك ـ من التقنية العالمية الحديثة ولكن بعزة.. وفي الوقت نفسه يوجد أمل يحدونا، هو ان يكون جلّ اعتمادنا على قوانا الذاتية وقدراتنا الداخلية في ايران الإسلامية العزيزة.. وتقع المسؤولية على عاتق شبابنا والعقول المفكّرة.. والأيدي الماهرة.. والهمم الكبيرة المبدعة المبتكرة في تزويدنا بما نحتاج إليه.
لا أملك إلاّ أن أدعو أبناء هذا البلد الشجعان في ان يعتمدوا على أنفسهم.
وهذا لا يعني أن ننغلق ونسد الأبواب ونرفع الجدران من حولنا، بحيث لا نستفيد من التقنيَّة ومعطيات التقدم العلمي. كلا، فالعلم والتقنيَّة هما من المعطيات العامة للبشرية جميعاً.. فالبشر شركاء في ذلك كافة، وليس لأحد ان يحتكرهما أو يمن بهما على الآخرين.
لقد ساهمت الانسانية بأجمعها في اكتمال المدنية المعاصرة وما يزال لها دورها في ذلك.
إنّنا لن نغلق الأبواب على أنفسنا، بل نعدّ ـ الانفتاح ـ حقّنا الطبيعي(39).
(2)
لسنا ممن يعارض الاستفادة من علم الآخرين وتجارب البلدان والشعوب الأُخرى. وانما غاية ما نقوله، ان هذا البلد ينبغي أن يُبنى بيد أبنائه ومن قبلهم.. الأجنبي لا يتحرق قلبه لبناء بلدكم. لذلك عليكم أنتم، أيّها الإيرانيون من شباب وعلماء ومتخصصين وعقول خبيرة، وكل من له قدرة، ان تبذلوا همتكم مع أبناء القاعدة الشعبية العريضة في بناء البلد.
بديهي انَّ هذا لا يعني عدم الافادة من تجارب الآخرين وعلومهم واختصاصاتهم.. فلن نغلق باب التعلم من الآخرين وننغلق على أنفسنا.. بل نسعى لتحصيل أي علم مفيد أو تجربة نافعة في الشرق والغرب؛ وفي أي مكان من العالم، ونستخدمها لما يفيدنا.
وهذا المنحى يعبِّر عن حكم الإسلام في هذا المضمار؛ فالإسلام لا يعارض الاستفادة من الآخرين، إلاّ ان كلمتنا الأساس وما نسعى إليه الآن هو ان تتحملوا ـ أنتم ـ المسؤولية(40).
(3)
أحمد اللّه أنكم من أهل العلم.. وربما تعرفون أفضل مني ما كان عليه الماضي العلمي لايران.. كان ماضياً يبعث على المجد وملء الافتخار. إذا شاء أحدهم الآن ان يستقل شيئاً ويستحقره ينسبهُ إلى القرون الوسطى، متغافلاً أنَّ القرون الوسطى في الوقت الذي كانت عصور عار لأوربا، كانت بالنسبة إلينا عصور فخر ونور. حين نعود إلى ما كتبه كريستيان سن المؤرخ المعروف عن التمدن الإسلامي في القرن الهجري الرابع، نراه يذكر انَّ المحيط الإسلامي كان سوقاً مزدهرة بالعلم في الدنيا، ويعتقد انّ النقطة المركزية في هذا المحيط هي إيران؛ يعني أصفهان والري وفارس وخراسان وهرات وغير ذلك، مما كان مركزاً يبث العلم إلى أرجاء العالم.
بيد انَّ الذي يؤسف له حاضراً، ان أبناء هذا الجيل لا يعرفون ذلك.. لا أقصد أنهم يجهلون مثل هذا الكلام؛ فهم سمعوا به وقرؤوه في الكتب، ولكن المشكلة انهم ينظرون بعين الانكار وعدم التصديق.. تستولي على هذا الجيل والذي سبقه روح عدم التصديق والقبول بما كان عليه ماضي إيران.
وَمردّ حالة الشك هذه هو هيمنة الحضارة الغربية.. وهذه التقنيَّة التي ترمي بهيبتها على كل شيء وتملأ الجوّ العام، بالشكل الذي لا يجرؤمعه على مجرد النظر إلى أُصوله
ليس ثمَّ شك في أنَّ أزمّة العلم اليوم بيد أولئك، ولكن ـ المشكلة ـ انهم يبتغون نفي السوابق العلمية للأمم الأُخرى.. ويحصل في بعض نقاط العالم التي ذهب الأوربيون ـ للاغارة عليها ـ ان يلغي هؤلاء الغربيون الحضارة المحلية لتلك المناطق، كما حصل في بعض اقاليم أمريكا اللاتينية (البيرو كمثال).
أذكر على سبيل المثال، أنّ رئيس البيرو ـ الذي انتهت دورته الرئاسية العام الماضي ـ حدّثني مرّة، أن آثار الحفريات والبحوث، أثبتت انَّ للبيرو في السابق حضارة كانت قائمة.
الكلام نفسه يصح بالنسبة إلينا، على العهد السلجوقي، الذي لم يترك أي أثر يدل عليه.
ومعنى ذلك انّ البيرو ـ على سبيل المثال ـ كانت كبلد تتمتع قبل 500 سنة بحكم مقتدر.. له علم وثروة، أما الآن فانظروا إلى موقعها على خريطة العالم.. انها لا تملك شيئاً. ما فعله هؤلاء انهم قطعوا شعب البيرو عن ماضيه.. بحيث لم يعد له أي اطلاع على تأريخه. وإذا قدّر وان كانت هناك حاجة لانجاز الحفريات، فقد قام أولئك ـ المستعمرون ـ بهذه العملية، وما بقي مما لا قيمة له، تركوه وراءَهم فأخذ يشتغل به أهل البلد.
هذهِ الممارسة لا يمكن ان تنجح داخل إيران، مع وجود هذه الكتب والآثار العلمية والتأريخية البارزة، ولكنهم نجحوا في محو آثارها من الأذهان ـ مسخوا وعي الجيل الماضي وقطعوه عن ماضيه ـ وعليكم الآن تقع مسؤولية وصل الجيل بماضيه.
لقد نهض مشاهير العالم ببعض هذه المهمة (من خلال ما كتبوه عن الخلفية العلمية للبلد) ولكن ـ والحق يقال ـ ينبغي ان تعطى هذه المسألة الأهمية التي تليق بها.. على الجيل الجديد ان يحيط بماضيه ويعيه، لأن له دخلاً في تقدمنا العلمي.
فإذا وعى الجيل الراهن انه ينتمي إلى تأريخ لأهله مثل تلك الاستعدادت، سينظر إلى المستقبل بأُفق آخر. أمّا إذا تصوّر ان كل ما هو موجود فهو بيد الاوربيين وحدهم وحسب، وعليه ان يسعى أبداً وراء أوربا، فسيكون لذلك أثر آخر على منحاه في طيّ مسير التقدم العلمي(41).
(4)
إنّ واحدة من القضايا التي تمثل هاجساً للعالم المعاصر، هو ان لا يسمحوا للنظم الثورية أن تأخذ حظّها من التقدم العلمي.. وهذه الحساسية تتضاعف ازاء بلد كبلدنا. ومردّ ذلك انَّ الاستعمار وأمريكا والصهاينة ـ وهم مهندسو الفساد في العالم ـ يعيشون هاجساً ازاء الإسلام والثورة الإسلامية، لم ولن يعيشوه مع أية ثورة أُخرى.
ان الذي يمكن ان تكون له يد في تنمية العلم في هذا البلد، عليه ان يعيش الاحساس بالمسؤولية بشكل مضاعف.. فالعدو لا يريد لنا ان نقف على أقدامنا. ولن نقف على أقدامنا إلاّ إذا نبع العلم وتفجّر من داخلنا، بحيث لا نمدّ يد الاستجداء إلى الأعداء(42).
الفصل الثاني
العالم الإسلامي والغزو الثقافي
القسم الأول
لمحة تأريخية عن خط مواجهة الثقافة الاستكبارية للثقافة الإسلامية
1 ـ إزدهار العلموية في اوربا بداية لمواجهة الثقافة الدينية
(1)
منذ قرنين على الأقل شهد العالم وَلادة تيار عرف باسم التمدن الصناعي (الحضارة الصناعية) الذي اقترن بسمات وخصوصيات معينة، ورغم ان مقدمات هذا التيار تتقدم زمنياً على هذا التأريخ بكثير، إلا انّ ما يعنينا أنه اكتسب خلال هذين القرنين عدداً من الخصوصيات في طليعتها الميل صوب الصناعة والعلم.. الميل إلى استخدام الوسائل الجديدة في الحياة، والأهم من ذلك كله الميل إلى فلسفات تقوم على قاعدة مادية.
ومعنى ذلك، ان أبرز الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي ظهرت في الغرب خلال هذين القرنين، اتخذت موقعاً مضاداً للفكر الديني.. وكانت الماركسية أكثر هذه الفلسفات ضجيجاً خلال هذا التأريخ. وبقية المدارس الفلسفية والاجتماعية التي ازدهرت في القرنين: التاسع عشر والعشرين، كانت في الغالب تميل نحو المادية، وهي غير دينية، بل وعلى الضدّ من الدين.
أرجو الانتباه جيداً لكي تتضح أهمية الموضوع. لقد بدأ هذا الاتجاه غير الديني ـ والمضاد للدين ـ من نقطة صغيرة ضيقة، ثم راح يزداد ويتسع شيئاً فشيئاً وهو يتحرك صوب نقطة الذروة، وكانَ نموه وتغلغله واضحاً في حياة الناس.. في فكرهم وفي العلاقات الاجتماعية.. وفي الأسرة.
وإلى جوار هذا التيار الفكري الفلسفي والاجتماعي، كان التيار السياسي يختط في دنيا الناس، وبموازاة الخط الأول نهجاً يتحرك بالكامل في الاتجاه المضاد للدين ولعالَم المعنى.
لقد كانت بعض هذه الاتجاهات السياسية تبدو وكأن لا علاقة لها على الظاهر بالاتجاهات الفلسفية. وهُناك من يعتقد انَّ الفكر المادي حتى في صيغة اليسار المتطرّف، هو حصيلة لفكر رجال السياسة وثمرة لجهودهم، ولا صلة له بفكر الفلاسفة.
يذكر هؤلاء في التدليل على رأيهم ان ظهور كل هذه الاتجاهات والتيارات كان تعبيراً عن عمل سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة.. وهو إلى ذلك فعل اقتصادي باتجاه تنمية الثروة وزيادة رؤوس الأموال، ولبسط (النهج) الرأسمالي الذي أخذ نفوذه بالتزايد يوماً بعد آخر.
لا يعنينا في هذا المضمار مناقشة الآراء المختلفة في هذه المسألة، وانما يهمنا أن نشير إلى ان الاتجاهات (النظم) السياسية سارت هي الأُخرى في التيار الذي يتضاد مع عالم المعنى، بحيث أخذت علاقة الضدية هذه تزداد يوماً بعد يوم.
ومن الطبيعي ان يشتد الهجوم ويتكاتف عندَ كل نقطة تتمركز فيها المعنويات أكثر من غيرها. وهذا بالضبط ما يفسّر لنا شدّة الهجوم الذي تعرّض له الفكر الإسلامي في كلّ نقطة من نقاط العالم.. ففي شرق العالم الإسلامي ـ الهند ـ دَخل الانكليز في مواجهة مع الإسلام.. وفي غرب العالم الإسلامي ـ أفريقيا ـ هاجم الفرنسيون الإسلام ودخلوا الجزائر.
وبرغم انَّ بريطانيا وفرنسا، كانتا تتنافسان استعمارياً، إلا انَّ خصمهما كان واحداً ـ عالم الإسلام ـ.
لقد أخذ حضور التيار الديني ومسار عالم المعنى يضعف في العالم، وأخذ تأثيره يتضاءل، حتى أضحت البشرية تفتقر إلى الأخلاق والمعنى.
لقد أخذت العجلة المادية الثقيلة تسحق في حركتها عالم المسيحية، ودنيا الإسلام.. والإيمان، أو جعلت تأثيره باهتاً على الأقل. هكذا سارت حركة الحياة (الإنسانية) في العالم طوال قرنين.. وهذه ليست مدة قليلة.
راح التيار المادي يتحرك بسرعة وقسوة، وبات نفوذه يتسع يوماً بعد آخر خلال قرنين، وإلى جوار المادية التي بلغت ذروتها في الفكر والسياسة والسلوك الحياتي للبشر، أخذت الثروة تتزايد يوماً بعد آخر، ويتنامى العلم بشكل مطّرد، وتكثر الاختراعات والاكتشافات الجديدة، وتتزايد المراكز والمؤسسات التي تدفع النهج المادي هذا.
ومعنى هذا الكلام، انه لا يمكن ان نقارن علمياً بين أمريكا وأوربا اليوم، وبين ما كانتا عليه قبل خمسين عاماً. انهم أنفسهم الذين وظّفوا أموالهم وعلومهم واختراعاتهم، واستفادوا من امكانياتهم المختلفة في دفع هذا النهج وتقويته والتعجيل به، حتى وصل إلى ذروة لا يمكن تصورها، بحيث لم يبق أمامهم في الخطوة اللاحقة سوى اجتثاث الدين والأخلاق والمعنويات من المجتمعات (البشرية) حتى لا يبقى لها ذكر
استئصال الدين والمعنى والأخلاق، كان هو الخطوة التالية في المسار المشار اليه.. وهذا الكلام لا أقوله وحدي، بل سجّله حتى أولئك الذين اشتغلوا بكتابة قصص الخيال العلمي، وحاولوا ان يرسموا من خلال كتاباتهم صورة المستقبل لهذا العالم بعد خمسين عاماً مثلاً.. لقد قرأت شخصياً بعض هذه الكتابات، فرأيتها تعكس تصوراً لمستقبل العالم لا وجود فيه للاحساس المعنوي.
تُرى ما هي الخطوة اللاحقة في مسار حركة العالم، في قرن يوصف بأنه قرن الذرة والالكترونيك وقرن الكومبيوتر والتقدم الفضائي المدهش؟ انها بلاريب تتمثل في افراغ العالم من الفكر، أو على حدّ تعبيرهم، استئصال أوهام() الدين وعالم المعنى، ولا يمكن تصوّر غير ذلك.
وفيما كانت جميع المخططات تشير لمستقبل البشرية على هذا المنوال، وإذا بنهضة عُلمائية دينية تنبثق من إيران فجأة سنة 1341 (1963م). لم تستطع هذه الواقعة ان تجذب للوهلة الأولى اهتمامات العالم، بيدَ انها أخذت تتسع خلافاً لتوقعات المراقبين والمحللين، وتسيطر على المحيط من حولها، حتى انتهت فجأة إلى انفجار كبير في نقطة من نقاط العالم.
عند ذلك أحست القوى العالمية انها أخطأت في تقدير هذه الظاهرة.. فحاولت ان تتدارك الموقف، ولكنها لم تستطع(43).
(2)
يسير العالم ـ كما تعلمون وكما قرأتم في التأريخ ـ منذ سنوات متمادية في الاتجاه الذي يبتعد عن الدين وعالم المعنى. فمنذ قرنين والبشرية تتحرك في هذا المسار لأسباب معلومة وَعلل غير مجهولة.
لقد اكتسبت حركة البشرية خلال المائتين سنة اللتين ترافقتا مع ذروة التقدم الصناعي والعلمي ـ أي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين اللذين أطلق عليهما قرني التنوير والإنسانية ـ سرعة مطّردة في الانسلاخ عن الدين وعالم المعنى.
بديهي ان بعض هذا المسار يمكن ان يفسّر بأسباب طبيعية تمليها طبيعة الاختيار ـ الذي سارت عليه البشرية ـ إذ لا يمكن لتلك المقدمات التي ظهرت إلاّ أن تفرز هذه النتائج (بمعنى انَّ البعد عن الدين هو لازم لا يتخلف عن النهج المادي المفرط).
ولكن في هذا المسار عناصراً خطط لها عن قصد أيضاً.. فقد وصلت جميع القوى العالمية إلى نتيجة مؤدّاها ضرورة ازالة الدين من ساحة الوجود.. لم يكن يقصد هؤلاء ان يمحى اسم الدين، بل كانوا ينظرون إلى المعنى الحقيقي للدين، وإلى الدين الحقيقي الخالص.
يمكن للظواهر الدينية ان تبقى، ولكن ما يستأصل هو الإيمان الديني الواقعي.. كم من الأموال بذلت في هذا المضمار.. وكم من الناس اقتنعوا بضرورة الغاء دور الدين وان هذا الالغاء هو من لوازم البشرية في هذا العصر
لم ينبثق سعي جميع هؤلاء عن خيانة.. وانما كان بعضهم يعتقد حقاً بضرورة هذا العمل للبشرية.
لقد بذلوا جهوداً كبيرة للقضاء على المعنويات ـ في كل مكان وفي العالم الإسلامي أيضاً ـ الّفوا الكتب، وتوسلوا بالعمل الأدبي، مارسوا الدعاية واعتمدوا نهج القوة، وانفقوا الأموال. وفي هذه اللحظة التي كان كل شيء فيها يحشَّد ضدَّ عالم المعنى وإذا بحكومة تنبثق ونظام يقوم في منطقة حساسة من العالم على أساس المعنوية والإسلام.
لقد كان انبثاق هذه الحكومة واستقرارها خلال عقد من السنين، معجزة حقاً، بل كل شيء فيها معجزة(44).
2 ـ نفوذ المبشرين المسيحيين والشركات الغربية في المجتمعات الإسلامية
(1)
حينما تعودون للتأريخ، تجدون ان الاستعمار مهّد لنفوذه في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بارسال المبشرين والبعثات التبشيرية المسيحية، قبل ان يبعث السياسيون بجنودهم وجيوشهم.
لقد عمدوا أولاً إلى تنصير الهنود الحمر والسود، ثم لفوا حول أعناقهم حبال الاستعمار.. لتجيء بعد ذلك مرحلة طردهم من أرضهم وديارهم(45).
(2)
لقد ذهب المبشرون المسيحيون إلى أفريقيا أو أمريكا وتوغلوا في الأدغال والغابات، منذ قرنين أو ثلاثة، والشيء المؤكد انهم بدؤا ذلك قبل مائة عام على الأقل.
لقد توغلوا في الغابات والأدغال ووطأت أقدامهم أماكن لم يذهب إليها حتى التجّار، واشتغلوا هناك بالتبشير. إنَّ المرء ليعجب أحياناً من بعض الأماكن التي يذهب إليها هؤلاء، حيث لا أمل يذكر في تنصير أهلها، كما حصل في قدومهم إلى إيران مثلاً.
لقد أشرتُ في حديث سابق إلى أنَّ المبشرين المسيحيين جاؤوا إلى إيران كراراً.. بدأت أول قوافلهم في عصر نادر شاه ـ وقبل ذلك أيضاً ـ وقد تركوا ديارهم وفارقوا أهليهم وتجشموا عناء السفر بالوسائط النقلية لذلك الزمان، وأمضوا في إيران سنين طويلة، لكي يمارسوا التنصير والتبشير بالمسيحية(46)
(3)
تفيد تجربة الاستكبار؛ انه أينما تواجد الإسلام على نحو جاد ومؤثر وجبت محاربته. لقد تحركت بدايات الاستعمار الأوربي لبلاد المسلمين منذ القرن السابع عشر، حيث بدأت أوربا بمدّ نفوذها في هذه البلاد من خلال الشركات والكنائس وما شابه ذلك. ومنذ ذلك الوقت أدرك أولئك أنّ المجتمع الإسلامي، والإسلام نفسه، يتعارض مع أهدافهم الاستعمارية، وانه في مواجهة مع قوافلهم التي جاءت إلى بلاد المسلمين من العالم الآخر. لقد وصلوا إلى هذه النتيجة من خلال قرائن كثيرة تدلّ عليها.
الهند ـ مثلاً ـ كانت بلداً تابعاً للانكليز، بل كانت تعدّ لسنين متمادية ولاية من الولايات الانكليزية. وحينما نذكر الهند لا نعني بها دولة الهند المعاصرة، بل شبه القارة بأجمعها، أي الهند وباكستان وبنغلادش.
انها مفارقة عجيبة تدلّ على وقاحة الانكليز الذين جاؤوا من بقعة صغيرة مما وراء البحار، لينزوا على اقليم عظيم بكل ما يضمه من منابع وثروات، ويسيطروا عليه، ويحولوه بعد ذلك إلى اقليم تابع رسمياً إلى التاج البريطاني
انها قصة تبعث على الحزن. لقد ظلّ البلاط البريطاني يُعيِّن للهند حاكماً تابعاً للتاج الملكي طوال سنوات طويلة.
وفي احدى المرات، حصل وان صرّح أحد حكام الهند التابعين للتاجالبريطاني، قبل (150) سنة من الآن، أي قبل ان تبدأ أعمال المقاومة الهندية للاستعمار الانكليزي، بأن من أول أهدافنا في هذه الأرض، هي قمع المسلمين واستئصال شأفتهم؛ لأنَّ المسلمين أعداء لنا بطبيعتهم، وذلك على خلاف الهنود
هذه هي تجربة الاستعمار(47).
3 ـ تبعات الاستعمار الثقافي في المجتمعات الإسلامية
(1)
تحرك الأعداء إنطلاقاً من خطة معدَّة سلفاً لعزل الدين عن معترك الحياة في البلاد الإسلامية، وسعوا لفصل الدين عن السياسة.. وقد كان من ثمار هذا السعي ان يحوّل التقدم العلمي الغربي البلاد الإسلامية إلى تابع للدول الصناعية، بحيث أضحى المصير السياسي والاقتصادي لهذه البلاد، ولمدة طويلة، رهن الناهبين الغربيين
لقد امتلأت جيوب الشركات وخزائن الدول الغربية من منابع ثروات (العالم الإسلامي) بيدَ أنَّ هذا العالم ما يزال متخلفاً رغم مرور عشرات السنين على سياسة النهب.. البلاد الإسلامية ما تزال تحتاج إلى العلم والبضائع الغربية؛ وما تزال تابعة سياسياً للغرب.
وهذا هو الخسران العظيم الذي ألَّم بالعالم الإسلامي منذ اليوم الأول إثر غفلته عن أُس الإسلام الركين المتمثل بالتوحيد. بديهي انَّ الفجوة في ازدياد، فكلما تقدم الزمان، وتكامل العلم، وحقق الغرب المزيد من التقنية، كلما أضحت البلاد الإسلامية أكثر عجزاً، وأشد تبعية، وتداعت جرأتها وقل ابتكارها(48).
(2)
سعى الاستعمار في جميع أرجاء العالم الإسلامي إلى ان يعزل علماء الدين عن الحياة ويبعدهم عن المعترك. وحينما نتحدَّث عن الاستعمار، فنعني فترة (180 ـ 200) سنة التي مضت، وقبل الاستعمار كان الدور في تنفيذ ذلك قد نهض به السلاطين المستبدون وحكام الجور والديكتاتور الداخلي.
حينما بدأ الغزو الأوربي لإيران.. شبه القارة (الهندية).. البلاد العربية.. البلاد الأفريقية البلاد التي تقع في الاطار الواسع للسلطنة العثمانية، وغيرها، فقد كان ذلك بداية عصر الاستعمار.
لقد أولى الاستعمار منذ سنواته الأولى، هذه المسألة اهتماماً كبيراً، وقد كان فهمه لها صحيحاً.. إذ سعى إلى ان يؤثر على دور علماء الدين بسلب هويتهم الواقعية، أو تحويلهم إلى وجود هامشي لا شأن له، أو استئصالهم ان إمكن ذلك.
إشتغل الاستعمار على هذا المحور سنوات متمادية. فكان أن تضاءل دور العلماء في بعض المناطق، حتى أضحى هامشياً ضعيفاً، لا حيثية له ولا هوية.. فقد زوى العلماء في مراكز صغيرة باهتة وانصرفوا إلى أعمال لا يُعبأ بها ولا شأن لها بحركة الحياة، وذلك من قبيل العناية بأُمور الأموات، وغير ذلك من الممارسات الشكلية.
أجل، لقد أفلحت السلطات الحاكمة في بعض بلاد المسلمين لدفع العلماء إلى هذا (المنحدر) بعد ان بذلوا جهوداً حثيثة لسنوات طويلة، حتى أضحى ليس من حق العالم الديني حتى ان يُمارس دوره (الطبيعي) في التعليم.
حصل ذلك في جميع بلاد العالم الإسلامي. نعم في بعض البلدان التي نعرفها وتعرفونها جيداً، لم يكن بمقدورهم ان يستأصلوا شأفة العلماء ويقضوا تماماً على مراكزهم العلمية، بل ولم يستطيعوا إضعافهم إلى الحد الذي يجعل وجودهم مساوقاً للعدم، وانّما توسلوا بنهج آخر، حين سعوا إلى ان يتحول العلماء ومركزهم العلمي إلى تابع للقدرات الحاكمة وللبلاطات والحكومات الفاسدة.
أية خيانة عظمى هي تلك التي اجترحها الملالي المرتبطون بالبلاط، بحق الإسلام والمسلمين.. انّهم هم الذين عرض لهم إمامنا العزيز (الإمام الخميني) مرّات في بياناته في مرحلة الجهاد قبل الانتصار وبعده، وقرن ذكرهم بالتنفر.
ان العَالمَ الذي يُوجِّه للأجهزة الفاسدة، سلوكها، هو أخطر من تلك الأجهزة نفسها. تماماً كما أشار لذلك الإمام السجاد علي بن الحسين(عليه الصلاة والسلام) في خطابه إلى ذلك الرجل المشهور في عصره، حينما ذكر له بأنّه تحوّل إلى مطية للظالمين، عندما راح الظالمون يسوّغون المظالم التي يجترحوها ويمرروها من خلال علاقته بهم.
والعالِمُ الذي يسوّغ ظلم الأجهزة الفاسدة هو أخطر من تلك الأجهزة ذاتها.
لاريب انّ تلك الفئة من العلماء التي تنفذ في المجتمع أهداف الاستكبار، هي اسوأ أيادي الاستكبار وأشدّها قذارة.. وهي تمارس مهمة خطيرة جداً لكونها تنطوي على ظاهر حق، وباطن باطل.
وهذه في الواقع، هي القضية التي سعى الاستكبار لتنفيذها في العالم الإسلامي منذ قرن وبضعة عقود، بما بذله من مال، وبما توسل به من ترغيب وترهيب.
لم يوفق الاستكبار كاملاً فيما كان يسعى لتحقيقه، في العالم الإسلامي، لاسيّما في إيران حيث بقيت المراكز العلمية الإسلامية المتمثلة في علماء الإسلام ثابتة على مواضع الحق، وقد استطاعت بمواقفها الحاسمة ان توجد هذه الثورة العظيمة، وتكون سبباً في انبثاق هذه الجمهورية ونظامها، ونشر راية الإسلام عزيزة خفاقة في ربوع العالم الإسلامي(49).
(3)
عودوا إلى أوضاع المسلمين والبلاد الإسلامية، في العالم، وتأملوها من حيث الجوع.. الضعف السياسي.. التخلف.. والتبعيتين: السياسية والاقتصادية، ثم اسألوا أنفسكم: لماذا آل وضع المسلمين إلى ذلك؟
وهل تفتقر البلاد الإسلامية إلى شيء؟ هل ثرواتها الطبيعية قليلة، أم ألمت بها قلّة في الطاقة الإنسانية؟ أم يعتورها خلل في الموقع الجغرافي الممتاز؟ لا يمكن تحليل وضع المسلمين على أساس أي من العوامل الآنفة. إذن لماذا آلت إلى هذا الواقع الذي يبعث على الأسف؟ يرجع الجواب إلى أنَّ العدو انتهز غفلة المسلمين، وخيانة الحكّام، وحمل عليهم معنوياً وثقافياً خلال مائتي عام.. وإلى جوار الهجوم الثقافي والمعنوي، انطلق الغزو الاقتصادي والعسكري، الذي آل بأوضاع المسلمين إلى ان تهبط تدريجياً إلى هذا المنحدر.
وإلاّ جميعنا يعرف ان الوضع الراهن ليس هو الوضع الطبيعي للعالم الإسلامي.. فالعالم الإسلامي اليوم يمتد على رقعة واسعة تبدأ من غرب أفريقيا إلى شرق آسيا. وتعد منطقة الخليج الفارسي، واحدة من أهم أقاليم العالم كلّه وأكثرها أهمية، وهي ضمن المنطقة الإسلامية(50).
القسم الثاني
علل وجذور الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الإسلامي
1 ـ الإسلام عائق كبير أمام المستعمرين
(1)
في كل مكان يتواجد فيه الإسلام، لا بقاء لأركان النظام السلطوي العالمي.
وفي كل مكان يستقر فيه الإسلام سيكون ذلك علامة على مواجهة الظلم والعدوان.. والاستعمار والاستغلال.. واذلال الناس.. وعلامة على مواجهة المرتكزات التي يتقدّم بها نظام التسلط في العالم المعاصر(51).
(2)
يسعى هؤلاء ـ أعداء الإسلام والقوى المستكبرة ـ لمحو الإسلام، بحيث لا يبقى له في العالم اسم ولا أثر.. لأنَّ الإسلام يواجه علوّهم وطغيانهم.. أمريكا تخاف الإسلام، وستظل تخشاه، وكذلك القوى العالمية الأُخرى، لذلك توازروا على مواجهته والقضاء عليه(52).
(3)
ما نقصدهُ بالعالم الاستكباري، هو هذه القوى السياسية العالمية.. هذه الحكومات والدول.. سواء كانت قدرات كبرى، أم قدرات صغيرة استبدادية وتابعة. ان في طليعة أهداف هؤلاء في العالم، حذف الإسلام؛ لأنه يخالف استبدادهم(53).
(4)
لماذا كل هذا العداء الاستكباري للإسلام؟ لأن الإسلام حائل كبير أمام مطامع الاستكبار. ففي كل مكان يستقر فيه الإسلام، لن يسمح للقوى الاستكبارية أن تمارس النهب، وتفعل ما تريد، كما يحلو لها(54).
(5)
الإنسان الذي يفتقر للإيمان الديني سيفقد الأمل الواضح.. والإنسان الذي يفتقد للإيمان الديني، سيفتقد القدرة على مُواجهة المشكلات بشكل أساسي، وحينئذ سيبقى في مُنتصف الطريق، أو يعود القهقرى. لذلك رأيتم ان البلدان التي تحكمها أنظمة لا دينية.. الحادية.. بعيدة عن اللّه، تسقط في منتصف الطريق. هذا ما حصل مع الأنظمة الماركسية التي حمّلت شعوبها الفكر الماركسي، فتوقفت عجلتها، فغلبها الغرب وانتصر عليها.
أما مع الإسلام فثمة قصة أُخرى.. الحركة الإسلامية حركة مستدامة، وجهاد الإسلام من أجل حياة كريمة عادلة للإنسان هو جهاد دائمي متواصل.
هذه الخاصية هي التي تفسّر لنا عداءهم للإسلام.. فما من يوم يمرّ إلاّ وثمة مؤامرة على الإسلام والمسلمين تخرج من جعبة الاستكبار.
انظروا إلى أوضاع العالم لتتبينوا هذا المعنى.. فهذه أمريكا والقوى الشيطانية المستكبرة، تدخل بكل قوتها في حرب ضدّ الإسلام، وهي تبذل ما تقوى عليه في هذا المضمار. بيد أنَّ هذا الوجود ينمو ويتسع كل يوم ـ بحمد اللّه ـ فقدرة الإسلام في تزايد.. وروحية الإيمان الإسلامي تنتشر في العالم أبداً.. وهذا هو ما يخشاه الاستكبار(55).
(6)
عندما سعى المستعمرون لبسط مشروعهم في الفتوحات السياسية.. الاقتصادية.. الاجتماعية.. والثقافية، اصطدموا بحائل مهم، تمثل بالمعتقدات الدينية للشعوب. بديهي انَّ المعتقدات الدينية لا تقف في كل مكان في مواجهة النهج الاستعماري.. فالدين المحرّف.. والدين الذي صنع بيد القوى (الدولية) لا يعارض ـ بالبداهة ـ القوى الاستكبارية.
لذلك فانَّ الإسلام هو الدين ـ وهو المصداق الأتم للدين ـ الذي ينهض حقاً لمعارضة الاستعمار، ويواجه عدوانهم على الاقليم الإسلامي، وقد أدرك المستعمرون هذا المعنى من خلال بحوثهم.
جرّبوا ذلك في الهند.. في البلاد العربية.. وفي إيران. ففي كل مكان كان الوجدان الديني مستيقظاً بين الناس، واجه الاستعمار مانعاً يقف دون مشروعهم. من أمثلة ذلك ثورة التبغ في إيران.. والحركة الدستورية.. والحوادث الدموية التي ألمت بالهند في مواجهة الانكليز.. ومواجهة المسلمين الأفغان للانكليز أواسط القرن التاسع عشر.
ومن الأمثلة الأُخرى في هذا المضمار نهضة السيد جمال الدين الأسد آبادي في مصر، التي هزَّت الأنكليز(56).
(7)
طوال سنوات متمادية مارست الثقافة الغربية الفاسدة دوراً تخريبياً في البلاد الإسلامية، دون ان يكون ثمة سدّ يحول بينها. فالحكومات التابعة لم تستطع ان توفّر ذلك السدّ الذي يُنتظر من حكومة صالحة، لمواجهة المؤامرات الثقافية والسياسية للأعداء. لذلك كلّه اندفع قادة الغرب في توسيع دائرة الثقافة الغربية الفاسدة في البلدان الإسلامية، في سبيل تعزيز سلطتهم السياسية والنهب الاقتصادي.. من دون ان يكون ثمة رادع(57).
2 ـ الحيلولة دون نهضة الشعوب الإسلامية
(1)
عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، حصل ما كان متوقعاً من انجذاب الشعوب الإسلامية ـ وحتى غير المسلمين ـ إلى الإسلام، وذلك كأثر من آثار الثورة ومحبوبيتها. لذلك استنفرت الأجهزة الاستعمارية قواها لمواجهة النفوذ المعنوي (المتزايد) للإسلام.. وإلا هل يمكن ان نجد سبباً يحلل لنا حالة الاستنفار الشاملة لأجهزة الاستكبار، سوى معرفتهم بأنَّ اتساع نفوذ مفاهيم الإسلام في أية بقعة من العالم يعني الايذان بانهاء سلطتهم وكفّ أياديهم؟
لقد جسّد انتصار الثورة المعنى الصحيح للتوحيد ونفي عبودية غير اللّه، وتمثلها في الواقع، مما دفع المسلمين في الكثير من مناطق العالم للاحساس بشخصيتهم وعزتهم فبعث فيهم روحاً لمواجهة القوى المتجبرة، وتدشين عهد جديد من جهاد الشعوب الإسلامية.
من الأمثلة البارزة على ولادة عصر الجهاد الجديد بين الشعوب الإسلامية يمكن الاشارة إلى جهاد المسلمين في أفغانستان.. وفي فلسطين، وتصدّي الشعب الفلسطيني للأحزاب المساومة.. وانطلاق النهضات الإسلامية في البلدان الأفريقية المسلمة.. وفي آسيا.. بل وحتى في أوربا.
انطلقت كل هذه النهضات على أساس جاذبة الإسلام، والشوق لتنفيذ الأحكام الإلهية.. والاحساس بأنَّ هذا الدين يمثل طريق عزتهم وخلاصهم.
قبل انبثاق الجمهورية الإسلامية، لقنوا القاعدة الإسلامية العظيمة، بأنَّ الإسلام غير قادر على ان يمنحهم العزة والعظمة، وان يكون لهم خيار الانقاذ والخلاص، وألقوا في ذهنها انَّ طريق الخلاص يتمثل إمّا بتمثل النموذج الغربي المتحرك في اطار الثقافة (الحضارة) الأوربية الأمريكية، أو الاتجاه صوب نظرية خيالية فارغة تعكسها الأيديولوجية الماركسية. بيد انَّ الذي أبطل النسيج الاستعماري الغربي، هو انتصار الثورة الإسلامية، وتأسيس الجمهورية الإسلامية، التي حققت العزة لشعب إيران، وأظهرت قدرة الإسلام على أن يكون خياراً لانقاذ الأمة من حالة الضعف والركود، وايصالها إلى ذروة العزة والشجاعة، عن طريق الاعتماد على النفس.. كما أثبتت (التجربة الإسلامية في إيران) قدرة الإسلام على تشكيل نظام ثابت ومقتدر، له القدرة على قطع دابر الظلم الاستكباري، ووضع نهاية لما كان يتعرض له الشعب من احتقار وذل على يد الاستعمار(58).
(2)
القوى (الدولية) تعادي الإسلام ونهضة المسلمين.. وعلى هذا الأساس يفسّر موقفها المعادي لايران المسلمة. فهي تبذل ما في وسعها للقضاء على التحرك الإسلامي في العالم.
وأمريكا تقف في رأس هذه القوى المعادية، تأتي بعدها قوى صغيرة وكبيرة، تواجه الإسلام على أساس خلفية تأريخية، أو على أساس ما يمثله من معارضة لمصالحها، أو انها تحاربه لخشيتها منه.. ان عداء هؤلاء لايران المسلمة، يعود إلى كونها تمثل مركزاً لحركة الاحياء الإسلامي.. فالشعوب الإسلامية اليوم تستمد الأمل بالنصر من هذه الثورة، وتتقدم بخطى ثابتة ـ استلهاماً من روحها ـ.
ثمة حقيقة يجب ان نعيها جيداً، وان لا نخطئ في فهم العدو، فلو قدر وان فشل الإسلام في هذه التجربة (إيران) فسيكون ذلك أكبر نصر يحققه الأعداء ازاء حركة الاحياء الإسلامي التي تعم العالم. لذلك كلّه علينا ان لا نتصوّر أن العدو كفَّ عن عدائه للإسلام والمسلمين(59).
(3)
لم تكن القوى الناهبة والمستبدة في العالم، على وفاق مع الإسلام في أي يوم من الأيام.. بيد ان عداءها وبغضها للإسلام اليوم بلغ مديً كبيراً لم تبلغه فيما مضى.. لقد تضاعف مرّات عداء القوى الشيطانية للإسلام.. فقد أصابتها الضربات الموجعة التي أنزلها بها الإسلام اليقظ، وتجرعت مرارتها. أثر ذلك فهم الشيطان الأمريكي ـ وأذناب أمريكا أيضاً ـ ما معنى ان ينهض شعب مسلم ويقوم باسم اللّه.
لذلك اضحى خوفهم من الإسلام أشد.. وأضحت عداوتهم وبغضهم له أكثر(60).
(4)
يقول سبحانه في القرآن الكريم: «وَلن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم» (سورة البقرة /120). وهذا النص هو من معجزات القرآن حقاً، فالأعداء لن يتركوا المسلمين حتى يتخلوا عن دينهم، ولن يرضوا عنهم بأقل من ذلك. أما المراد من التخلّي عن الإسلام فهو ان تموت تلك الروح والطاقة الإسلامية النابضة، في أوساط المسلمين، وان تتعطّل أحكامه الحيّة. فلو كان المسلمون يجهلون أصول الإسلام الأساسية، ويتمسكون بظواهر شكلية جزئية ـ لا أثر لها ـ فانَّ الأعداء لا يعبأون بهم.
بيدَ انَّ المشكلة في تلك الحال، انَّ هذا الذي بين يدي المسلمين لا يُعدّ حينئذ إسلاماً.. ولا يعكس الإسلام الذي جاء به النبي، والذي على أساسه يقول تعالى: «كنتم خير أمة أُخرجت للناس» (آل عمران/ 110)(61).
القسم الثالث
الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الإسلامي
الوسائل والأدوات
1 ـ تحريف تأريخ الإسلام وتشويهه
(1)
شهد الغرب وعالم المسيحية، بعد القرون الوسطى هجوماً دعائياً واسعاً نال شخصية الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقد أدرك أعداء الإسلام الموتورون ان أحد وسائل مواجهة الإسلام، يتمثل في التعريض بشخصية النبي المكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشويهها.. لقد بذلوا مساعي كبيرة في هذا المضمار، ولا تزال جهود العدو مستمرة حتى اللحظة ـ وان كان بوسائل مختلفة ـ للنيل من شخصية النبي ومحوها من ذهنية أحرار العالم.
ثَمَّ في العالم اليوم، أُناس كثيرون، لو قُدِّر لهم ان يتعرفوا على شخصية نبي الإسلام، كما يعرفها المسلمون ـ أو حتى أقل من ذلك أيضاً ـ لانجذبوا إلى الإسلام ومعنوياته. بل يكفي لحصول هذه الانعطافة والانجذاب نحو الإسلام اشراقة سريعة من نور شخصية رسول اللّه، في قلوبهم(62).
(2)
لقد رأيتم أخيراً انَّ الاستكبار العالمي أراد ان يواجه النمو المعنوي المتزايد للإسلام الذي حصل ببركة الثورة الإسلامية، من خلال دفعه لأحد عملائه كي ينال من شخصية الرسول الأكرم والنبي المعظم.. فجاءت الثمرة هذا الكتاب الشيطاني الذي أُلّف بأمر من شياطين القوة والمال في العالم.
بديهي ان موقف مسلمي العالم جاءَ قاطعاً، وفي مقدمة هؤلاء كان موقف قائد النهضة الإمام الراحل، الذي حكم بهدر دم الكاتب واعدامه(63).
استهدف الاستعمار منذ بداية نفوذه إلى آسيا وأفريقيا ان ينال من ماضي الأمة ويشوهه ويقطعها عنه. لقد كان هدف الاستعمار ان يهيمن على الذخائر المادية والإنسانية للبلاد الإسلامية، ويتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر بمصير الشعوب الإسلامية.. وتحقيق هدف مثل هذا كان يستلزم بشكل طبيعي ان يسعى الاستعمار إلى هزيمة الشعوب الإسلامية في شخصيتها، ومواطن احساسها بالفخر، والأهم من ذلك ان يقطعها كاملاً عن ماضيها.
وهذه هي المهمة التي ترافقت مع بداية العصر الاستعماري أواخر القرن الميلادي الثامن عشر، وظلّت تواكبه بعدئذ.
وطريقة الانسلاخ عن الماضي والانقطاع عنه، تمت بدفع هذه الشعوب للتخلّي عن ثقافتها وأخلاقها، كي تكون أرضاً مهيّأة لقبول ثقافة الغرب والاستعمار. وقد انطلت هذه الحيلة بيسر على أرضية مناسبة تمثلت بوجود الأنظمة المستبدة، والحكومات الفاسدة في العالم الإسلامي، وتحركت العجلة فأخذ موج الثقافة الغربية المهاجمة ينحدر كالسيل، وهو يروّج لفكر الاستعمار وثقافته بين الشعوب الإسلامية. وهذا العمل كان ضرورياً لتثبيت السلطة السياسية والاقتصادية للغرب.
تحوّل العالم الإسلامي اثر ذلك إلى أرض مفتوحة للغرب الناهب، الذي مارس سلطته بدءاً من التحكم المباشر، حتى استنزاف ثرواته، وتغيير أبجدية الخط وحروف اللغة، بل حصل أحياناً وان ألغوا كيان البلد وحوّلوه إلى اقليم محتل كما هو الحال مع البلد الإسلامي فلسطين.
قامت سياسة الاستعمار على اساس الاستهانة بالمكونات الإسلامية والاستخفاف بها في هذه البلاد، وحرموا المسلمين من بركة الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وحالوا دون تقدمهم علمياً وثقافياً.
انَّ الناظر إلى حاضر البلاد الإسلامية يلمس احساسها بعقدة العجز والحقارة التي آلت بها إلى ما هي عليه من ضعف ثقافي واجتماعي واقتصادي وعسكري.. فما عليه البلاد الإسلامية من ضعف روحي ومادي وما تنطوي عليه بنية النظم السياسية، تحكي شعوراً بالحقارة والعجز.
وهذه الأوضاع المتردية تعود في أهم عللها إلى غربة هذه الشعوب عن ذاتها وانقطاعها عن ماضيها التأريخي، وعن المجد العظيم الذي يطل من وراء القرون، وهو يمد الإنسان مهما بلغ ضعفه ويأسه، بالأمل ويسوقه صوب البذل والحركة.. وذلك المجد العظيم انبثق باسم اللّه وجهاد المخلصين في سبيل اللّه والعاملين بأحكام الإسلام النابضة بالحرية والحياة.. وشُيّد بنيانه على أساس جهاد المسلمين في صدر الإسلام وتغذّى بما تجرعوه من آلام الغربة في ايام مكة، وعصر الجهاد في المدينة.
لقد تمخض ذلك المجد عن وليد مبارك، اسمه «المجتمع الإسلامي» تحول ببركة الجهاد إلى وجود فتي معطاء، استطاع ان يمدّ الإنسانية ويحمل لها مشعل العلم والمعرفة، ويبسط بين ربوعها راية القدرة والسياسة.
لاريب ان ذلك الجلال، انبثق من عظمة الجهاد في مكة والمدينة. واليوم إذ تتحرك الشعوب الإسلامية بعد قرون من الانحطاط والركود والذل، في حركة احياء وقيام للّه تملأ أربعة أركان العالم.. وحيث ينث من جوانب حركة الاحياء هذه عطر الحرية والاستقلال.. وتلوح في أفق الكثير من البلاد الإسلامية علائم العودة إلى الإسلام والقرآن.. يكون المسلمون أشد حاجة من أي وقت مضى لتحكيم صلتهم بماضيهم المشع بالنور.. بماضٍ مُعجز، انطلاقته بالقيام للّه وبالجهاد الإسلامي في الصدر الأول.
يتبين ممّا ذكرناه دوافع الاستعمار في الماضي وقوى الاستكبار في الحاضر على قطع علاقة المسلمين بماضيهم، وخشيتهم من تواصلهم معه فكرياً وعاطفياً، ومناهضتهم لذلك.
أجل، انَّ مثل هذا الارتباط مع الماضي، هو الذي يوجّه الحركة في الحاضر والمستقبل(64).
2 ـ اشاعة الشهوات والانحلال الاجتماعي
(1)
مرَّ زمان كان اللوردات الانكليز يعيّنون معالم الخريطة السياسية للعالم بحركة أصبع يد. فالانكليز هُم أكثر دول الدنيا معرفةً بالعالم فقد خبروا المعمورة وكان لهم نفوذ من استراليا حتى مناطق آسيا الوسطى، ومن شبه القارة الهندية حتى إيران والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومصر وأمريكا.
تعلم الانكليز من خبرتهم انَّ هذه المنطقة (الإسلامية) تضم من ذخائر النفط والغاز ما يؤمن مستقبل العالم للطاقة، ولها موقعاً حيوياً من الناحية الجيوبولتيكية بين الشرق والغرب ـ حيث لم تكن قد اخترعت الطائرات ووسائل المواصلات السريعة بعد ـ.
لذلك كان عليهم حتى يؤمنوا وجودهم ان يفكروا في أمر الإسلام، ويحاولوا بأي سبيل تعطيل الوجدان الديني وتغييب الإسلام عن هذه المنطقة. فقد أدركوا ـ وكان تشخيصهم صائباً ـ ان بقاء الوجدان الديني يقظاً واستمرار روح الإيمان الإسلامي نابضاً بين الشعوب، يحول بينهم وبين تحقيقهم لمطامعهم.
وعلينا ان ننتبه إلى نقطة، فحينما نتحدَّث عن الانكليز، فلا نريد اغفال دور بقية الدول الأوربية، بل برزت في ساحة الاستعمار أسماء دول من قبيل فرنسا، ايطاليا، البرتغال، وبلجيكا، بيدَ ان محور العصر الاستعماري آنئذ كان يتمثل بالانكليز. ففي حركة الحياة ومسارها السياسي والاجتماعي يبرز في كل عصر دور أمة من الأمم، والدور آنئذ كان للانكليز الذين مارسوا الاحتلال والاستعمار دون رحمة.
وعندما وصلوا إلى البلاد الإسلامية، خططوا لفصل جيل الشباب عن الدين، وقد اختاروا لذلك طريقين سلكوهما:
الطريق الأول: ويتمثل باشاعة الشهوات وفتح طريق الانحلال. وأديان السماء جميعها تعارض اطلاق عنان الشهوات، وبالأخص الدين الإسلامي الذي ينطوي على نظم أدق من سائر الأديان في هذا المضمار.. فقد وضعت قواعد وضوابط وقيود لكيفية ارضاء الشهوة واشباعها، وسبب ذلك ان روح الإنسان لا يمكن ان تهذّب إلاّ بتقييد الشهوة.. وإلا لو أطلق الإنسان العنان لشهوته يستحيل إلى بهيمة، وحينئذ لا يمكن أن يتوفر على النمو الإنساني.
يتبيّن من هذه المقدمة انَّ الطريق الأسهل لمواجهة الأديان، هو ان يطلق عنان الشهوات في المجتمع ـ أي مجتمع ـ وتفتح السبل لممارسة الفساد والانحلال.
هذا هو الطريق الذي سلكوه ونفّذوه.. وقد كان سفور المرأة من أهم مظاهره ومن أبرز ما فعلوه في هذا المجال.. ومن مظاهره الأُخرى اشاعة الادمان على المسكرات. ثم تحركوا في خط آخر تمثل بتكسير أواصر الحشمة في العلاقة بين المرأة والرجل، وتحريرهما من أي قيد على هذا الصعيد.
التقدم المدني والمخترعات العلمية الجديدة مثل السينما، الراديو وغيرهما ساهم في اشاعة طريق الابتذال والشهوة على أوسع نطاق في المجتمع ويسّر للاستعمار تنفيذ مهمته دون مشقة. وعلينا ان ننتبه إلى انَّ هذه الممارسات تختلف عن مقولة العلم والفكر. هناك من يذهب خطأً، إلى ان الذي أشاع الشهوة هو العلم، في حين نجد انَّ العلم قد نهض بعمل آخر ـ في خدمة الاستعمار ـ على خط آخر سنعرض له في النقطة الآتية.
تبيّن مما مرّ انَّ الطريق الأول تمثل محتواه بتيار ثقافي محض، أشاع الفساد الفكري والعملي والتحلل الجنسي وروّج الابتذال وفتح الأبواب أمام الناس لِولُوجِه. لذلك لا يمكن القول انَّ الطبقات المتعلمة هي وحدها التي تعرضت للفساد اثر توالي الحملات الغربية في هذا الاتجاه، في إيران وغيرها، وانما نجد انَّ أكثر الطبقات التي غرقت بالفساد في عهد النظام السابق، تمثَّلت بالأميين والطبقات المتوسطة في المجتمع.
والذي زاد في حُمّة الفساد هي طبيعة الحياة الاستهلاكية المريحة، التي انضمت إلى المخطط السابق، لتقوّيه وتعضده في تيار الممارسة الاجتماعية.
الطريق الثاني: وقد تمثّل بالتيار العلمي والفكري. فمع نفوذ الفكر العلمي الجديد إلى البلاد الإسلامية، الذي كان يجذب إليه الآخرين ـ إذ في العلم جاذبية بالضرورة ـ تحوّل التقدم العلمي إلى وسيلة لسلخ الناس عن الاعتقاد بالدين، واتخذ ذريعة لاطفاء شعلة الإيمان الديني في النفوس، واستئصال الوجدان الديني(65).
(2)
واحدة من وسائل الغزو الثقافي تمثلت في السعي الحثيث لصرف الشباب عن التمسك الصلب (من الصلابة) بالإيمان.. والإيمان هو الذي يحفظ الحضارة. انَّ الدورة الآن تشبه ما تم في الاندلس قبل قرون، حين أغرقوا الشباب بالفساد ومستنقع الشهوة والسكر(66).
(3)
ان الصنم الذي فرضت عبادته في البرهة المعاصرة من تأريخ العالم على الكثير من أبناء البشرية.. ومن بينهم الكثير من المسلمين، هو القدرة الأمريكية، هذه القدرة التي تحولت إلى سُلطة تقبض بين يديها جميع ما يرتبط بالشؤون الثقافية والسياسية والاقتصادية للمسلمين.. وأخذت تسوق الشعوب ـ بعلم أو بغير علم ـ نحو مصالحها التي تقف في النقطة المقابلة لمصالح المسلمين.
العبادة تعني الطاعة دون نقاش (أي بتسليم). وهذا ما فرضه الاستكبار وعلى رأسه أمريكا، على الشعوب، له، وساقها نحوها بأساليب مختلفة.
ومظاهر الشرك وعبودية الأصنام التي ينفذها الاستكبار وعلى رأسه أمريكا، تتضح في أمثلة كثيرة، منها مظاهر الفساد والفحشاء التي تروّج بين الشعوب من قبل الأجهزة الاستعمارية.. اشاعة ثقافة الاستهلاك التي أخذت تستقطب الشعوب إلى مستنقعها بوتيرة متصاعدة يوماً بعد آخر، وهي تعود بأرباح متزايدة على الشركات الغربية التي تُعَد القلب النابض والعقل المحرّك للمعسكر الاستكباري.. ومن مظاهر الشرك وعبودية القوة الأمريكية كصنم هي انبساط السلطة السياسية للغرب الاستكباري من خلال الأنظمة التابعة.. ومنها التواجد العسكري الذي اكتسب شكلاً أوضح بأنواع الذرائع..
هذه وأمثالها هي مظاهر للشرك ولعبودية الأصنام، وهي تقف في ضدية كاملة مع النظام التوحيدي، والحياة التوحيدية التي شرَّعها الإسلام للمسلمين(67).
3 ـ استخدام أجهزة الاتصال المتطوّرة
(1)
لقد تكالب أعداء الإسلام.. القوى الكبرى.. المستكبرون.. الدنيويون، على الإسلام والمسلمين طوال سنوات متمادية. استخدموا جميع الوسائل لتدمير الإسلام.. فكم أنفقوا من الأموال.. وكم وضعوا من الخطط، وما أشدّ الضربات التي انزلوها بالشعوب الإسلامية طوال سنوات الاستعمار؟
في عصر غُربة مثل هذا.. انبثقت ثورتنا.. واطلَّ إمامنا القائد، وطلع شعبنا العظيم على العالم(68).
(2)
أعداء الإسلام مجهزون اليوم، أكثر من أي وقت مضى من التأريخ، والأجهزة التي بيد الأعداء الآن لم تكن بأيديهم في أي عصر من عصور التأريخ السالفة.
إذا أردنا أن نعود إلى مثال من التأريخ؛ تحديداً إلى تأريخ الصدر الأول من الإسلام، حيث اجتمعت كلمة الخلفاء الظالمين الغاصبين على ايذاء شخصية أميرالمؤمنين عليه السلام والنيل منه في وسط المجتمع الإسلامي، والتعريض بالإسلام والخط القرآني الصحيح، فماذا كان بوسعهم ان يفعلوا لتحقيق ذلك؟ كان عليهم ان يبعثوا رجالهم إلى أقصى مناطق العالم الإسلامي، وكان على هؤلاء المبعوثين ان يجمعوا الناس من حولهم، ويخطبوا فيهم بما يبتغيه حكام الجور آنئذ.
وهذه ممارسة صعبة، وهم وان فعلوها، إلا انهم لم يحققوا نجاحاً كبيراً.
أمّا الآن فانّ الصورة تختلف بالكامل. فمنذ نصف قرن بلغت التقنية الإعلامية ـ الدعائية حداً مذهلاً من التقدم.لذلك أضحت الطريق سهلة أمام أعداء الإسلام، لو أرادوا ان يمارسوا عملاً دعائياً ضدّ الإسلام ـ ـ وهم يريدون ذلك ـ لم يكن ذلك صعباً. فما كان يحتاج في السنوات السابقة إلى جهود سنوات، يتم الآن بساعات. بمقدورهم ان ينتجوا فلماً ضدَّ الإسلام ويبثوه عبر الشبكات العالمية.. وكل من يرى الفلم وهو لا يعرف عن الإسلام شيئاً، يأخذ عنه انطباعاً سلبياً.
ليس هذا وحده، بل تعمل ضدَّ الإسلام اليوم وعلى نطاق عالمي شبكة من أجهزة الارسال الاذاعي.. الوكالات الخبرية.. إذ هي تعمل ضدّ الإسلام وقيمه بشكل مستدام.
وهذا مجرد مثال على طبيعة التقدم التقني في الأدوات التي يستغلها أعداء الإسلام.
وحين تكون الفوارق شاسعة بين آليات أعداء الإسلام في الحاضر وأدواتهم وإمكاناتهم في الماضي، فانَّ جهاد أمة تتصدى للدفاع الشجاع عن الإسلام في مثل هذه الأوضاع، وتندفع دون خوف أو تهيّب لتتخطى حدود التضحية إلى عالم الشهادة؛ ان جهاداً مثل هذا وما تقدّمه من تضحيات الشهداء في هذا الطريق، لهو أكثر قيمة مما جرى في التأريخ(69).
4ـ اقصاء الإسلام سياسياً واجتماعياً وعزله عن المسلمين
(1)
عندما تكون الثقافة الوطنية هي الركن الأساس في الدفاع عن حيثية المجتمع، فانها تكون هي المستهدفة بالدرجة الأولى. فلو أراد العدو ان يهجم على قلعة مستحكمة، فان أول ما يفكر به هو النيل من أركانها وقواعدها لكي تتداعى الجدران.. فهو أولاً يضرب على كلّ ما يؤدي إلى ضعف الجدران.. ويمكن ان تكون الخطوة الأولىللعدو هو ان يجعل أهل القلعة في غفلة يغطون بنوم عميق.
لقد ذكر سعدي في «كلستان» من كتابه انَّ مجموعة من السّراق أرادت ان تغير على جماعة لتسرقها، فدسّت أولاً بينهم رجلاً دفعهم للغفلة والنوم، ثم جاء العدو الخارجي فقيد أيديهم ونهب أموالهم.
الغزو الثقافي يخضع لمثل هذه المنهجية، فهو يدفعهم أولاً للغفلة وان يغطّوا بنوم عميق، ثم يأتي الدور بعد ذلك لسلبهم كلّ شيء(70).
(2)
لازال أعداء الإسلام يقظين وهم لم ييأسوا بعد من انزال الضربة به. وما تهدفُ إليه كبرى السياسات العالمية هو اقصاء الإسلام وابعاد الشعوب عن الشعارات الإسلامية التي تنطوي على جاذبية عالية بالنسبة إليها.
مازالت الشياطين والشيطان الأكبر أمريكا بصدد التفكير بانزال ضربة بالإسلام والمسلمين.. وفي كل بقعة يتواجد فيها أعداء الإسلام، ينبغي استشعار الخطر على هذا الدين(71).
(3)
يتحرك الجهد الدعائي العالمي اليوم للايحاء بأن عصر الحركات الأُصولية ومن بينها حركة الاحياء الإسلامي، قد انتهى.. يريدون ان يلقوا ـ في وعي الناس ـ بأن عصر الحركة الإسلامية والأهداف المستمدة من الدين، قد ولى واصبح جزءاً من الماضي.. وحتى وقائع انهيار المعسكر الشيوعي حملوها على هذا المعنى، في حين انَّ القضية كانت تتحرك في مسار آخر له أسبابه الخاصة، ولا علاقة لانهيار الاتحاد السوفياتي بالاصولية.
والذي نراه هو عكس ايحاءاتهم تماماً؛ فالاتجاه الإسلامي يتنامى في العالم يوماً بعد آخر، وأي مكان يحتضن المسلمين تراه يترافق مع الحركة.. إلاّ ان أشكال هذه الحركة تختلف، فقد تظهر على المستوى الثقافي تارة.. وعلى مستوى العمل السياسي الهادئ تارة أُخرى، في حين تعبّر عن نفسها في مستوى ثالث بشكل عنيف ومتحرك.
يمكن تلمس الاتجاه الإسلامي في اندونيسيا.. ماليزيا.. شبه القارة الهندية (مسألة كشمير).. وفي تركيا رغم انها عاشت دهراً طويلاً من حياتها في مواجهة الدين.. وفي أفريقيا وشمالها.. وفي أوربا حيث تتواجد الأقليات.
والسؤال، ما هي بواعث هذه الحركة الإسلامية الناشئة؟ يحتاج الجواب عليه إلى دراسة مفصلة. والذي نراه ان اليقظة الإسلامية ليست وليدة زماننا هذا، بل هي تتصل بجذور أعمق تعود بداياتها إلى مائة وخمسين سنة مضت. بديهي ان الحركة في الماضي لم تكن كما هي عليه الآن من حيث التجدّد واليقظة.
فحركة الاحياء إذن، هي مسار مُتجذّر عميق(72).
(4)
كان نهج المتسلطين الدوليين ولا يزال، يرمي إلى عزل مراكز العلم الديني، ودفعها نحو الجمود والركود والانفعال، بحيث تغدو تابعة له، خالية من الأهداف الكبيرة.
إنّهم يعتقدون بفصل الدين عن السياسة، ويجهدون لاشاعة اليأس من قدرة الدين على مواكبة التحولات العالمية المدهشة(73).
(5)
عَمدَ الأعداء في اطار خطة معدّة سلفاً إلى عزل الدين في البلاد الإسلامية عن ساحة الحياة، وحققوا بذلك عملياً شعار فصل الدين عن السياسة. وقد كان من تبعات ذلك ان يحوّل التقدم العلمي الغربي هذه البلدان إلى توابع للدول الصناعية، في حين أضحى المصير السياسي والاقتصادي بيد الناهبين الغربيين لمدة طويلة، وعادَ ذلك بخسائر لا تجبر على هذه البلدان.
فلا تزال أغلبية البلدان الإسلامية اليوم تعيش التخلف والحيرة، رغم مرور عشرات السنين، حين استطاعت الشركات الغربية ان تستغل ثروات هذه البلاد وتملأ جيوبها من أموالها. ما تزال تلك البلاد الإسلامية بحاجة إلى صناعة الغرب وعلمه وبضائعه، ولا تزال مهمّشة في عالم السياسة، تابعة إلى المدار الغربي. هذا في الواقع هو الخسران العظيم الذي حلَّ ببلاد المسلمين منذ اليوم الأول إثر عدم الاهتمام بالأصل الاساس للإسلام المتمثل بالتوحيد.
والمعادلة التي تحكم العالم الإسلامي اليوم، ان البلاد الإسلامية تنحدر بمرور الزمان في سلّم التخلف ويزداد عجزها وتبعيتها، وتتضاءل قدرتها على المبادرة والابتكار، كلما اطّرد التقدم وتكامل العلم وأضحت الدول (الغربية) أكثر قدرة وافضل تجهيزاً، هي إذن علاقة عكسية بين التقدم في العالم الآخر وبين تخلف البلاد الإسلامية.
وسبيل العلاج أن يؤوب المسلمون إلى الإسلام الذي يتجلى فيه التوحيد ونفي عبودية غير اللّه بأنصع صورة، وان يبحثوا عن عزتهم وقدرتهم (الضائعة) فيه.
وهذا السبيل هو الذي يخشاه أعداء المسلمين والمخططون ضدَّ الإسلام، ويحاولوا ان يزرعوه بعقبات حادة(74).
(6)
بديهي انَّ نغمة فصل الدين عن السياسة هي من صنع الأعداء الذين ذاقوا الضربات الموجعة من الإسلام الحي النابض. لذلك تحرك أولئك لاقصاء الدين عن ساحة الحياة، ليخلو لهم الجو ويتسنى لهم ان يمسكوا بالشؤون الدنيوية للناس، ويتحكموا بمصير الإنسان.
بيدَ انَّ الذي يبعث على الأسف والأسى، ان يردّد هذه المقولة مَن هُم محسوبون على الدين، ويتزيّون بزيّ علماء الدين، إذ راحوا يكرّرون هذه المقولة ويبذلون جهدهم في ترويجها...
أجل انه «الإسلام الأمريكي» هو الذي يسعى لعزل الناس عن السياسة وفصلهم عن الوعي والبحث، ويبعدهم عن العمل السياسي. أما الإسلام المحمّدي فهو ينظر إلى السياسة على أنّها جزء لا ينفك من الدين، ويحث المسلمين جميعهم على الوعي السياسي ويدفعهم لممارسة العمل السياسي(75).
(7)
الدعاية الاستكبارية ضدّ الإسلام هي جزء من حملة صليبية جديدة، توحي بانَّ الإسلام عاجز عن تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية للشعوب الإسلامية، وتلقي في روعهم انَّ الطريق الوحيد الباقي أمام المسلمين اقتفاء نظم (الحضارة) الغربية في الحياة، واعتماد معاييرها ونموذجها في الدولة.
وهذه وسيلة تنطوي على الكذب والخديعة، ورُوّج لها سنوات متمادية، وأريد منها جرّ البلاد الإسلامية إلى التبعية للمعسكر الاستكباري الغربي واستغلال ثرواتها المادية ونهبها(76).
(8)
مواجهة القوى الاستكبارية للإسلام لا تقتصر على مجابهتها لايران وشعبها وللنظام الجمهوري الإسلامي. بل هي تمتد إلى دائرة أوسع، وتعتمد وسائل متعدّدة سياسية ودعائية وثقافية، وتنشط على هذه الصُعد بشكل جاد. من أوجه هذه المواجهة هي سياسة التشدّد التي تمارسها الأنظمة التابعة لأمريكا من خلال ما تقوم به من ضغط على العلماء والمثقفين المسلمين والأحرار في البلاد الإسلامية.. ومن أوجهها أيضاً الضغوط التي تفرض على الأقليات والجاليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية.
هذان مثالان ـ من أمثلة كثيرة ـ لمواجهة الإسلام سياسياً.
أمّا المواجهة على الخط الثقافي، فمن أمثلتها اصدار الكتب والمقالات التي تعرّض بالإسلام، وانتاج الأفلام التي تحمل الاهانة لهذا الدين، واشاعتها في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية.
تنفق الدول الاستكبارية كأمريكا وبريطانيا اليوم أموالاً طائلة لتغذية هذه السياسة المعادية وتقويتها. والذي يبعث على الأسف ان يضع بعض حملة الأقلام والفنانين أقلامهم وقدراتهم البيانية وفنونهم في خدمة أولئك، لتحقيق مكاسب مادية، متجاوزين ضميرهم الأدبي ووجدانهم الفني(77).
5 ـ تشويه صورة الثورة الإسلامية
(1)
بعد انتصار الثورة الإسلامية وتشكيل الجمهورية الإسلامية، وعلى اثر السير في إيران صوب ايجاد مجتمع يقوم على قيم الإسلام وشريعته، انطلقت أبواق الدعاية في الشرق والغرب، ومن يرتبط بهما، للنيل من الجمهورية الإسلامية بنعتها بالأصولية والميل لتقديس الماضي وعبادته وما شابه ذلك..وباسم التجديد والحداثة انتقدوا ايران المسلمة بانها تريد الارتباط بسنن ماضية بالية.
حصل ذلك كلّه، وفي العالم؛ في الشرق منه والغرب، عدد غير قليل من الأنظمة الرجعية المستبدة التي ترتبط بماضٍ متبلد، وتقاليد لا تعرفُ شيئاً من مفاهيم العالم الجديد من قبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم يعرض أحد لهم بالذكر، ولم ينالهم الهجوم الدعائي.
والأعجب من ذلك ان تدخل على الخط أجهزة ارسال اذاعي تنتمي إلى أنظمة هي من أكثر الأنظمة تخلفاً وبدائية، إذ لم تعرف حتى الآن شيئاً عن مؤسسات التحديث السياسي، بل ويُعدّ فيها المجلس الوطني والانتخابات الحرّة والصحف غير الحكومية، من الأحاديث الاسطورية، ومع ذلك عادت لتنعت بلدنا بالرجعية هذا البلد الذي انشأ على أساس الإسلام حكومة شعبية، وأخذ يسير في تنفيذ القانون الإسلامي من قبل مجلس وحكومةً منتخبين، وهو يشهد حضور الشعب في الساحة ويسجّل تواجدهم في أهم ما يشهده من قضايا خطيرة وحسّاسة. هذه الممارسة كانت بلاريب مدعاة لإثارة الضحك والسخرية.
أجل، لا يخشى الاستكبار وأجهزته الخبرية والدعائية، وكل الأقلام المأجورة والأبواق التي ترتبط به، من بلد يغرق في أعماق عبادة ماضيه القديم، وَمن أمة تعود القهقرى إلى تقاليدها وعاداتها الجاهلية، شرط ان تفتح له خزائنها المادية وتستسلم لتسلطهم وتقبل ثقافة الفساد والفحشاء والاستهلاك والشراب..
ليسوا فقط لا يقلقون من شعب مثل هذا، بل يفرحون أيضاً. إنّهم يخشون عودة الشعوب إلى ماضيها الذي يمنحها العزة والفخر، ويفتح لها طريق الجهاد والشهادة، ويعيد لها الكرامة الإنسانية، ويعلّمها ان تقطع أيادي الغزاة الناهبين الذين يعرضون لمال الأمة وشرفها.. هُم يخشون عودة الشعوب إلى ماضٍ يعلّمها: «وَلن يجعل اللّهُ للكافرين على المؤمنين سبيلاً» (النساء/ 141) ويغذيها بروح: «وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين» (النساء/ 75).. ويخاطبها: «ومالكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين»(المنافقون / 8).. ويوصل لقلبها وسمعها نداء: «ان الحكمُ إلاّ للّه» (الأنعام / 57) ويحوّل هذا المجموع إلى روح تسري في حياتها.
إنّهم يخشون ان يتحول (اللّه) والإسلام والقرآن إلى محور في حياة هذه الشعوب، فتقطع أيادي الطغاة والمتسلطين عن العبث في حياتها.
بديهي ان الاستكبار لا يسره ان تعود الشعوب إلى ماض مثل هذا، وإلى تأريخ من هذا القبيل، بل هو يخشى ذلك ويحول دون تحققه بأيّ ثمن.
على المسلمين جميعاً، وعلى الأخص المجتمعات الإسلامية التي هبّ عليها نسيم الحرية وتذوقت القيام للّه.. وأُؤكد على العلماء والمثقفين والروّاد من بينهم بالذات.. لهؤلاء جميعاً أقول: انتبهوا من الوقوع في المصيدة.. لا تخافوا من عنوان الأُصولية.. ولا تهابوا تهمة الرجعية والتمسك بالسنة.. وعليكم ان لا تبرؤا من الإسلام كأصل ومن أحكامه النورانية ومن التصريح بهدفكم في المجتمع الديني والنظام التوحيدي، ارضاءً للأعداء الخبثاء.
لا تصغوا إليهم، بل اصغوا إلى كلام اللّه: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم» (البقرة / 120)، وقوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا ان آمنّا باللّه وما أُنزل إلينا وما أُنزل من قبل وان أكثركم فاسقون»(هود/12)، وقوله تعالى: «فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرُك ان يقولوا لو لا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك»(المائدة / 59)، وقوله تعالى: «وما نقموا مِنهُم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد»(البروج/8)(78).
(2)
الجمهورية الإسلامية في دنيا المسلمين، هي راية عالية وصوت صارخ يجذب إليه المسلمين من كل جانب. ان قلوب المسلمين في جميع أنحاء العالم، تهفو اليوم إلى بلد شعاره الإسلام، ويحث السير عملياً لاتباع قانون الإسلام، وهو يعتمد على دستور يعلن بصراحة انَّ أي قانون يتعارض مع الإسلام لا قيمة له وساقط في نظر الاعتبار.
هذا البلد الذي تخفق إليه القلوب هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ إذ لا نجد في عالم اليوم مكاناً آخر يحث السير في متابعة أحكام الإسلام بجدٍ ووضوح كما يحصل في هذه البقعة.
بديهي هذا الكلام لا ينصرف إلى الشعوب.. فالشعوب مسلمة، وهي تعشق الإسلام في كل مكان.. وهي مستعدة في مواطنها جميعاً ان تعمل بالإسلام.
أمّا الدول والأنظمة فلها شأن آخر.. هي لا تحمل استعداد الشعوب.. وإذا كانت قد خطت في البداية باسم الإسلام، فانها عادت للتخلّي عنه أمام أمواج الضغط العالمي الشديدة.
كنتم شهوداً على مسارنا في العقد المنصرم، فمن أجل الإسلام ألصقوا بنا كل شيء، قالوا: رجعيين.. ماضويين.. غير متحضرين، وغير ذلك.
قبل ان أُسافر إلى باكستان، ذهبت للقاء الإمام الخميني (رضوان اللّه عليه) أوصاني أن أقول لعلماء باكستان عند لقائي بهم، أنَّ الضغوط التي تنزل علينا من أمريكا، الغرب، الشرق، الرجعية، ومن الآخرين، انما تأتينا من أجل الإسلام ـ الذي نرفع رايته ونلتزم به ـ وليس لكوننا ايرانيين. وهذه الضغوط تنتهي إذا أحسّ العالم عدم جديتنا ازاء الإسلام ـ العياذ باللّه ـ وإذا فهم اننا غير جادين في الالتزام به، ومستعدون للمساومة عليه.
وبدوري، قد بلّغت عين ما أوصاني به الإمام (الراحل) إلى ذلك الجمع الكبير من علماء باكستان الذين جاؤوا من جميع الأقاليم.
وهذه الحقيقة معروفة لدينا ونحن نلمسها حسياً. فمرد الضغط علينا هو الإسلام.
المسلمون أدركوا هذا المعنى أيضاً، وأحسوا ان «ام القرى» بالنسبة للإسلام، هي في هذه البقعة.. هنا موطن الإسلام الأصيل ومركزه الحقيقي. لذلك ترى القلوب تخفق للجمهورية الإسلامية وتهفوا شوقاً لنظامها. وهذا بنفسه عنصر من عناصر الوحدة.
الاستعمار أدرك عامل الوحدة هذا، فسعى للشقاق وايجاد الاختلاف بوسائل مختلفة قومية ومذهبية عن طريق بث الفرقة بين الشيعة والسنة، وبين أهل السنة أنفسهم، فهؤلاء أهل هذه المدرسة وأولئك أهل الحديث، وهكذا. وبين الشيعة كان لهم أسلوب آخر، وكذلك بين مختلف الجنسيات الإسلامية وشعوب القبلة الواحدة.
علينا نحن المسلمين ان ننتبه ونكون على حذر، وعلينا أن نعي انَّ أموال النفط في ذلك البلد المعروف بين المسلمين بتبعيته الذليلة لأمريكا والغرب، حين تصرف في طبع كتاب يرد على التشيّع، فهو لا يفعل ذلك قربة إلى اللّه أو لمحض المحبة للسنة، بل يروم تحقيق أهداف خبيثة.
وعلينا ان ندرك ان عكس منطوق هذه القضية صادق أيضاً. فإذا رأينا من تحرك لاثارة الحساسية ازاء الإخوة أهل السنة أو تعرض لمقدساتهم داخل المجتمعات الشيعية، فعلينا أن نعرف هذه الممارسة ان لم تكن قد نشأت من مزاج مضطرب وفهم سيء، فهي بلا ريب تحرك من قبل الأعداء.
وطبيعي انّ العدو يستفيد إلى أقصى حد من الأمزجة المنحرفة في ترويج ذلك(79).
(3)
القوى الكبرى تعيش حالة اصرار في معاداة الثورة الإسلامية، بيد انها لم ولن تعلن صريحاً عن سبب عدائها للجمهورية الإسلامية. فإذا قدّر لأمريكا وان اعترفت بأن الإسلام هو مبعث عدائها لإيران لألّبت عليها مليار مسلم في العالم.. ولو اعترفت صراحة انّ عداءها لإيران المسلمة هو بسبب تمسّك الجمهورية الإسلامية بالاستقلال والحرية واصرارها على ان تبقى أمريكا بعيدة عن التدخل بشؤونها، لحرضت ضدّها جميع أحرار العالم.. ولو اعترفت ان عداءها لإيران وحجرها على أموالها والتواطؤالمستمر ضدّها، يعود إلى انَّ ثورة إيران قطعت أيادي أمريكا عن منابع ثروات هذا البلد، وحالت دون استمرار عمليات النهب الاقتصادي التي كان النظام البهلوي الخائن ينفذها بسخاء كبير، لوقفت جميع شعوب العالم المظلومة، وجميع المتضررين من النهب الاستعماري، إلى جوار شعب إيران، ودخلت على خط مواجهة أمريكا.
من هنا يبدو طبيعياً ان تعمل أمريكا وباقي القوى الدولية في جبهة الاستكبار، بما تتوافر لهم من مؤسسات خبرية ودعائية وأجهزة اتصال، على تشويه الحقائق التي ترتبط بإيران لحرف أفكار الرأي العام في العالم. وهي تفعل ذلك تارة باسم حقوق البشر، وتارة بعنوان نقض الحريات، وتارة ثالثة تمارس ذلك باسم معاداة الارتجاع والماضوية.. إلى بقية الذرائع.
أمريكا وبقية القوى في جبهة الاستكبار تسوق هذه التهم وأمثالها ضدَّ شعب إيران المستبسل الواعي الشجاع، وضدّ نظامه التقدمي الثوري، وضدَّ المسؤولين الصلحاء الذين يديرون كفة الأمور، وهي تحاول بهذا الأسلوب ان تثأر لنفسها من الشعب الإيراني الذي يحمل البغض والكراهية للمتسلطين المستكبرين، وبخاصة الشيطان الأكبر.
لقد أثبتت السنوات الاحدى عشرة الماضية فشل الاستكبار والرجعية وأياديهما في هذا الطريق، بحيث لم يستطيعوا ان يشوهوا الصورة المشرقة لشعبنا العظيم، ولاسيّما بين الجماهير المستضعفة في العالم. كان عائدهم من الرساميل العظيمة التي وظفوها في استخدام الأقلام المأجورة، وتوجيه مئات أجهزة الارسال الصوتية والمرئية، وحشد حركة المطبوعات، كل ذلك من أجل عزل الثورة الإسلامية أو تشويه صورتها، عائدهم منها الخسران والفشل.
ومع كل هذه الجهود التي بذلوها، وبرغم ارادتهم، لازالت الشعوب في الكثير من مناطق العالم تحاول ان تصوغ نضالها الشعبي للقوى الشيطانية على وفق المثال الإيراني.
ان حركة الجهاد والكفاح التي تقتفي مثال الانقاذ الإيراني في التحرّر، ما تزال تقضّ مضاجع الظالمين. وقد أدركت الطبقة الواعية من أبناء المسلمين في كل مكان أنّ الإسلام هو الباعث وراء عداء رأس الاستكبار ـ يعني أمريكا ـ لشعب إيران.
«وما نقموا منهم إلاّ ان يؤمنوا باللّه العزيز الحميد» (سورة البروج /8)(80).
القسم الرابع
1ـ نهوض المسلمين لإحياء حاكمية الإسلام
(1)
ما أقوله للشعوب الإسلامية(81)؛ وللمسلمين واحداً واحداً: إنّ سبيل علاج جميع آلام الشعوب الإسلامية ومشكلاتها وعثراتها يكمن بالعودة إلى الإسلام والحياة في ظل النظام الإسلامي وفي اطار أحكام الإسلام. فهذه العودة هي التي تبعث في المسلمين عزتهم وتعزّز شوكتهم، وتجعلهم يرفلون بالنعم العظيمة التي تأتي على أرضية الأمن والرفاه.. وهذه العودة هي التي تجعل المسلمين بمنأى من السقوط إلى هوة المصير البائس الذليل الذي يدبّره رموز الاستكبار للأمة.
بمقدور الإسلام ان ينقذ المسلمين والإنسانية جمعاء، بشرط أن يعرف معرفة صحيحة، ثم يطبّق على نحو سليم.. النظام الإسلامي في إيران هو بفضل اللّه مظهر يكشف اقتدار الإسلام، وتجربة عملية تعكس مثالاً مجسداً، للمسلمين.. لقد حصل ذلك كلّه مع انَّ ثماني سنوات من عمر هذه التجربة ـ البالغ ثلاثة عشر عاماً ـ مضت في حرب خطّط لها الاستكبار الشرقي والغربي، وفرضت عليها، ولم تكن قد وقفت أمواج العداء عند حدٍّ، قبل الحرب ولا بعدها(82).
(2)
يجب أن تنهض الشعوب الإسلامية لاحياء الإسلام، بالاتكال على اللّه وتجديد حياة الإسلام العملية.. عليها ان تنهض لقطع نفوذ العدو وتأمين استقلال الشعوب المسلمة وتحقيق الوحدة الإسلامية الكبيرة التي تأذن بولادة قوة كبيرة بمقدور المسلمين ان يقوموا بايجادها.. هذه النهضة هي مسؤولية تقع على عاتق كل فرد من أفراد المسلمين وتتأكد أكثر بالنسبة للعلماء والمثقفين والخطباء والشباب الواعي، وجميع من له القدرة على المساهه في هذه المسؤولية.
(3)
الإسلام دين التوحيد، ومعنى التوحيد هو تحرّر الإنسان من قيود العبودية لأي شيء والتسليم للّه وحده.. التوحيد يعني التحرّر من قيود الأنظمة وضروب السلطة البشرية.. ويعني كسر حاجز الخوف من القوى الشيطانية والمادية.. كما يعني الاتكاء على طاقات الإنسان التي لا حدّ لها، والتي أودعها (سبحانه) في وجود الإنسان وأراد لهُ تفعيلها وعدَّ التخلّف عنها تخلفاً عن فريضة واجبة.ومعنى ذلك ان تحقق الوعد الإلهي بانتصار المستضعفين على المستكبرين لا يكون إلاّ بشرط النهوض والجهاد والاستقامة.. والتوحيد يعني وصل القلوب باللّه وعدم الخشية من احتمال الهزيمة.. وهو يعني استقبال المشكلات والأخطار التي تواجه الإنسان في طريق تحقيق الوعد الإلهي.. كما يعني احتساب المشاق والمتاعب في سبيل اللّه وعدم اليأس من النصر النهائي كمقولة حتمية.. ويعني التوجه إلى اللّه وحده في طريق تحقيق هدف انقاذ المجتمع من الظلم والتمييز والجهل وضروب الشرك، واحتساب ما يصيب الإنسان من انكسار وما يكابده من منغصات وسط الطريق، في سبيل اللّه.
والتوحيد يعني ان يشعر الإنسان انه على صلة بقدرة إلهية مطلقة لا أمد لها؛ والارتباط بمنبع الحكمة.. والسير بشوق ودون حيرة واضطراب نحو هدف أعلى.
ان ما وُعِدَ المسلمون به من عزة وعلو واقتدار لا يكون إلاّ في ظلال إيمان مثل هذا؛ وفي اطار ادراك عميق وواضح للتوحيد.
فمن دون الارتباط العقيدي والعملي بالتوحيد، لا يتحقق شيء من الوعود التي وُعد المسلمون بها ولا تتجسّد عملياً.
في عصر الاستكبار كانت الغفلة عن التوحيد الصحيح وعن مفهوم الحياة تعني فيما تعنيه فتح الأبواب لأوثان الاستعمار، وفتح السُبل أمام هجوم آلهة المال والقوة والزور(83).
(4)
لا يتوهم أحد انَّ القوى الكبرى مالت للمصالحة مع الإسلام.. ولا يظننّ أحد ان الأمة الإسلامية لم تعد بحاجة اليوم للوقوف بوجه القوى العالمية المتسلطة، ومواجهتها.. فقد جهدت هذه القوى على أن تفعل بالأمة الإسلامية ما تستطيع فعله.. وما لم تستطع فعله ينبئ عن عجزها، لا عن عزوفها عن مواجهة المسلمين.
علينا ان ننتبه وان نكون على حذر.. علينا ان نلتزم اليقظة ونكون على أُهبة الاستعداد.. علينا ان لا ننسى ما يريده القرآن منّا(84).
(5)
علينا ان نقدّم أرواحنا على الأكُف؛ وكلَّ عزيز نملكه، في كلّ مرة تهدّد فيها الأخطار نظام القيم الإسلامية.. وعلينا ان ندافع عن حاكمية الإسلام التي هي رصيد العزة والشرف والحرية. فليس ثمَّ ملجأ في وسط ظلمات السلطة الاستكبارية وظلمها الممتد على العالم، يستطيع ان ينقذ الشعوب، سوى الإسلام والقرآن.
على هذه الأرضية دخلت القوى العالمية الطاغوتية معركتها مع الإسلام، وهي تبذل ما تستطيع للحيلولة دون بسط حاكميته.. وما التكالب الذي تبديه تلك القوى في مواجهة الجمهورية الإسلامية بكل ما تستطيع، وبجميع ما تقدر عليه من وسائل علنية وخفية، إلاّ لكونها تجربة ناجحة لانتصار حكومة الإسلام.
واليوم لا يمكن الدفاع عن الإسلام إلاّ بتقديم التضحيات وضروب الفداء تماماً كما حصل في صدر الإسلام.. ولا يملك المسلمون الصادقون إلاّ أن يقدموا أرواحهم وأموالهم وفكرهم ووجاهتهم ومعارفهم، وجميع ما يملكونه، في المنافحة عن هذه الحقيقة الناصعة المقدّسة كلما كانت ثمة ضرورة لذلك(85).
(6)
لم يعد مقبولاً بأي وجه ان يعتذر الإنسان عن الدفاع عن الإسلام والسعي لتجسيد حاكميته، متعللاً بالخوف من بطش الأعداء وقوتهم. فالشعوب ـ بحمد اللّه ـ استيقظت ووضعت أقدامها على طريق الإسلام. والمثال الحي لهذه اليقظة هي ما تشهده شعوب شمال أفريقيا، وبالأخص الجزائر والسودان.
إنّ الجهاد الذي تبديه هذه الشعوب وقبولها لضروب البلاء التي ذُكرت في القرآن، لا يمكن ان يقود إلاّ إلى النصر الحتمي. يقول تعالى: «ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين» (البقرة/155)(86).
(7)
إنّ تحقيق الكثير من الأشياء في الحياة الدنيا، أمر غير ممكن أو صعب. والبلاء الكبير الذي يصيب البشر، هو توهمهم ان انجاز الأعمال والآمال الكبيرة هو أمر متعذّر.. هذا بلاء كبير.. فاليأس هو أعدى أعداء الإنسان الذي يريد تحقيق أهداف يرومها.. إذا قال الإنسان محدّثاً نفسه: ما فائدة الجهود التي أبذلها إذا كانت لا تحقق المطلوب؟ فاعرفوا يقيناً انه لن ينجز العمل الذي يريده.
اليأس من وجهة نظر الإسلام، هو من الأمور السلبية، وبعض ضروب اليأس هي من الذنوب الكبيرة، كاليأس من روح اللّه، أي اليأس من لطفه وفضله، فإذا يأس الإنسان من ذلك يكون قد سقط في هوة الذنوب الكبيرة.. لا يحق لنا ان نيأس.. فاليأس من رحمة اللّه هو من الذنوب الكبيرة، ولا يحق لأحد أن ينفض يده من هذه الرحمة مهما كانت موانع الرحمة كبيرة. وقد لا يكون اليأس من الذنوب الكبيرة في بعض الحالات، ولكنه يكون من الموانع الكبيرة(87).
(8)
دلّت الثورة الإسلامية العظيمة على انَّ مفتاح حل المشكلات الكبيرة، هو بيد الشعوب.. وانَّ الإرادة الإنسانية تستطيع ان تنتصر على ارادة القوى المتسلّطة إذا اعتمد الإنسان على اللّه وَصدّق بالوعد الإلهي(88).
(9)
الثورة هي القيم، وأولئك الذين يسعون ان تتحول الثورة ضدّ القيم، هُم أنفسهم الذين تلقوا من الثورة أوجع الضربات.. الشك في المفاهيم الثورية هو عمل ضدّ القيّم.. والتشكيك في خط مواجهة القدرات الظالمة هو أيضاً ضدَّ القيّم.
طريق نجاة الشعوب يتمثل باستقلالها عن القوى الظالمة.. والقوى الظالمة تدأب باستمرار على ان تلقي في وعي الشعوب انها على خطأ في هذا الطريق.. طريق المواجهة.. وانه لا أمل ولا نتيجة من التحرك والمقاومة.. وهي تحاول ان تلقنها بأنَّ طريق الخلاص يتمثل بالانضواء تحت جناحها، وتلقى في روعها بأن عليها ان تعرج من صعيدها لتبلغ المرامي المادية والسلطوية التي ترى بأنها حق(89).
(10)
يجهد الأعداء من خلال اصطناع الجو المثقل بالحيل الدعائية ان يُحذّروكم من الحكومة الإسلامية واسم النظام الإسلامي. وبعض السذّج يفكر ان من الأفضل عدم الجهر بهدف الحكومة الإسلامية، لكي لا تثار حفيظة أمريكا والدول الغربية. والذي أوصي به ازاء ذلك، هو اجتناب هذا الضرب من التفكير بالمصلحة الذي يعدّ بنفسه خلافاً للمصلحة.
يجب اعلان الهدف بوضوح وتكراره باستمرار وفي جميع الظروف، والهدف هو تشكيل النظام الإسلامي وتحقيق قيمومة القرآن وحاكمية الإسلام.. ينبغي ان لا يُطمّع العدو بالنأي عن اعلان هذا الهدف والتصريح به.. ويجب الابتعاد في هذا المجال عن الغموض، بحيث لا يحيط بالهدف أي ابهام أو عدم وضوح.
لقد تجرّع الإسلام والحركات الإسلامية باستمرار، ضربات أشدّ من جبهة النفاق، فاقت ضربات الكفر.. واليوم لا يقل خطر «الإسلام الأمريكي» عن خطر الأدوات العسكرية والسياسية الأمريكية ان لم يزد عليها. والذي نعنيه بـ«الإسلام الأمريكي» هو التظاهر بنوع من الإسلام يكون بخدمة الطواغيت وفي خدمة أهداف أمريكا وبقية المستكبرين.. عليكم ان تلتزموا جانب الحذر من حَمَلَة راية «الإسلام الأمريكي» سواء ظهروا بزي علماء الدين.. أو انطلقوا من مواقع السياسة وكانوا من الساسة.. ينبغي الاشارة إلى هؤلاء باصبع الاتهام صراحةً وكناية.. ولا تفكروا أبداً باستمداد العون منهم.
عليكم أيضاً ان لا تبقوا في عزلة بعيداً عن تجارب بقية الحركات الإسلامية في البلدان الأُخرى.. تعرفوا على أوضاعهم.. ووثقوا بهم الصلات على رغم رغبة الاستكبار في عدم تحقيق ذلك.
اجعلوا ما يفيض به قوله تعالى: «واعتصموا بحبل اللّه جميعاً» (آل عمران/104) من التمسك بالدين ومراعاة وحدة الكلمة نصب أعينكم دائماً، وكونوا في هذا الجانب على حذر من كيد العدو(90).
(11)
تدرك جبهة الكفر والاستكبار انَّ المستقبل للإسلام، وليس بمقدور أية قدرة ان تقف بوجه تزايد قوة الإسلام وتناميه ورواج الشعارات والمظاهر والقيم الإسلامية، بصيغة مطّرَدة بين المسلمين(91).
2 ـ تبيين الحقائق الإسلامية عن طريق الفن والوسائل الأدبية
(1)
وصيتي إلى جميع المسلمين في العالم ان يؤكدوا بشكل متزايد على شخصية النبي في مختلف أبعاد حياته.. سيرته.. أخلاقه والسنن المأثورة عنه، وما ورد عنه من النصوص. لقد تعرضت شخصية الرسول الأكرم إلى هجوم دعائي متزايد في الوسط الغربي وفي العالم المسيحي بعد القرون الوسطى(92).
(2)
علينا أن نعمل على تعريف الأبعاد المختلفة لشخصية الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونسلّط الأضواء على جوانبها المختلفة: الأخلاق ومناهج الحكم وادارة الرعية والعبادة والسياسة والجهاد.. والتعاليم الخاصة. علينا أيضاً ان نعالج السيرة ليس من منطلق تأليف الكتب وحدها بل علينا ان نوظّف الأدب والفن ووسائل التبليغ.. والوسائل الجديدة ونستفيد من التكنيك والتقنية الموجودة في العالم. والاهتمام بشخصية النبي الأكرم لا يجب ان يقتصر على الجمهورية الإسلامية وحدها، بل ينبغي ان يشمل العالم الإسلامي(93).
(3)
كثيرون في الدنيا، أولئك الذين إذا عرفوا عن نبي الإسلام، ما يعرفه المسلمون عنه ـ أو حتى أقل من ذلك ـ تتغيّر عقائدهم ويمكن ضمان ميلهم إلى الإسلام وإلى عالم المعنى في هذا الدين.. في الواقع لو أشرقت لمحة من هذه الشخصية النورانية على قلوب أولئك لمالوا إلى الإسلام.
علينا ان نشتغل على هذه المسألة كثيراً.. وربما كانت أفضل وسيلة للدعوة إلى الإسلام هو ان نبيِّن للآخرين شخصية نبي الإسلام..
يحسن بنا في هذا المضمار ان نستبق الآخرين، فقبل ان يدخل الآخرون الساحة لتشويه شخصية نبي الإسلام في أذهان من لا يعرفه من أبناء البشرية، مستفيدين في ذلك من مناهجهم الثقافية المعقدة ومتوسلين بالوسائل الفنية والأدبية، على مسلمي العالم ان يبادروا إلى ذلك، فيدخل الأُدباء والفنانون الميدان ليجلّوا ابعاد هذه الشخصية العظيمة الكريمة بمختلف وسائل الدعوة والبيان، وينتجوا أعمالاً ثقافية فنية وأدبية وتبليغية(94).
(4)
الفن هو أمر يستفيد منه كل ذي شعور في العالم.. بل يمكن أن يقال بأنه ليس هناك عاقل لا يريد ان يستفيد من الفن والأدب، لذلك سيكون طبيعياً ان يستفيد منه ذوو الفكر المنحرف وأهل الأهواء.
من سُبل الاستفادة وضروبها ان يبادر ذوو الفكر المنحرف لصبّ ما يرومون إليه ويبغون ايصاله إلى ذهن الناس بوسائل فنية وقوالب أدبية.. وأهل الفكر المنحرف يستفيدون من الفن وتوظيفه، كمثل افادتهم من المال والسلاح.
لا يمكن الحيلولة دون أولئك وما يصبون إليه من توظيف الفن والافادة منه، ولكن يمكن أن نضع ـ هذه الوسائل وأدوات التعبير ـ بقوة في خدمة الفكر المقدّس والسليم.
وإذا قدّر للفكر العالي المقدّس وأن عجز عن توظيف الأدب وهدر هذا الرصيد فسيبقى متخلفاً. على سبيل المثال إذا قرّر إنسان فاسد ان يقوم بجريمة في نقطة من نقاط العالم، كأن ينفذ سرقة أو يقتل مجموعة من الناس، فسيستفيد من السيارة أو طائرة «جت»، وإذا أريد الحيلولة بينه وبين جريمته، فلابدَّ من الاستفادة من الطائرة أيضاً لبلوغ المكان المقصود قبله، أو الوصول إليه بوقت واحد. فالافادة هنا من الطائرة أو السيارة هو شرط لدرء الخطر وعدم التخلف. وهذه المسألة بدرجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بحث. وجميع كلامي انطلق من التأكيد على هذا الجانب الماثل بالافادة من نفس وسائل العدو لاستباقه ودرء خطره وإلاّ بقي الإنسان متخلفاً عن اللحوق(95).
(5)
آمل ان تقُطع أيادي الكفار والمستكبرين عن المجتمعات الإسلامية ببركة الاستقامة وبفضل وعي المسلمين، لاسيّما العلماء.. المفكرين.. المثقفين.. الكتاب.. الشعراء.. الأُدباء والفنانين في مختلف بلاد المسلمين. كما آمل ان تعود للمجتمعات الإسلامية العزة التي قدّرها اللّه لها، انه ولي التوفيق(96).
(6)
على المسلمين في جميع أنحاء العالم ان يلتزموا جانب الحذر واليقظة الكاملة ازاء مخططات الأعداء لاضعاف الإسلام والاساءة إليه، وعليهم بالذات ان يلتزموا جانب اليقظة والحذر فيما يتعلق بالتآمر الثقافي المضاد الذي يعكس نفسه في ممارسات من قبيل تأليف الكتب.. انتاج الأفلام والتمثيليات المنافية للقيم الإسلامية.
ولا ريب انَّ المسؤولية الأساسية تنصرف في هذا المضمار إلى الكتّاب والأُدباء والفنانين الذين تنبض قلوبهم من أجل الإسلام، وهم على وعي بمقدار الحقد والبغض اللذين تحملهما الأجهزة الاستكبارية للإسلام والمسلمين. فهؤلاء هم الخندق الأصيل في خط المواجهة، وعليهم تقع المسؤولية العامة في تهيئة المقالات والكتب والآثار الفنية التي تبيِّن الإسلام وتدعو إليه، وتكشف عن مؤامرات الأعداء، وتُدافع عن حقوق مسلمي العالم.
بديهي انَّ المسؤولية العامة على الجميع واضحة ازاء ما تتعرض له المقدسات الإسلامية من إهانة.. وحكم الإمام الراحل القاضي بوجوب قتل الكاتب المرتد التافه مؤلف «الآيات الشيطانية» يوضح ما ينبغي ان يكون عليه تكليف الجميع في المواطن المشابهة. وأما حكم إمام الأُمة ازاء هذا الكاتب السيء الحظ، فهو باق بقوته، وعليه أن يرقب تنفيذ الحكم في اللحظة المقدّرة.
على المسلمين ان يوظفوا الاجتماعات الكبيرة، بالذات اجتماع الحج العظيم، ويستفيدوا منها في اعلان معارضتهم للمؤامرة الثقافية التي يمارسها الاستكبار ضدّ الإسلام، وعليهم ان يستثمروا هذه التجمعات إلى أقصى حد ممكن في التعبير عن وموقفهم الحاس ازاء ذلك.
إنّي على اطمئنان انَّ مواقف المسلمين الغيورين ستكون حازمة ازاء ما سيتعرض له الإسلام على هذا الصعيد، تماماً كما كان موقفهم حاسماً في الاستجابة لنداء إمام الأُمة، أعلى اللّه كلمته(97).
3 ـ اتفاق المسلمين ووحدة كلمتهم
(1)
كان من طليعة أهداف الاستعمار أوائل نفوذه في البلاد الشرقية والإسلامية هو ايقاع الفرقة بين المسلمين. لقد سلك وسائل مختلفة في ايجاد الفرقة بين الأُخوة المسلمين في الأقطار الإسلامية، بدءاً من ترسيخ المشاعر الوطنية وإذكاء دوافعها على نحو غير طبيعي (متطرف)، وانتهاءاً بتسعير نار الاختلافات المذهبية وغيرها.
بديهي انَّ دور الأنظمة الفاسدة التابعة للاستعمار، كان كبيراً جداً ومؤثراً إلى أبلغ حد في اذكاء هذه الفرقة.
إنّنا اليوم نشكل مجموعة تصل إلى المليار مسلم، وهي تعيش في مختلف النقاط الاستراتيجية والحساسة في العالم، وتتوزع في مناطق تراكم الثروات التي يحتاج إليها العالم. بيد اننا نلاحظ انَّ المسلمين يعيشون مع ذلك أوضاعاً غير طبيعية على الصعيد الاجتماعي والسياسي دون المستوى المطلوب، سواء في البلاد التي يشكل المسلمون فيها الأكثرية الغالبة، أو في البلاد التي يعيشون فيها كأقلية. يحصل ذلك في الوقت الذي يحث فيه الإسلام والقرآن المسلمين ويسوقهم نحو بلوغ أنواع الكمالات البشرية، ويدفعهم إلى العلم والفضائل الأخلاقية والعدالة الاجتماعية والعزة والقوة والاتفاق والوحدة وعدم الاستسلام أمام الضغوطات، وأمثال ذلك مما إذا عملت به أمة من الأمم فانها لن ترضى ان تعيش بمثل الوضع الذي يعيش فيه المسلمون اليوم.
يتضح إذاً انَّ الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم في العالم الإسلامي وفي مختلف أنحاء العالم، هو وضع غير طبيعي، كما انه لم يظهر نتيجة الصدفة، وانما فرض على المسلمين.
منذ اليوم الأول الذي انطلقت فيه النهضة في إيران بقيادة إمامنا الكبير (الإمام الخميني) كان في طليعة الأهداف الأصيلة التي تدعو إليها هي وحدة المسلمين في أنحاء العالم، وقطع دابر القوى الظالمة عن ديار المسلمين. ولازال هذا الهدف هو رسالة ثورتنا.
دأبت أجهزة الدعاية الصهيونية على اثارة الضجيج حولنا وهي تنسبنا إلى الأصولية. والأصولية إذا كانت بمعنى العودة إلى الأصول والقواعد الإسلامية الأساسية، فهي تُعد من أعظم مفاخرنا. وعلى المسلمين في أي مكان من العالم ان لا يخشوا من اسم الأصولية أو يتجنبوه؛ ذلك انَّ أصول الإسلام المقدسة هي ضمان لسعادة الإنسان.
لقد دأب الاستعمار على تضعيف ارتباطنا الحياتي بالأصول، لذلك نحن نفخر بالعودة إلى أصول الإسلام والقرآن(98).
(2)
حين ننظر إلى الساحة العالمية نحسّ ان هناك حركة إسلامية عظيمة تتنامى وتقوى على الأيام. فالمسار الزماني (العصر) يتحرك صوب القيم الإسلامية والمعنوية، ومسلمو العالم استيقظوا ولازالت اليقظة تزداد، سواء أذعن الجبابرة المستكبرون لذلك أم لم يذعنوا، وسواء رضيت أمريكا أم لم ترض. فهذه هي الحقيقة التي تقع في عالم اليوم. لذلك علينا ان نرصد أخطار هذه المرحلة.
على مدى قرون ترك المستبدون والمستعمرون والحكومات التابعة وأعداء الإسلام، المسلمين في ذل وضعف. وحيث تتحرك القافلة باتجاه عزة المسلمين ويقظتهم علينا أن نكون على ثقة بانَّ الأعداء سينصبون كمائن خطيرة في الطريق، علينا ان نكون منها على حذر. واحدة من هذه الأخطار هي اختلاف الكلمة بين المسلمين.. الاختلاف بين الطوائف والمذاهب الإسلامية.. والاختلاف بين القوميات التي يتشكل منها المسلمون.
هل توجد في دنيا المسلمين بقعة تخلو من أيادي الخونة وسعيهم لايجاد الفرقة وبث الاختلاف؟ وهل يوجد في العالم الإسلامي مكان لم توظّف فيه العقول الاستكبارية النتنة، البسطاء والضعاف لخدمة أهدافها؟
هدفنا القريب وخطوتنا الكبرى التي علينا ان نخطوها تتمثل بايجاد الوحدة بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، وبين مختلف جماعات المسلمين. بيدَ انَّ البعض اختار ان تكون رسالته هي ضرب طريق العزة الإسلامية من خلال ايجاد الفرقة.
علينا ان نتعرف على هؤلاء ونواجههم بذكاء وحكمة.
لو انتبه المسلمون، واعتبروا عزتهم من عزة الإسلام، وقوتهم بقوته، فلاريب ان هذه الحركة ستنجح في بلوغ أهدافها(99).
(3)
إذا أُريد للقيم الإسلامية ان تتجسّد في العالم بصيغة نظام قيمي متكامل يمكن عرضه على الآخرين، يكون بمقدوره ان يجذب القلوب وان يغيّر حياة المسلمين، فانَّ مثل هذا الهدف لا يمكن بلوغه من دون وحدة المسلمين. وهذه الوحدة لن تكون ممكنة والمسلمون موزعون فرقة فرقة، تأتلفهم أواصر العداء والنزاع الفرقي.
بديهي اننا لا نقول للفرق والمذاهب الإسلامية، اتركوا عقائدكم المذهبية الخاصة، واقبلوا عقائد الفرق الأُخرى، وانما دعوتنا للمسلمين جميعاً هي ان يلتقوا على المشتركات؛ فالعناصر المشتركة بين فرق المسلمين ومذاهبهم أكثر، وهي أهم وأمضى من عوامل الفرقة والاختلاف.
انَّ العدو يعتمد على نقاط الاختلاف، في حين علينا ان نعتمد على عناصر الاتفاق والعوامل المشتركة، لكي لا نعطي العدو الفرصة ولا نمنحه الذريعة من فرقتنا كي يمارس ضغطه على كيان الأمة الإسلامية.
من حسن الحظ استطعنا ان نحل هذه المشكلة ونتجاوزها في إيران. وفي بقاع مختلفة من العالم الإسلامي، استطاع الكثير من اخوتنا حل هذه المشكلة وتجاوزها، أو انهم اقتربوا نحو الحل. بيدَ انَّ العدو لم ييأس بعد، فالاستعمار اشتغل على قضية الفرقة مُنذ بداية نفوذه إلى بلاد المسلمين قبل 150 ـ 200 سنة.
علينا ان نلتزم جانب الحذر. وعلى الشيعة والسنّة ان يعتبروا أنفسهم مسؤولين ازاء قضية تقريب الفرق الإسلامية إلى بعضها بعض، وان يكونوا حرّاس المحبة وحماتها، وان يتعاضدوا بالأُخوة ويبذلوا المساعي في هذا السبيل(100).
(4)
ان نقطة تمركز المسلمين، هي نفسها المنطقة الفاصلة بين الشرق والغرب والتي تحتل موقع الوسط في العالم. فالمسلمون يعيشون في منطقة هي أكثر حساسية بين بقاع العالم من الوجهة الاستراتيجية.. اللوجستيكية.. الموقع الجغرافي.. الموقع الاقليمي.. المناخ ومصادر المياه. ومن الوجهة الحضارية، فانَّ هذه المنطقة هي موئل جميع الحضارات القديمة التي بزغت في دنيا الناس، فأعمق الثقافات هي تلك التي انبثقت من الموقع الذي يعيش فيه المسلمون. وفي حين كان العالم الآخر يعيش الوحشية، كانت شعوب هذه البقعة تدير العالم بعلمها وبما تبثه من معارف.
الشعوب الإسلامية على هذه البقعة تحمل مزايا من قبيل التجمع العضوي للسكان.. اقتراب البلدان ومجاورتها بعضها لبعض.. تقارب الثقافة، علاوة على ان للمسلمين تواجداً في جميع أرجاء العالم.
أيّها المسلمون في العالم وفي أي مكان كنتم إذا لم تحاربوا بعضكم بضعاً، ولم تتعادوا، بل إذا تحاببتم فيما بينكم بدلاً من التباغض، وعرفتم أعداءكم، فانَّ حياتكم ستختلف عما هي عليه الآن من تشتت وضعف وتخلّف هذه هي دعوتنا.
ان البلاد الإسلامية تعاني اليوم في الأغلب من الفقر والتبعية، وأعداء الإسلام يسعون لاخراج الإسلام من الميدان في هذه البلدان والدفع بها إلى الهامش.
أبناء الأمة من المسلمين تعيش قلوبهم للإسلام وتنبض للّه. بيد انَّ القوى الكبرى تحاول عبر الأنظمة التابعة ان تبعد الشعوب عن الإسلام وتزوي به بعيداً. وإذا قدّر للمسلمين ان ينبذوا الفرقة والشحناء والتباغض فيما بينهم، ولا يستهلكوا جهودهم في هذا السبيل، فسيكون بمقدورهم ان يحشدوا طاقاتهم على شكل سدّ منيع في مواجهتهم للسياسات والقوى الخارجية، وان يحققوا ما فيه نفعهم في دينهم ودنياهم.
طبيعي نحن لا نقول للسنّة اتركوا مذهبكم وتحولوا للتشيع، ولا نقول للشيعة تخلوا عن عقائدكم. فالإنسان السني، أو أي إنسان آخر ينبغي أن يعمل بمقتضى ما وصل إليه بعد البحث والتفتيش، وهو مكلّف أمام ربّه.
نداؤنا في أسبوع الوحدة ان يتحد المسلمون، وان لا يتعادوا.. وهذا نداء لا ضير فيه، يقبله الإنسان العاقل الذي يتسم بالانصاف، والخالي عن الغرض. ومحور هذه الوحدة هو كتاب اللّه، وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم والشريعة الإسلامية.
ومثل هذه الدعوة كان لها وجود، وان لم يكن مكثفاً، قبل الثورة بسنوات، إلا انَّ الأجهزة المرتبطة بالاستكبار العالمي كانت تعارضها.
وحين انتصرت الثورة الإسلامية، أحسّ مستكبرو العالم ان حديث الوحدة والدعوة إلى اتحاد المسلمين لو عمّا المسلمين وراجا بينهم، فان أنظار المسلمين ستنعطف نحو القاعدة والمركز.. صوب أم القرى في العالم الإسلامي.. نحو إيران المسلمة. لذلك انفقت الدول الرجعية والمرتبطون بالاستكبار أموالاً كثيرة لبث الفرقة، كي لا تسود الوحدة في مختلف البلدان الإسلامية، سواء العربية أو الناطقة بالاردو، أو حتى داخل كل بلد اسلامي على حدة، ولكي يحولوا دون نفوذ رسالة الثورة ورسالة الإسلام(101).
(5)
ينبغي ان تتلاقى قلوب أبناء الأُمة الإسلامية الكبيرة وتتقارب يوماً بعد آخر. ويجب ان لا تترك الفرصة لأدوات الفرقة والاختلاف التي فرضها الأعداء وبثوها بين الشعوب الإسلامية ان تأخذ مداها وتكون لها الفاعلية في جو مفعم بالوعي كالجو الذي يعيشه المسلمون اليوم.
ثم إنَّ على المسلمين ان يكونوا رغم اختلاف اللغات وتباعد المناطق الجغرافية والتنوّع الاثني والقومي، قلباً واحداً، يتحدثون بلسان واحد، ويلتقون على تفكير واحد منسجم، وأن يتحركوا ـ ان شاء اللّه ـ صوب الأهداف الإسلامية الكبيرة(102).
(6)
علينا ان نعتني اليوم بوحدة المسلمين أكثر من أي وقت مضى، ولكن لماذا؟ لأنَّ الفرقة وبث الاختلاف هُما طريقان من بين الطرق التي اعتمدها الأعداء في النفوذ إلى المجتمعات الإسلامية. وكان لهم وسائل مختلفة في ايجاد الفرقة، بعضها بعيد الأمد (استراتيجي). من قبيل اصطناع «مذهب استعماري» يبغي بث أسباب الفرقة بين المؤمنين والمسلمين على المدى البعيد ـ مائة سنة أو مائتين وحتى خمسمائة سنة ـ ويكون بمثابة الجرح الراكز في الجسم الإسلامي؛ عصي على الالتئام. مثل هذه المذاهب المصطنعة، والمذهب الوهابي من بينها، تهدف إلى ايجاد الفرقة بين المسلمين.
لقد وظّف الاستعمار هذه الخلافات واستغلها في دنيا المسلمين باشكال مختلفة، وإذا قُدِّر ـ لنا ـ ان نرصد تأريخ عمل الاستعمار في هذا المجال فانَّ الحصيلة ستقع في كتاب.
تمتد خلفية هذه المسألة إلى ما بين 80 ـ 100 سنة مضت، وانا(*) على وعي بالقضية، عارف بتفاصيل بعض نماذجها التي حدثت قبل مائة سنة أو أكثر، واستخدمت فيها حربة الوهابية، أو بالعكس.. استخدمت فيها حربة الاتهام بالوهابية، لايجاد الفرقة وترسيخها. لذلك علينا ان نكون بمنتهى الحذر.
يستخدم العدو إذاً وسائل مختلفة لايجاد الفرقة بين المجتمعات الإسلامية وبث عوامل الاختلاف فيما بينها.
لذلك كلّه يعتبر اتحاد المسلمين اليوم وتلاقي القلوب فيما بينها، شرطاً أساسياً لاعلاء كلمة الإسلام. نعم، إذا كان الإنسان لا يرغب بعلو كلمة الإسلام، فشأنه.. لا يجب عليه تحقيق هذا الشرط. أمّا إذا صدق أتباع القرآن والإسلام، من أية فرقة ومذهب كانوا، وعاشوا لوعة صادقة من أجل ان يبقى الإسلام عزيزاً والقرآن منيفاً سامياً ـ في دورة القيمومة على الحياة ـ فعليهم ان يعوا تماماً أنَّ تلك الصرخات، والأقلام المأجورة، والأموال الحرام التي تغدقها بعض البلدان من أجل بث الفرقة، انما يراد منها ان يبقى الإسلام منكفئاً، وهي التي تحول دون عزته.
وهذه الممارسات، هي من عمل العدو(103).
(7)
نحن جادون في قضية الوحدة، وقد بيّنا الذي نعنيه من اتحاد المسلمين. فاتحاد المسلمين لا يعني بنظرنا انصرافهم عن عقائدهم الكلامية والفقهية الخاصة، وانما يتأمن الهدف الذي نقصده لاتحاد المسلمين بالمعنيين التاليين:
المعنى الأول: ان يكون المسلمون يداً واحدة على أعداء الإسلام.. يتلاقون على كلمة واحدة وقلب واحد في مواجهة العدو، لا فرق في ذلك بين مذاهبهم سنية أم شيعية؛ واتجاهاتهم الكلامية والفقهية.
المعنى الثاني: ان تتحرك الفرق الإسلامية المختلفة للتقرب إلى بعضها بعض، بايجاد أرضية للتفاهم، بحيث تتقارب الرؤى الفقهية وتتطابق مع بعضها بعد الدرس والمقارنة. ففي هذا المجال ثمَّ الكثير من فتاوى الفقهاء إذا خضعت للبحث الفقهي العلمي يمكن ان تقود بتغيير ضئيل، إلى تقارب فتاوى مذهبين من المذاهب(104).
(8)
واحدة من المسائل المهمة في عصرنا، هي مسألة الاختلاف بين فرق المسلمين. بديهي انَّ هذه المسألة ليست جديدة في دنيا المسلمين، وانما عرف المسلمون النزاع والتخاصم حول المسائل الكلامية والفقهية منذ القرن الأول، ولم يغب الاختلاف الفرقي منذ ذلك الوقت.
بيد انَّ الذي حصل بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران واتساع دائرة نفوذها الفكري في آفاق العالم الإسلامي، هو ان الاستكبار سعى ـ في أحد وسائله لمواجهة المدّ الإسلامي ـ أن يظهر الثورة الإسلامية من جهة بأنّها مجرد حركة شيعية بالمعنى المذهبي الضيّق ـ وليس بالمعنى الإسلامي العام ـ وسعى من جهة ثانية سعياً بليغاً لالقاء عصى الفرقة والنفاق بين الشيعة والسنة.
وبازاء هذا المكر الشيطاني كنّا نصرّ منذ البداية على وحدة جميع فرق المسلمين، وحاولنا ان نطفئ هذه الفتنة. وقد كان حظنا في هذا السبيل وافراً ـ بحمد اللّه وفضله ـ حيث ظهرت آخر تجليات هذا التوفيق بتأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. والذي نلمسه الآن في جميع العالم الإسلامي هو تبادر العلماء.. المثقفين.. الشعراء.. الكتّاب، وعامة الناس من جميع المذاهب الإسلامية لنصرة الثورة الإسلامية بقلب واحد وهمة واحدة والدفاع عن الجمهورية الإسلامية انطلاقاً من هذا الموقع.
ولكن العدو مجهّز بالمال والخطط الدعائية المضادة، وبالخبث، لذلك تراه يبذل مساعيه في بعض المناطق من العالم، ليكسب الى صفه أفراداً يغويهم بالمال أو يستغل غفلتهم وجهلهم، فيسيطر على عقولهم وألسنتهم.
لذلك نسمع بين فترة وأُخرى سياسياً في بلد ما وآخر يتلبّس بزي العلماء أو يتظاهر بالثورية يحمل على الشيعة بالقلم أو باللسان ويشنّع عليهم باقذع الكلام، ويتحامل على الشعب الإيراني الذي قام بأكبر ثورة معاصرة، وحافظ عليها بشكل أثار دهشة الآخرين وعجبهم
وقد يشتري العدو الذمم بالدولار كما يفعل في باكستان المسلمة، الذي يعدّ شعبها من أعز الشعوب علينا، وهو دائماً في خطّ الدفاع الأول عن الإسلام والجمهورية الإسلامية، ويدير هناك الاجتماعات التي تتحرك في خط العداء للإسلام والوحدة الإسلامية، فتؤلف الكتب وتُحاك المقالات ضدَّ الشيعة والتشيع، وبالتحامل على المقدسات وعلى أهل بيت رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
إنّنا ننزّه الشعوب والعلماء الصالحين عن هذه الممارسات، التي نعتقد انها تدخل في حساب أمريكا وأياديها ومرتزقتها.
ومع تنزيهنا للشعوب والعلماء الصالحين، واعتقادنا بأنَّ أمريكا وأياديها يقفون خلف المشهد، إلا اننا نعتقد انَّ هذه الممارسة هي من بين القضايا التي تحتاج إلى وعي المسلمين ونباهتهم في علاجها، لكي لا نعطي الفرصة لهجوم أعداء الإسلام(105).
(9)
على المسلمين ان يكونوا حذرين لا تخدعهم الحيل الدعائية للعدو؛ ان وحدتنا وتلاقي قلوبنا وانسجامنا هي ما تستهدفه أمواجهم المعادية. ينبغي ان لا نسمح للاختلاف ان يدبّ بيننا بذريعة التعدّد المذهبي وتنوّع الفرق.. ويجب ان لا تُترك الفرصة لضغوطات الاستكبار المقترنة بالوعود ان تفت الارادات وتصيبنا بالضعف.. كما لا ينبغي السماح لذلك النفر البعيد عن الإسلام أن يبادروا لبيان حلال اللّه وحرامه، ويخوضوا في تفسير آيات اللّه بلا طائل، ويشرحوا الإسلام ويبينوا المراد منه بشكل منحرف، خلافاً لدعوة الإسلام ورسالته وبعيداً عن أهداف القرآن.
إذا تمّ الالتزام بهذه الجوانب ـ وسيتم ذلك ـ فسيكون بمقدور الإسلام ان يمدّ رايته لانقاذ البشر في بقعة عظيمة من العالم(106).
(10)
ان كلّ ما يقع بنفع الإسلام اليوم، يكون مبغوضاً من أعدائه، وكل ما يُساهم في تعزيز عظمة الإسلام ومجده، يكون مداراً لهجوم أعداء الإسلام أكثر مما سواه. هذه قضية كليّة.
يمكن الاستشهاد بمسألة الوحدة كمصداق دال على هذه القاعدة الكلية. فإذا كان اتحاد المسلمين مع بعضهم في العالم، هو أمر ضروري، وإذا كان الاتحاد ينفع الإسلام والمسلمين ـ وليس ثمَّ منيشك من عقلاء العالم الإسلامي ومصلحيه بهذه المسألة ـ فعلينا أن نكون على ثقة ان مؤامرات الأعداء التي تستهدف هذه الوحدة، ستكون اليوم أكثر من أي وقت مضى(107).
(11)
تبُذل اليوم جهود مضاعفة للحيلولة دون وحدة المسلمين، ولدفعهم للعمل ضدَّ بعضهم بعضاً. ومع هذه الجهود المعادية تزداد حاجة المسلمين للوحدة الآن أكثر من أي وقت مضى. وهدف الأعداء من هذه المساعي هو الحؤول دون تحقق حاكمية الإسلام وسيادته، هذه الحاكمية التي أضحت قريبة من مراحلها العملية. والشيء الطبيعي أنّ حاكمية الإسلام ورغبة المسلمين في التمسك بالإسلام لا يمكن ان يتحققا في ظل الاختلافات القائمة.
إنّ من أفجع العقبات التي تحول بين حاكمية الإسلام وسيادته، هي هذه الخلافات التي تصرف المجتمعات الإسلامية لخوض معركة داخلية فيما بينها، سواء أكان ذلك على مستوى البلد الإسلامي الواحد، أم على مستوى عدد من البلدان.
فلو قدّر وأن هاجمت منشورات وصحافة احدى البلدان الإسلامية مذهباً من مذاهب الإسلام في بلد آخر، فستبادر منشورات وصحافة البلد المهاجَم لشن هجوم اعلامي مضاد على البلد المهاجِم. ومعنى ذلك ان معارك السياسة أقحمت في المجال الفكري والمذهبي والديني، وأخذت معركة التناحر والتقاتل بين المجموعات المختلفة، تأخذ من الفكر الديني والتعصب الديني غطاءاً لها.
وهذه من أكبر الموانع التي تحول دون تجسيد المسلمين عملياً لقضية سيادة الإسلام.
يتضح مما مرَّ انَّ قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية تشكل اليوم هدفاً عاجلاً وإلهياً، وهي مسألة حياتية مصيرية يجب السعي لتحقيقها. وهذا الفراغ الذي نواجهه في عصرنا الراهن يستدعي ان نملأه أكثر من أي زمان آخر. وما أسعد الإنسان الذي يستطيع ان يملأ فراغات عصره ويدرك احتياجات لحظته ويلبّيها.
بعض الأعمال لها لحظة خاصة، فإذا نفّذت في لحظتها أصبحت مفيدة، أمّا إذا تُخلّف عنها عند تلك اللحظة، فلا يكون لها مثل تلك الفائدة(108).
(12)
السادة العلماء، إذا أردنا ان ندافع عن الإسلام الذي أضحى له في دنيا السياسة المعاصرة كل هذه القوة، فان على كل جماعة مسؤولية ينبغي ان تنهض بها. فوظيفتنا نحن المعممين، ان نسوق حركة المجتمع صوب المعنوية وعالم المعنى.. المعنوية المنطقية الصادقة.
ينبغي ان لا يرشح شيء عن حملة راية الدين يُنبئ عن الابتعاد عن المعنوية، وإلا عاد ذلك بالضرر على مسار الحركة نحو المعنوية وعالم المعنى.
وإذا ترشحت في النهج العملي لحملة راية الدين قضايا من قبيل العلاقة بالدنيا وزخارفها، وعبادة الذات وتضخيم (الأنا)، والنزاع على أمور الدنيا، فانَّ ذلك سيعود بالضرر على المسار.
اوربا اليوم تتحرك نحو الدين وعالم المعنى.. فها هي الكنائس والقسس والآداب الدينية تعود للظهور في بلدان لم تكن تعرف هذه الممارسات في فترة تراوحت بين 30 ـ 50 سنة، باختلاف البلدان، وهي تكتسب هناك اتجاهاً عاماً بين الناس.
والترقب المنطقي يملي على الفكر الإسلامي ان يكون هو المنقذ في تأمين الرصيد المعنوي (الذي تحتاج إليه الإنسانية) ويجب ان تبذل المساعي أكثر في هذا الاتجاه ان شاء اللّه.
والشرط الأساس لذلك هو الاتحاد ووحدة الكلمة سواء على مستوى العالم الإسلامي حيث يتمثل الجهد بحذف الاتجاهات الوطنية والقومية المتعصبة؛ عربية وفارسية وتركية وتجاوز نزعاتها التجزيئية. أم تمثل ذلك على مستوى الاختلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، وفيما يبرز من اختلافات فيما بين فرق السنة واتجاهاتهم، وفرق الشيعة واتجاهاتهم.
ينبغي ان نتكئ على نقاط الاشتراك، وتبقى نقاط الاختلاف أيضاً، ذلك انَّ الاختلاف لا يعنى في جميع الحالات التخاصم والتنازع. فمن اشكال الاختلاف التي لا تبعث على التخاصم، ان يتبع أحدهم فقهاً معيناً ويتبع الآخر فقهاً آخر، أو أن يقوم بعضهم باتباع منهج كلامي معين، فيما يقوم الآخرون باتباع مذاق ونهج آخر.
العصر الراهن لم يعد شبيهاً بما كان في عصر بني العباس ـ مثلاً ـ حيث احتدم الصراع بين الاتجاهات الكلامية المختلفة، من قبيل الحروب التي انبثقت بين الأشاعرة والمعتزلة، أو الصراع المذهبي الذي حصل في الإسلام بين الشيعة والسنة. ينبغي ان يكون المسلمون اليوم يداً واحدة(109).
4ـ تصدير الثورة معناه بث الثقافة الإسلامية الأصيلة
(1)
مع انتصار الثورة الإسلامية، انبثقت حركة لم تنته بنهاية الحرب، ولم تتوقف بوفاة الإمام ـ رضوان اللّه عليه ـ كما انها لا تنتهي بوقوع الحوادث المختلفة. هذه الحركة ما زالت مستمرة ونحن بعد في وسط الطريق. وإذا أراد اللّه (سبحانه) فسنرى وقائع ومراحل مختلفة وسنشهد أشياء كبيرة تقع في المستقبل.
التأريخ في طور التحوّل، وأنا وأنتم نعاصر احدى المنعطفات المهمة في حركة التأريخ، والمنعطفات تطوى في سنوات متمادية. ولكن يحصل في حركة التأريخ أحياناً، ان عمر جيل كامل أو جيلين يكون معادلاً للحظة واحدة (كناية عن سرعة التحولات التأريخية) ونحن اليوم نعاصر أحد أهم هذه المنعطفات الأساسية، ونعيش في نقطة التغيّر.
إذا أردنا ان نعود القهقرى إلى عصر النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لرأينا ذلك العصر قد شهد مثيلاً لهذه التحولات الأساسية والسريعة، وذلك برغم انَّ الذين كانوا يعيشون الحدث عن قرب ويتماشون معه، لم يكونوا يدركوا ـ باستثناء ثلة من الأذكياء ـ قيمة أعمالهم وآثارها والطبيعة التي تكتنهها هذه الأعمال. ولكن بمقدوركم اليوم ان تدركوا جيداً طبيعة الحركة التي انجزت في عصر صدر الإسلام، وجوهر الملحمة التأريخية التي كانت تُصنع.
بديهي، هذا الكلام لا يعني مقارنة ما يجري في العصور الأُخرى، مع ما كان قد جرى في العصر النبوي الوضّاء. وانما يعنينا ان نؤكد اننا اليوم صنّاع مرحلة تحوّل في التأريخ، بل من الأحسن أن نقول انَّ العالم اليوم على مشارف تحوّل ومنعطف تأريخي كالذي حصل في ذلك العصر.
المعاصرون لتلك المرحلة لم يكونوا يصدقون عمق التحوّل وأهميته، وعليكم ان لا تظنّوا بأنَّ القوى المتسلطة على العالم آنئذ كانت ترى نفسها وقوتها، بأقل مما ترى أمريكا نفسها اليوم. أبداً، كانت تلك القوى تعيش الاحساس بالقوة كما تعيشها القوى المعاصرة.
انتبهوا إلى طبيعة تعامل أولئك مع الأنبياء.. ماذا كانوا يقولون لهم.. وانظروا مقدار الاحتقار الذي كانت تحمله تلك الحضارات (البائدة) لمن يبشر بدعوة تختلف مع أهوائهم وانحرافاتهم.
الآيات الكريمة الآتية تحدثنا عن مثلٍ لما جرى لثلاثة من الرسل بعثوا إلى أهل انطاكية. يقول تعالى: «واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا انا إليكم مرسلون» (يس/13 ـ 14) لم تكن الرسالة التي يحلمها الخطاب النبوي موجهة لأُناس مستضعفين من سكّان الجبال أو أهل الغارات، بل كان مخاطب الرُسُل الكرام، الامبراطورية الرومية، بكل ابهتها وجلالها ومالها من آثار تأريخية عظيمة. قالت رسل اللّه لهؤلاء: «إنّا إليكم مرسلون». وهذه تُعدّ كلمة في البيان القرآني المبني على الايجاز، بيدَ انَّ المهمة لم تكن بهذه البساطة؛ أي انَّ رسل اللّه الثلاثة لم يجمعوا أهل انطاكية ويخطبوهم في مكان واحد، بقول اللّه تعالى: «انا إليكم مرسلون». نستطيع ان ننعطف إلى مثال معاصر يقرّب الصورة. فقد حمل إمامنا العزيز خلال عشر سنوات رسالة الانقاذ ذاتها إلى البشرية، خاطب الإنسانية: أيتها البشرية الغافلة أيّها الإنسان المغلول بأسر عدد من الاستقطابات السياسية والصناعية في العالم أيتها الشعوب المستضعفة المحتقرة جئنا نتحدّث إليك، نحمل لك كلمة الحق ورسالة الانقاذ.
لقد دأب الإمام الخميني الراحل على قولها عشر سنوات: «إنّا إليكم مرسلون». وربما كان أنبياء اللّه، قد بلّغوا كلمتهم هذه طوال مدة.
ولكن ماذا كان الجواب؟ «قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلُنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلاّ تكذبون» (يس/15). كلمات استهانة وتكذيب واجهوا بها رسل اللّه.. ما هي رسالتكم، وما هو الجديد الذي تحملوه للبشرية؟ انكم كبقية خلق اللّه، ليس لكم خصوصية ولا لكلامكم، وقد قلتم الذي قلتموه من عندكم
النغمة تلك التي نكلم بها أولئك، تعود بما يقوله الآن أصحاب الرساميل الماديون، كما يتقولها حملة راية الدفاع عن الشعوب.. كلامهم نفس الكلام؛ «تشابهت قلوبهم».
أجاب أنبياء اللّه: «قالوا ربّنا يعلم انا إليكم لمرسلون وما علينا إلاّ البلاغ المبين» (يس/16 ـ 17).
قالت رسل اللّه: ارجعوا إلى ضمائركم.. إلى أديانكم.. إلى علمائكم الصالحين إن وجدوا.. نريد أن نبث إليكم كلمة الهدى التي نحملها.. نحمل إليكم رسالة.. لنا معكم كلام، لا ينبغي ان ندور أطراف العالم، انما نريد ان نخلق الدافع لديكم.
ان تصدير فكر الثورة وثقافتها هو الشيء الذي يخشاه العدو ويخاف منه أكثر من أي شيء آخر. وكلما تحدّث الطرف الأول عن البلاغ المبين، تتنمر الجبهة المقابلة وتتجاوز هذه المرّة مستوى الردع بالكلام التافه إلى الردع بالأذى وانزال العذاب.
«قالوا انا تطيّرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منّا عذاب أليم» (يس/18). لم يقتصر الموقف المعادي لجبهة الأنبياء، على الضحك واثارة السخرية، بل اصطفت القوى المعادية وتلاقت في جبهة واحدة.. توعدوا الرسل الكرام ان يكفوا عن رسالة الهدى التي يحملونها.. فرسالتهم كما يزعم أولئك هي بضرر البشرية، وعليهم ان ينفضوا أيديهم عن تبليغها، وإلاّ سيكون العذاب الأليم بانتظارهم.
لم يترك رسل اللّه الساحة، بل واجهوا الموقف، «قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون» (يس/19).
هذه قاعدة مطّردة، كانت وما تزال وستبقى، فقد وقف طلاب الدنيا وأهلها في مواجهة حركة النبوة، وواجهوا الأنبياء بقسوة، وعاملوهم بعنف.. بقلوب باردة. ولكن كانت الهزيمة في نهاية المآل هي من نصيب الجبهة المستكبرة دائماً وفي جميع المواطن.
التأريخ يتكامل يوماً بعد آخر، وهذا هو التفسير الإلهي للتاريخ ولتكامل التاريخ.
الماركسيون الغافلون الذين بلعوا الطعم، ومرروا على أنفسهم الفهم المنحرف، فعادوا يفسرون التكامل على أساس التعقيد، فذهبوا إلى انَّ المجتمع المتكامل هو المجتمع المعقد. فكلما كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والتقدم التكنلوجي (وسائل الانتاج) أكثر تعقيداً كلما أضحى المجتمع أكثر تكاملاً.
في حين يعني التكامل ـ في رؤيتنا ـ الادراك ألأفضل للمفاهيم العالية، وانتشار الاخلاق العالية، على مدى أوسع، بحيث يخطو ـ الإنسان والمجتمع ـ خطوة إلى الأمام نحو المعرفة الصحيحة.
لقد تقدمت البشرية تدريجياً على هذا المسار، إلى ان بلغت عصر نبوة النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا زالت تتحرك في هذا الاتجاه.
هل يمكن للعالم ان يبقى في الجهل؟ وهل يمكن أن تمكث الأكثرية الغالبة من بني الإنسان في الخبائث، وتكون بخدمة عتاة العصر وجبابرته مع أكثر الأدوات البشرية تقدماً؟ هل يمكن ان يستمر الحال على ما هو عليه؟
إنّنا نعيش على مشارف منعطف، وسنتقدم إلى الأمام. ولكن لذلك شرطه المتمثل بحاجة جبهة الحق إلى الثبات واليقظة والمقاومة، وان نخرج من دائرة مَنّ الآخرين، أي نخرج من التبعية، وهذه النقطة التي كان دائماً ما يؤكد عليها الإمام الراحل.
المجتمع الثوري الذي يقوم على أساس الحق، هو المجتمع الذي يستطيع ان يوفّر جماعة لا تقيم وزناً لزخارف الدنيا وبهارجها. وإذا توفرت لنا مثل هذه الجماعة، فانَّ التقدم أمر حتمي.
وبديهي انَّ هذا السير لا يكون إلاّ بتحمل المشاق. ولاريب أن ثمة قيمة للمشاق التي يتحملها الإنسان إذا كان نتيجة ذلك تقدم البشرية، وتحركها خطوة إلى الأمام.
إنّه الهدف نفسه الذي استشهد من أجله الإمام الحسين بن علي عليه السلام، ألم يكن بمقدور الإمام الحسين ان يؤثر السلامة ببقائه جالساً في داره؟(110).
(2)
نهضت الثورة الإسلامية في إيران على أساس الإسلام وقامت على أساس أُصول الشريعة والإسلام المحمدي. لذلك لا يمكن ان تحبس داخل الحدود وأن تكون خاصة بشعب أو بقومية معينة. وفي المقابل ليست المسألة انَّ الشعب الإيراني أو المسؤولين في البلد، يبغون تصدير ثورتهم بالوسائل العادية. وإنّما المسألة تكمن في موقع آخر، فحينما يلتقي المسلمون مع فكر إسلامي وإلهي، ومع رؤية جديدة تنطوي على ادارك صحيح للإسلام، فإنَّ فضاء العالم الإسلامي سيمتلأ بهذه الرؤية، وتعم فائدتها الجميع، بحيث يستفيد منها الجميع، في كل المواقع، كل بحسب ادراكه ومؤهلاته.
أمّا ما تبثه الأجهزة الدعائية الاستكبارية من سموم ضدّ الثورة، فهو ينطلق عادة من قبل أيادي الصهيونية والاستكبار، ولايمكن ان ننتظر من هؤلاء غير ذلك. وسبب ذلك ان مرتكزات الاعلام عند أُولئك تقوم على أساس الخداع والتزوير والكذب.
حدّة الرؤية إذن والعوامل الأُخرى المشار إليها، والفكر الصحيح الحر الموقظ المنبثق عنها والذي يستند إلى الإسلام، هي التي تفسّر لنا وجود المتعاطفين مع الثورة وفكرها والولهين بهما، في جميع آفاق العالم الإسلامي.
هل غادر أحد إيران وذهب إلى البلدان الأوربية أو الأفريقية أو إلى أقاصي أطراف آسيا، لكي يتحدّث عن فضائل الإمام الخميني، ويدعو إليه هناك، أو يبشر بفكر الثورة ويروّج له بالترغيب أو بالترهيب، حتى يمكن ان يكون ذلك سبباً في حركة التعاطف العظيمة التي أحاطت الإمام في حياته المباركة، وتفاعلت معه في مراسم العزاء بعد وفاته؟
الأُمة الإسلامية واحدة وهي منسجمة فيما بينها. طبيعي ان الاستكبار لا يرغب بحالة الانسجام، إلاّ انها موجودة.
حينما نتحدَّث عن الإسلام وعن أُصول الثورة الإسلامية وأهدافها، فانَّ مخاطبينا في ذلك هُم مسلموا العالم جميعاً، وعندما نتحدّث عن مواجهة الاستكبار العالمي والقوى الناهبة في العالم، فانَّ خطابنا ينصرف إلى جميع مستضعفي العالم.
هذه هي طبيعة رسالتنا، وهذا هو ما يعنيه الإسلام.
لقد أدرك الاستكبار هذا الأمر جيداً، وما يحمله لنا من العداء ولثورتنا وإمامنا يعود إلى هذا السبب. ولكن هذا هو الواقع الموجود، وهي غير قابلة للتفكيك(111). (أي تفكيك وحدة الخطاب إلى المسلمين والمستضعفين والرسالة التي تحملها الثورة على هذا الصعيد).
(3)
نهض مشروع الثورة الإسلامية باراءة نموذج جديد للحياة، بالنسبة للمجتمعات والبلدان، وسيبقى هذا النموذج جديداً لسنوات متمادية. وإذا استطعنا ان نعمل جيداً ربما امتد هذا النموذج ليكون مثالاً للمجتمعات البشرية على مدار قرون. والاستكبار يخشى هذه المسألة ويخاف منها.. وتخشاها أيضاً الشركات العالمية الناهبة للنفط والرأسماليون المستغلون.
انهم لا يخافون شيئاً عليه اسم الإسلام ولا يخالفونه إذا لم يهدّد منافعهم؛ فمن يخالف إسلاماً لا ينفي الظلم ولا يقف بوجه التمييز والقوى الشيطانية؟
إنّهم يعارضون إسلام «لا إله إلاّ اللّه».. الإسلام الذي يقف إلى صفّ الناس ويحامي عن الإنسانية، ويواجه الظلم والتجبّر والطغيان(112).
(4)
إنّ تصدير الثورة؛ بمعنى تصدير القيم الثورية، هو من واجبنا. وإذا لم نفعل ذلك فنحن مقصرون.. وتصدير الثورة بمعنى فضح المستبدين وظلاّم العالم، هو تكليف إلهي علينا؛ ينبغي ان نعمل به.
لقد أثبتت الجمهورية الإسلامية، والشعب الإيراني وإمامنا العزيز الذي تصاغرت الدنيا أمام عظمته، كم هي صغيرة القوى العالمية التي تكاتفت بأجمعها في مواجهتنا، للتأثير على عزم الإمام وارادته الصلبة التي هي من إرادة الأُمة.
هذا هو طريقنا(113).
(5)
لا يعنينا ان نحرّك الشعوب الأُخرى. نحن نرفع شعار الإسلام ونحمل رايته. وطبيعي ان تجتمع تحت لواء هذه الراية تلك القلوب المتأججة بشعلة الإسلام. هل ذهبنا إلى البوسنة والهرسك حتى نمارس الدعاية للجمهورية الإسلامية؟ لاحظوا كم هي عزيزة راية الجمهورية الإسلامية في ذلك الاقليم.
لاشكّ ان اسم شعب إيران يكون عزيزاً ومحترماً في أي مكان يمارس فيه شعب من الشعوب نهضته باسم الإسلام وينفتح عليه(114).
(6)
كم دخلت الأجهزة الدعائية العالمية في حرب عنيدة مع مقولة الإمام الفقيد: إننا سنصدّر ثورتنا إلى جميع العالم. في حين انَّ تصدير الثورة لم يكن يعني اننا ننهض من أماكننا ونذهب إلى هذا الجانب من العالم أو ذاك فنثير الحروب ونحرّك الشعوب، ونفجّر الثورات. أبداً، لم يكن الإمام يقصد هذا. وهذا الفهم لتصدير الثورة ليس فقط لا يمثّل جزءاً من سياستنا وأصولنا، بل هو مرفوض أيضاً. بيد انهم أوّلوا معنى تصدير الثورة وصرفوه إلى المعنى المذكور، ثم دخلوا في صراع مرير ضدّه.
معنى تصدير الثورة هو ان تنظر شعوب العالم إلى تجربة أُمّة استطاعت أن تنهض بالاتكال على اللّه وبالاعتماد على نفسها وبعزمها وان تقف على قدميها ولا تستسلم. فإذا نظرت شعوب العالم إلى أمة مثل هذه ستتعزز ثقتها بقدرتها على انقاذ نفسها من الظلم وتندفع لذلك، وهذا هوما حصل.
لكم اليوم ان تلاحظوا ان حركات المسلمين نهضت في تلك البقاع التي كان المسلمون فيها تحت الضغط لسنوات متمادية، سواء في كشمير أو في البلاد الأُخرى. بديهي انَّ التحرك الإسلامي في هذه البلدان سيناله المزيد من الظلم والضغط، وقد أصابهم ذلك. ولكن الضغط لا يعني استئصال ثمار هذه الحركة. ومرد ذلك ان الضغوط لوحدها لا تقوى على ايقاف حركة مستدامة توكلت على اللّه، بل قد تقود الضغوط أحياناً إلى نمو الحركة واطرادها على مساحة أوسع(115).
(7)
أثارت الدعاية العالمية ضجيجاً حيال شيوع ثقافة الثورة الإسلامية، وقد هاجموا هذا المنحى على أساس كونه عنواناً دالاً على تصدير الثورة، بالمعنى الخطأ الذي تصوروه لتصدير الثورة. فقد قام نشاط جميع أجهزة الدعاية في أنحاء العالم لسنوات على أساس مقولة انَّ الجمهورية الإسلامية هي بصدد تصدير الثورة. والمكر الخبيث الذي استبطنه عملهم في هذا المجال، انهم جعلوا معنى تصدير الثورة يتداعى مع معان من قبيل تصدير المواد المتفجرة، بث الاضطرابات في أرجاء العالم وما شابه ذلك وقد كان ذلك مكراً خبيثاً رذلاً كبقية ضروب المكر الذي تمارسه الدعاية الغربية.
ان تصدير الثورة يعني تصدير ثقافة بناء الإنسان الإسلامي.. ويعني تصدير (بث) المحبة والمودة والصفاء.. ويعني أيضاً الثبات على القيم الإنسانية. وهذه أعمال ووظائف نفتخر بها. هذا طريق الأنبياء وعلينا ان نواصل هذا الطريق.
لا يخجل العالم الغربي وأصحاب الثقافة الغربية الفاسدة من اشاعة ثقافة الفساد والفحشاء والرذيلة والأدمان وضروب أخرى من الرذائل المظلمة وتصديرها إلى جميع أنحاء العالم. انَّ ثقافة الرذيلة باتت تعم العالم أجمع، مع الأسف، وتصيب أكثر ما تصيب العالم الفقير.. العالم الثالث، فمن أين جاءت هذه الثقافة يا ترى؟ انها واحدة من منتجات الثقافة الغربية والمدنية الاستعمارية ـ الاستكبارية.
لنا ان نسأل عن مصدر أنواع المفاسد التي راحت تأخذ البشرية المعاصرة وتضيّق الخناق عليها.. من أين يا ترى نشأ مرض الادمان الخطير الذي استولى على الشباب في الكثير من البلدان الفقيرة المتخلفة؟
ثمَّ ثقافة استهلاكية خاطئة تفرض على الكثير من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية في العالم الثالث، فمن الذي فرضها ودفع بها؟
إذا قدّر لكم ان تدخلوا أسواق البلدان الفقيرة ـ الغنية بالنفط أو التي لا نفط لها ـ في منطقتنا هذه.. ستجدون ان الدعاية للمنتجات الغربية الاستهلاكية الزائدة يملأ الفضاء، فهل يحتاج البشر إلى كل هذا؟ انظروا إلى البلدان المنتجة للنفط ـ وهو الهبة الإلهية التي وهبها اللّه للناس كي تُبذل في عمران البلدان وبنائها ـ تجدونها تعطي نفطها لتأخذ مكانه بضائع ووسائل استهلاكية لا تعود عليها إلاّ بالانحطاط والفساد.. فهل يصح مثل هذا العمل؟ من أين جاء كل هذا؟ بلاشكّ جاء من منتجات الثقافة الغربية التي تُصدّر.. هي مما تصدره أمريكا وأوربا إلى بلدان العالم الثالث. لقد نفذت إلى بلدان العالم الثالث أنواع المفاسد والرذائل التي دفعت بها أمريكا وأوربا والحضارة الغربية بين ثنايا المعطيات الجيدة لحضارتهم، من قبيل الصناعة والعلم وروح البحث والتحقيق.
لقد ابتليت الشعوب بتلك المفاسد الوافدة؛ ابتلي الشباب، كما ابتليت الحكومات، وأُصيبت الشعوب بالذلة.
والأكثر من ذلك ان أولئك لا يأخذهم شيء من الحياء أو الخجل، فهم يطلقون على منتجاتهم الخبيثة التي يصدرونها إلى هذه البلدان، اسم «صادرات الثقافة الغربية» ويفتخرون بها إلى جوار المنتجات الحسنة كالعلم وروح البحث والتحقيق وغير ذلك. طبيعي انَّ هذه المنتجات الأخيرة هي ملك للبشرية جمعاء وليست حكراً على جماعة خاصة.
والآن إذا جئنا إلى جبهتنا، فلماذا علينا ان نحسّ بالخجل من تصدير (بث) التوحيد وأخلاق الأنبياء وروح التضحية والاخلاص والتزكية الأخلاقية المعنوية، إلى البلدان الأُخرى؟ ولماذا علينا ان نخجل من ان نبث للشعوب الأُخرى درساً عملياً يحكي الغيرة والثبات في مواجهة القوى الباطلة؟ ان الشعوب لم تصدّق بعدُ ان بالامكان الدخول في مواجهة مع عناصر القوى الاستكبارية. ولكنّا ثبتنا في المواجهة وخضناها وانتصرنا، فلماذا إذاً لا نضع هذه التجربة في متناول صفوف الرأي العام للشعوب؟
هذا هو الذي نعنيه بتصدير الثورة، ونحن نصدّر الثورة على هذه الشاكلة.
نحن لا نبالي بشيء إذا كنّا قادرين على بث التوحيد واشاعة مبادئ مدرسة الأنبياء ونشر القيم والوسائل الإنسانية النقية من قبيل الطُهر والصبر والمقاومة والايثار والطيبة، إلى بقية البلدان.
تجهد وسائل الدعاية الغربية التي يصرف عليها من مال الصهاينة وتدار من قبل السياسيين المكرة والفاسدين، إلى اثارة ضجة، بحيث تدفعنا للتراجع عن مقولتنا الماثلة في وجوب تصدير ثقافة الثورة ومفاهيمها. إذا كان مقصودهم اننا نصدّر المواد المتفجرة، فهذا كذب، وأجهزتهم هي التي تفعل ذلك.
فهذه هي المنظمة الجاسوسية الأمريكية (cia) هي التي تتوسّل بمختلف السُبل لاسقاط الأنظمة، فَتُوَّرد الأسلحة والمواد المتفجرة، وتمد قوى المعارضة بالعون لأجل التدخل في شؤون البلدان الثورية.
تصدير المتفجرات والفتنة هو نهجهم لا نهجنا. نحن لا نصدر المواد المتفجرة لأي بلد. والتخريب واثارة الفتنة هو أمر دون شأننا وبعيد عن موقعنا ولا يمكن ان يلصق بنا بأيّ شكل. انَّ هذه التهم الوضيعة تليق بأولئك الذين ينسبون مثل هذه التهم إلى الإسلام والجمهورية الإسلامية(116).
(8)
تتهم أجهزة الدعاية الصهيونية والمؤسسات الاستعمارية في العالم، الجمهورية الإسلامية بتصدير الثورة، فما هو المراد من تصدير الثورة؟
إذا كان المقصود بتصدير الثورة، هو تصدير المواد المتفجرة وبث الفتن والاضطرابات بين الشعوب والبلدان الأُخرى، فالجمهورية الإسلامية بعيدة كلّ البعد عن التهمة. فتصدير الشر والفساد هُما شأنان من شؤون أمريكا والمنظمات الجاسوسية والتخريبية التابعة للأنظمة الاستكبارية.. فأولئك هم الذين يشيعون الاضطرابات بين الشعوب ويذهبون بحالة الاستقرار والأمن.. وهم الذين يتدخلون بشؤون الشعوب وأمورها الداخلية من دون وجه حق.. وهم الذين يدفعون العناصر المشبوهة والعميلة لهم للتحرك ضدّ الشعوب وضدّ الحكومات الثورية، فيثيروا القلاقل ويتسببوا بالمشكلات.. وأولئك هم الذين يستهدفون الأبرياء، مما تعرف له الشعب أمثلة في جميع أنحاء العالم.
إنَّ أيادي حكام أمريكا وقادتها ملوثة بالدماء.
أمّا إذا كان المقصود من تصدير الثورة هو اشاعة ثقافة القرآن وثقافة بناء الإنسان الإسلامي، فنحن نفتخر بهذا. اننا نشعر ان مسؤوليتنا هي ان ننادي بصوت عال بمفاهيم الإسلام وقيمه وأحكامه ومعارفه التي فيها نجاة الشعوب المستضعفة والمظلومة، ونبثّها على أوسع مدى نستطيع بلوغه.
هذا تكليف بالنسبة إلينا، ونحنُ نشعر بأننا مقصّرون لو تخلّفنا عن هذا الواجب. ولو افترضنا اننا كففنا عن الدعوة إلى المفاهيم والقيم الإسلامية وامتنعنا عن ذلك، فانَّ هذه المعارف ستنبث تلقائياً وتملأ فضاء العالم، وتهب على البشرية كما تهب رياح الربيع اللطيفة، وتنتشر كما تنث الأزهار بعطورها في الجو.
ان مفاهيم الثورة وعطر المعارف الإسلامية يجدان سبيلهما للانتشار في جميع أرجاء العالم سواء رضى الأعداء بذلك أم لم يرضوا(117).
الفصل الثالث
الثورة الإسلامية والغزو الثقافي
القسم الأول
نبذة عن تأريخ الغزو الثقافي في إيران
1 ـ الغزو الثقافي في العهد البهلوي البائد وقبله
(1)
نقرأ في التأريخ ـ وليس كلّ ما في التأريخ صحيحاً على وجه تام ـ انَّ المدارس كانت موجودة في القرنين الرابع والخامس، وكان هناك من يتعلم في هذه المدارس. طبيعي انَّ الأنظمة الديكتاتورية مثل النظام الغزنوي والسلجوقي وأشباههما، لم تكن تدع فرصة للناس كي تتنفس، وإذا كانوا قد أسسوا المدرسة النظامية على سبيل المثال، فان ذلك لا يعني ان باب الدراسة وتحصيل المعارف كان مفتوحاً للجميع دون استثناء.
وفي كل الأحوال، لا يعنينا ان نحكم على ما جرى في تلك العصور، ولكن لكم ان تعودوا إلى التأريخ (التأريخ عنصر مهم ينبغي ان نتعلمه، فإذا أردنا أن نتلمس موقعنا في الوقت الحاضر، ونعرف أين نحن الآن، علينا أن نحيط بالتأريخ، نعرفه ونعيه، الاحاطة بالتأريخ، بادراكه ومعرفته ووعيه، أمر مهم) الذي تلا الغزو المغولي، لتدركوا جيداً، انَّ الفرصة لم تكن مؤاتية للإنسان المستعد لتحصيل العلم في هذا البلد، بقدر ما هي مؤاتية الآن. كانت العصور التي مرّت عصور جهل وعدم اكتراث بالمعارف والعلوم؛ كانت تلك عصور الملوك المستبدين، السافكين للدماء، الذين تركوا الشعب وأهملوه من دون ان يهتموا به. قدر ذرّة(118).
(2)
نحن بلد عاش تخلفاً مريعاً عن مستوى التقدم العلمي والتكنلوجي في العالم وما شهده العالم من تطوّر. وقد نزل بهذا البلد من قبل السلاطين خلال القرنين الماضيين ظلماً فادحاً فقد تركونا نتخلف عن القافلة، ولم يدعوا العلم والثقافة والمعارف تنفذ إلى البلد بشكل سليم.
فناصر الدين شاه القاجاري على سبيل المثال، كان يبغض اسم القانون ويتنفر منه، وكان يكره للإنسان ان يغادر إلى الخارج ثم يعود، وينفر من تدفق المعارف والمعلومات من الخارج. وكل ما حصل انهم بادروا لأيام قلائل لممارسة بعض الأعمال بدوافع طارئة، بيد انهم تراجعوا عنها حينما قدّروا بأنها يمكن ان تعود عليهم بالضرر، وبذلك أبقونا بمنأى عن المعارف والعلوم.
وحين آل الأمر إلى أسرة بهلوي، ازداد الحال سوءاً، إذ جرّت هذه الأسرة الشعب إلى الشهوات، وسلطت عليه تلك التيارات الفاسدة من الثقافة الغربية، وعملت على اشاعتها بدلاً من الضروب المفيدة في تلك الثقافة.
حينما ذهبنا إلى أوربا وأخذنا منهم العلم، عدنا إلىبلادنا بمواصفات جديدة حيث أضحت شخصيتنا شخصية شهوية.. بلا وجدان وضمير.. فاقدة للارادة، تاركة للدين. فما هي يا ترى المنافع التي تعود على الناس من هذا العلم؟ ومن الحالات الأُخرى ان بعضهم ذهب إلى أوربا وأفاد من علومها فعلاً، ولكنهم عندما عادوا لم ينفعوا بلدهم بشيء، بل بقيت البلاد على حالها. هذه أيضاً من سيئات ذلك العهد. وهي من سيئات السلاطين الذي مسكوا زمام البلد لقرنين على الأقل، ولم يكونوا يفهمون شيئاً، سوى مصالحهم الذاتية الخاصة.
لقد وقف الشعب في مكانه دون ان يتقدم في العلوم، مع جميع ما يتحلى به من ذكاء وخلفية في العلم والثقافة، بدءاً من عهد فتح علي شاه ومحمد علي شاه وناصر الدين شاه وانتهاءاً بالمجرمين الكبيرين رضاخان وولده محمد رضا، حتى سبقه الآخرون في مضمار التقدم سواء كانوا من منافسيه وأعدائه أو من الشعوب الأُخرى التي قطعت شوط التقدم مرقاة بعد أخرى(119).
(3)
إذا اطلعتم على تأريخ أواخر العهد القاجاري لرأيتم كثرة المسيحيين الذين جاؤوا من أوربا إلى إيران بهدف التنصير. وقد كان مثلهم كمثل اللص المبتدئ، فلم يوفقوا، لأنهم لم يحسنوا اختيار المنطقة التي يمكن للمسيحية ان تروج فيها.
طبيعي لا نستطيع ان نقول ان أصحاب الرساميل والشركات العالمية والناهبين الدوليين، كانوا يعتقدون حقاً بالسيّد المسيح؛ فمن أين لهم ان يعرفوا السيّد المسيح؟ بل كان أول سعيهم حينما يحطون في محيط اجتماعي يظهر المجتمع فيه علقه بثقافته الوطنية ويدافع عن حيثيته، ان يستأصلوا تلك الثقافة. تماماً كما تفعل عدة من الجنود حينما تهجم على قلعة محصنة، فهي تتعرض أولاً لقواعد القلعة، فتنهار الجدران بعد ذلك تلقائياً. فهم يفعلون كلّ ما يقود إلى اضعاف جدران القلعة، ويمكن ان يبادروا إلى تنويم أهل القلعة (استغفالهم).
ومما يذكره سعدي ان عدداً من اللصوص أرادوا ان يغيروا على جماعة، وقد كانوا نياماً. فكان أول من هجم عليهم من الأعداء شخص من الجماعة (مندس بين الصفوف) حتى إذا ما كتف أيديهم وشدّ أعينهم، جاء العدو الخارجي لانتهاب أموالهم(120).
(4)
الذي أعتقده ان العصر القاجاري هو أحلك العصور التي مرّت على تأريخ إيران. لقد توجهت باللعنة مراراً إلى ملوك القاجار. فقد عاصرت إيران في عهدهم مدّ التقدم العلمي، وكان ذلك العصر عصر استثمار العلوم والثقافة والافادة منهما، بيد انهم لم ينهضوا بما كان عليهم ان ينهضوا به، ولم يفعلوا ما ينبغي ان يفعلوه، فوقعت إيران في مثل مأزقها الراهن
شخصياً لا أومن بأولئك ولا أحمل لهم من التقدير قيد ذرّة بَيْدَ اني أقول انهم كانوا ضعفاء راكدين يسعون للذة وملأ البطون، ولا همّ لهم سوى ملاذهم والنساء وما يرتبط بمعيشتهم الخاصة، كانوا أهل دنيا، ولم يكونوا يتوفرون على وعي وادراك كافيين للقضايا بحيث يميّزوا بين النافع والضار؛ بين ما هو شرّ وما هو خير.
فقد كان همّ ناصر الدين شاه ـ مثلاً ـ هو ان يحكم ويرتع في اللذة، وكان حكمه ولذته يصرفاه عن حال الشعب وما يعانيه. طبيعي ان الضعف والاهمال هما من أكبر الذنوب التي يمكن ان يتصف بها قائد مسؤول عن البلد.
وحين آل الأمر إلى أُسرة بهلوي، فقد ارتكبوا من الفعال ما هو أسوأ بكثير مما ارتكب في العهد القاجاري. فاسرة بهلوي ضربت على قواعد الثقافة الذاتية الخاصة للشعب وزلزلت أركانها، وانشبت أظافر التخريب فيها، حتى حلت الثقافة المستوردة بدلاً من الثقافة الخاصة، ونفذت في أغلب مرافق حياتنا وشؤونها(121).
كان شعبنا ملتزماً على طوال قرون الحضارة الإسلامية، برعاية الآداب في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل. وهذا لا يعني عدم وقوع حالات من الخطأ والمعصية؛ فالخطأ موجود في كلّ العصور وفي مختلف المجالات، وسيبقى أفراد البشر عرضة للخطأ ابداً. ولكن ثمَّ فرق بين الخطأ، وبين ان يتحوّل الخطأ إلى عرف عام في المجتمع وعلى صعيد الشعب.
لقد كانت مجالس الأشراف وبلاطات الملوك والأمراء ومن يقع على شاكلتهم، هي وحدها التي تشهد مجالس اللذة والطرب والفحشاء، حيث تمضى الليالي الحمراء حتى الصباح بهذه الخطايا.
لقد سعى الأوربيون ـ الذين لا تغلق باراتهم طوال الليل والنهار ـ أن يدفعوا مجتمعنا صوب هذه العادات المشؤومة الفاسدة. حينما تعودون إلى تأريخ أوربا، تجدونه مكتظاً دوماً وبجميع عهوده وسنيه وأشواط تمدنه بالفساد. وقد أرادوا أن يدفعوا بهذا النهج إلى البلد، ففعلوا كلّ ما بمقدورهم أن يفعلوه(122).
(5)
بدأ الهجوم الثقافي على شعبنا بشكل محدّد الملامح منذ عصر رضا خان. طبيعي ان مقدمات هذا العمل كانت توافرت قبل ذلك، حيث فعل المثقفون التابعون (المتغربون) الكثير على هذا الصعيد.
لا أدري إذا كان جيل الثورة، قد اطلع جيداً على تأريخ بلدنا خلال الفترة ما قبل 150 ـ 200 سنة أم لا؟ كل الذي أخشاه ان لا يكون الشاب الثوري على اطلاع بالعهد الذي قلبنا صفحته، وما كانت عليه إيران في ذلك الوقت، ونحن نعيش يوميات الحركة العظيمة الراهنة. على الشعب الإيراني ان يقرأ الحقبة التاريخية ما قبل 150 ـ 200 سنة الأخيرة؛ في الفترة الممتدة إلى أواسط العهد القاجاري وحروب إيران وروسيا وما تلاها، ليتبينوا طبيعة الحوادث التي مرّت على البلد.
واحدة من هذه الوقائع تمثل بايجاد التيار الثقافي التابع. نحن لا نستطيع ان نقول انه لم يوجد لدينا مثقفون طوال تأريخ إيران، بلى، كانت في جميع الأزمنة والأعصار ثلة من المثقفين تستبق عصرها في التفكير وتتحرك على هذا الهدي. ولكن حينما أراد الغرب ان يتحكم بإيران عن طريق العلم والتكنلوجيا ويرسخ وجوده عن هذا السبيل، نفذ عن طريق التيار الثقافي، وأخذ من عناصر عميلة أمثال ميرزا ملكم خان وتقي زاده، رأس جسر لنفوذه.
لقد ولد التيار الثقافي في إيران مريضاً، وأضحى تابعاً مرتبطاً بالخارج منذ العصر القاجاري فما بعد. والذي يؤسى له، انَّ عدداً من المثقفين السليمين المخلصين، ضاعوا بين هؤلاء. هذا التيار كان تابعاً منذ البداية، فبعض رموزه كان مرتبطاً بروسيا أمثال ميرزا فتح علي آخوند زاده، وبعضهم كان تابعاً لاوربا كميرزا ملكم خان وأمثاله.
كانت هذه المقدمات موجودة من قبل في إيران، ولكن لم تكن لها آثار واضحة. إلى ان حصل التحوّل على عهد رضاخان، فالرمز المهم الذي تحرك خطوة كبيرة على صعيد خدمة الثقافة الغربية، أو في الحقيقة خدمة سلطة الغرب والاستعمار الانكليزي، هو رضا خان.
لكم ان تلاحظوا الآن مقدار الفضيحة التي تنطوي عليها ممارسة ملك قام باستبدال الزي الوطني لشعبه مرّة واحدة دفعةً إذا ذهبتم إلى أقصى نقاط الدنيا، كالهند مثلاً تجدون انَّ الشعوب لها زيّها الوطني وهي تفتخر به، ولا تشعر بالخجل أو العار منه. ولكن هؤلاء غيّروا الزي الوطني ومنعوه مرة واحدة، لماذا؟ زعموا ان الانسان لا يكون عالماً مع هذا الزي في حين نجد ان أبرز العلماء الإيرانيين، الذين لازالت آثاره تدرس في أوربا، عاش بهذه الثقافة وأمضى حياته بهذا الزي.
ترى ما هو تأثير الزي؟ وما هذا الكلام الذي يجافي المنطق ويبعث على السخرية؟
لقد استبدلوا الزي الوطني ومنعوا ارتداء الحجاب، وقالوا إنّ المرأة لا تستطيع ان تتحوّل إلى عالمة مع الحجاب (العباءة) ولا يمكن أن يكون لها مشاركة في الفعاليات الاجتماعية أتوجه إلى هؤلاء بسؤال: إلى أي مدى استطعن النساء أن يشاركن في الفعاليات الاجتماعية بمنع الحجاب وتحريم العباءة؟
هل سمح عهد رضاخان وابنه للمرأة ان تشارك في الفعاليات الاجتماعية؟ في عهدهم حرم الرجل من ممارسة الفعالية الاجتماعية كما حرمت من ذلك المرأة أيضاً.
لقد استطاعت المرأة في إيران ان تلج ميدان العمل الاجتماعي وتحوّل البلد بارادتها القوية،حيث جرّت الرجل إلى الساحة وراءها، حينما ارتدت الحجاب ووضعت العباءة على رأسها. ثم ما تأثير الزي والحجاب في عدم فعالية المرأة أو الرجل؟ المهم هو القلب الذي ينطوي عليه هذا الرجل وتلك المرأة.. والمهم هو كيف يفكرا؟ وما هو قدر ايمانهما، وما هي طبيعة الروحية التي ينطوي كل منهما عليها، وطبيعة الدافع الذي يسوقهما لممارسة الفعالية الاجتماعية والنشاط العلمي؟
لقد وضع رضاخان ـ هذا الطاغية الأمي المتجبرـ نفسه أُلعوبة بيد الأعداء. فغير الزي الوطني واستبدل الكثير من الآداب والسنن السائدة بين الشعب، ومنع مزاولة الفعل الديني، وزوى بالدين جانباً.
مارس جميع هذه الفعال بالقوة ـ كما تعلمون جميعاً ـ وتحوّل إلى شخصية محبوبة لدى الغرب، لم يكن محبوباً من قبل الرأي العام في الغرب، أو أبناء الشعوب الغربية، وانما أضحى محبوباً من قبل السلطويين والساسة الغربيين.
من هذا الموقع انطلق الغزو الثقافي ضدّ الإسلام والشعب الإيراني، واكتسب أشكالاً مختلفة. وقد اتخذ الغزو أبعاداً خطيرة في السنوات الأخيرة من عهد اسرة بهلوي البغيضة، وبالتحديد في الفترة بين 20 ـ 30 سنة الأخيرة، مما لا يسعنا الآن توضيحه. وانما يعنينا ان نشير إلى انَّ الثورة الإسلامية جاءت لتكون بمثابة ضربة محكمة في صدر العدو، اضطرته للتراجع، ومن ثم أذنت بتوقف عجلة الغزو.
شاهدتم أوائل الثورة التحوّل المفاجئ الذي حلّ بالشعب، حيث شهدنا تغييرات أساسية في اخلاقيات الناس، حصلت في غضون مدة قصيرة من الانتصار.. تضاءل الطمع وتجلّت روح الاغضاء والعفو والتجاوز.. كما اتسعت روح التعاون.. حصلت انعطافة كبيرة صوب الدين.. ازدادت القناعة وقلّ الاسراف.. أخذ شبابنا يفكرون بالفعالية والعمل.. كثير من الذين اعتادوا الحياة في المدن قفلوا عائدين إلى القرى، وكان لسان حالهم: لنذهب إلى القرى نعمل وننتج.. قلّت الأعمال الكاذبة التي كانت تنشب كالعشب الضار في الحياة الاقتصادية للناس.
لقد ارتبط هذا التحوّل الثقافي بالسنين الأولى من عمر الثورة، بمعنى انه اقترن مع توقف جهود العدو عن الاستمرار بغرس بذور الثقافة والاخلاقيات الفاسدة. شهدنا في تلك المدّة نوعاً من التوجه الخاص نحو الإسلام.. صوب الثقافة والأخلاق والآداب، حتى نبضت في ضمائر شعبنا مجدداً الخُلقيات الإسلامية. علينا ان نقول ان هذا التوجّه لم يتسم بالعمق، فتعميق هذا الاتجاه لم يكن ممكناً إلاّ بالعمل المثابر خلال عدّة سنوات، وهذا ما لم يحصل مع الأسف، حيث لم تُتح الفرصة المناسبة لذلك، ثم انَّ العدو كان قد بدأ هجومه من جديد وتدريجياً(123).
(6)
الذي يبعث على الأسى والأسف، انَّ القلوب في العهد السابق لم تكن تتوجع وتعيش همّ الاستقلال والحاكمية الوطنية لهذا البلد. فالجميع يذكر بأنَّ السنوات الأخيرة من نظام الطاغوت؛ من نظام العهد البهلوي كانت عهد نسيان الأمة.. عهد اغفال شعب إيران.. عهد اهمال عناصر الخصوصية والمقومات الوطنية لثقافتنا. كلّ شيء كان يؤخذ من الخارج في ذلك العهد، ويستعار من وراء الحدود، وقد وصل احتقار ما يتصل بدائرة الخصوصية والذاتية إلى الحد الذي لم تكن تجرؤإلاّ القلة في اظهار ميلها للثقافة الذاتية الخاصة.
هذه هي مع الأسف خصوصية العهد البهلوي، وكنّا كلما تركنا أوائل العهد البهلوي وتقدمنا معه إلى الأمام، وجدنا حركة الابتذال والنزوع عن الخصوصية الذاتية (عن الهوية والأصالة) تزداد أكثر فأكثر. لكم ان تتأملوا على سبيل المثال السنوات الأخيرة من العهد البهلوي وما آلت إليه الفنون الوسطى في المجتمع، فموسيقى البلد مثلاً اختلطت بالموسيقى الغربية، بل ابتلعتها الأخيرة وحلّت محلّها.
انظروا إلى المسألة من موقع آخر.. فنحن شعب له آدابه وعاداته الخاصة في المعاشرة والسلام، وفي طراز المعيشة والزي؛ نحن شعب عريق جداً لنا ما يميزنا في آداب العشرة والعادات الوطنية، فلماذا إذاً حذفوا صيغة التحية السائدة بيننا، واستبدلوها بصيغة أجنبية وافدة؟ ولماذا استبدلوا اطعمتنا الوطنية واستبعدوها لتحل محلّها الأطعمة الأجنبية؟ ولماذا نُبذ زيُّنا الوطني ليحل الزي الأجنبي محلّ(124)؟
(7)
صرنا في العهد البهلوي والعهد القاجاري ضحية النهب والهجوم الشديد، فقد استفاد الآخرون من غفلتنا، ومن غفلة حكّام هذا البلد، وعلى اثر «عصر النهضة» (الأوربي) شاعَ بين بعض شعوب الدنيا ضرب من الحركة والنشاط فهجموا علينا بثقافة جديدة؛ وبطاقة جديدة، وقد أفادوا من غفلتنا وانتهزوا السبات العميق الذي نغطّ فيه، فمزقوا الأرضية التي تقوّم وجودنا، وأخفوا عناصر أصالتنا، وشوّهوا الكثير من الأمور.
كان فعلهم معنا يشبه حال إنسان مبتدئ حين يدخل إلى بناية فنية، إذ تراه يخرّب الأبواب والجدران، ويعبث باللوحات الفنية، وينال باذاه التماثيل المنحوتة. ثم عمدوا بعد ذلك إلى احلال نسق جديد، كان من وضعهم وطبقاً لارادتهم، ولم تكن لنا يد فيه.
نحن نعرف ان من سنّة الغالب حين يفتح بلداً معيناً، أن يحل في ذلك البلد نظامه (ونسقه المدني والحضاري) بيد انَّ المفارقة الدقيقة تكمن في ان أولئك تعاملوا معنا كمواطنين من الدرجة الثانية؛ وبالتالي اختاروا لنا نظاماً ونسقاً (مدنياً وحضارياً) مغايراً ـ وأدنى رتبة ـ من النظام الذي اختاروه لأنفسهم وطبقوه في بلادهم. هذا هو الذي وقع في إيران، فقد دخل الأوربيون إلى البلد، وجاؤوا معهم بالنسق والنظم الأوربية ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار المفارقة المشار إليها آنفاً ـ وقد أخِذ عدد من الناس وخدعوا بهم، مثل الجيل الأول للمثقفين كملكم خان وأضرابه ممّن استلهموا المعنى الثقافي واستمدوه من أولئك. اصطف هذا النفر معهم، وقلبوا نسيج البلد راساً على عقب مستفيدين من غفلة الناس، وفساد الحكّام.. تعاملوا مع إيران وكأنها بلد خالي الوفاض من أي شيء ـ من الفكر والحضارة ـ ودفعوا المجتمع للتشكيك بماضيه والغفلة عن تاريخه.
لقد أقاموا نسقهم في هذا البلد، ولكن النسق الذي يتعاطى ـ مع مجتمعنا ـ بوصف أبنائه مواطنين من الدرجة الثانية؛ تماماً كما يفعل السيد مع مملوكه حين يروم أن يبني له داراً على طراز داره، فهو يهمل راحة المملوك ولا يأخذ بنظر الاعتبار سوى ما يحقق له راحته.
لقد حلت بالبلد خسارة نتيجة ذلك النهج، وفي العهد البهلوي ـ خصوصاً في السنين الأربعين الأخيرة ـ وان لم تكن معالم هذا النهج واضحة كما كانت في العهد القاجاري، إلا انها كانت أمضى وأخطر وأشد(125).
(8)
من أكبر الفجائع التي تحل على شعب من الشعوب، هو أن ينسى جزءاً من ثقافته وتنسلخ عن ذاكرته بمرور الزمان قطعة من حضارته؛ بحيث لا يعد يذكرها ويستحضرها أبداً. هذا بلاء كبير.. وهذا ما فعله الغربيون معنا مع الأسف. لنأخذ اللغة كمثال، تراهم استجلبوا من الخارج طريقة معينة في الأداء اللفظي واقحموا في الكتابة طريقة أجنبية في الأفعال ولجّت لغتنا بمعانٍ هجينة غير مناسبة أصلاً، في حين انَّ لنا لغتنا الخاصة، وإلاّ هل تعد الفارسية لغة ضئيلة مع كل ما تنطوي عليه من عراقة وسعة؟
إنَّ في اللغة الفارسية خصيصة قليلاً ما تكون للّغات الأُخرى في العالم، وهذه الخصيصة تتمثل بالتركيب. لذلك يمكن بفضل خاصية قابلية الفارسية للتركيب، ان تولد ملايين الألفاظ والمفردات للتعبير عن المفاهيم الجديدة، شرط ان يتوافر لهذه الملهمة الذوق السليم والاطلاع الكافي على اللغة. وهذه الخصوصية للفارسية لا تتوفر حتى لبعض اللغات الممتدة عالمياً كالعربيةمثلاً.
لغة بهذه السعة، استجلبوا لها ـ من الخارج ـ تعابير وأفعال مساعدة مثل قولهم: اذهبُ لأعمل هذا العمل أو كحال الطبيب عندما يريد أن يسأل المريض: هل تناولت الدواء؟ تراه يقول له: هل «أخذتَ» الدواء؟ أو أن يقول: هل «أخذ» المريض الدواء؟ أو ان يسأل: كم «أخذ» المريض من هذه الأبر؟ يا ترى هل الدواء «يؤخذ» أم يُتناول؟
أو كمثل الذي يريد الاغتسال، فيقال له: اذهب «وخذ» حماماً؟ يا ترى هل «يؤخذ» الحمام أم يتم فيه الاغتسال؟ هذه الصيغ بأجمعها هي مظاهر لداء الاستلاب وفقدان الذات.. لقد حصل هذا مع اللغة، ومع الزيّ، وحصل قبل ذلك مع الآداب والعادات والتقاليد الوطنية التي تنطوي على قيمة.
من الآداب التي اعتاد عليها شعبنا منذ القديم، توقير الكبار وذوي الشيبة، فقد كان له هذا الأدب، وكان جزءاً من تقاليده في السابق، وهو إلى ذلك جزء من أصول الأداب الإسلامية: «وقروا كباركم»
وفي البيت الإسلامي، يكون الجد أو الجدّة، كالشمعة التي تجذب الفراشات إلى نورها. أمّا الآداب الغربية فلا تؤمن كثيراً بمكانة الجدّ والجدّة، والجيل الذي ينظر إلى الوراء، لا يدخل في الآدمية كما يزعمون. وإذا كان الغربيون يراعون بعض ملامح الاحترام، فهذه ممارسة ظاهرية، فهم لا يحسبون للكبار حساباً، فيما نحن على العكس منهم تماماً، إذ نحسب لهذه القضية حساباً مهماً.
لقد زرقونا بالقوة بثقافة مغروضة، وحين نقول: فرضوا هذه الثقافة بالقوة، فانَّ ما نعنيه بذلك غير المعنى الأولي المتبادر للقوة.
القوة تتجلى تارة في سلوك إنسان يحمل الرشاش ويأمرك أن تفعل شيئاً معيناً. وقد تظهر في صورة أُخرى، وذلك من خلال احاطة الإنسان بجو ونسق واحد وتكرار هذا النسق، فما تمارسه وسائل الاتصال الجمعي في المجتمع هو شيء من هذا القبيل، إذ تراها تبادر لبث مفهوم أو مصطلح معين وتعمد إلى تكراره، حتى يستقر في الوعي دون شعور، ويجري على الألسن تلقائياً. وهذا في الواقع ما فعلوه معنا، خلال خمسين سنة
حين نعود إلى الأول في ذلك العهد ـ رضا خان ـ نجده إنساناً يفتقر إلى الوعي والادراك والمعرفة، فهو لم يكن الإنسان الذي يقدِّر الشعر أو يعرف له قيمة، أو يدرك النكات الطريفة، كما لم يكن يفهم قيمة الخط الجميل ولا أهمية الأعراف والسنن.
لم يكن رضاخان إلا جندياً بليداً جاهلاً، لا يعرف غير العتو والشدّة، وهذه الحالة لم يكن يستخدمها ضدَّ العدو، بل كان يستثمرها ضدَّ الداخل (الشعب)، وذلك على خلاف ما ينص عليه القرآن في مضمونه القائل: رحماء بينهم أشداء على الأعداء، إذ كان شديداً على شعبه، رحيماً بالأعداء رفيقاً بهم وصولاً لهم، كان ـ مثلاً ـ صديقاً لمصطفى كمال حتى اتخذه مرشداً له. لقد أهمل الشخصيات الإيرانية التي تنطوي على الوعي والشعور ولها ثقافة وعلم وفكر، وزوى بها جانباً دون أن يعتني بها، في حين اعتنى بمصطفى كمال
لقد استصغر النظام السابق طبقة الأدباء وأهل الثقافة(126).
(9)
كان العلماء (الروحانيون) هم العنصر الأساسي في حركة الجهاد خلال الخمسة عشر عاماً التي انتهت بانتصار الثورة، كما كان لهم الدور نفسه في تأسيس النظام الإسلامي المقدّس، وحمل راية الإسلام خفاقة في العالم، وكانوا طليعة المقاومة الحماسية لشعب إيران في مواجهة مختلف ضروب الهجوم المعادي. وكان العلماء قبل ذلك، وعلى مدى قرون العامل الأساسي في حفظ المعارف الإسلامية والإيمان العميق الصادق لشعب إيران بالإسلام المنقذ ولهم الدور الطليعي في نمو الفكر الديني في كل مكان.
لقد كان العلماء (الروحانيون) المجاهدون الملتزمون في قلب حركة المقاومة ضدّ النظام العميل لأمريكا، وقد استطاعوا أن يجذبوا إلى ساحة الجهاد والمقاومة مختلف فئات الناس، حتى أعطوا حركة الجهاد طابعها الشعبي العام. وحين نعود إلى الحوادث الكبرى التي مرَّت بها إيران وشهدت حضوراً جماهيرياً مكثفاً وعاماً، نجد ان السبب وراء ذلك الحضور يتمثل بمشاركة العلماء في هذه الحوادث ووقوفهم في طليعة الصفوف.
أدرك الاستعمار الانكليزي هذه الحقيقة؛ وعلى خلفية هذا الادراك رأى ان تدمير الكيان العلمائي هو المقدمة الضرورية التي تمهد الطريق لاستمرار الحضور الاستعماري في إيران. وبدأ على هذا الأساس مخططه لضرب العلماء وحذفهم من الساحة بدءاً من سنة (1313 هـ. ش) بواسطة عميلهم رضاخان، حيث شهدت تلك السنوات فجائع مؤلمة نزلت بساحة العلماء ونالت من مركز الحوزات العلمية وموقعها، لم يكن لها سابقة في تاريخ إيران قبل ذلك.
والذي يبعث على الأسف انه لم يتم ـ حتى الآن ـ شرح وبيان مفصل لفجائع تلك السنوات، وما تحمل فيها العلماء وطلاب العلوم الدينية من عناء ومشاق في خط مقاومتهم لحكومة رضا خان وجبروته، ولم يُدوّن بشكل كامل بعدُ تاريخ تلك الحقبة من المواجهة، والظلامة التي تحملها العلماء وطلاب العلوم في أواخر سني عهد رضاخان، لتكون بين متناول الوعي الشعبي العام.
والمطلوب في هذا المجال، ان توثّق الأحداث من شهادات المشاركين في الحدث ـ وتعدادهم بحمد اللّه لا يزال كثيراً ـ إذ تبادر المؤسسات المسؤولة أو الأشخاص المعنيون لتسجيل تلك الشهادات وجمعها.
انّ الاستقلال الذي يحظى به الروحانيون وعلماء الدين ـ على مستوى المعتقد والسلوك ـ وعدم نفوذ القوى الداخلية والخارجية واختراقها لصفوفهم، هي التي جعلت الحكام المتجبرين المغرورين، يعجزون دائماً في ازاحة هذه المجموعة الربانية عن طريقهم، ليخلو لهم الجو إلى سبيل الخيانة والفساد. وإذا قدِّر لجماعة من المعممين الاذلاء وعدّة من علماء البلاط ان يجلسوا على موائد الظلمة طمعاً بحطام الدنيا الزائل، ويؤيدوا أولئك الظلاّم بالقول والعمل، فانَّ الأكثرية في صفوف العلماء والفضلاء وشباب العلوم الدينية ظلّوا يعيشون حياتهم في اطار المناعة، وفي دائرة التقوى والنزاهة، واحتفظوا بارادة التحدي والمواجهة الصادقة المقتدرة، فأمّنوا بذلك دوام عقيدة الناس الراسخة بعلماء الشيعة، في قلب كلّ فرد من أبناء المجتمع.
لهذا السبب بالذات أضحى المجتمع العلمائي عرضة لسهام الخصوم المسمومة، وغرضاً للأعداء بمختلف ألوانهم من مستعمرين وأجانب، وَعُباد الأجنبي في الداخل، فأضحى العلماء العدو الأول لهؤلاء جميعاً.
كان امتحاناً صعباً هو ذلك الذي مرَّ به علماء الدين، حين كانوا في العهد البهلوي، وطوال خمسين سنة من تأثير السياسات الخارجية على إيران، كانوا عرضة للعداء والدعاية المضادّة، وللخطط التي استهدفتهم في عهد رضاخان والنصف الأول من عهد محمد رضا، تلك الخطط التي كانت تكشف عن ماهية استعمارية. وقد خرج المجتمع العلمائي من ذلك الامتحان الصعب، مرفوع الرأس ـ بحمد اللّه ـ.
وفي مدة السنين الخمسة عشرة من عمر المقاومة ـ بين انتفاضة خرداد حتى انتصار الثورة ـ كانت الحوزة العلمية في مدينة قم والحوزات العلمية الأُخرى والعلماء المعروفون، المركز الأصيل للجهاد، وبالتالي كانوا الهدف الأساس للحملات الوحشية المعادية. بيد انَّ الهجوم الشرس ذاك لم يفض ـ بارادة اللّه ـ الى تنكب العلماء عن طيّ طريقهم الذي يبعث على الافتخار والنهوض بواجبهم الإسلامي الذي لا يقبل التخلف، بل والأكثر أضحى الفكر الإسلامي في ذلك العهد أكثر تفتحاً ونصاعة ـ بعد ان صقلته المحنة ـ وأضحى فقه القرآن أكثر غنى وعطاءً، واضحت الشخصية العلمائية المجاهدة أكثر تجربة ونضجاً، مما قاد إلى تهيئة الأرضية المناسبة لتأسيس الحكومة الإسلامية(127).
(10)
كان المحيط الجامعي قبل الثورة، ينظر إلى الحوزويين على انهم جماعة مهذارة، جاهلة ولها توقعات كثيرة. شخصياً لي تجربة لقاء مباشر مع الكثير من هؤلاء، فحينما يجلس الجامعي، مع أحد طلبة العلوم الدينية، ويتحدث الطالب الحوزوي بكلام مختصر دقيق، ترى الجامعي يبهت، ويقول: من المدهش ان يكون مثلك بين الحوزويين، في حين ان هذا الطالب ليس أكثر من حوزوي عادي. لم يكن الجامعيون يعرفون العلماء والحوزويين، وقد كانت النظرة السائدة بين المؤسسات العلمية في البلد لا تتعدى هذا المستوى. في حين إذا كان في البلد مركز علمي حقيقي أصيل يعنى فعلاً بالبحث والتحقيق، ويمارس العلم من أجل العلم دون أن يكون له طمع ـ مثل ـ الأجر والنفع المادي، فانَّ مصداقه يتمثل بالحوزات العلمية.
لقد استبدل التيار الجامعي والثقافي الحداثي عوامل التقى والزهد والاغضاء عن الدنيا التي كانت وما تزال موجودة ـ بحمد اللّه ـ في أوساط العلماء وفي أجواء طلبة العلوم الدينية وخارجها ـ بدعاية تزعم ـ ان لا هم للمعمّم إلا ان يعيش بالمجان، حتى صارت هذه الدعاية كالضمير الذي ترتبط دلالته بمرجعه المعلوم الذي يعود إليه؛ فإذا ما ذكرت مسألة العيش المجان (أي ان يعيش الإنسان على حساب أتعاب الآخرين وكدّهم من دون ان يقّدم شيئاً) فان ذاك ينصرف تلقائياً إلى العلماء والحوزويين.
لقد مرّت هذه الدعاية، ولم يكن الهدف منها العلماء والحوزويين، فلا خصوصية لهؤلاء، وانما كان الهدف منها هو الدين نفسه(128).
2 ـ تأسيس الجامعات بهدف نبذ الدين واعداد العناصر التابعة
(1)
الأُخوة، الأخوات، الشعب العزيز، مُنذ سنوات متمادية والسعي الحثيث قائم على إبعاد مجتمعنا عن العلم، في حين لم يكن الأمر كذلك في السابق، طبيعي لا أقصد ان جميع ابناء مجتمعنا كانوا من العلماء في الماضي البعيد، كانت الأمية سائدة بين الكثير، العلم ضئيل، ولكن الشوق إلى العلم في محيط أهل العلم، كان متزايداً؛ إذ كانوا يطلبون العلم للعلم. والذي حصل انهم جهدوا لسنوات طويلة كي يستبدلوا هذه الثقافة في أوساط مجتمعنا، حيث تحوّل العلم إلى وسيلة، واضحى العلم يُطلب لملء البطن، وهذا المسار قلل من قيمة العلم(129).
(2)
لقد أرسوا قواعد بناء المؤسسة الجامعية على نبذ العقيدة مُنذ البداية، بحيث كانت مجاميع الشباب التي تذهب لأجل الدراسة في العهد الأول، هدفاً للدعاية التي يمارسها الأوربيون ضدّ الإسلام. فطلائع الجيل الأول الذي انفتح على الثقافة الغربية وتربى من خلالها وفي أجوائها، كان في الغالب غريباً عن الدين، بل كان يعيش حال العناد ضدّ الدين. والذي ساعد في ذلك ضعف النفوس، وافتقار الساحة إلى التبليغ الديني القوي المتسق مع عصره.
لقد مضت قواعد المؤسسة الجامعية، على أساس عدم الإيمان بالدين، وأرادوا للجامعة كمركز لتربية العلماء طبقاً لموازين التقدم العلمي المعاصر، ان تكون ضدَّ الدين في قواعدها الأولى. وهكذا ولدت الجامعة، وهي مشروع غير ديني، بل مناهض للدين. ثم تابعوا هذا النهج غير الديني والمناهض للدين سنوات، بقوة ودقة. وبذلك لم يضعف الدين في الجامعات وحسب، بل تحولت إلى مراكز لمناهضة الدين.
طبيعي لم يكن الهدف من مناهضة الدين، هو عنوان الدين نفسه، بل كان الهدف هو الهيمنة على البلاد الإسلامية. فمن أجل تحقيق هذا الهدف كانوا مضطرين أن يبادروا إلى تربية جيل لا إيمان له بالدين، لكي يأخذ على عاتقه مهمة ادارة البلد وبنائه في المستقبل.
والذي ينبغي ان نعترف به ـ مع الأسف ـ ان النجاح كان حليفهم إلى درجة كبيرة(130).
(3)
أشيدت الجامعة على اساس سيّء. طبيعي كان لنا من رصيد الإيمان الإسلامي والوجدان الوطني بين الشعب، ما يكفي لكي يبقى عدد من الأساتذة الجامعيين وطلاب الجامعة، أصحّاء معافين، وهذا ما كان.
لذلك لا يمكن أبداً أن نضع جميع خريجي الجامعة في دائرة الناس البعيدين عن الدين وأهداف الدين ومصالح البلد. أما أولئك الذين ارادوا لهم ان يصلوا من بين الوسط الجامعي، إلى مواقع السلطة، فقد احتضنوهم بسهولة. وعليه يمكن القول ان رجال السياسة الذين انتخبوا من الصف الجامعي ـ وهم مجموعة اضطلعت بالمواقع والأعمال المؤثرة في جميع أرجاء البلد ـ كانوا جيلاً بعيداً عن الدين بشكل تام.
فالجيل الذي رُبّي في عهد رضاخان، وفي أوائل عصر نفوذ العلم الجديد والثقافة الأوربية إلى إيران، هو جيل يفتقر إلى العقيدة والإيمان في الغالب. ولكن المسار تغيّر بعد ذلك إذ تعرّف عدد كبير إلى الدين والمسائل الدينية، ثم استيقظت العواطف وتفتحت في القلوب وانبثق فكر جديد.. ظهر إلى الوجود المثقفون المتدينون.. وترسخت مواقع العلماء النافذين في المحيط الجامعي من أمثال الشهيد مفتح، الشهيد مطهري، الشهيد بهشتي والشخصيات البارزة الأخرى، وأضحت مؤثرة في ذلك الوسط.
ومن التحولات التي طرأت، ان بعض الشخصيات الجامعية انفتحت على دنيا الإسلام وتعرفت على مسائل الدين، وجاءت النتيجة على خلاف ما أراد أولئك ـ المؤسسون الأوائل لمشروع الجامعة في إيران ـ.
أما حجر الأساس، فقد كان وضع على الصورة التي ذكرناها(131).
(4)
كانت الجامعة في السابق، هي المحيط الذي يشهد غياب الثقافة الإسلامية بالكامل، أو على الأقل كان رديفاً لأسوأ الأماكن التي تفتقر إلى الثقافة الإسلامية، وتسجّل غيابها الكامل فيها. وفي الواقع كان النظام السابق والأجهزة الثقافية التابعة له، تقتفي نهجاً معيناً أريد للجامعات أن تنهض به. ولم تكن الأهداف السياسية بعيدة عن ذلك، بل كانت تكمن خلف المشهد(132).
(5)
لم يكن الهدف الأول لتأسيس الجامعات، هو تعليم الشباب، بل كان الهدف هو بناء الشباب واعدادهم بالشكل الذي يدفع الجهاز أسرع ما يمكن للارتباط بالأقطاب الاستعمارية والاستكبارية العالمية. بمعنى ان الإعداد كان يتم بما يؤدي إلى ترسيخ حالة العبودية والتبعية؛ فالشخص العزيز (المرموق) ـ في معيارهم ـ هو الذي يتفوق على غيره بالعبودية والاستسلام
لم يكن الهدف إذاً، هو الفكر الحرّ المستقل، كما لم يكن ايجاد الإنسان الفاعل البنّاء. ومردّ ذلك انّ أساس عمل الحكومات كان الارتباط ـ بالخارج ـ والتبعية له.. من الذي جاء بالنظام البهلوي إلى السلطة؟ من الذي أتى برضا خان ومحمد رضا إلى واجهة السلطة؟ وحين وصل هؤلاء إلى السلطة ـ الشاه الأب والشاه الابن وأتباعهما ـ كان همّهم ان يتحركوا بالطريقة التي تحقق منافع الأسياد الذين جاؤوا بهم إلى السلطة ومنحوهم هذه المواقع، فقد كانوا يعرفون ان قطع العلاقة مع أولئك (الأسياد) يعني افتقادهم لفرصة بقائهم في مواقعهم.
انظروا الآن إلى ما يجري في منطقة الخليج الفارسي فالأنظمة الحاكمة في تلك الدول تحس ان حياتها وموتها، وقارورة عمرها، بيد أمريكا. السعودية تعيش هذا الاحساس بشكل معين، والكويت تعيشه بشكل آخر، وبقية الدول تعيشه بشكل ثالث، ولكن المهم ان هذا الاحساس هو عنصر مشترك فيما بينهم. نظام بهلوي كان مثل هؤلاء تماماً؛ يعيش هاجسهم.
كان الاتجاه الذي تقوم عليه الحكومة ـ وتتحرك ـ هو اتجاه التبعية والارتباط بالخارج واظهار الطاعة والتسليم الذليل.
وقد أرادوا للطالب الجامعي ان يكون على هذا المنوال، وإذا كانوا يحرصون على الاستاذ الجامعي، فقد كانوا يريدونه استاذاً من هذا النوع، إلا ان يزوي بنفسه في زاوية مهملة، ويعتزلهم بحيث لا يقترب من دائرتهم، كي يعيش حياة حيوانية(133)
(6)
من الأُمور الواضحة انَّ الجامعة في طرازها الحالي، ولدت وهي مفصولة عن الدين، بمعنى انهم أرسوا قواعد البناء الجامعي على نحوٍ ينتهي بولادة مؤسسة بعيدة عن الدين. وهذا الكلام لا شأن له بما ـ قد ـ يقال من انّ فلان شخص، من مؤسسي الجامعة كان متديناً أم غير متدين، لأنَّ الأصل الذي اشيدت الجامعة على أساسه هو ان تكون مؤسسة بعيدة عن الدين؛ بل ومناهضة له، تماماً كما حصل مع تيار المثقفين في بلادنا، إذ وُلد المسار الذي يحتضن النخبة المثقفة في طليعتها الأولى، على أساس غير ديني.
وانما الذي حصل هو انَّ الدين اخترق مجال الجامعة ونفذ إلى محيط المثقفين، كما نفذ إلى بقية المجالات والبيئات الإنسانية. فمن خصائص الدين انه لا ينتظر إذن أحد حتى ينفذ في مجال معين، ولم يقتصر نفوذ الدين إلى الجامعة والمثقفين وحدهما، بل نفذ إلى جميع الأمنكة.
ولكن ذلك لا يغيّر من القضية شيئاً، إذ ظلَّ الأصل الذي انشئت الجامعة على أساسه، انها ولدت بعيدة عن الدين منفصلة عنه، بل مناهضة له. وهذا البناء يجب ان يتغيّر، وعلينا ان لا نسمح للأوضاع السابقة ان تتكرّر مرة أُخرى.
طبيعي ان العدو لن يجلس ساكتاً عاطلاً عن العمل(134).
القسم الثاني
علل وجذور الغزو الثقافي المناهض للثورة الإسلامية
1 ـ احياء الإسلام الثوري في إيران والعالم
(1)
في كلّ مرّة ينكشف فيها وجه الإسلام الواقعي خلال تأريخه الممتد منذ (1400) سنة، ترى الدنيا تصطف لمواجهته، بأشكال العداوة الشديدة، وضروب البغض العميق، وأنواع الخيانات العجيبة الغريبة. وبالعكس في كل مرحلة تنكفأ فيها صورة الإسلام الواقعية، وتختفي معالمه المتألقة الناصعة، وتتراجع دعواته الكبيرة، ترى تضاؤل حركة العداء، وقلة اصطفاف القوى المناهضة له.
هذه المعادلة مطرّدة في مسار الإسلام منذ اليوم الأول حتى هذه اللحظة. فحينما تنظرون إلى مرحلة النبي في مكة، ترون ان أنواع العداوة والبغضاء وضروب المكر قد اصطفت في مواجهة هذا النبي العظيم ودعوته (الإسلام) وانطلقت من قبل القوى الهمجية الشريرة.
وفي مرحلة المدينة لكم ان تلاحظوا أشكال البغضاء والعداوة ومقدار ما تمثلته المواجهة البغيضة من دموية، وهي تصدر من الأشرار التافهين.
فقد كان من بين الأحزاب ـ ثمة سورة في القرآن بهذا الاسم ـ التي ناهضت الإسلام وظاهرت نبيه العظيم، مشركو قريش، ومشركو ثقيف، وأهل الكتاب الذين ابتعدوا عن كتابهم، واليهود والنصارى، والمنافقون، فقد اصطفت هذه القوى جميعاً، وتكاتفت أجنحتها لتدمير الإسلام ونبيه، واتحدت كلمتهم وأصبحوا يداً واحدة، ووقف الإسلام بكل ألقه واشعاعه في مواجهة هؤلاء، وحيداً.
وحين آل الأمر إلى سلطان بني أُمية وبني العباس، رأينا حملة الإسلام الواقعي ـ الإسلام المحمدي ـ عرضة لألوان الضغط وصنوف التضييق وضروب مختلفة من الملاحقة والتعذيب. تأملوا حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام والأئمة الآخرين، وتفحصوا حياة العلماء والمحدثين الكبار، لتعرفوا ما حلَّ بهم من قبل خلفاء الجور.. تعرضوا للضرب بالعصي والأسواط.. للسجون ولأصناف الأذى والعذاب.
هذه جميعاً تظهر لكم واضحة من خلال مطالعة التأريخ. من خصوصية الإسلام الواقعي الحقيقي، انه كلما تجلى للعيان وظهر ـ موضوعياً ـ اصطفت قوى الشر والفساد لمواجهته بكل ما تملكه من قوة.
وفي المقابل لا تدخل القوى المضادّة في مواجهة مع اسلام خال من روحه.. تخلى عن شعاراته الأصيلة.. إسلام لا ينهض لمواجهة الظلم.. إسلام تعايش مع ضروب الفساد الأخلاقي.. اسلام ينطوي على بعض الشعائر بيد انه ضيّع الأصول وافتقدها.. إسلام مثل هذا لا يثير القوى المناهضة، ولا تصطف لمواجهته قوى الشر والفساد.. ولهذا الشكل من الإسلام فصل عريض في التاريخ، بامكانكم أن تعودوا إليه لتقرأوه وتطّلعوا عليه، ولكم ان تلاحظوا ـ هذه القاعدة المطّردة ـ في عصرنا هذا المملوء بالفساد، فساد النظام البهلوي والأنظمة الأُخرى التي سبقته في إيران.
ان التجلّي الأول للإسلام ـ الإسلام الواقعي ـ ممتد في جميع أنحاء الدنيا. وإسلام مثل هذا، مقاوم للظلم والتسلّط والنهب والفساد، عليه أن يترقب عداء القوى الكبرى وأمريكا والصهاينة وشركات النهب العالمية، والسلاطين الفاسدين، والرؤوساء المفسدين.. فكل هذه الجبهة العريضة من قوى الفساد والشرّ تناهض إسلاماً مثل هذا، وليس أمام مثل هذا الإسلام إلا ان يترقب عداءها(135).
(2)
تبرز في صراع القوى المتسلطة مع الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية قضية الإسلام الصحيح، الخالي من تشويهات أيادي الاستكبار العالمي وتحريفاتهم. وبعبارة أُخرى انَّ القضية بالنسبة لنا ـ في هذا الصراع ـ وبالنسبة لأعدائنا على حد سواء، هي مسألة الإسلام. والاستكبار يواجهنا بسبب الإسلام.
إنّ هدف الاستكبار العالمي وعلى رأسه أمريكا، وفي قاعدته جميع الأجهزة الشيطانية المسلطة على العالم ـ وحتى غير المسلطة ـ التي تعمل من أجل مصالح الاستكبار، هدفها جميعاً من مواجهة إيران المسلمة هو الإسلام.. الإسلام فقط وليس أي شيء. اننا لا نخوض جهادنا من أجل ان تعم الحياة الإسلامية الطيبة بيننا وحدنا، بل من أجل أن تعم البشرية. فجهادنا هو من أجل الإنسانية أيضاً.
بيد ان ذلك لا يعني اننا نجهّز الجيوش، ونمضي بها حيثما تخل أيادي الاستكبار بالحياة البشرية الطيبة، فنخوض المعركة ضدّها، كلا، فهذه الحرب ليست من سنخ هذه المقولة.
اننا نسعى من موقع الإسلام وقاعدته ان نثبت أنَّ البشرية التي تعيش راهناً في ظلال وطأة حاكمية الاستكبار الخبيثة، تتجرع الآلام، وتقترب يوماً بعد آخر من الشقاء أكثر. والهدف من سعينا أنَّ الإسلام يمكن ان يكون رسالة انقاذ للبشر.
لقد أثبتنا ـ مرّة ـ ومانزال نسعى ان نثبت ان الإسلام قادر على مواجهة القوى العالمية الكبرى، وضرب قواعد الأنظمة الظالمة في العالم.
الاستكبار يعيش حساسية من هذه المسألة. ولذلك تراه يبغض ايّة أمة أو دولة أو نظام يرفض ثقافة السلطة أي يرفض حاكمية أنظمة البيوتات والزور وامبراطوريات السلطة العالمية.
وفي عالم اليوم، هذا هو الإسلام، وها نحن الذين نخوض معركة رفض نظام التسلّط في العالم، ونعتبر ان نظام الهيمنة العالمي هو المسؤول عن شقاء الإسلام والبشرية في كافة أرجاء العالم.
نحن لم نهلع من التهم التي تنهمر على ثورتنا وشعبنا من أجهزة الدعاية المرتبطة بالغرب، ولن نضطرب. فمنذ أوائل انتصار الثورة، راح أكثر الرجعيين رجعيةفي هذا العالم يرمون شعبنا وثورتنا بتهم الرجعية، رغم ان ثورتنا انجزت في هذا العصر، أكثر الحركات (التغييرية) رقياً وتقدمية، ومع ذلك لم نهلع ولم نضطرب(136).
(3)
ترى القوى الاستكبارية الغربية نفسها، انها في مواجهة مع الإسلام اليوم. هم يخشون الإسلام ويعدّوه خطراً.. وكل مظهر إسلامي ينطلق يعتبرونه طليعة خطر جدي يهدّد قدرتهم ومصالحهم.
والشيء البديهي انَّ الإسلام المحمدي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو خطر حقيقي للأنظمة التي تقوم على أُسس الظلم والفساد والانحطاط، لما ينطوي عليه من رفض للفساد والانحطاط الأخلاقي في محيط الحياة البشرية.
وهذا في الواقع ما يفسّر لنا سلوك جميع القوى الشيطانية العالمية اليوم، في مواجهتها لتجليات الإسلام ومظاهره، بأقسى ما تكون أساليب المواجهة وأعنفها، بحيث راحت تلك القوى تسحق بأقدامها أشد الأصول بداهة مما كانت تنطق به شعاراتها(137).
(4)
إنّ القوى الكبرى التي انطوت على حال العداء الدائم للثورة الإسلامية لم تعلن ـ ولن تعلن ـ صراحة أسباب عدائها للجمهورية الإسلامية. فلو انَّ أمريكا أعلنت صراحة انَّ باعث عدائها لإيران، هو عداوتها للإسلام، لوضعت في الصف المقابل لها مليار مسلم في العالم يكونون في مواجهتها(138).
(5)
في كل مكان تظهر فيه تجليات الإسلام الواقعي، ترى القوى الخبيثة تتوافق في الاصطفاف ضدّه. بيد انَّ الذي يحصل أن تُبادر القوى الإنسانية الخيرة، والقلوب النقية، والأرواح السامية، والفطرة النظيفة، للدفاع عن الإسلام الواقعي وحماية وجوده، بازاء ذلك الاصطفاف المعادي(139).
(6)
منذ اللحظة التي انتصرت فيها الثورة الإسلامية في إيران، انطلق المؤمنون الملتزمون للعمل على أساس الإسلام. ومعنى ذلك ان الإسلام في بلدنا لم يكن لقلقة لسان ولن يكون. انما اختار شعبنا التحرك على هدي ما أراده القرآن للمسلمين، من مواجهة للشياطين ومبارزة القوى الظالمة. لقد تخلّى شعبنا عن كلّ شيء، من أجل السير في سبيل اللّه، تماماً كما أراد الإسلام ـ من المسلمين ـ أن يبذلوا التضحيات من أجل الحفاظ على عزتهم في مقابل القوى العالمية. «وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين» (المنافقون/8). العزة للمؤمن، لأنَّ المؤمن هو الشخص الوحيد الذي يواجه بوجوده كلّه، أيَّ بؤرة شرّ شيطاني وفساد. ومنذ اللحظة التي استطاع فيها الشعب الإيراني ان يجسِّد بانتصار الثورة، دين اللّه ـ الإسلام ـ في اطار نظام اجتماعي، انبثقت المخاوف في قلوب المستكبرين.. فبدأوا جهودهم لمواجهة الإسلام بأي طريق ممكن.
من هنا فانَّ مواجهة الجمهورية الإسلامية ونصب العداء لها كان بسبب الإسلام. وآية ذلك انهم تعاملوا مع الجمهورية الإسلامية على انّها خطر كبير، في اللحظة التي تمسكت بالتزام ثابت بالمعتقدات والأصول الإسلامية. ففي البداية لم تظهر منهم حساسية (وردود فعل عنيفة) وذلك حين لم تكن الأمور قد اتضحت لهم بشكل كامل، ولم يعرفوا ما هي الجمهورية الإسلامية، وإلى أي مدى يمكن أن تلتزم بمبانيها وتثبت على شعاراتها.
إنّنا اليوم إذن أمام حركتين متقابلتين، قد أمتلأتا بالدروس والعبر بالنسبة لشعبنا. فمن جهة نرى الضغوط الاستكبارية المتزايدة، وعداء القوى المادية، ضدَّ أي مظهر من مظاهر الانبعاث الإسلامي، مما تصلنا أخباره يومياً ونلحظه باستمرار، حتى انَّ هذه القوى لا توفّر في عدائها مظهراً منه، حتى تجلياً صغيراً من تجليات انبعاث الإسلام، يظهر في بلد أوربي، إذ سرعان ما تتحول هذه الظاهرة، إلى مركز للصراع، يدفع المسؤولين والسياسيين لمواجهته
هذه هي الحركة الأولى في طرف القضية.
أما في الطرف الثاني، فاننا نجد ان قلوب البشر في العالم تنجذب إلى الإسلام، بالأخص ما يحصل للشباب والمثقفين والناس الواعين، فهم ينفتحون على الإسلام رغم شدّة الضغوط العالمية ضدَّ الإسلام والمسلمين.
وهاتان الحقيقتان، هما اللتان تؤمّنان نمو الإسلام الحقيقي واتساع رقعته.
ان الإسلام الذي تضرب جذوره في الفطرة الإنسانية، والذي يخوض المواجهة الشاملة مع كافة أجهزة الظلم، هو الذي يستطيع ان يجذب إليه البشرية، وهو الذي سيظل ويثبت.. وإليه سيؤول حكم العالم.
العظة التي تكون لنا ولشعبنا، هو أن نسعى في الداخل لتنفيذ أحكام الإسلام أكثر فأكثر. انّ الذي يؤمّن لشعبنا التحرّر من جميع القيود والأغلال، لن يكون سوى النظام الإسلامي وأحكام الإسلام(140).
(7)
هُم (الأعداء) يعادون من أعماق وجودهم إسلاماً مؤطراً (في صيغة نظام) كما هو عليه في نظام الجمهورية الإسلامية، وهم على استعداد لضرب هذا الكيان والقضاء عليه بمختلف الطرق والوسائل. يشهد على ذلك ما كنّا عليه من صراع منذ أوائل الثورة حتى الآن. ومازلنا الآن في صراع على الجبهات كافة؛ الاقتصادية والثقافية والسياسية، وعلينا ان نهيّء أنفسنا ونتجهز في جميع المواقع(141).
(8)
يعود عداء المعسكر الاستكباري لإيران المسلمة في الوقت الحاضر، إلى الإسلام. هم في عداوة مع الإسلام، فيضغطون على الجمهورية الإسلامية. إنّهم يخشون احياء القرآن، وبسبب ذلك يعادون الشعب الإيراني.
وما ينبغي للشعوب الإسلامية التي تريد التضحية من أجل الإسلام والحركة في خطّه، هو ان تعدّ نفسها وتستعد لمواجهة أعداء الإسلام.
نحن ـ الشعب الإيراني ـ نشعر بالفرح والفخر لهذه الحال، فنحن مرمى لسهام المستكبرين وبغضهم وعداوتهم من أجل اللّه وبسبب القرآن(142).
(9)
يرتبط الاستكبار العالمي وقوى النهب والهيمنة السياسية، بعلاقة سيئة مع الإسلام، وهم أعداء للنظام الإسلامي. فهم غارقون في الانحطاط والفساد، ويتحركون على أساس الظلم والاستبداد والاضطهاد، والإسلام هو الذي يفضحهم ويعريهم عن ما هم عليه.. الإسلام هو الذي يهدّد وجودهم، ويقظة المسلمين هي أكبر خطر بالنسبة إليهم. لهذا السبب تراهم في مواجهة شديدة للإسلام وللنظام الإسلامي.
والشيء الطبيعي، انهم يبادرون لفعل كل ما يستطيعونه، ضدَّ النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية(143).
(10)
واللّه، انَّ أمريكا لا تتأذى من الشعب الإيراني لشيء؛ قدر أذيتها من إسلامية هذا الشعب وارتباطه بالإسلام المحمدي. هي تريد لهذا الشعب ان يفك ارتباطه بهذا الإسلام.. وهي تريد منكم ان تقطعوا صلتكم بهذه العلقة التي تبعث على الفخر والاعتزاز(144).
(11)
لقد اكتشف العدو المستكبر ـ القوى العالمية المتجبرة والسلطات الرجعية التابعة ـ السرّ الذي اكتشفناه. فقد أدركوا انَّ السرّ الأكبر وراء انتصار شعبنا ومكانته هو الإيمان. لذلك تظافر العدو بجميع ما يملك من إمكانات وقوى من أجل ضرب هذا الإيمان وتدميره.
وفي هذه المسألة ـ نلتقي ـ مع المحرِّك الأصيل، مثلما كان عليه الحال في صدر الإسلام، وفي حياة النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان الإيمان هو العامل الأساسي وراء عداء أولئك ـ للإسلام وللنبي ـ لأن الإيمان هو العامل الأساسي وراء التقدّم الذي حصل(145).
(12)
ان ما يهدّد الاستكبار في الوقت الحاضر، ليس القنبلة الذرية أو الصواريخ الذرية، وانما الذي يحمل رسالة هادفة.. ونحنُ اليوم نحمل مثل هذه الرسالة الهادفة. ولو أنا عملنا بشكل صحيح، وكان لنا تعاط إيماني، وشجاعة إسلامية كافية، ولم نعش عالة على الإسلام، ولم نُبَذِّر بيت المال.. فالشيء الأكيد انَّ العدو سيصاب بالضرر والأذى نتيجة ذلك.
ان أمريكا سترضى عنّا في الوقت الذي نتخلى فيه عن الإسلام. ولكن هل هناك من هو مستعد للتخلّي عن الإسلام؟ إذا تخلينا عن الإسلام فما وجهُ بقائنا على رأس الأُمور إذن؟ ليأتِ جهاز آخر ويتسلم الحكم. ترى لماذا يريدنا الشعب ويرغب بنا؟ انّ الشعب يرغب بي وبكم لأجل الإسلام، لأننا خدّام الإسلام، ولأننا أعلنا بأن حركتنا هي من أجل الإسلام.
«ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى» (البقرة/120) هذا ـ القول الكريم ـ هو أحد معجزات الإسلام.. فالأُمور تجري اليوم على ما ينص عليه القرآن. لقد كنا في وقت من الأوقات نتصوّر انَّ النص (مصداق النص) يرتبط بالماضي، فقد كان (القوم) على مثل هذا الموقف في الماضي وما يضرّهم ـ الآن ـ ان يتقلد أحد المسلمين الأُمور ويمسك بزمامها
كلا. إنّهم يعارضون الحالة الإسلامية في جميع مراحلها وأشكالها، ويحملون لبعضها عداوة شديدة.. كما هو شأن المرحلة التي نحن فيها. ويعارضون حتى الحالة الإسلامية التي عليها مسلمو البوسنة، فهم يعيشون مرحلة ضعيفة، ومع ذلك رأينا ورأيتم أنهم يعارضون هذه الحالة الإسلامية رغم كونها ضعيفة وباهتة، وهم ليسوا على استعداد لتحملها.
وبعد البوسنة ستكون البانيا هدفهم التالي. وسيجهدون لو استطاعوا أن يلحقوا أشدّ ضروب الأذى بالمسلمين الأوربيين(146).
(13)
لن يرضى العدو، مع ما يحمله من بغض من الأعماق للإسلام والثورة، إلاّ كما قال العزيز المتعال في خطابه للمسلمين «حتى تتّبع ملتهم» (البقرة: 120).
فالاستكبار لا يرضى بأقل من ركوع الشعب واستسلامه، ولن يرضى عن شعب من الشعوب حتى يتخلى عن أُصوله ويتنصل عن دينه ويتركه.
انَّ البغض الذي يكنّه الاستكبار لشعبنا، يعود إلى معتقدات هذا الشعب واستقلاله وشعار «لا للشرق ولا للغرب» الذي يحمله؛ كما يعود لعلقته العميقة المستحكمة بالإسلام.
ومن هذا المنطلق لن تكون ثمة نهاية لعداوة الاستكبار وبغضه.
بيد اني على ثقة من انَّ هذا الشعب سيستطيع ان يتقدم ـ بعناية اللّه ولطفه ان شاء اللّه ـ برغم الحقد العميق الذي يكنه الأعداء والاستكبار العالمي ضدَّ هذا الشعب، ويبلغ المقاصد الإلهية في جميع الأبعاد سواء كانت اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، وسيجبر ـ ان شاء اللّه ـ العدو على التراجع في جميع المجالات(147).
(14)
إنّ رسالة الثورة وايصال هذه الرسالة هي من الأصول الإسلامية الثابتة. التبليغ يعني الايصال، «الذين يبلّغون رسالات اللّه» (الأحزاب / 39) وهو يعني تجاوز الحُجب والعقبات، وايصال كلمة الحق إلى حيث ينبغي أن تصل.
لقد انطلقت الصيحة مدوية صادقة، في وسط أجواء تتعاضد فيها ـ بشكل عام ـ جميع العوامل ضدَّ الاتجاه الإيماني والديني؛ وضدَّ الاتجاه الإسلامي بشكل خاص، برغم ان الشعوب تعيش ظمأً للجانب المعنوي والروحي.
وبسبب صدق هذه الصيحة المدوية واخلاص الذي اطلقها؛ وبسبب الخلفية العملية التي كانت لها؛ إذ لم تكن مجرد كلمات وحسب؛ وأخيراً بسبب عداوة الوجوه الاستكبارية والرجعية القبيحة لها والعناصر الأُخرى التي تلتقي معها، بسبب ذلك كلّه اكتسبت هذه الصيحة موقعها في قلوب الشعوب، وبالأخص الشعوب الإسلامية، وأوجدت تأثيراً حقيقياً، وعميقاً إلى حدّ ما(148).
(15)
الإسلام اليوم هو في حال اتساع وامتداد في المجتمعات البشرية. هذه حقيقة واضحة تبدو بشكل محسوس في جميع أنحاء العالم. والذي له دراية بأوضاع العالم يلمس هذه الحقيقة ولا يقوى على انكارها. والإسلام يسري في المجتمعات التي تعاني من ظلم القوى الشيطانية، والأنظمة الطاغوتية، وهي تتطلع إلى فكر جديد و نهج آخر، كما هو عليه حال البلدان الأفريقية والآسيوية وأمثالها، بل حتى في البلدان الأوربية. فالإسلام يمتد، وهو في حال نمو في هذه المجتمعات.
أما أي إسلام هذا الذي يسري ويمتد، فهذه مسألة خاضعة للبحث. إذ هناك حركتان تتظاهران باسم الإسلام، وربما دلَّت بعض الظواهر على شباهة هاتين الحركتين وتماثلهما. إلاّ انهما تبقيان تختلفان في الروح والجوهر وفي الاتجاه.
الإسلام الحقيقي.. الإسلام القرآني.. الإسلام المحمدي، هو ذلك الإسلام الذي يدعو اتباعه إلى نقلة جديدة في الحياة، وهو الإسلام الذي لا يكون تحت طائلة أصحاب القوة ورؤساء الشرق والغرب، وفي اطار نفوذهم.
وثمة «اسلام» آخر هو «إسلام» يحمل من الإسلام اسمه ويأخذ منه مظاهره، بيد انه يتجه بسهولة لخدمة أمريكا؛ والشرق والغرب. وهذا «إسلام» يتمثل في السلطات الظالمة التي تهيمن على بعض البلدان الإسلامية. فرموز هذه القوى تتكلم عن الإسلام، وانما تعني به ما يكون بمثابة حانوت للكسب، ووسيلة للعيش، وأُسلوب في الهيمنة والتسلّط.
وإلاّ إذا كان المراد من الإسلام، هو الإسلام القرآني، فهذا الأخير يرفض صراحة تسلّط أمريكا على مصير المسلمين، وهيمنتها على ثرواتهم النفطية.. كيف يكون الإنسان مسلماً، ومنقاداً إلى أمريكا في الوقت ذاته؟ وكيف يكون مسلماً، ومن أهل الفساد واللذات المحرمة وباقي الابتلاءات الأخلاقية؟ وهل يكون المسلم مسلماً، ويكون في الوقت نفسه على رأس سلطة ظالمة، يحقق لأعداء الإسلام رغباتهم في ظلم المسلمين والضغط عليهم؟ ما يصح في وصف هؤلاء الأدعياء، هو تعبير «الإسلام الأمريكي» الذي أطلقه إمامنا الراحل مراراً في الاشارة إلى هؤلاء.
إنّ ما ينفذ إلى القلوب ويسري في جوانب المجتمعات البشرية، هو الإسلام الحقيقي، الإسلام الذي لا يعرف التخاذل والاستسلام.
من هذا المنطلق ترون الحكومات التابعة تدخل في مواجهة مع المسلمين في البلدان الإسلامية مثل (بعض البلدان العربية والأفريقية). حين تنتشر المساجد في هذه البلاد وتنهض جماعة باسم الإسلام، تراها تضع المساجد تحت الحصار وتبطش بالمسلمين الناهضين وتطلق عليهم وصف الارهابيين. ما معنى هذا؟ أليس معناه ان ماهو سائد ـ من إسلام ـ في تلك البلدان بعيد عن جوهر الإسلام وحقيقته، وان الغيارى والمؤمنين وذوي الضمائر اليقظة، هم بشأن اعادة الإسلام الواقعي وترسيخ حاكميته، مما يؤدي إلى التصادم والمواجهة بين الطرفين؟
هي حقيقة ماثلة؛ أن الإسلام اليوم في حال تقدم، وهذه واحدة من معاجز الإسلام والقرآن. لأنهم بذلوا الكثير ضد الإسلام، لاسيّما في السنوات العشرة الماضية، حيث انفقوا من الأموال وبذلوا من الدعاية المضادّة، وشدّدوا العداء، ما لم يتحقق ـ ربما ـ ضدَّ أي فكر أو عقيدة أُخرى في المدة المماثلة(149).
(16)
كانت رسالة الثورة وكلمتها الأولى، هي الاعلان عن بداية عهد حاكمية القيم المعنوية. إلاّ انَّ الذين فهموا هذه الكلمة ـ الرسالة وصدّقوها، هم قلّة من الأفراد؛ فالعالم تحيط به الأمواج المادية من كل صوب، وتقبض عليه القوى التي ترتكز على المادة. الذي حصل في الوقت الحاضر، انَّ الكثير لمسوا هذه الحقيقة وأدركوها.
إنَّ القيم المعنوية تتجه في العالم المعاصر، نحو الاحياء الجديد، وتم إحياء الكثير منها بالفعل. وفي المقابل ابانت المادية عن عجزها في تمظهراتها المختلفة، سواء في طريقة التفكير الماركسية، أو فيما هو أخطر منها، مما هو ماثل في العالم الاستكباري حيث تتزاوج المادة مع المال مع القوة مع الدعاية، كما يتجلى على نحو أكثر تركيزاً في الحكومة الأمريكية.
الرسالة الثانية لثورتنا تمثلت في الكشف عن عجز القوى المادية في مواجهة القيم المعنوية وحركة الارادة الإنسانية. وقلة في العالم هُم الذين لم يفهموا هذه الحقيقة بعد، وهذه القلة لا تنظر إلى أوضاع العالم بدقة(150)
(17)
هذا عصر استيقظ فيه العالم الإسلامي، وأخذ المسلمون في جميع أنحاء العالم يشعرون بالعزة والرفعة. لقد مضى ذلك العهد الذي كان فيه المسلم يخجل ـ في أية نقطة من نقاط العالم كان ـ من انتمائه إلى الإسلام، ومن اعلان هذا الانتماء. انَّ المسلمين اليوم يفخرون بانتمائهم إلى الإسلام، ومردّ هذا الشعور يعود إلى هذه الثورة التي فجرها القائد الكبير الإمام الخميني، بتضحيات الشعب الإيراني العظيم وايثاره المدهش، فأفضى انتصارها في هذه البقعة الحساسة من الدنيا، إلى ذهول العالم.
عشر سنوات والجمهورية الإسلامية تصمد بشهامة في وجه مختلف المؤامرات الاستكبارية، وهي تدافع عن قوة الإسلام واقتداره، وعن وجودها وثباتها، حتى استطاعت أن ترد كيد العدو إلى نحره.
لقد كانت الدول الاستكبارية تظن انّها تستطيع ان تنال منّا، من خلال ثماني سنوات من الحرب المفروضة، وبالحصار الاقتصادي والدعائي، وباشاعة ضروب التهم ضدّنا في ارجاء العالم. وقد غفلوا عن حقيقة انَّ الإسلام؛ يقظة المسلمين وصحوتهم، هي التي تهز مضاجع سلطتهم، وان سهام اليقظة الإسلامية النافذة، تهز مع مضي كل يوم، عروش فراعنة العالم أكثر فأكثر(151).
(18)
نحن شهود في هذا العصر على يقظة الشعوب، وهذه حقيقة أُخرى تبعث الأمل في القلوب وتأذن بعهد وضّاء. صحيح انَّ هيمنة القوى الاستكبارية تزايدت أكثر فأكثر على شؤون الشعوب، بفضل تقدم وسائل (التقنية) الجديدة كالتلفاز والمذياع وأجهزة الدعاية والاعلام، وبحكم المال والقدرات الصناعية. بيد انها سنّة اللّه التي مضت على ان تستيقظ الشعوب وتصحو.
اننا نرى ان الشعوب في حال يقظة متزايدة يوماً بعد آخر، وهذه اليقظة تفسّر على أساس الأمل وثقة هذه الشعوب بالمستقبل.
عنصر الأمل يعتمل في يقظة الشعوب. وعلينا ان لا نشك في انَّ أهم عامل بعث الأمل لدى الشعوب خلال السنوات العشرة الأخيرة، هو انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتشكيل حكومة شعبية في اطار مستقل عن الشرق والغرب، وتصاعد نهج المقاومة بوجه القوى الاستكبارية.
لقد بعث ذلك الانتصار وهذه المقاومة، الأمل لدى شعوب العالم، وبالأخص المسلمين. لقد استيقظ المسلمون في جميع أجزاء الدنيا، وهذا من الصنع الإلهي، ومن قدرة اللّه(152).
(19)
افتقدت جميع الشعوب الإسلامية خلال النصف قرن الأخير، أملها بذاتها وطاقاتها تماماً، بل وفقدت الأمل حتى بطاقة الإسلام نفسه وإمكاناته، وذلك أثر سياسة التلقين المتواصل التي مارستها القوى المضادة للإسلام. وفي المقابل تجلى الأمل كرسالة في كل واقعة من حوادث الثورة، وفي كل خطاب واشارة من قبل إمام الثورة (الراحل)، وكان الأمل ينبض في كل حركة تصدر من الشعب ونشاط يبذله على هذا الخط.
وقد التقط المسلمون رسالة الأمل هذه فعادت ثقتهم بذاتهم، وأصبحوا على بصيرة من الضعف الذاتي للاستكبار. وإذا قدّر للعالم ان يشهد بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، الشعوبَ الإسلامية في كل مكان، وهي تتحرك بنحو يُخبر عن ثقة بالذات وإيمان بها، في طريق العود إلى الهوية والثقافة الإسلامية الذاتية، فانَّ سبب ذلك يعود بشكل دقيق إلى إبطال المبارزةُ الشجاعةُ لشعب إيران، تلكَ الحيلة الاستعمارية ـ الاستكبارية التي أشاعوا من خلالها عدم قدرة شعوب الشرق، والشعوب الإسلامية، على دحر القوى الأوربية وأمريكا، حيث أشارت ـ الثورة وجهاد الشعب الإيراني ـ إلى موقع القوة الواقعية وموطنها. فالقوة الواقعية هي التي تكون بالناس مع الإيمان.
وفي مقابل قوة شعبية مسلحه بالإيمان، لا تستطيع أية قدرة مادية مهما كانت كبيرة ومجهزة، ان تفرض ارادتها(153).
(20)
في كل مكان يكون فيه شعب مبتلٍ بهذه القوى (الدولية المسيطرة) يكون لهذا الشعب علاقة مع هذه الثورة وميل إليها، لكونها تفصح عن مكنونات قلوب ذلك الشعب وتعبِّر عن تطلعاته. كثيرة هي الشعوب المملوءة غيظاً ورفضاً لحضور أمريكا، ونفوذ الاستكبار، وللقواعد العسكرية، والتدخلات الاقتصادية، ولاشاعة الثقافة الأجنبية في بلادها، بيد انها تفتقر للجرأة في التعبير عن ذلك وتفتقد قدرة الحركة باتجاه الرفض والمقاومة. والأهم من ذلك انها تفتقد القيادة التي تتحرك؛ فالاختناق شديد ويحوط بها الارهاب والقمع من كل جانب.
والأنظمة الرجعية التي ترتبط بأمريكا، هي غالباً من هذا القبيل. ومثل هذه الشعوب المقهورة حين تجد أمامها شعباً يُواجه النفوذ الأمريكي بقوة وبارادة حرَّة من دون خوف، ويهتف ضدَّ ثقافة الغرب وتدخل الاستكبار؛ وضدَّ الحضور العسكري الاقتصادي والثقافي للأجانب، ويعمل على طريق هذه المواجهة ويثبت عليها، فانها ترى قلوبها مضطرة للميل إلى هذا الشعب، وتكون على علاقة مع الثورة.
والمعطى العالمي يكون بهذا المعنى. يعني ان يكون لشعبنا، ولثورتنا رسالة إلى بقية الشعوب. ومؤدّى هذه الرسالة، انَّ الشعب إذا أراد؛ وإذ التف حول قيادة واحدة، واجتمع من خلال محور واحد، فهو يستطيع ان ينجز ما لم يكن قابلاً للانجاز قبل ذلك.
وثمة رسالة ـ أُخرى ـ يحملها شعبنا وثورتنا للمسلمين جميعاً. ومؤدّى هذه الرسالة انَّ بمقدور المسلمين ـ إذا أرادوا ـ ان يعيدوا الإسلام إلى المجتمع وإلى موقع الحاكمية، رغم ما بذلته ـ وتبذله ـ الأيادي المعادية للإسلام في سبيل استئصاله والقضاء عليه.
هاتان رسالتنان لشعبنا وثورتنا. وعليكم ان لا تظنّوا ان الشعوب الأُخرى لم تدرك هذه الرسالة ولم تستمع إليها. ان ما ترونه في الحج من وقوف الأفريقي والآسيوي والشرق أوسطي، من العرب والأتراك وبقية الشعوب، إلى جواركم، وتردادهم لشعاراتكم نفسها، واشتراكهم في مسيرتكم، هو في حقيقته جواب على رسائلكم(154).
(21)
كان الكثير من المسلمين قبل ذلك يخجلون ـ في الكثير من نقاط العالم ـ من القول: بأننا مسلمون، أو من الاعلان عن ذلك، وكان الحال كذلك في داخل بلدنا أيضاً. بيد انَّ المسلمين اليوم يفخرون من أقاصي آسيا حتى غرب أوربا ـ وفي المناطق الاُخرى من العالم ـ بانتمائهم إلى الإسلام.
لقد اضحى الإسلام عزيزاً، واكتسب ـ بحمد اللّه ـ طابع المجتمع الإسلامي، وقد غدا هذا المجتمع متجذراً مستقراً(155).
(22)
لقد بلغت النهضة العظيمة للشعب الإيراني إلى النصر ـ بحمد اللّه ـ وقامت على قاعدتها حكومة على أساس الدين. لقد أخذت الحياة تنبض في وجود المسلمين والمتدينيين، بعد قرون من تحقير أهل الدين والاستخفاف بهم. وذلك على اثر عزة النفس التي أخذت تسوق صوب الرفعة والكرامة. كما انبثقت الأحاسيس الإسلامية وتأججت العواطف، وأخذ الشعور بالهوية الإسلامية ينمو في دنيا الإسلام.
فما نراه اليوم من انطلاق جماعات إسلامية تدعوا في البلاد الأفريقية إلى الحكومة (الإسلامية) وما نشاهده من جهاد المسلمين للحكومات الظالمة، وهم يهتفون بشعار (اللّه أكبر)، هو أمر جديد. وما نراه في الجهة الثانية من اضطرار للتظاهر بالإسلام حتى من قبل أولئك الذين كانوا يتبرؤن منه، هو شيء جديد أيضاً، ناشئ من صبح وضّاء أطلَّ على تأريخ الشعوب الإسلامية ببركة انتصار الثورة الإسلامية. وهذه ترتهن بالحركة العظيمة ـ التي عمت الوجود الإسلامي ـ لجهود علماء كبار، في طليعتهم جهود ذلك الرجل العظيم الذي اسس هذه الحركة الكبيرة ومسك زمام قيادتها، وحقق الانجازبقلب مملؤء بالإيمان والعزم والارادة وبتوكل لا متناه، قربة إلى اللّه، وإخلاصاً له تعالى.
ولقد جاء الانجاز كبيراً مدوياً حقاً لا نظير له في التأريخ.
ومع تشكيل الحكومة الإسلامية، وتطبيق النظام الإسلامي، أصبحنا نقترب من الأحكام الإسلامية يوماً بعد يوم؛ وينبغي أن نقترب منها.
لقد استيقظت الشعوب الإسلامية، وبدات الحركة باتجاه اتساع رقعة الإيمان الإسلامي واطراده.
هذا ما حصل حتى الآن. ولعلماء الإسلام، وبالأخص علماء الشيعة دور كبير في ذلك. فمن مزايا هؤلاء وخصائصهم حبهم للعلم.. اخلاصهم للّه.. شجاعتهم وعدم خوفهم من القوى المتجبرة الظالمة، وأخيراً استقلالهم وعدم ارتباطهم بسلطات الجور والظلم؛ وذخائرنا ـ في الحقيقة ـ هي هذه(156).
(23)
نشعر الآن انَّ الضغوط تتزايد على المسلمين في جميع أرجاء العالم، كما نلحظ ان هناك عودة إلى الدين في البلدان الشيوعية، رغم انها عاشت عمراً بعيداً عن الدين، وظلت في غربة عن اللّه.
والملاحظ ان هناك حساسية من المسلمين في هذه البلدان، وفي البلدان الأُخرى.
لقد انتعشت الكنائس في بلدان أمضت خمسين سنة من حياتها ـ أو أكثر من ذلك أو أقل ـ لم تقرع فيها أجراس الكنائس، أو في بعض مناطقها على الأقل. (كناية عن الرغبة بالدين).
والذي يحصل في هذه البلدان، وفي قلب أوربا، وفي البلاد التي تتبجح بالحرية والديمقراطية، وفي الهند، ونقاط أُخرى من العالم، هو وجود ضغوط لا نظير لها ضدَّ المسلمين بالخصوص. ما هو سبب ذلك؟ أخضعوا هذه المسألة للتحليل، أفلا تجدون عندئذ انَّ العلة وراء هذه الضغوطات القاسية، يعود إلى شعور الأجهزة المتجبرة، بأنَّ الإسلام يعيش في جميع أرجاء الدنيا، انبعاثاً آخر وحياهً جديدة؟ ألا يعود السبب إلى شعور العدو بأنَّ الهوية الإسلامية أخذت تنبض بين المجتمعات الإسلامية وهي تنبعث في طاقة وروح جديدة؟ ألا يعد ضرب المسلمين في فلسطين المحتلة بالرصاص الحي دليلاً على انَّ وجود الإسلام أضحى جاداً في الأراضي المحتلة؟ وألا يعود ذلك إلى احساسهم بأنَّ الحركة الإسلامية والرؤية الإسلامية أخذت تتجذر أكثر وتجذب لها الاتباع، في البلدان العربية، سواء تلك التي تجاور فلسطين المحتلة أم غير المجاورة، وأن أصحاب الفكر والشعور والفطرة النقية التفوا حول الإسلام المناضل؟
لا يمكن الشك لحظة بأنَّ القضية تكمن في المسار المشار إليه(157).
(24)
لقد قادت الصلابة الإسلامية وثبات الشعب الإيراني المسلم، والصيحات المدوية التي اطلقها محطّم أصنام القرن، مع الفضل الإلهي والنصر الذي شمل ذلك العبد الصالح وأصحابه دائماً، قاد إلى ان تحقق عملية تصدير الفكر الإسلامي الثوري ـ الذي يخشاه العدو ويخاف منه بشدّة ـ من نفس الطرق التي حاول الأعداء ان يَحولوا من خلالها دون تصدير الثورة، أو يكيدوا عبرها لضربها.
لقد تحولت مظلومية الشعب الإيراني وتحمله للشدائد، إلى باعث لاثبات أحقية هذا الشعب العظيم، ولامتداد الثورة إلى الكثير من البلدان، بحيث منح ذلك المسلمين عزماً أرسخ، ووطّن فيهم الشعور بالهوية الإسلامية أكثر.
مواقف أيادي الاستكبار العالمي في مواجهته للإسلام في الوقت الراهن مواقف انفعالية.. وما يحملوه من حقد للإسلام وضغينة سواء عبَّر عن نفسه بوسائل ثقافية أم سياسية أم من خلال التوسل بالقوة، ينطلق من شعور الاحساس بالضعف والخوف في مقابل أمواج الإسلام الممتدة.
وهذا ايضاً من الألطاف الإلهية، حيث تتحوّل كل مبادرة تنطلق من العدو للنيل من الإسلام، إلى عامل لاثارة غضب المسلمين، وتنقلب إلى باعث لرسوخ ارادتهم في الدفاع عن الإسلام.
المثال البارز لهذه الحال هي قضية تأليف «الآيات الشيطانية» من قبل المرتد الانكليزي المهدور الدم، حيث بَغَت الدول الاستكبارية إضعاف الإسلام من خلال هذا العامل، إلا ان ارادة اللّه قضت ان تتحول مبادرة هؤلاء إلى سبب لفضيحتهم، ومع صدور فتوى الإمام بهدر دم هذا الكاتب، عاد الصوت الإسلامي ليكون أوضح، وحلَّ الانسجام بين المسلمين أكثر.
إنّ جميع جهود العدو في مواجهته للإسلام ستؤول ـ ان شاء اللّه ـ إلى مثل هذا المآل. «ان كيد الشيطان كان ضعيفا» (النساء / 76)(158).
(25)
تعيش الدعوة للإسلام اليوم حالة انتعاش،في أوربا وفي قلب المدنية الغربية والثقافة الغربية التي تنظر للإسلام خصماً لها.. تواجهه بالعداء.
أُنظروا إلى الآثار الفاعلة لهذه الحالة. في الواقع انَّ المستقبل خاضع لهذه الحقيقة التي بشّر بها أنبياء اللّه العظام، ووعدنا بها الإسلام؛ من انَّ النصر سيكون نصيب الإسلام الذي سيكتسح كافة الاتجاهات المعادية وينتصر عليها في العالم كلّه. فإذا قدّر وان قيل للناس العاديين يوماً، ان عدّة من الناس ستنتظم في قلب أوربا شوقاً للإسلام، فسيكون من الصعب عليه تصديق ذلك. وإذا قيل لهم انَّ الامبراطورية القائمة على أساس المادية والتضاد مع اللّه ستأفل وتتلاشى، فسيكون تصديق ذلك صعباً أيضاً. وإذا قيل لهم ستظهر في هذه البلدان الرجعية ـ التي تتبجح بالظاهر الإسلامي وهي في الباطن خاضعة للقوى التابعة للغرب ومتواصلة مع الأجهزة المعادية للإسلام ـ حركات إسلامية تقدمية، سيكون تصديق ذلك صعباً.
وإذا قيل لهم ان الجماهير ستنهض في أقاصي البلاد الإسلامية، بدافع من إيمانها وتبادر للتضحية من أجل ان تكون كلمة الإسلام هي العليا، فسيكون من الصعب تصديق ذلك.
لماذا يصعب تصديق كل ذلك؟ لأن حاكمية الاستكبار العالمي، وهيمنة السلطة الشيطانية، نظمت بطريقة بحيث يكون فيها الدين وعالم المعنى، وبالأخص الإسلام، خارج الساحة تماماً.
بيد انَّ المعجزة الإلهية تحققت، ودخل الإسلام الميدان وقلب المعادلة بطرد أعدائه من الساحة.
لم يبق اليوم من القطبين السياسيين والاقتصاديين الشرقي والغربي، سوى قطب واحد، فقد تلاشى القطب الشرقي تقريباً، ولم يعد هناك وجود للمعسكر الشرقي. حصل ذلك من دون ان يكون ثم من يصدّق الأمر.
أما أنا فأعتقد شخصياً ان نمو الإسلام واتساع نفوذه وامتداده، سيكون أسرع من هذا بكثير، وان البشرية ستشهد في وقت ليس بعيد، اضمحلال حاكمية الغرب وتلاشي ثقافة الهيمنة، وزوال المنظومة المعادية للقيم التي تحكم البشر، وفي النتيجة سيتلاشى ما يعرف اليوم باسم المعسكر الغربي الذي جفا العالم بظلمه، ويسدل عليه الستار ويختفي.
ومن بركات الإسلام أن البشرية ستشهد في المستقبل القريب، تراجع الحكومة الصهيونية الغاصبة، وبلوغ الشعب الفلسطيني المظلوم لحقوقه. هذه هي طبيعة حركة الزمان، وهذا هو الاتجاه الذي تختزنه الحقائق في عالم اليوم. وينبغي للمسلم المؤمن الذي ينطوي على الاعتقاد ان يستعد، وأن يدرك بأن هذا العصر، هو عصر تقدم الإسلام، وان الإسلام سيحكم منطقة التفكير البشري، كما سيحكم وقائع الحياة ان شاء اللّه(159).
(26)
نحن ـ أعني الشعب الإيراني ـ نعمل اليوم باسم الإسلام، ونجاهد من أجله. وهذا تعبير عن المعجزة التي وقعت في عصرنا، حين اكتسب قوام شعب من الشعوب شكل النظام الاجتماعي القائم على أساس الدين والمفاهيم والقيم الإلهية. لم يكن يمكن تصوّر هذا الانجاز في نطاق الحسابات المادية، والشيء الواقعي أنَّ الشعوب الإسلامية مجذوبة إلى هذه الحركة حقاً.
هذه ليست مبالغة، بل هي تعبير عن واقع، يفرض وجوده برغم كافة ضروب الدعاية المضادة للجمهورية الإسلامية. نحنُ نلحظ انَّ الشعوب الإسلامية تحمل عن الثورة الإسلامية، وعن الجمهورية الإسلامية، انطباعاً حسناً، وتتحرك في المسار الذي عليه الثورة والجمهورية. وفي الحقيقة من النادر ان نجد شعباً من الشعوب الإسلامية لم يقع تحت تأثير هذه النهضة.
وهذا الشوق.. والحب والتطلع يبقى في الشعوب مادمنا لم نتخلّ عن إيماننا الكامل بدين اللّه غير المشروط قيد أُنملة. وكذلك ينبغي لنا ان نتمسك بالثبات نفسه في مجال تعاملنا مع القضايا العالمية، وفي اطار تنظيم السياسة الخارجية، وإدارة البلد داخلياً. علينا أن نسعى لابراز سرّ سعادة المجتمع الماثل بالاتفاق حول الإيمان باللّه كمحور لحياتنا، ولنظامنا الاجتماعي، بحيث يبرز هذا المعنى ويكبر لحظة بعد لحظة.
كما علينا أن نسوق الشعب صوب التربية الإسلامية على نحو أوسع وأعمق.. نربّي الشباب في المجتمع بكيفية إسلامية، كما تقع على جامعاتنا مسؤولية تربية الشباب المسلم، والمتخصص المسلم، والعالم المسلم ـ وليس العالِم فقط من دون توفره على الهوية الإسلامية ـ وعلى هذا المنوال ينبغي ان ننهض بالمسؤولية في المدارس الابتدائية، بحيث يكون للقيم الإسلامية الدور المطلق في المجتمع، ويتضاءل تأثير القيم الأُخرى ووجودها.
يجب ان يتجه السعي والتخطيط في هذا الاتجاه، كما ينبغي ان تتحرك مؤسسة الإذاعة التلفزيون في هذا المسار.
لقد عرفتنا شعوب العالم، على اننا شعب ونظام يتحركان بعنوان الدفاع عن الإسلام والتضحية له والبذل في سبيله، لذلك لا مناص من ان نعمل بطريقة تحقق هذا المعنى ـ الذي عرفتنا به شعوب العالم ـ ونثبته(160).
(27)
أضحت الكثير من بلدان العالم اليوم تتخذ من كلامكم ومعتقداتكم ونهجكم وشعاراتكم مناراً لها، بل وحتى من العادات والتقاليد الثورية للشعب الإيراني. فكثيرة هي الشعوب التي ترفع الشعارات نفسها، وتعمل بالتقاليد الثورية ذاتها.
لقد شاهدت شخصياً قبل عدة سنوات في احدى البلدان البعيدة التي تفصلها عن بلدنا مسافة شاسعة، انَّ الفتيات ـ ويبدو انهنَّ من الجامعيات ـ يرتدين حجاباً مشابهاً لما ترتديه النساء الثوريات في إيران.
لماذا حصل هذا؟ اننا لم نرسل أحداً إلى ذلك البلد ليدعوا فتياته أن يرتدين حجابهن على شاكلة اللباس السائد هنا. هذه الظاهرة تعبير عن الامتداد الطبيعي لرسالة الثورة. ورسالة الثورة تعني هذه الكلمات والشعارات؛ وهذه العقائد والأهداف التي تنتشر اليوم في الكثير من بلدان العالم، وبالأخص الإسلامية منها، وتطرح هناك فتجذب إليها الجماهير المتحمّسة، ولاسيّما الشباب.
وهذا هو ما يخاف منه الاستكبار.
أُريد أن استنتج نقطتين من هذا الكلام القصير، هما:
أولاً: ما دامت علاقة الارتباط المعنوي بين شعبنا وثورتنا مع الشعوب الأُخرى، هي علاقة خطيرة بنظر الاستكبار، فهو يسعى لقطعها.
ولكن كيف تقطع هذه العلاقة والصلة؟ يمكن تحقيق ذلك من خلال عدّة أشكال. منها ان تمارس الضغوط ضدّ تلك الشعوب من قبل الأنظمة التابعة وجلاوزتها، وهذه طريقة لا يحالفها التوفيق. لأنه كلما ازدادات الضغوط، كلما ازدادت علاقة ذلك الشعب بالثورة الإسلامية، وبالنظام الإسلامي أكثر.
الطريق الآخر يتمثل بأن تلجأ وسائل الدعاية العالمية، للحديث بطريقة توحي انَّ علاقة الشعوب تضاءلت مع إيران، وهذا ما تفعله هذه الأجهزة منذ أول انتصار الثورة حتى الآن. هم يفعلون ذلك عن طريق رمينا بالرجعية والأصولية، ومن خلال حديثهم المتواصل عن أرقام التعذيب والاعدام في البلد.
ففي كل مرّة ينال أحد تجار المخدرات ـ من أعداء الشباب والانسانية ـ جزاءه، ترى وسائل الدعاية الاستكبارية تتحدث عن موت أحد المعارضين السياسيين للدولة
وبدورها تبادر المنظمة التي يطلق عليها بـ«منظمة العفو الدولية» ـ وهي منظمة مرتبطة بمحافل القوى الدولية ـ إلى ان تصدر بين الفينة والأُخرى قوائم تحشد فيها أرقام مصطنعة يبثها أعداؤنا، تتحدث من خلالها عن أرقام الاعدامات والتعذيب، وأشكال القتل والاعتقال في إيران.
هم يبادرون إلى مثل هذه الأفاعيل، لكي تتضاءل علاقة الشعوب في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، بالشعب الإيراني وحكومته الإسلامية، حين تسمع لهذا الكلام والمواد الدعائية.
وهذا طريق آخر مارسوه منذ أوائل الثورة حتى الآن.
هناك طريق أخطر من الاثنين السالفين، يتمثل بمنعنا من التفكير بايجاد علاقة مع الشعوب الأُخرى، بحيث تنقطع العلاقة من قبلنا، نحن الشعب الإيراني. وسيلتهم في ذلك، انهم يدأبون على تلقيننا بالقول: ما شأنكم بالشعوب الأُخرى؛ عليكم بأنفسكم، اعتنوا ببناء أنفسكم وحل مشكلاتكم. هذا الأُسلوب أخطر من الذي سبقه، ويمكن ان يجد له آذاناً صاغية بين بعض أفراد الشعب بحيث يؤثر على البسطاء السذّج؛ وهم يغفلون عن أن مشكلات شعب ثوري، تحل بأعمال مختلفة وصيغ متنوعة، من بينها هذه الحماية العالمية.
الكثير من مشكلاتنا، جاءت إلى بلدنا من خلال الأعدء؛ وإلاّ ليس من الصحيح الاعتقاد اننا ننطوي تلقائياً على المشكلات. لقد أوجد الأعداء المشكلات وفرضوها علينا بالحصار الاقتصادي، بالضغوطات، بفرض الحرب، وبالكثير مما يشابه هذه الفِعال.
انَّ الكثير من ضروب المؤامرات الاقتصادية حاكها الأعداء لنا خارج الحدود، ولم تنبثق من قبل الأعداء الموجودين في الداخل.
إذا شاء الشعب الإيراني ان يحل مشكلاته، فلا يكفي أن يتقوقع على نفسه في الداخل، ويدور من حولها، وهو يظن انَّ هذا هو السبيل لتجاوز العقد والمعضلات الواحدة تلو الأُخرى. وانما عليه ان يبطل مؤامرات العدو في الخارج وعلى الجبهة العالمية أيضاً، من خلال مواجهته.
وافضل وسيلة على هذا السبيل هي (كسب) الرأي العام للشعوب.
لذلك لا ينبغي لنا ان نقطع العلاقة من طرفنا، مع الشعوب. طبيعي ان العدو سيمارس الدعاية في هذا الاتجاه.
مؤدى النقطة الأولى إذن، انَّ علاقتنا والارتباط المعنوي لشعبنا وثورتنا مع بقية شعوب العالم، هو أمر مفيد، بل لازم وضروري، وان العدو يسعى لقطع هذه العلاقة وضربها.
ثانياً: النقطة الأُخرى التي أود أن أُبينها ان الشعب الإيراني إذا شاء أن يبقى محبوباً على الدوام، تقبله الشعوب الأُخرى وترغب بالعلاقة معه، فعليه ان يحافظ في الداخل على شخصيته الثورية، ونهجه الثوري، ومعالم صورته الثورية، ذلك انَّ الذي كبرّكم في عيون الشعوب، هو أولاً وقبل كل شيء وحدتكم، فعليكم إذن ان تحافظوا على هذه الوحدة، لأنها تنطوي على قيمة كبيرة جداً. ان وحدة شعب من الشعوب، هي أسوة لبقية الشعوب.
أما العنصر الثاني الذي جذب إليكم الشعوب، فهو شجاعتكم، وعدم خوفكم من الأعداء. ولقد اثبتم تمسككم بهذه الخصلة في الحرب، وفي وقائع الثورة، وفي مواطن أُخرى. وعليكم أن تحافظوا على هذه الشجاعة، كما تحليتم بها حتى الآن، بحمد اللّه.
ثم هناك خصلة ثالثة تتمثل بهذه الصلة الحميمة بين الشعب والمسؤولين؛ هذه الوحدة بين الاثنين. فهذه لوحة تجذب إليها العالم، إذ قلما يقع في العالم، ان يتحلى رؤوساء البلد ومسؤوليه بهذا القدر من الحب بين أبناء شعبهم.
بيد ان هذه المحبوبية كائنة في بلدنا الثوري، ونحن نشاهدها ونلمسها(161).
2 ـ الثورة الإسلامية بداية عصر الدين والمعنى، وعصر الإمام الخميني
(1)
وقعت نهضة العلماء، ونهضة الدين في إيران سنة 1341هـ (1963) ولم يهتم العالم لانطلاقة هذه النهضة بادئ الحال، إلى ان راحت تنمو في حجمها ومعناها وتزداد في سعتها وتأثيرها وقوتها، يوماً بعد آخر ـ خلافاً لما كان يتوقعه المحللون والمراقبون ـ حتى انتهت فجأة إلى انفجار وقع في بقعة من بقاع العالم (إيران). وعندها شعر الماسكون بمقاليد القوة العالمية انهم أخطأوا في تقويم هذه الظاهرة، فحاولوا أن يتداركوا ما فاتهم، بيد ان الوقت كان قد فات.
عندما حدثت الواقعة لم يهتم بها أحد في العالم، بل لم تجد واقعة 15 خرداد برغم ما رافقها من قتل ومداخلات، الصدى الكافي الذي ينبغي ان يكون لها في أرجاء العالم.
بدا وكأنها لم تبعث أملاً عريضاً في أحد؛ كما لم تبعث الخوف الكبير.
كانت في الظاهر وكأنها شعلة توهجت ثم انطفأت، تماماً كما يحصل في نار تلتهب بمجموعة أوراق ثم تنطفأ بعد لحظات. وهكذا خيّل للجميع انَّ كلّ شيء قد انتهى، غافلين عن ان النار تتلظى تحت هذه الشعلة حيث أخذ أوارها يتقد بوقود لا ينتهي، من دون أن ينتبه لذلك أحد.
لقد استمرت شعلة النار وهي تلهب تحت الرماد إلى أن حدثت واقعة 22/بهمن (انتصار شباط 1979) حيث انبثقت فجأة حكومة الجمهورية الإسلامية التي شيدت على قواعد الدين والمعنى، وعندئذ كانت الفرصة قد فلتت من يد أعداء الدين وعالم المعنى، بحيث انهم كلما ضربوا النهضة وظلموها، زاد ذلك من نفوذها المعنوي في العالم، وفي انجذاب قلوب المسلمين إليها أكثر.
أخذت النيران تتوهج في أرجاء الدنيا، وربما لم يدر بعضهم من أين مُنبثق هذه الشُعلة المتوهجة.
انظروا إلى عواطف المسلمين وحماسهم اللاهب الذي عمَّ دنياهم ـ كما سمعتم في الأخبار ـ بدءاً من أفريقيا، ومنطقة الشمال الأفريقي التي تتحدث باللغة الفرنسية ـ الذي يؤسف له انَّ الأوربيين وظفوا نفوذهم كثيراً في هذه المنطقة على المستوى الثقافي وفرضوا ثقافتهم عليها ـ انتهاءً إلى شرق العالم الإسلامي في الهند وكشمير وتركستان الشرقية.
ومعنى ذلك انَّ المسار الذي كان يريد أن يبلغ الذروة قد انقطع، وأصبحنا راهنا ـ أنا وأنتم ـ في لحظة هذا القطع. «ثم جعلناكم خلائف في الأرض» (يونس/14).
أنا وأنتم نستطيع من خلال العمل والارادة والحزم، ان نترسم معالم هذا الطريق ـ إذا تحركنا بشكل صحيح ـ لنؤمن للمسار بقاءه ونضمن له سلامته ودوامه. وعندئذ سيتبدل وجه العالم، بحيث يستطيع البعد المعنوي ان يستوفي حقه المرتهن بيد القوى العالمية، ويستعيده(162).
(2)
لقد انبثق عصر جديد في هذا العالم يفترق عن الذي كان سائداً، على أثر انتصار الثورة الإسلامية وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية، وكحصيلة للجهاد الطويل الذي خاضه شعبنا خلف راية قائده العظيم، من أجل الحفاظ على الثورة والإسلام.
العصرُ الجديد هذا ينطوي على خصائص تفترق عن ملامح العصر السابق.
لقد أطل هذا العصر على العالم بخصوصياته المتميِّزة، وبدءَ مشواره وما يزال يتقدم، سواء رضيت القوى المادية العالمية بذلك أم لم ترض، وسواء أرادت أمريكا ذلك أم لا. وقد بلغ من قوة انطلاقة هذا العصر، ان تأثيراته بدت واضحة على الشعوب والدول الضعيفة؛ وكذلك على الدول والكيانات القوية.
وفي اللحظة التي يبدأ فيها عصر جديد في تاريخ البشر، فلا أحد يستطيع ان يصون نفسه من تأثيراته ويبقى بمنأيً عنها.
جرت أشواط التأريخ البشري في الماضي على هذا المنوال؛ إذ لم يكن بمقدور أحد أن يبقى بعيداً عن تأثيرات عهد أطلَّ على العالم بإشراقات إلهية وإنسانية ثابتة.
وما نريد أن نعلنه، انَّ العالم وان وقع الكثيرُ من شعوبه ودوله تحت تأثير هذا العصر الجديد، بحيث تغيّرت حتى الخريطة السياسية للعالم، إلاّ أننا لا نتوقع من المحليين المرتبطين بقوى السياسة العالمية، ان يعترفوا ببدايته. هم لا يعترفون ببداية هذا العصر، وان أحسّوا به ووقعوا تحت تأثيراته.
ينبغي ان نطلق على هذاالعصر، عصر الإمام الخميني.
لهذا العصر عدد من الخصائص التي لا تنفك عنه، أحدها نمو المعتقدات الدينية واتساعها. فبعد ان كانت سياسة الهيمنة ونظام التسلّط العالمي يهدف اقصاء الدين وعالم المعنى من حياة الناس كلياً، بحيث تتربى المجتمعات بعيداً عن الدين والإيمان والاعتقاد بالقيم الإلهية، جاء هذا العصر ليتحرك بنهج معاكس لذلك تماماً.
ومسألة العودة إلى المعتقد الديني لم تقتصر على إيران أو البلدان الإسلامية، بل عمّت العالم أجمع، وأخذ الجانب المعنوي ينمو وسط مجتمعات عاشت عشرات السنين في اطار منهج حياتي معاد للدين.
وهذه الحركة ستمضي في المستقبل على نسق بحيث تكون قوة جذبها للشعوب أكثر في كل مكان يكون فيه الاحياء المعنوي أعمق وأكثر سلامة وخلوصاً وتطابقاً مع الفطرة.
لقد ولّى ذلك العهد الذي يعتبر فيه الدين والجانب المعنوي مُضاداً للقيم، وموضع هزء الآخرين وسخريتهم.
انّ ما يعدّ اليوم مناقضاً للقيم، هو اللادينية وعدم الإيمان، وعدم الالتزام بالمعتقد الديني. وقد ساد هذا المعنى بقاعاً واسعة من العالم، وستحل في الكثير من المناطق الأُخرى.
هذه واحدة من خصوصيات العصر الجديد، الذي بسط رايته في أرجاء الدنيا ذلك الرجل الكبير ـ من دون ان يصدّق أحد ـ ودعا إليه، فانجذبت إليه القلوب.
الخصوصية الأُخرى للعصر الجديد هو منح معنى للقيمة الإنسانية، ولحضور القاعدة المليونية من الناس بشكل مؤثر. هذا المعنى لحضور الملايين العريضة بدأ مع إمامنا (الخميني) ولم يقتصر على إيران وحدها. لقد تحولت جماهير الناس إلى قوة لها وزنها في مجريات الأُمور ولها دورها في القرار، وإليها يعود تحديد اتجاه الأحداث.
هناك ثورات كثيرة تقدمت في الماضي من خلال عواطف الناس وحماس الجمهور، بيد انَّ الأمر يختلف اليوم. ففي عالم عاش عقوداً يخضع لهيمنة القوى العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، اعتادت الناس ان تخضع لارادة تلك القوى من دون اعتراض؛ بل ومع سحق ارادتها الخاصة، وإذا بهذا العالم يشهد فجأة في بلدان أوربا الشرقية، الملايين الشعبية وهي تتحرك بالطريقة نفسها التي واجه بها شعبنا المسلم نظام الشاه الظالم.
وإذا شئنا ان نعبّر عن هذه الصفة التي يتسم بها العصر الجديد. بكلام آخر، فيمكن القول انها تتمثل بانتصار الدم على السيف.
فما حصل هناك يشبه ما حصل في إيران، حيث خرجت الجماهير من دون سلاح، ونزلت إلى الميدان بأجسادها وهي تحمل الأرواح على الأكف، فضيّقت ـ من خلال هذا الحضور ـ حلقة الحصار على النظام الظالم.
لقد أصبح هذا الأُسلوب معروفاً في عالم اليوم. واصبح واضحاً ما لحضور الجماهير من قوة وهي تنزل الميدان، ولو بدون سلاح. وعلى القوى الكبرى ان تعي بعد ذلك بأنَّ شعبنا جسّد خلال مقاومته شاهد صدق على صحة هذا الادّعاء.
انَّ ثورتنا العظيمة تنطوي على خصوصيات ترتبط بها ـ وقد تكرّر القول عن هذه الخصوصيات في أشكال التحليل (السياسي والفكري والحضاري) المنبثقة من داخل مجتمعنا ومن العارفين بالثورة ـ فللمرة الأولى تبرز ثورة تقوم على اساس الإسلام، وتهدف ايجاد حكومة إسلامية، واعادة النظر في المفاهيم السياسية للعالم من قبيل الحرية، الاستقلال، العدالة الاجتماعية، والمفاهيم الأُخرى، بحيث تسوق حركتها صوب عالم ومجتمع يقومان على أساس القيم الإسلامية.
ومؤدى هذه الخصوصية انه لا يمكن للنظام ان يستمر بحكمه على رغم ارادة الملايين العريضة. وكلما امتدَّ هذا الموج وانبسط في العالم كلما يكون استمرار السلطات الظالمة غير القانونية، والكيانات المعادية للبشرية أصعب.
هذه هي النهضة التي انطلقت في بلدنا إيران على يد الإمام العظيم، وببركة وعي الشعب وإيمانه، وأضحت مثالاً يحتذى للعالم.
لقد خطى شعبنا بسيره وراء قائده الاستثنائي، الخطوة الأولى في طريق العصر الجديد، بحيث أضحت قواعد هذا العهد ثابتة تتسم بالاستحكام(163).
(3)
الحضارة البشرية شاهدة اليوم على (تجربة) بلد يقوم على أساس ولاية الفقيه، أي يخضع لحاكمية الدين والتقوى ويدار بواسطتهما. وهذا اختيار مهم ومصيري للبشرية التي جرَّبت أنواع النظم، ولم تجد غايتها في علاج معضلاتها الأساسية، في اي منها.
علينا جميعاً ان نعرف بأنَّ هذا النظام المقدّس إذا استطاع ان يوفر الاستقرار الجسمي والروحي للإنسانية، ويجتث الفقر والجهل والتمييز، ويستأصل حالة غياب الإيمان والعدالة، ثم ينهض في الساحة العالمية لمواجهة معضلات البشرية المزمنة، يكون قد قدّم للتاريخ الإنساني أعظم خدمة، وفتح أمام البشرية سبيلاً جديداً.
والنهوض بمثل هذه المهمة يتطلب ان لا يتوانى أحد من المسؤولين لحظة عن جهاده وثباته، بدأً من القائد وكبار المسؤولين وانتهاءً بالبقية، كلّ بحسب موقعه ومسؤوليته، كما عليهم أن لا يستسلموا للشك، ولا يهنوا أمام أي تهديد ـ مهما كان ـ بحيث يعدوه عقبةً أمامهم(164).
(4)
هذا العصر هو عصر القرآن. فبعد التجارب الفاشلة التي مرّت بها البشرية خلال قرون النهضة؛ أي بعد ان عجز البشر عن صياغة نظام للحياة الإنسانية يتناسب مع الثورة العلمية المدهشة، بدأت السُبل تتفتح تدريجياً على نهج التوحيد وسبيل الدين.
لقد أضحى الإنسان اليوم أقرب إلى النضج، وما تخلى عنه وتناساه في غمرة الغرور والجهل اللذين ترافقا مع عصر التقدم العلمي، عاد ليبحث عنه اليوم.
وبحث الإنسان عن ضالته التي تناساها وأدار لها ظهره في السابق، يتم في العصر ذاته الذي حقق فيه الدين حاكميته في بقعة من بقاع العالم ـ إيران ـ واستطاع ان يمسك من خلال ثورة استثنائية عظيمة، زمام حياة الملايين من بني الإنسان. هي فرصة تأريخية استثنائية إذن تلك التي تحل في هذا العصر، يستطيع من خلالها القرآن ان يظهر إمكاناته في هداية الفكر والسلوك الانسانيين، ويبرز قدراته في القيمومة ـ على الحياة ـ(165).
(5)
تبدو العقول العليلة للمحللين الماديين، عاجزة حتى الآن، عن فهم وتحليل الحوادث الإسلامية التي احتضنها العقد الأخير. أجل، هذه العقول لا تستطيع ان تدرك ما حصل فعلاً. فقد مضت مائتا سنة على جهود الاستعمار في العالم الإسلامي، استخدم فيها ألوف الوسائل من أجل حذف الإسلام ودفعه خارج ميدان الحياه، بل ودفعه بعيداً حتى عن صفحة أذهان الناس وقلوبهم. والأهم من ذلك انه بعد قرون مما نال الدين من توجيه سيء وتلقين سلبي، على يد القوى المستبدة، وما طاله من انحرافات لا تحصى على يد وعاظ السلاطين والعلماء المرتبطين بالبلاط، حتى أثرَّ ذلك على صفائه ووضوحه، وتحوّل إلى دواء لا أثر له، وجسم لا روح فيه، بعد هذا كلّه وإذا بالإسلام يعود اليوم يبسط جناحيه في قلب العالم الإسلامي، ويبسط بظلال رحمته في جميع أرجاء دنيا الإسلام، وكأنه شمس وضّاءة اشرقت على قلوب المسلمين، فمنحتهم الروح والنشاط والأمل.
الذي يوقع أولئك المحللين في حيرة، هو كيف استطاع هذا الإسلام، الذي بدأ يختفي تدريجياً ليلفه عالم النسيان من دون ان تكون له القوة على بعث الأمل في القلوب الملتاعة، ان يتحوّل إلى مُلهم؛ بل إلى أمل وحيد للشعوب الإسلامية، وبالذات للشباب، ولذوي المعاناة واللوعة؟
انّ فهم وتحليل هذا المسار المذهل، وان كان غير ممكن لتلك العقول الأجنبية الغريبة عن حقيقة الإسلام الجاهلة بماضيه الواقعي، إلاّ انه يتمثل لأصحاب البصيرة بكلمة واحدة: انها معجزة الثورة.
لقد تجلت النهضة الإسلامية في إيران بقيادة منقذ العصر الزعيم الكبير الإمام الخميني ـ رضوان اللّه عليه ـ في اطار ثورة عظيمة، اتّبع فيها الإمام نهج النبي الأعظم والرسول الخاتم سنام الوجود وذروة ولد آدم محمد المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وهذه هي طبيعة الثورة، إذا قامت على بنى سليمة ومنطقية، تأتي بركاناً مدوياً يزلزل الأركان، وتؤثر في كل ما حولها.
لقد نهض مصلحون إسلاميون وظهر مفكرون خلال المائة وخمسين سنة الماضية، رفعوا راية الدعوة الإسلامية ومارسوا احياء الفكر الإسلامي، وذلك من قبيل السيد جمال الدين ومحمد اقبال وغيرهما ورغم ما قدمه هؤلاء من مكاسب جليلة، إلاّ ان مسارهم ـ بأجمعهم ـ اكتنفه نقص كبير تمثل باكتفائهم بممارسة الدعوة الإسلامية واصلاح المجتمعات المسلمة، ليس بقوة الثورة وحركيتها بل بالجهد الثقافي فقط، وبأدوات الكتابة والبيان، وذلك بدلاً من ان يتجهوا بجهودهم نحو تفجير ثورة إسلامية.
النهج الذي سار عليه أولئك المصلحون والمفكرون، هو نهج ممدوح وهم مأجورون عليه، ولكن لا ينتظر منه أبداً، نتائج كتلك التي أثمرها نهج أولي العزم من الأنبياء، وهم صنّاع المقاطع الأصلية في التأريخ واللحظات الحاسمة فيه.
إنَّ عمل المصلحين والمفكرين ـ في اقتصارهم على الدعوة دون الثورة ـ لا يوفر في حال خلوه من العيوب السياسية والنفسية، سوى أرضية لانطلاق حركة ثورية، ليس أكثر.
على ضوء ذلك يُلحظ ان السعي الحثيث المثابر لأولئك المصلحين والمفكرين، لم يستطع في جهود المخلصين من هذه الجماعة، أن يوقف أبداً الحركة العكسية التي كانت تسير بالمسلمين نحو الانحطاط، كما لم تفلح في اعادة مجد المسلمين الغابر، وعظمتهم الآفلة التي كان يتحدث عنها أولئك، ويتجرعون في سبيل استعادتها الغصص والآلام، ويذرفون من أجلها الدموع.
الأكثر من ذلك ان جهود أولئك المصلحين والمفكرين، لم تنهض حتى بتقوية المعتقد الإسلامي على نحو واسع بين الجماهير المسلمة، بحيث تستنفد طاقتهم في خدمة المسار. كما لم يستطع أولئك ان يمتدوا بجغرافية الإسلام ويوسعوها. وهذا ما يتفاصل بشكل كامل مع نهج نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما لا يخفى على أي إنسان له أدنى اطلاع على تأريخ بعثة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم وهجرته(166).
(6)
يُعد القرن الحاضر، قرن ظهور المصلحين الكبار. فكم ظهر من كبار المصلحين، والثوريين، والسياسيين منذ أواسط القرن الماضي حتى اللحظة، وكم هي الحركات الكبيرة التي فجّرها أولئك ودفعوها في العالم، أو في جزء منه نحنُ نعرف تلك الحركات، بيد ان أياً منها لا يقاس بهذه النهضة العظيمة، وهذه الثورة المعنوية العالمية.
لقد جرى اسم اللّه، ونطقوا بـ«بسم اللّه» في برلمانات بلدان كان الدين فيها يعد جريمة رسمية، وهوأمر محضور ينظر إليه كشأن قديم لفّه غبار النسيان، وتقليد مضر ولّى زمانه، وأُلقي به بعيداً بحيث لا ينظر إليه أحد
وليس هيناً ولا أنّه شيء عادي صغير ان ترتفع راية المعنى والإسلام في العالم المادي(167).
(7)
أضحت جميع آمال الأنبياء والأولياء قابلة للتحقق على أيديكم ـ أنتم الشعب الإيراني ـ فكل ما كان للأنبياء من آمال كبيرة على صعيد استقرار العدل الإلهي، وانقاذ المستضعفين، وازالة الظلم على المستوى العالمي، هذه جميعاً أصبحت قابلة للتحقق.
بديهي ان الوعد الإلهي القاضي باستقرار العدل العالمي الكامل في عهد ظهور بقية اللّه فقط ـ الإمام المهدي أرواحنا له الفداء ـ هو حق لاريب فيه. بيد ان بمقدور شعب مؤمن مجاهد، أن يمهّد الأرضية لهذه الحكومة، كما استطاع الشعب الإيراني أن يفعل ذلك حتى الآن ويسيطر على الكثير من المشكلات(168).
(8)
إنّ عصرنا هو عصر الحوادث الكبيرة. فقد وقعت على المستوى العالمي، وعلى مستوى بلدنا خاصة الكثير من الوقائع العظيمة. كانت أولى الحوادث هي واقعة الثورة هذه، الظاهرة الاستثنائية الكبيرة. ثم جاءت الثانية متمثلة بتأسيس الجمهورية الإسلامية. والجمهورية الإسلامية هي نظام قائم على أساس القيم الأخلاقية والمُثل المعنوية والدينية، وذلك في وقت كانت الأجهزة الاستكبارية تسعى فيه لعزل القيم المعنويةوالأخلاقية وازوائها جانباً حتى تكون عرضة للنسيان التام. وفي مثل هذه الأجواء كان تأسيس نظام على أساس القيم المعنوية، هو عمل عظيم، أشبه ما يكون بالمعجزة. بل يحكي تبديل هذا الشعب من الضعف والاستسلام والخنوع، إلى شعب مقاوم شجاع مواجه؛ يحكي بحدِّ ذاته حصول تحوّل عظيم.
وأمامنا الكثير من الأعمال العظيمة التي وقعت على هذه الشاكلة في عصرنا وفي بلدنا(169).
(9)
شكّل انطلاق هذه الثورة طموحاً للشعوب الإسلامية جميعاً. ولا نبالغ إذا قلنا ان جميع المصلحين والمفكرين والأحرار كانوا يطمحون طوال التأريخ، بأيام مثل هذه للإسلام والمسلمين.
كم بُذِل طوال عشرات السنين من الثروة والفكر؟ وكم ارتكبت من الجرائم والأكاذيب والدعاية المضادَّة من أجل اقصاء الإسلام كلياً عن حق حياة البشر؟ ثم جاءت ثورتنا في مسار معاكس تماماً لما كان يريده الشياطين وأعداء الإسلام.
أضحى الإسلام عزيزاً، واستيقظت الشعوب الإسلامية، ووصلت النهضة الإسلامية في الكثير من البلدان الإسلامية إلى الذروة.
لقد أضحى الإسلام اليوم ومعه الثورة الإسلامية والنهضات الإسلامية يمثل قيمة وطنية واجتماعية وسياسية كبيرة، حتى بلغ الأمر إلى ان يتحدّث عن الإسلام ويضرب على وتره، مَن لم تكن له أية علقة به، لمصالح زمنية.
اصبح الإسلام اليوم عزيزاً(170).
(10)
يزخر واقع العالم اليوم بالكذب والاحابيل والشهوة، وهو يميل لترجيح القيم المادية على القيم المعنوية. هذه هي الدنيا، وهذه الخصائص لا تقتصر على هذا الزمان، بل منذ قرون والجانب المعنوي في الدنيا ينحدر نحو الضعف والأفول.
لقد سعى أصحاب القوة إلى اقصاء المعنويات، وسعى أرباب السلطة وعبدة الثروة والمال إلى بسط نظام مادي في العالم، تتربع على قمته سلطة مثل أمريكا، هي الأكثر من غيرها كذباً وخديعة واهمالاً للفضائل الإنسانية، وأشدّها قسوةً على بني البشر.
قوة مثل هذه تتبوأ رأس النظام، يليها حلفاؤها كلّ حسب مرتبته. هذا هو وضع العالم اليوم.
والثورة الإسلامية في مؤدّاها هي احياء ثانٍ للإسلام؛ احياء لقيمة «إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم» (الحجرات/13). وقد جاءت هذه الثورة وأمامها مهمة ضرب مرتكزات ذلك النظام الخاطئ، لكي تصوغ بديلاً عنه نظاماً جديدا(171).
(11)
الأثر المباشر الذي ظهر على المستوى العالمي، لثورة دينية وإسلامية، هو تأسيس نظام سياسي واجتماعي يقوم على مباني الدين.
كانت واقعة عظيمة جذبت أنظار العالم إلى الدين ـ سواء كان الإسلام أم غيره ـ وجدّدت النظرة إلى مسائل الدين.
والذي حصل بعد ذلك بفعل الآثار غير المباشرة لثورتنا، هو اضمحلال قواعد التفكير المادي، الذي كان يتجلى في شكل اتجاه ونظام اجتماعي. والأكثر من ذلك كان هذا التفكير والنظام المنبثق منه يسوّق على نطاق عالمي ويدفع بادّعاءات كبيرة، على أساس انه يستطيع ان يدير الحياة البشرية
لقد وقف هذا الفكر وهذا الاتجاه حائلاً عشرات السنين دون الظاهرة المعنوية، سواء تمثلت بالفكر أو العمل أو الأخلاق.،أو أي شيء مفيد.
لقد انهار هذا الفكر مرّة واحدة وكأنه عمارة من ثلج، وقد ذاب كالملح في الماء، تماماً كما حدث لبني أُمية والمنصور العباسي عندما انهار البناء الذي اشادوه، لأن ظاهره وان كان يشبه الصخر إلاّ ان حقيقته كالملح، فسرعان ما تهاوى وذاب.
بعد الانهيار المدوّي لذلك الفكر ـ وأنظمته ـ أخذ عالم المعنى يعبّر عن نفسه. وقد اتضح ان النمو المعنوي، وازدهار الفكر الديني، وبالأخص ازدهار الفكر الإسلامي، لم يكن قد توقف في اتون ضجيج ذلك الفكر وأنظمته. ففيما كان أولئك يجهدون ان لا يبقوا له عيناً ولا أثراً، كان هو يواصل نموه.
ولكن غاية ما هناك ان الرياح العاصفة والضجيج والصخب والغبار كانت تمنع تبلور هذه الحقيقة الواقعية وتجليها، والآن بعد ان هدأ ذلك الصخب المجنون، عادت الحقائق لتعبِّر عن نفسها بجلاء(172).
3 ـ الجمهورية الإسلامية هي أم القرى ومركز الحركة العالمية للإسلام
(1)
واحدة من أهم مسائل العالم الإسلامي اليوم هي البغض والعداء الجنوني الذي تكنه الجبهة الشيطانية وبخاصة الشيطان الأكبر (أمريكا) للإسلام وللمفاهيم والعقائد الإسلامية. والعداء المخطط والشامل ضدَّ الإسلام وان كان يعود إلى المرحلة التي ترافقت مع ظهور الاستعمار وما قام به المستعمرون في القرون المتأخرة عندما توجهوا لممارسة النهب والقتل في العالم الإسلامي، وتعاملوا مع الإسلام على انه العقبة الكؤود والسد المحكم الذي واجه فتنهم، مما جعله عُرضة لهجوماتهم الشديدة سياسياً وثقافياً، ودفع بهم إلى غرس مخطط فصل المسلمين عن القرآن والإسلام بضروب المكر الشيطاني مثل اشاعة الفساد والانحلال والفحشاء، ولكن الأمر اختلف عندما انطلق بركان الثورة الإسلامية وراح يحرق آمالهم العراض ويذرها هباءً مع الريح، ويعيد إشاعة الأمل في قلوب المسلمين، وينعش الحياة في الإسلام ثانيةً على الصعيد العالمي.. فعندئذ اندفعت القوى الاستكبارية تهاجم الإسلام كالذئب الجريح وتندفع في معاداته بشكل شامل وجنوني. وهذا النمط من العداوة والهجوم لم يكن مستبعداً في غضون التحوّل الذي حصل.
ستتحقق حتماً السنن الإلهية القاضية بفضيحة أولئك وهزيمتهم ان شاء اللّه، تماماً كما نصَّ على ذلك القرآن: «ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة» (الرعد / 31). ولكن بشرط أن يلتزم المؤمنون بالإسلام وبوظائفهم ازاء هذه المؤامرات ولا يتوانوا فيها.
بديهي ان المركز الذي استهدفته الأمواج الأساسية لجميع المؤامرات التي ابتغت الغيلة للإسلام خلال العقد الماضي هو الجمهورية الإسلامية التي تعدّ أم القرى للعالم الإسلامي وطليعة حركته العالمية. لقد تلقى الشعب الإيراني خلال عقد من العداء الذي استهدف الإسلام والقوى الثورية العظيمة، أنواع الضربات. فهناك الحرب المفروضة التي دامت ثماني سنوات، الحصار الاقتصادي، وعدد لا يحصى من الهجومات السياسية والدعائية والاقتصادية ضدَّ الجمهورية الإسلامية، والتي انطلقت في حقيقتها بدافع الضغط عى الإسلام، وعلى خلفية العداء له.
نحن نفخر بأننا أصبحنا على مدار سنوات هدفاً للقوى العالمية في غضبها الجنوني وحملاتها الانتقامية الشرسة ضدّنا، بسبب الجوهر الفريد الذي نحمله، متمثلاً بالإيمان باللّه والعمل بالإسلام.
أجل: «وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد» (البروج / 8)(173).
(2)
ان السر وراء الاعتلاء الإسلامي المعاصر واليقظة العامة للمسلمين، يكمن في انبثاق وليد مبارك في مركز دائرة هذه الحركة ـ إيران الإسلامية ـ متمثلاً بالثورة. لقد اينعت شجرة الإسلام الطيبة مرة أُخرى، وأثمرت الولادة، انبثاق الجمهورية الإسلامية بما تحظى به من بنية ثابتة استمدتها من الإيمان الإسلامي ومن القدرة الإيمانية للقائد والشعب.
لقد حافظ هذا الكيان على ثباته واستقامته، لم تنل منه دسائس الشياطين وسورات غضبهم وأحابيلهم، بل ظلَّ عزيزاً مقتدراً رغم ظُلامته، ومضى وضاءً أمام العالم، ثابتاً على الدعوة إلى الإسلام باستقامة وصلابة.
ان للإسلام الأصيل طبيعة جذّابة يستقطب إليه القلوب السوية الخالية من الضغينة والبغض. وهذا الإسلام هو الذي طرحته ثورتنا وإمامنا أمام العالم للمرة الثانية، وعرضاه للقلوب المتطلعة.
لا مكان في مدرسة الثورة ـ التي أرسى إمامنا (الخميني) دعائمها ـ للإسلام السفياني والمرواني.. الإسلام الشكلي الذي يقتصر على الظواهر.. الإسلام الذي يكون في خدمة المال والقوة؛ وبكلمة: الإسلام الذي يكون آلة بيد السلطات وحرباً على الشعوب. لقد قضت مدرسة الثورة على ذلك النوع من «الإسلام» ليحل محلها الإسلام القرآني المحمدي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إسلام العقيدة والجهاد.. الإسلام الذي يخاصم الظالم ويكون للمظلوم عوناً.. الإسلام الذي يكون حرباً ضدَّ الفراعنة والطواغيت؛ وبكلمة: الإسلام الذي يصعق الطغاة والجبارين ويشيد أركان حكومة المستضعفين.
حلَّ إسلام الكتاب والسنة في الثورة الإسلامية بدلاً من إسلام الخرافة والبدعة.. وصار إسلام الجهاد والشهادة بديلاً لإسلام القعود والاستكانة والذل.. وأخذ إسلام التعقل والتعبّد محله بدلاً من إسلام الجهل والتلفيق الالتقاطي.. وأضحى إسلام الدنيا والآخرة بديلاً لإسلام عبادة الدنيا وإسلام الرهبانية والاعتزال.. وأمسى إسلام العلم والمعرفة بمكان إسلام التحجر والغفلة.. وإسلام الدين والسياسة بديلاً لإسلام التحلل واللامبالاة.. واستبدل إسلام المقاومة والعمل بإسلام الجمود واليأس.. وأخذ إسلام الفرد والمجتمع مكانه بدلاً من الإسلام الشكلي الذي لا روح فيه.. وصار الإسلام الذي ينقذ المحرومين بديلاً للإسلام الذي كان آلة بيد القوى الكبرى.. وبكلمة: أصبح الإسلام المحمدي الأصيل ـ في الثورة الإسلامية ـ بديلاً للإسلام الأمريكي.
ان استعادة الإسلام بهذه التركيبة وبهذا التكوين، وبمثل هذه الجدية كان سبباً لحالة الغضب الجنوني الشامل لأولئك الذين كانوا يتمنون زوال الإسلام ليس في إيران وحدها بل في جميع البلدان الإسلامية.. أو لأُولئك الذين لا يريدون للإسلام إلاّ أن يكون اسماً وحسب من دون محتوى، ووسيلة لاستحماق الناس واستغفالهم.
لذلك كله لم يتوان أولئك عن تضييع أية فرصة للهجوم على الجمهورية الإسلامية ومركز حركة العالم الإسلامي ـ إيران ـ والحاق الضرر بها والتآمر ضدّها منذ أول يوم انتصرت فيه الثورة الإسلامية حتى الآن(174).
(3)
الدين عميق وراسخ في النفوس، إذ تكفي (في استعادة دوره وتنشيطه) حركة تشير للاتجاه الصحيح، وأن يُنفَض عنه الغبار المتراكم، ويُشار إلى اشكال التعاطي الخاطئ في فهمه. وهذا ما يخشاه الأعداء.. فهم يدركون ان هذه العملية (استعادة دور الدين وتنشيطه) ستلحق أضراراً فادحة بنمط الحياة الفاسدة والهيمنة الطاغوتية التي تتصف بهما أمريكا اليوم، وأذنابها وأياديها. لذلك تراهم يخشون هذه العملية (الصحوة الدينية والانبعاث الإسلامي) وقد أدركوا ان مركز هذه الحالة هي إيران المسلمة.
اعلموا انهم يوظفون اليوم جميع قوتهم لالحاق الهزيمة بالجمهورية الإسلامية، وهم لا يوفرون أية وسيلة يمكن أن تثمر بهذا الاتجاه ولا يتوانون عن ارتكاب أي عمل. والمحور في هذه الحركة المعادية هي أمريكا. وهذا ما يتضح من الاطلالة على المشهد. ان الإنسان ليذهل من مثابرة أمريكا وجديتها وهي تبحث عن سُبل الحاق الأذى بإيران.. ويشعر أحياناً بالفرح وهو يتأمل المشهد، ويرى عجز أمريكا في تحقيق مبتغاها(175).
(4)
لا تكمن المشكلة بالنسبة للاستكبار العالمي؛ وأسوء أشكاله المتمثلة بالحكم الأمريكي الظالم، في أنه فقد سوقه في إيران أو مصادر الثروة في هذا البلد وحسب. طبيعي لهذا العامل دوره لأنَّ المال والربح المادي هو كل شيء بالنسبة لأجهزة التراكم الرأسمالي. بيد ان هذا العامل لا يملأ الصورة برمتها، بل يمثل جزءاً من المسألة.
يدرك الجهاز الاستكباري بما يتحلى به من رؤية مُستقبلية ان الحركة الإسلامية إذا شقت طريقها بهذا الشكل وهي تتحلى بالثبات والايمان والاعتماد على إيمان الجماهير وعواطفها، فسيصعب استمرار السلطة الاستكبارية لأمريكا واياديها؛ بل سيغدو ذلك مستحيلاً. هم يعون هذا المعنى، والحق معهم، ونحن لا نتخفى على ذلك.
بديهي ليس لنا أي دور مباشر أو غير مباشر قد خططنا له في انطلاق الحركة الإسلامية في العالم، ولم يكن لنا مثل هذا الدور من أول الأمر أيضاً؛ وانما هو دور الإسلام ذاته. ان عملية ثبات الشعب الإيراني وتمسكه براية الإسلام المناضل.. إسلام الحياة.. الإسلام المحمدي الأصيل كما كان يعبِّر إمامنا العزيز (وليس إسلام الاذعان أمام أعداء اللّه ولا إسلام الطاغوت أو الإسلام الأمريكي) وعدم ضعفه في ذلك، أدَّت تلقائياً إلى انبعاث الأمل في دنيا المسلمين.
إنطلاقاً من هذه النقطة وقعت على عاتقنا مسؤولية مهمة؛ فما أشرت إليه هو وصف للوضع العالمي والحالة الحساسة التي يتسم بها العصر، وبمعرفة حساسية المرحلة تتضاعف مسؤولياتنا جميعاً، وبالأخص مسؤوليتكم أنتم الشباب(176).
(5)
لا يقتصر ما حدث على أن شعباً نهض ثائراً في بلدٍ من البلدان واطاح بنظام تابع فاسد وأسس محله النظام الذي يريده وحسب، بل تتجاوز المسألة هذه الحدود كثيراً. لا أُريد أن أزعم ان الشعب الإيراني كان يفكر بشكل واعٍ ودقيق بهذا الهدف الأسمى وبهذه المسؤولية المهمة الملقاة على عاتقه اليوم، منذ أول ايام المواجهة، بيد ان الشيء الثابت ان هذا الشعب تحرك في الساحة ولم يرض باستمرار النظام البهلوي الفاسد والتابع وما يفضي إليه بقاؤه من مشكلات تحل بالبلد.
وهذا هو الإسلام الذي جذبه إلى الساحة، وحُبُّ الدعوة الإسلامية الذي دفعه إلى الميدان لمواجهة نظام فاسد مضاد للإسلام، والقضاء عليه وعلى اتباعه في البلد وتشييد نظام إسلامي بدلاً منه كما فعل ذلك إمام هذا الشعب وقائده العظيم.
وعندما أدرك الشعب هذا المعنى بذل الدم والأرواح ونهض للمواجهة. هذا هو القدر الثابت ـ في قصة هذا الشعب مع النهضة ـ.
ولكن القضية اكتسبت بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية ابعاداً أوسع بكثير على المستوى العالمي. فقد أحست شعوب العالم فجأة والشعوب الإسلامية خاصة، انها تشترك مع الشعب الإيراني ومع مليار من المسلمين في همٍ مشترك، يتمثل بابتعادها عن أصالتها وسقوطها العوبة بيد أوثان القوى الاستكبارية التي راحت تترك بصماتها على جميع شؤون حياة هذه الأمة وتعرض حياتها للدمار.
لقد توفرت الأمة الإسلامية العظيمة على هذا الوعي بشكل واسع بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وكان بروز هذا الوعي باعثاً في أن يكون العداء للإسلام وللجمهورية الإسلامية خاصة، جزءاً من البرنامج الأساسي للاستكبار العالمي آنئذ ـ أعني المعسكرين الشرقي والغربي ـ الذي قرّر الحؤول دون إمتداد آثار هذا النظام الإسلامي ونفوذه إلى الشعوب، لأن مثل هذا التأثير يخلق لهم المشكلات، وبذلك انطلق العداء لهذا الكيان(177).
(6)
لا يمكن لكم أن تعثروا على امتداد التأريخ على صاحب دعوة حق لم يدخل في مواجهة مع الشياطين والطواغيت؛ وان الطواغيت والشياطين والمعاندين لم يدخلوا في عملية صراع مشوبة بالعداوة والبغضاء والحقد ضدّه. ان الاستكبار العالمي يسعى راهناً إلى أن يخنق أي صوت ينطلق ضدَّ نظام ـ الهيمنة ـ الحاكم على العالم ويقضي عليه في مهده.
لقد أضحى صوت الإسلام أقوى صيحة وأبلغها، ضدَّ نظام وحاكمية الاستكبار العالمي للقضاء على الظالم منذ أن انتصرت الثورة الإسلامية. كذلك صار القضاء على صوت الإسلام هو في طليعة وأهم أولويات الأعداء والطغاة. ان ما بذل طوال عقد أو احدى عشرة سنة من انتصار الثورة من فعاليات معادية قادتها أجهزة الاستكبار العالمي على المستوى الدعائي والثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي ضدَّ الدعوة الإسلامية، ولا سيّما مركز الإسلام الثوري ـ إيران المسلمة ـ لم يضاهيه أي نشاط آخر بذله الاستكبار العالمي والقائمون على النظام الدولي تلقاء أية ظاهرة من الظواهر الأُخر(178).
(7)
لاحظوا ما يفعله الآن أعداء الإنسانية؛ أي الجهاز الاستكباري وعلى راسه القوى الشيطانية أمريكا وجميع القوى الشيطانية الأُخرى التي تتابعها، ضدَّ القيم الإنسانية.. لاحظوا كيف يجرّوا البشرية إلى الابتذال والسقوط، وكيف يسخروا بجميع التجلّيات المعنوية
لقد أضحت الجمهورية الإسلامية اليوم مرمى لسهام العداوة والبغضاء لأنّها رفعت راية المعنوية وراحت تسير في طريق الإسلام وتسعى من أجل الإسلام والقيم الإسلامية. انَّ الإنسان ليدهش أحياناً لكل هذا العداء للإسلام وللمعنوية، فلماذا كل هذا العداء؟
لقد أنفقوا أموالاً طائلة لكي يشوهوا الجمهورية الإسلامية في عيون الناس وأمام العالم بما يبثوه حيالها من أكاذيب وتهم وسموم دعائية.
لماذا يحتاجون للعمل ضدَّ الجمهورية الإسلامية بهذا القدر؟ لأنَّ نظام الجمهورية الإسلامية ينطوي على جاذبية عظمى للشعوب لو تُرك وحاله دون دعاية مضادّة.
لقد استبد الغضب بالجهاز الاستكباري وبالأخص أمريكا، لأنهم يرون الصحوة الإسلامية تعم العالم الإسلامي وتتسع يوماً بعد آخر.
كانت الأُمنية التي تخالجهم هو أن تخبو شعارات الجمهورية الإسلامية في العالم بمرور الوقت وتصير قديمة، بيد ان شيئاً من ذلك لم يحصل(179).
(8)
ما دامت هذه الثورة قرينة باسم اللّه، فهي في مواجهة الشياطين أبداً.. وما دامت تأخذ بجانب المستضعفين المظلومين فستبقى في صراع مع الطغاة والمستكبرين والجبارين على الدوام.. وما دمتم تسعون من أجل القيم الإنسانية فلن يرضى عنكم ذلك الإنسان الذي يعادي هذه القيم. لذلك عليكم أن تتهيئوا وتستعدوا نفسياً لكل ذلك.
إنّ بِيد هذا الشعب اليوم راية عظيمة.. راية أيقظت الدنيا عندما اهتزت بأيديكم.. انظروا إلى مآل الأوضاع الآن في فلسطين وشمال أفريقيا، وكيف يستعيد الإسلام حقه (المضيّع) في المجتمعات الإسلامية. وكل ذلك ثمرة لنهضتكم وما فعلتموه؛ على حين كان الإسلام في حال هزيمة وفرار ازاء ثقافة الكفر والاستكبار.. بديهي الإسلام لا يفر ابداً، وانما وهنَ المسلمون فأحسّوا بالضعف. في المواطن التي أضحى فيها لملايين المسلمين قسطاً من المشاركة في الحكم، لم يكن أحد يجرؤعلى ذكر الإسلام قبل الثورة الإسلامية. وفي البلاد الإسلامية التي راح فيها أئمة الجمعة والجماعات يبادرون لتأسيس الصيغ التنظيمية، حيث راحت تزدهر المساجد وهي تتحوّل إلى مركزٍ للحركة، لم تكن المساجد فيما سبق أكثر من أماكن لتجمع الشيبة وكبار السن والضعفاء. أما الآن فقد صارت موطناً للشباب ومصدراً للحركة والفاعلية، وكل ذلك ثمرة لنهضتكم ولقائدكم العظيم ذلك الرجل الإلهي (الإمام الخميني). ولذلك ترون أعداء الإسلام غاضبين عليكم.
يقول (سبحانه): «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم» (البقرة: 120).. فما دمتم متمسكين بالإسلام غير متخلين عنه، سيبقى أعداء الإسلام على معارضتهم لكم. والنقطة التي يثيرها العدو في هذا السياق تتلخص بما مفاده: ما دمت أعارض ذلك الشخص (الشعب أو البلد أو الأمة) فينبغي أن يزول من الوجود. لقد استطاعوا أن يغرسوا هذه القناعة في الشعوب الضعيفة والذي يثبت الآن هو عكس القضية تماماً؛ أي ان كل من يعارض الإسلام ينبغي أن يزول، وقد شقَّ الإسلام طريقه في العالم، وسيفعل ذلك مجدداً(180).
4 ـ تضاد الثورة الإسلامية مع النظام السلطوي العالمي
(1)
يتضارب كيان المعنوية الإلهية المتمركز في إيران مع جميع ضروب الظلم والعدوان والفساد في العالم، لذلك ترى القوى العالمية مصممة على الغاء هذا الكيان واجتثاثه عملياً، وان لم تستطع ذلك تعمد إلى تغيير محتواه(181).
(2)
يكمن خلافنا مع العالم أنّنا نريد شعباً يتمتع بالاستقلال الذاتي، لا أن يكون ذيلاً تابعاً للقوى المتجبرة في العالم المعاصر. انَّ الأمر يشبه سلوك الشقاوات قديماً إذ لا يتحرك أحد في المنطقة إلا بإذنهم، وإذا قرّر الإنسان أن يتجنبهم فهم لا يتركونه إلا أن يدفع الإتاوة. أما إذا كان مع الإنسان شيئاً ذا قيمة فالويل له من هؤلاء فهُم لا يتركونه حتى يسلبوه ما عنده.
إنّ الوضع العالمي اليوم يشبه هذه الحالة، ولا يقتصر الأمر على الوضع الراهن، بل كان كذلك منذ انبثاق عصر الاستعمار.
الويل للبلد الذي يملك نفطاً.. يملك يورانيوم.. الويل للبلد الذي يملك معدناً مميزاً في الصناعة العالمية.. فمثل هذا البلد ينبغي ان يصير تحت هيمنة هؤلاء
والعلاقة لا تتحرك في اطار التعامل العادل، حتى نقول نحن بلد يملك النفط، وأنتم بحاجة إلى النفط؛ فتعالوا ـ إذن ـ وتعاملوا كمشتري يدفع الثمن ازاء البضاعة التي يحصل عليها.
لو كان الأمر كذلك لما كان هناك صراع، فجيمع البلدان النفطية تفرح ببيع نفطها؛ هذا لو كانت المعادلة تتحرك في اطار البيع والشراء. ولكن المسألة تتحرك في اُفق آخر، فالاستبداد العالمي المهيمن على أُمور العالم لا يرضى بذلك، وانما يعد كل شيء ثمين تمتلكونه عائداً إليه؛ ينبغي أن يستفيد منه. لذلك تراه يسعى للنفوذ ولتوسيع تغلغله، ويُعدّ كل ما يحول دون تغلغل هذا النفوذ ويمنعه سيئاً. والإسلام يمنع ذلك ولا يرضى به. وهذا موقف الإسلام ليس اليوم، وانما أدرك الاستعمار ذلك منذ اليوم الأول لمجيئه، وعرف ان الإسلام سدّ كبير يحول دون مآربه. لذلك تحامل عليه؛ بالعداوة الشديدة والبغضاء. هذه هي المسألة.
ولما كان هؤلاء ـ الأعداء ـ متقدمين على الصعيد العلمي والتكنلوجي، ويستفيدون من وسائل اتصال حديثة، لذلك ترى صوتهم (رؤيتهم) تملأ أركان الدنيا وتصل لجميع الآذان، أما الكلام الذي يتضاد ـ ورؤيتهم ـ فيتلاشى ويضيع هباءً في الهواء(182).
(3)
تعارض الجمهورية الإسلامية نظام الهيمنة الراهن في العالم. طبيعي نحن لا نعارض الترتيبات العرفية السائدة، فلكل ممارسة عرفها، ونحن نقبل الأعراف السائدة بين مختلف الشعوب. أما أن تكون الهيمنة في عالم السياسة، والحياة بيد عدد من البلدان الكبيرة والغنية بحيث تتلاعب بمصائر البلدان الأُخرى، فهذا الذي نرفضه.
ونرفض ايضاً ما يراد من انحدار الثقافات المنحرفة الفاسدة التي تصدر من المجتمعات الأوربية والأمريكية صوب المجتمعات الأُخرى التي تحظى بثقافاتها الخاصة، بحيث ينبغي لما تراه أوربا جيداً أن يكون جيداً بمعايير جميع الشعوب، ولو تعارض مع ثقافتها كما نرفض الحالة التي تسعى ان تُعمّم المعيار الأوربي بالاتجاه الآخر، إذ يكون كل ما تراه اوربا سيئاً ينبغي ان يكون سيئاً لدى بقية الشعوب ولو كان ذلك خلافاً لمعيار ثقافتها، كما هو حاصل الآن في العالم. هذا هو ما نرفضه(183).
(4)
إنَّ الثقافة المهيمنة بنظر الأوربيين هي ثقافتهم وحسب، حيث ينبغي لهذه الثقافة ان تسود وان يذعن لها الجميع. فكل ما يراه الأوربيون حسناً ينبغي للبشرية أن تراه حسناً
اننا واجهنا هذا «المنطق» ونواجهه.. والإسلام يواجه سلطة الهيمنة هذه في كل مكان يتواجد فيه، ولذلك يعارضون الإسلام(184).
(5)
تقضي الطبيعة السلطوية لنظام الاستكبار العالمي أن يواجَه أي شعب أو نظام لا يذعن لسلطته ولا يقدم له الإتاوة والرشوة. والقضية تشبه سلوك اللصوص والشقاوات فإذا ما أعطيتهم الإتاوة والرشوة فتحوا لك الطريق، وإذا امتنعت ضايقوك.
وبذلك يتضح ان عداء الاستكبار العالمي لنظامنا هو أمر حتمي لا مفر منه. لقد أعلنا ذلك مراراً ـ وهذا جزء مما نعتقد به ـ انهم لن يتخلوا عن ادامة عنادهم وعدائهم حتى ييأسوا. فما دام هناك أمل، ولهم فينا مطمع، فهناك معارضة.
أمّا إذا يأسوا من ضرب النظام والاضرار به وأحسّوا انَّ النظام يتسم بالثبات بحيث لا فائدة من عمل شيء، ويأسوا تماماً من الحصول على شيء من النظام، فعندئذ يرتفع الخطر أو يقل(185).
(6)
كانت إيران العزيزة وأرضها الواسعة المليئة بالخيرات، عرضة للقوى الظالمة المرتبطة بأمريكا والغرب قبل انتصار الثورة. فعلى مدى سنوات متمادية نهبوا الأموال.. ظلموا الشعب.. مزقوا نسيج العشائر.. خربوا المدن، وفعلوا كل ما يستطيعونه بالثروات الطبيعية لهذا البلد، لا فرق بين عصر عائلة بهلوي أو عصور ملوك القاجار الملعونين. فتارة تسلط الروس على إيران.. وتارة الانكليز.. وتارة الأمريكان، بحيث كان البلد مستباحاً للأجانب.
كانت الشركات الأجنبية تستأثر بأموال البلد وثرواته، ففي مرحلة برز دور الشركات الانكليزية، وفي مرحلة أُخرى جاء دور الشركات الأمريكية، وقبل ذلك كان دور الروس.. كانوا يستغلون البلد وينتهبون ثرواته كما يريدون.
أما عندما وصل الإسلام إلى الحكم فقد قطع نفوذ الأجانب وحال دون المعتدين الناهبين. لا تستطيع القوى الأجنبية أن تستغل هذا الشعب وتنهب ثرواته.. لقد فقدت القوى السياسية الخارجية سلطتها في هذا البلد وأضحى مصير شعبه بيده يفعل ما يريد.
ان القرار اليوم بيد الشعب وممثلي الشعب؛ يعني مجلس الشورى الإسلامي، وهذه الحكومة الخدومة، ورئيس الجمهورية ذي المواصفات الاستثنائية وبقية المسؤولين.. هؤلاء هم الذين يقرّرون ما يريدون بمنتهى القوة، وهم الذين يعملون على رغم إرادة العدو. وهذا كله ببركة الإسلام. ففي كل مكان يدخل فيه الإسلام تُقطع أيادي الأعداء والمستغلين. ولهذا السبب يعادون الإسلام(186).
القسم الثالث
وسائل وأدوات العدو في الغزو الثقافي المضاد للثورة الإسلامية
1 ـ إشاعة الثقافة الخاطئة والفساد والفحشاء بين الشباب
(1)
ما دام العدو قد فهم انَّ هذا الشعب اتحد ببركة الإيمان، وانه عثر على قائد لا يهاب القوى الكبرى أبداً ببركة الإيمان، لذلك صار في حال عداء مع إيماننا وإسلامنا من خلال توظيف الوسائل الدعائية والسياسية، ووصمنا بأوصاف يحسب أنها تسيء إلينا، في حين نعدّها مجداً لنا، كقولهم عنّا إننا أُصولييون. نحنُ نفخر بعودتنا إلى أُصولنا الإسلامية؛ وههنا يكمن سرّ قوتنا.
لقد تمركزت دعايات الاستكبار العالمي في السنوات الأخيرة للنيل من إيماننا الإسلامي. ولكن شعبنا لن يغضي عن الذين تعرضوا للإسلام والإيمان بأي ضرب من ضروب الاهانة؛ لأنَّ الإسلام هو كل شيء بالنسبة للشعب.
انَّ الإسلام والإيمان الإسلامي هُما رصيد عزنا ونصرنا؛ والإيمان هو الذي يصلح دنيانا وآخرتن(187).
(2)
يسعى العدو للسيطرة على شبابنا وان نفقد هذه الشريحة من خلال اشاعة الثقافة الخاطئة والفساد والفحشاء. والذي يفعله العدو ثقافياً على هذا الصعيد ليس غزواً ثقافياً وحسب، بل ينبغي القول انه هجوم ثقافي مكثف.. انه غارة ثقافية.. انه مجزرة ثقافية.
هذا هو ما يفعله العدو معنا اليوم(188).
(3)
صحيح ان الضعف الداخلي لمجتمع من المجتمعات هو الأرضية التي يتحرك عليها هجوم الأعداء، بيد ان الصحيح أيضاً ان العدو هو الذي فرض هذا الضعف على المجتمع السليم، بادواته وإمكاناته، وكذلك ينبغي أن لا نقع في الخطأ ـ في تقويم المسألة ـ(189).
(4)
أعداء الشعب الإيراني في سعي دائب لتحريف الرأي العام وسلب شبابنا إيمانهم الإسلامي، بواسطة العناصر العميلة والخائنة(190).
(5)
ثَمَّ مؤامرات ضخمة تستهدف الأُمة الإسلامية اليوم.. وَثمَّ مؤامرة تستهدف شعبنا أيضاً. ان فرض الحصار الاقتصادي علينا هو ضرب من المؤامرة.. وبث الفساد ونشر الفحشاء في مجتمعنا لتوريط شبابنا هو أيضاً نمط من المؤامرة.. وكذلك الأكاذيب التي تبث ضدنا.
انهم يتآمرون لكي يضربوا وجودنا وكياننا من الأساس حتى تنهار القواعد(191).
(6)
تتمثل احدى وسائل الغزو الثقافي بفك عرى ارتباط الشباب المؤمن بدعائم الإيمان؛ الإيمان الذي يعد عنصر حفظ الحضارة. تماماً كالذي فعلوه بالأندلس قبل قرون، حين دفعوا الشباب إلى مستنقع الفساد والشهوة والسكر. هذا هو ما يحصل الآن.
لقد ذكرتُ مراراً أن البعض يعتصره الألم وهو يرى عدداً من النساء في الشارع لا يتمسكن بالحجاب المناسب، ومن الطبيعي انَّ هذا الأمر سيء، ولكنه ليس المنكر الأساسي.. المنكر الأساسي (جذور الفساد والسوء) هو الذي لا ترونه في الشارع (كناية عن الدهاء في الحركة والعمل).
سُئل أحدهم: ماذا تفعل؟ أجاب: أقرع الطبل سُئل: ولكن لماذا لا يُسمع صوت الطبل؟ أجاب: غداً سيُسمع الصوت إذا لم يكن الشعب والعناصر الثقافية يقظين ـ لا قدّر اللّه ـ فانَّ أصوات انهيار القيم المعنوية الناتجة عن الهجوم المعادي الخفي والذكي ستُسمع متأخرة عندما لا يكون الأمر قابلاً للعلاج
ماذا علينا ان نفعل إذا أحكموا حلقة الحصار حول شاب من أهل الجبهة والحرب من شبابنا، إذ يوفروا له جهاز فيديو في الوهلة الأولى، ثم يثيرون شهواته من خلال مشاهدة الافلام الجنسية الخليعة، ثم يجروه إلى مجالس الفحشاء والفساد؟ ليس هناك صعوبة تُذكر في جرّ الشاب إلى الفساد وهو في عنفوان شبابه، بالأخص إذا كان المفسدون يستندون إلى أُطر تنظيمية في ممارسة مهمتهم.
وهذا ما يفعله العدو الآن. لدي معلومات من مختلف مدن البلاد، إذ تصلني مثل هذه المعلومات، بحيث لا يكاد يمرّ يوم إلا وأسمع مثل هذه الوقائع.
مَنْ الذي يفعل ذلك غير العدو؟ عندما تهيمن الشهوة على الشاب يفقد إيمانه.. يبكي في بادئ الأمر.. ولكنهم يدفعوه صوب هذا المنحدر تدريجياً. ان الأعداء يمارسون اليوم عملية افساد أولادنا في المدارس بهذا الشكل؛ في المدارس الاعدادية، بل حتى في المتوسطة.
يضعون أيديهم على إنسان يقوم بتوزيع المخدرات والصور الخليعة بين التلاميذ داخل المدرسة(192).
(7)
تُبذل جهود حثيثة وواسعة في الوقت الحاضر لسوق الجيل الشبابي في المجتمع صوب الرذيلة والفساد الأخلاقي، وهذه الممارسة هي جزء أساسي من أقسام الهجوم الثقافي(193).
(8)
أنا لا أعرف ما هذه الثقافة؟ ما هي هذه المصيبة التي عمت العالم من طرف الغربيين؟ الغربيون يريدون أن يُعَمِّموا هذه الثقافة، وهذا النمط من ادراك المصالح والمفاسد البشرية والأخلاق الاجتماعية على العالم أجمع، وعلى الجميع أن يذعنوا للثقافة الغربية هذه ويقبلوها
إن واحدة من أكبر الجرائم التي تحصل اليوم، هي عملية التصدير والتعميم هذه(194).
(9)
ثَمَّ حالة من الحساسية (الحصانة والترقب) ازاء أُمور تجري في هذا العالم، ولكن ليس هناك مثل هذه الحساسية ازاء تعرض المرأة للضرب من قبل زوجها. هناك الكثير من الزوجات اللائي يتعرضن للضرب بسهولة من قبل أزواجهن في أوربا وأمريكا، ومع ذلك ليست هناك حساسية كبيرة حيال الظلم الذي يصيب المرأة من الرجل داخل محيط الأُسرة.
تُشير الاحصائيات إلى ان الزوجات والأبناء يتعرضون بسهولة لظلم أزواجهم وآبائهم داخل الأُسر الأمريكية والأوربية، وليس ثَمَّ ضجة كبيرة تُثار حيال هذا الأمر. أما عن حجاب المرأة فهناك حساسية
فإذا ما خالفت شخصية أو فيلسوف أو نظام أو اتجاه سياسي معين عُريَ المراة فستثار ضجة من حولهم.. ليس هناك حساسية حيال الكثير من ضروب الفساد والعادات السيئة، ولكن إذا ما اعتمد بلد معين سياسة مضادة لتناول المشروبات الكحولية، فستثار من حوله ضجة في العالم، ويُهزأ به ويوصم بالرجعية
إلى من يعود هذا النمط من الثقافة؟ وما هي البيئة التي تتعاطى عرى المرأة وتناول المسكرات كأعراف سائدة؟ يعود هذا النمط إلى أوربا، وهو ناشئ من الثقافة الأوربية القديمة، وقد رسخت هذه التقاليد في مناطق أُخرى من العالم، حتى إذا ما نهض أحد لمعارضتها يكون ـ وكأنه ـ اجترح ذنباً كبيراً(195)
2 ـ تضعيف العلماء من خلال الدعاية
(1)
يعد الإسلام اليوم هدفاً لأعتى الخصومات الشيطانية في العالم، وفي المقابل يحاط الإسلام بأعمق مظاهر الحب والتقدير في أوساط الجماهير المحرومة. أما القوى الكبرى في العالم فهي لا تعادي أحداً قدر عدائها للإسلام، والعلماء هم الدعاة للإسلام.
مُنذ اثنتي أو ثلاث عشرة سنة ـ أي منذ انتصار الثورة ـ وأجهزة الاتصال الجمعي وشبكات الدعاية الاستكبارية والصهيونية تتحدث عن العلماء بصيغ مختلفة.. تسخر بهم، وتثير حيالهم الأكاذيب والتهم.. انهم يلصقون بالعلماء الكبار والمفكرين الدينيين ما هو أجدر بهم وباذنابهم والتابعين لهم.
ولا أهمية لذلك، فليست هذه بالأمور التي تؤثر علينا أبداً، لأننا نعرف ان الضربة التي أنزلها بهم العلماء كانت ضربة قوية وبليغة(196).
(2)
منذ أن انتصرت الثورة، والعلماء الذين اشتغلوا بخدمة نظام الجمهورية الإسلامية بشكل مُباشر ـ ولاسيّما البارزون منهم ـ هم مرمى لسهام العدو المسمومة على الصعيد الاعلامي وعلى صعيد الارهابيين الخونة عملاء العدو.
لقد قدَّم العلماء شهداء كبار في جبهات الحرب المفروضة وعلى صعيد فعالياتهم الجهادية، بحيث اصطبغت بدمائهم الطاهرة محاريب صلاة الجمعة وسوح العلم والسياسة ومجالات الدعوة إلى الدين.
يدرك شعبنا العزيز ان الباعث لعملية الهجوم الشاملة التي يشنها العدو ضدَّ العلماء يكمن في الدور المصيري الفريد الذي كان لهم وما يزال؛ فالعدو يهاجم العلماء بهدف اضعاف الثورة والقضاء عليها.
وتنخرط في السياق المعادي ذاته الآن زمرة الأقلام المأجورة لاضعاف هذا الرصيد المعنوي الذي تملكه الثورة، أمام الشعب.
يمكن لأعداء الثورة ان يتحملوا العلماء إذا ما كفّوا عن الأمور السياسية واعتزلوا المساهمة في شؤون الثورة، تماماً كما حصل وهو حاصل الآن لعدد من العلماء الغافلين المتحجرين الذين يكتفون بالجلوس في المدارس والمساجد، في حين يكلوا أُمور البلد وشؤون الشعب لأولئك الأعداء.
من الظواهر الملفتة والدلالات الممتلئة بالمعاني أنه لم يحصل وأن صار العلماء المتحجرون الغافلون البعيدون عن حوادث البلد والتيارات السياسية، مرميً لهجوم الأعداء أبداً طوال سنوات النهضة؛ وخلال السنين التي أعقبت الانتصار. فلم يتوجه إليهم الأعداء بالهجوم الإعلامي أو الجسدي المباشر (الاغتيال) وحتى تهمة الرجعية التي صدرت عن أيادي الأجنبي المتلبسين بصفة المثقف لم تتجه إلاّ للعلماء المتألقين بلحاظ الفكر السياسي، وممن عرف بالتجديد في ساحة العلم والعمل، ولم تصب ـ التهمة ـ إلا الفئة التقدمية من العلماء التي عرفت بالوعي والرقي(197).
(3)
نلحظ ان هناك مجموعة من الممارسات والأعمال انطلقت في المحيط السياسي أو الجامعي على أساس الغاء قيمة العلماء وشخصيتهم. وليست هذه ممارسة ساذجه تقتصر على صنف خاص.
فمن الخطأ ـ مثلاً ـ أن نتحدث عن الحوزة العلمية ككيان تقليدي بالرغم من ان منهجها التعليمي يقوم على أساس البحث والتحليل والتحلي بدقة النظر وممارسة الاستدلال والتجديد والابداع، بحيث نعد أمثال الشهيد مطهري والشهيد بهشتي ـ وهما من تلاميذ الحوزة ـ مجرد ظواهر استثنائية في خط الحوزة.
ثمَّ احتمال يُتاخم اليقين انَّ الذين يظنون هذا المعنى ليس لديهم غرض أو سوء، ولكن هذه المسائل تقضي ـ بالنتيجة ـ إلى الفساد جزماً، وهي إلى ذلك تتعارض مع الواقع. فمثل هذه الرؤية يمكن أن تؤدي إلى زوال القيمة العلمية والمعنوية للعلماء ـ وهم ممثلو الدين وحملة رايته ـ في المحيط الجامعي وبين الجامعيين. كما حصل ما يشبه ذلك قبل الثورة؛ وإن كان بوسائل بدائية، ولكن كانت له آثاره على أي حال.
فإذا ما أنكرنا العلماء والمرتبة العلمية للفقاهة وما لذلك من تأثير في حركة البلد راهناً، أو شككنا بسمعتهم أو عرضنا لهم بسوء، فسنكون في الحقيقة قد ألحقنا الضرر بالنزوع الديني للشعب وبطبقة فاعلة وعظيمة في المجتمع.
وهذا هو ما يبتغيه الأعداء ويدخل عليهم الرضا والسرور، ويحقق لهم ما يريدونه(198).
3 ـ اهمال التيار الثوري في الأدب والفن والثقافة
(1)
لقد استمر الغزو الثقافي في زمن الحرب بواسطة أدوات الاعلام والخطاب الخاطئ المنحرف، وكان من الطبيعي أن يكون هناك تأثير للرواسب الذهنية والنفسية للناس أنفسهم. بيد ان سخونة الأجواء في ظل الحرب كانت بمثابة الرادع في صدّ الهجوم.
أما بعد انتهاء الحرب فقد راحت هذه الجبهة تمارس نشاطها بشكل أكثر جدية(199).
(2)
صارت الأجواء مناسبة للغزو الثقافي بعد انتهاء الحرب. لأن سخونة أجواء الحرب وحماسها وعنفوانها كان يجذب الشاب ويشغله فلا يصغي إلى كلام العدو. ولكن انطفاء هذه الشعلة جعل الأرضية مهيّئة للعدو، ولذلك انطلق بشكل أوسع واستخدم أدوات متعدّدة في هجومه الثقافي الشامل.
عندما أتأمل بسعة أدوات العدو أدرك ان القضية مهمة بالنسبة إليه. كان من وسائلهم اهمال واحتقار الفن والأدب والثقافة الثورية في البلد.
من انجازات الثورة المهمة انها ربّت عدداً من العناصر الثقافية والأدبية والفنية.. فنحن لدينا من هؤلاء الأفراد، ولا نشعر الآن بنقص على هذا الصعيد بحمد اللّه. هناك كثير من الشعراء وكتّاب القصة.. وهناك كتّاب يتقنون النص الفارسي بشكل دقيق.
بديهي لم يمر على عمر الثورة أكثر من ثلاث عشرة سنة، ولكم ان تتأملوا بعصورنا الثقافية والتأريخية لتنظروا أية حقبة استطاعت أن تنتج شخصيات من الطراز الأول في غضون ثلاث عشرة سنة. صحيح ان هؤلاء ـ الذين تربوا في أحضان الثورة ـ لم يبلغوا مرتبة شخصيات الطراز الأول وبينهما مسافة، ولكن هناك كثرة من الكفاءات الثورية التي بمقدورها ان تتحوّل إلى مواقع شخصيات الطراز الأول على هذا الصعيد.
لقد عقمت أرضنا في مرحلة الاستبداد؛ أواخر العهد الملكي، فلم تكن أرضنا تينع حقيقة برجال عظام وكتّاب وفنانين كبار بالأخص على صعيد بعض الاختصاصات الفنية. أما الآن فقد تربت بين شبابنا اليافع كفاءات سينمائية جيدة، وممثلون ومخرجون وشعراء وكتّاب قصة جيدون.
لقد حرَّرت الثورة هذه القابليات. واحدى الممارسات التي استهدفت هذه الطاقات تمثلت بالسعي لاهمال هذه المجموعة المؤمنة وعزلها. ولما كان شبابنا قليل التجربة، فمن الطبيعي أن يتأثر سريعاً ويتباطأ بمجرد أن يشعر بالاهمال أو الاحتقار من قبل اثنين ـ مثلاً ـ من العاملين في أحد الأجهزة الثقافية الرسمية في البلد. وكذلك يشعر بالضعف المعنوي والاحباط إذا ما رأى ان المجلات المسماة أدبية وفنية في البلد تعمد إلى تضخيم الرموز المعارضة وتمجّد بها.
الحالة نفسها تصيب السينمائي الشاب المتدين عندما يدور بفلمه على المراكز المعنية فتلاقيه بالصدود وترفض فلمه، في حين يرى تبنيهم مختلف الأعمال التي تقل فنياً عن مستوى عمله، لأنها تفتقر إلى الرؤية الإسلامية. مثل هذا الشاب سينكفئ تلقائياً ويشعر باليأس والاحباط.
شعرت بالمرارة والأسى مرّات ومن أعماق قلبي لحال هؤلاء الشباب الثوري المؤمن المتحرق. فلماذا يُهمل هؤلاء الشباب ولا يُعبأ بهم مع ان كفاءاتهم لا تقل ـ ان لم تزد في الكثير من الأُمور ـ عن أولئك الذين يذكرون كفنّانين؟ عندما يدقق الإنسان بالأمر على نحوٍ صحيح يجد أن جذر هذه الحالة من الاهمال وعدم الاعتناء يعود إلى ارادة خبيثة تكمن في نقطة معينة لم يتوجه لها أحد حتى المسؤولون أنفسهم. انَّ المعنيين عن شأننا الثقافي هُم رجال جيدون، بيد انهم لا يعتنون بالأعمال التي تنجز في المستويات المتوسطة.
من الوسائل الأُخرى التي تستخدم لعزل الطاقات المؤمنة ـ أحسّ ان هذه من الآلام الصامتة التي يودّ الإنسان ان يفهمها الناس جميعاً بوضوح ـ هو اهمال الأفلام أو الأعمال الفنية الإيرانية التي تطرح في المحافل العالمية (المقصود بها الآثار التي تنطوي على الروح الثورية). فهذه المحافل تبدو غير مسيسة في الظاهر، بيد ان باطن الأمور شيء آخر.
لقد رأيتم سلوك المنظمات العالمية وما تفعله؛ رأيتم موقف مجلس الأمن من قضية البوسة والهرسك، وما فعلته منظمة «ايكائو» في قضية الطائرة الإيرانية التي اسقطتها أمريكا
هل ينُم هذا السلوك عن الحياد؟ وهل تعد هذه المنظمات غير سياسية حقاً؟
تفعل المراكز العلمية الشيء نفسه مع أفلامنا ومعروضاتنا الفنية.. وما ينتجه أطفالنا. وعندئذ كيف يستطيع الإنسان ان يتغافل هذا الواقع ويقول ان هذه المنظمات غير سياسية؟ لماذا لم تمنح أية جائزة من جوائزهم لعمل فني ثوري؟ هل نفتقد إلى الفلم الثوري؟ أم إلى الشعر الثوري؟ أم ان أياً من هذه الآثار لا يتسم بقيمة فنية؟
أحتمل ان هذه المراكز والمؤسسات والمجامع تمنح حتى جائزة نوبل لواحدٍ ممّن يُسمّون بالعناصر الثقافية، المعادية للإسلام والثورة، لكي يحيطوا أولئك ـ أعداء الإسلام والثورة ـ بهالة من التضخيم، ويُمعنوا في اهمال العناصر الثورية وإبعادها.
أليس هذا غزواً ثقافياً؟(200).
4 ـ اتهام النظام الإسلامي بسلب الحرية
(1)
يتهمون النظام الإسلامي بأنه لا يمنح الحرية.
ولكن كيف (بأي معنى) نحن لا نمنح الحرية؟ هل هناك بلد فيه هذا العدد من الصحف والمجلات والنشريات التي يكتبون فيها ما يريدون؟
ان الصحف الرسمية في البلد تنتقد سياسات الحكومة علناً وتضعها في دائرة الاستفهام، ثم تبادر الحكومة للجواب على نقد الصحافة بشهامة تامة.
تطبع الآن مجلات في إيران يستطيع من له أدنى معرفة بالعناصر الثقافية في عهد الطاغوت وبالكتاّب والفنانين وحملة الأقلام في العهد الملكي، وبالعناصر الجبانة أمام العدو، والموالية لأمريكا، أن يدرك من أين تموّل هذه المجلات
هذه المسألة قابلة للحدس، ونحن على علم بالأمر، وكذلك الجهاز المسؤول، ولكن رغم ذلك ما تزال هذه المجلات تطبع، من دون أن نتعرض لها. نحن لا نخشى من مجلة تكتب (ضدّ رؤيتنا) بضع كلمات؛ فنحن نكتب أيضاً (بما يتسق مع رؤيتنا أو في سياق الردّ على ما تكتبه).
ان سعة الحرية التي تحظى بها المطبوعات في إيران لا يوجد في الأماكن الأُخرى، ومن ثَمَّ فانَّ نظامنا مظلوم في مضمار حرية المطبوعات، وآية هذه الظلامة ان المجلات والصحف تحصل على الحرية، ثم تمتلئ بنقد النظام، ومع ذلك يأتي من يردّد في سياق هذه الانتقادات بأننا لا نملك الحرية
والسؤال:: إذا لم تكن تملك الحرية فكيف كتبت ما كتبت؟ ومن الذي عوقب ـ في البلد ـ لمجرد انه كتب وعبَّر عن رأيه بالكتابة؟ أجل، إذا اجترح أحدهم جريمة صحفية فان ذلك جرم كائناً من كان صاحب الذنب. والشخص الذي يخالف القانون يتعرض للعقوبة. واحدى العقوبات التي ينص عليها القانون هو تعطيل الصحيفة أو المجلة التي ارتكبت الجريمة.
وهذه قضية أُخرى غير حرية المطبوعات. أما الكلام وابداء الرأي فالإنسان فيهما حر.
وما يحصل ان العدو يرمي النظام بتهمة سلب الحرية لمجرد أن الأجهزة المعنية تبدي احساساً بالمسؤولية ازاء ما يُكتب وترُدُّ عليه. ان العدو يريد لكتّاب التيار الثقافي التابع للاستكبار ان يكتب ما يشاء، ولكن لا يرضى للكتّاب المرتبطين بالنظام الإسلامي والموالين للاتجاه الإسلامي أن يردّوا على ما يكتبه أولئك. وإذا ما ردّوا ما يلبث ان يقول: ليس هناك حرية هُم يريدون تخويفنا هذه هي الأجواء التي يصنعها العدو، وهناك من البسطاء من يُخدع بذلك. وما أكثر من ينخرط في هذا التيار من دون قصد ومن دون أن يعي ماذا يقول أو يعرف ما الذي يعمله(201).
(2)
يناهض بعض الكتّاب والمتحدثين ممن أمضى عمره غارقاً في مستنقع الفساد والرذيلة وضروب الانحطاط الأخلاقي والسياسي، الحكومة الإسلامية التي سدّت الطريق على هذه الممارسات الماجنة، وطردت أسياد هؤلاء الكتّاب. ثم يعمد هؤلاء إلى تسويغ معارضتهم التي تتجه حقيقة ضدّ الإسلام والاستقلال الوطني وحرية البلد والطهارة الأخلاقية، من خلال تتبع العثرات الصغيرة وتوجيه النقد إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية.
وفي الوقت الذي يتحدث هؤلاء بما يشاؤون بحرية، تراهم يطالبون بالحرية بوقاحة
ان ما يبتغيه هؤلاء حقيقة هو فتح المجال للنفوذ الأمريكي وتسليم مقدرات البلد بيد الأعداء، بيد ان الخصم الذي يواجه هؤلاء هو الشعب الرشيد الواعي. فشعبنا سيجعل من عودة عهد العبودية لأمريكا مجرد حسرة في قلوب أولئك، وسيدافع بما يملك عن انجازه الكبير المتمثل بالنظام الإسلامي وحاكمية ارادة الإنسان وإيمانه.
لا يريد النظام الإسلامي أن يتعلم الحرية أبداً من ادعيائها الكذبة في الأنظمة الغربية، خاصة وان رافع راية الحرية هو الإسلام والقرآن.
اننا نرفض بصراحة وحزم حرية الفساد والتحلل والفحشاء والكذب والاحتيال والظلم والاستغلال والاعتداء على حقوق الشعوب؛ فهذه الحرية التي يمارسها الغرب ويرفع لواءها.
اننا نرفض الحرية التي تبيح للمرتد سلمان رشدي اهانة مقدسات مليار إنسان، في حين انّها تمنع المسلمين الانكليز حقهم في توجيه شكوى ضدّ هذه الاهانة.
اننا نرفض ونبدي استياءنا من الحرية التي تبيح لأمريكا أن تحرك الغوغاء والأوباش ضدَّ حكومة شعبية، بيد انها ترفض حق هذه الحكومة في مواجهة هؤلاء.
اننا نرفض وندين الحرية التي تبيح للراسماليين الإغارة على البلدان الضعيفة والسطو على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها، وتأخذ على هذه الشعوب حقها في المواجهة؛ نحن نرفض هذه الأنماط من الحرية ونستنكرها ونعدّها عاراً على البشرية.
ان الحرية في منطقنا هي ما يهبه الإسلام للشعوب؛ وهو يحوّلها إلى جبال من الثبات والصمود بوجه الظلمة والغاصبين، تماماً كما حصل لشعب إيران، حيث ظهرت هذه المعجزة.
هذه هي الحرية الموجودة والتي ستبقى دائماً في بلدنا، وعلى جميع أفراد الشعب حمايتها والحفاظ عليها(202).
(3)
هناك حرية للمطبوعات في بلدنا، ونحن نهتم بالحرية ونعدها شأناً كريماً عزيزاً. وبذلك ينبغي أن توجد مثل هذه الحرية. ولكن حرية المطبوعات لا تعني تنفيذ سياسات العدو، كما هو شأن بعض المطبوعات(203).
(4)
أتوجه إليكم بهذا السؤال: إذا أبدى مدير مدرسة معينة احساساً بالمسؤولية وخشي عاقبة فساد (500) أو (600) أو (1000) شاب يافع من الطلاب الذين اُوكلت إليه مسؤوليتهم، فقام بمعاقبة صبي سيء تحوّل إلى آلة بيد الأعداء وهو يوزّع مادة «الهيروئين» داخل المدرسة وبين الطلاب، فماذا نقول لهذا المدير؟ هل نقول له انَّ أُسلوبك في معاقبة الصبي المخطئ يتعارض مع الحرية؟ هل مثل هذا الكلام صحيح؟ سيرد مدير المدرسة بأنه مسؤول عن مصير (1000) فتيً يافع تحمّل مهمة تربيتهم وهو لا يريد أن يعودوا إلى آبائهم وهم مدمنون على تناول مادة «الهيروئين».
هل من الصحيح أن نقول لمثل هذا المدير: كلا، لم يكن تدبيرك صائباً، دعهم ينتخبون ما يريدون. نحن نوزّع مادة «الهيروئين» والذي لا يرغب بها بمقدوره ان لا يتناولها.. ان مسؤوليتك تنحصر في حدود الحديث عن مضار «الهيروئين» وحسب
أليس هذا النمط من التعامل هو جزء من الغزو الثقافي؟(204).
(1). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(2). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(3). من حديث قائد الثورة مع وزير التربية والتعليم ومعاونيه، 25/10/1370.
(4). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الإعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(5). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 21/9/1368.
(6). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 21/9/1368.
(7). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 21/9/1368.
(8). حديث قائد الثورة في عدد من مسؤولي الجمهورية الإسلامية، 23/5/1370.
(9). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(10). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(11). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(12). حديث قائد الثورة إلى عدد من فضلاء الحوزة العلمية في مدينة قم، 7/9/1968.
(13). حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
(14). حديث قائد الثورة في لقاء مع قسم الأدب والفن في الدوائر الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 22/6/1371.
(15). حديث قائد الثورة في تجمع أئمة الجمعة، 25/6/1370.
(16). حديث قائد الثورة في لقائه مع قادة الحرس الثوري، 26/6/1371.
(17). حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 19/9/1371.
(18). حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 19/9/1371.
(19). حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
(20). حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
(21). حديث قائد الثورة إلى مجموعة من شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
(22). حديث قائد الثورة لأعضاء اللجنة المركزية لجمعية النساء، 15/2/1371.
(23). حديث قائد الثورة في لقاء مع أبناء الشعب بمناسبة يوم العمال، 9/2/1971.
(24). حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 20/9/1370.
(25). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(26). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(27). خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(28). حديث قائد الثورة في لقاء أعضاء القسم الأدبي في الدائرة الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 12/7/1372.
(29). حديث قائد الثورة في لقاء علماء تبريز، 5/5/1372.
(30). حديث قائد الثورة في لقاء علماء تبريز، 5/5/1372.
(31). حديث قائد الثورة في لقاء أئمة الجمعة والجماعة والعلماء وجمع من أبناء الشعب، 10/4/1371.
(32). حديث قائد الثورة في لقاء أعضاء القسم الأدبي في الدائرة الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 12/7/1372.
(33). حديث قائد الثورة إلى مجموعة من شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
(34). حديث قائد الثورة في مجموعة من العلماء والجامعيين والطلاب، 29/9/1368.
(35). حديث قائد الثورة إلى القسم العلمي التابع للاذاعة، 15/11/1370.
(36). حديث قائد الثورة في لقاء عدد من العشائر وعوائل الشهداء، والعاملين في جهاد البناء والمتضررين من الزلزلة، 28/4/1370.
(37). خطاب قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني (رحمه اللّه)، 10/3/1369.
(38). حديث قائد الثورة في لقائه مع مسؤولي محافظة جهارمحال وبختياري، 16/7/1371.
(39). حديث قائد الثورة إلى مجموعة من طياري القوة الجوية التابعة للجيش، 18/7/1371.
(40). حديث قائد الثورة في لقاء عدد من العشائر وعوائل الشهداء والعاملين في جهاد البناء والمتضررين من الزلزلة، 28/4/1370.
(41). حديث قائد الثورة إلى القسم العلمي التابع لاذاعة الجمهورية الإسلامية، 15/11/1370.
(42). حديث قائد الثورة في لقائه مع مجموعة من العلماء والجامعيين والطلاب، 29/1/1368.
(43). خطاب القائد في ثلة من العلماء وأئمة الجمعة، 22/2/1369.
(44). حديث قائد الثورة في لقائه عدد من مسؤولي الجمهورية الإسلامية، 19/11/1368.
(45). من حديث القائد مع مجموعة من العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي، ورؤساء مناطق التربية والتعليم، 21/5/1371.
(46). من كلام السيد في الدرس الأول لبحثه في الفقه الخارج، 29/6/1371.
(47). من كلمة للقائد في جمع من علماء محافظة جهار محال وبختياري، 15/7/1371.
(48). من بيان للقائد أصدره في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني (رحمه اللّه)، 10/3/1369.
(49). من كلام القائد في مراسم بيعة علماء الحوزات العلمية، 9/4/1368.
(50). من حديث القائد اثناء لقائه بجمع من الاسرى العائدين إلى الوطن، بحضور جماهير أُخرى من مختلف طبقات الشعب، 11/7/1369.
(51). من حديث القائد في لقاء مع مجموعة من علماء وأئمة جمعة مازندران، 22/2/1369.
(52). من حديث القائد في مجموعة من عوائل شهداء خرم آباد، 30/5/1370.
(53). من حديث القائد في مجموعة من علماء مدينة جهار محال وبختياري، 15/7/1371.
(54). من حديث القائد في مجموعة من أهالي مدينة جهار محال وبختياري، أثناء لقائه معهم في ملعب مدينة شهركرد، 15/7/1371.
(55). المصدر السابق.
(56). من حديث القائد في لقائه مع مجموعة من الطلاب والجامعيين، 28/9/1369.
(57). من حديث سماحته في مراسم بيعة مجموعة من أهالي مشهد وعشائر خوزستان، 22/4/1368.
(58). من بيان أصدره سماحته في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني (رحمه اللّه)، 10/3/1369.
(59). من حديث القائد في لقائه مع العلماء وأئمة الجماعات، 13715.
(60). من حديث سماحته اثناء لقائه بمجموعة من عوائل الشهداء، 24/6/1368.
(61). من خطاب لسماحته في لقائه مع مجموعة علماء وأئمة جماعات طهران، 7/5/1371.
(62). حديث قائد الثورة لضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، 24/7/1968.
(63). حديث قائد الثورة لضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، 24/7/1968.
(64). نداء السيد القائد إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 26/3/1370.
(65). حديث قائد الثورة في مجموعة من الطلاب والجامعيين، 28/9/1369.
(66). حديث قائد الثورة في لقائه مع العاملين في الحقل الاعلامي ورؤساء الدوائر التعليمية، 21/5/1371.
(67). نداء السيد القائد إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 26/3/1370.
(68). حديث قائد الثورة في لقاء عوائل شهداء خرم آباد، 30/5/1370.
(69). حديث قائد الثورة في لقاء عوائل شهداء مدن مختلفة، 24/6/1368.
(70). حديث قائد الثورة في لقاء مع العاملين في الحقل الإعلامي ورؤساء الدوائر التعليمية، 21/5/1371.
(71). حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من الأسرى العائدين إلى الوطن، 29/5/1369.
(72). حديث قائد الثورة في لقائه سفراء الجمهورية الإسلامية والعاملين في السلك الدبلوماسي، 19/5/1371.
(73). كلمة قائد الثورة إلى جماعة مدرسي الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة بمناسبة تأسيس لجنة التخطيط الحوزوي، 24/8/1371.
(74). بيان قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(75). نداء قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 14/4/1368.
(76). نداء قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 13/3/1371.
(77). نداء قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 14/4/1368.
(78). نداء قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 26/3/1370.
(79). حديث قائد الثورة في لقائه مجموعة من قوات التعبئة وجماهير وعلماء العاصمة طهران، 5/7/1367.
(80). بيان قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(81). من بيان ولي أمر المسلمين إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 13/3/1371.
(82). خطاب قائد الثورة في جمع من ضيوف الجمهورية في ذكرى انتصار الثورة، 17/1/1369.
(83). من خطاب السيد القائد في الذكرى الأولى لرحيل الإمام الخميني، 10/3/1369.
(84). لقاء السيد القائد مع عوائل شهداء خرّم آباد، 30/5/1370.
(85). بيان للسيد القائد في تكريم شهداء الثورة الإسلامية، 17/11/1370.
(86). كلمة السيد القائد إلى مؤتمر الفكر الإسلامي في زاهدان، 15/11/1370.
(87). لقاء السيد القائد مع مجموعة كبيرة من الأسرى العائدين، 26/5/1371.
(88). كلمة السيد القائد على مشارف يوم القدس، 24/1/1369.
(89). حديث السيد القائد في لقائه لسفراء وقناصل الجمهورية الإسلامية في الخارج، 1/5/1369.
(90). بيان وجهه سماحة السيد إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 26/3/1370.
(91). كلمة السيد بمناسبة موسم الحج والذكرى السنوية لفاجعة مكة، 10/4/1369.
(92). من كلمة سماحته في لقائه مع ضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، 24/7/1368.
(93). من كلمة سماحته في لقائه مع ضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، 24/7/1368.
(94). من كلمة سماحته في لقائه مع ضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، 24/7/1368.
(95). كلمة السيد القائد في مجموعة من الفنانين التابعين للحوزة الفنية في مؤسسة الاعلام الإسلامي، 21/8/1368.
(96). كلمة السيد بمناسبة موسم الحج وذكرى مذبحة مكة، 10/4/1369.
(97). كلمة سماحته إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 14/4/1368.
(98). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أبناء الشعب لسماحته، 22/4/1368.
(99). حديث قائد الثورة إلى الضيوف الأجانب المشاركين في احتفالات الذكرى السنوية الثانية لوفاة الإمام الخميني، 15/3/1370.
(100). كلمة قائد الثورة في مراسم بيعة علماء الحوزات العلمية مع سماحته، 9/4/1368.
(101). حديث قائد الثورة في لقاء مع مجموعة من أبناء الشعب، 19/7/1368.
(102). حديث قائد الثورة في مراسم البيعة التي قام بها مجموعة من أبناء الشعب، 22/4/1368.
(103). حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من قوات التعبئة الشعبية وعلماء طهران، 5/7/1368.
(104). حديث قائد الثورة في لقاء ضيوف المؤتمر الإسلامي، 24/7/1368.
(105). خطاب قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 26/3/1370.
(106). كلمة قائد الثورة في مؤتمر الفكر الإسلامي بزاهدان، 15/11/1370.
(107). حديث قائد الثورة في لقائه ضيوف المؤتمر الإسلامي، 24/7/1368.
(108). خطاب قائد الثورة في لقائه أعضاء مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، 1/7/1370.
(109). خطاب قائد الثورة في جماعة من علماء وأئمة جمعة أقليم مازندران، 22/2/1369.
(110). كلمة قائد الثورة في لقائه مع قادة حرس الثورة الإسلامية، 27/6/1370.
(111). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة الحوزات العلمية، 9/4/1368.
(112). حديث قائد الثورة في لقائه مع مجموعة من الأسرى العائدين إلى الوطن وعدد من مسؤولي وزارة التربية والتعليم، 7/6/1369.
(113). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أبناء مدينتي قم ورفسنجان، 19/6/1368.
(114). حديث قائد الثورة في لقائه قادة قوات التعبئة الشعبية في أرجاء البلد، 27/8/1371.
(115). حديث قائد الثورة في لقائه مع العاملين في وزارتي التجارة والزراعة، 12/12/1368.
(116). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أبناء مدينتي قم ورفسنجان، 19/4/1368.
(117). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة عدد من أبناء الشعب، 22/4/1368.
(118). خطاب السيد القائد في لقائه لمجموعة من الحوزويين والجامعيين، 28/9/1369.
(119). حديث السيد القائد في لقائه مع مسؤولي محافظة جهار محال وبختياري، في شهر كرد، 16/7/1371.
(120). حديث السيد القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي.
(121). حديث السيد القائد في لقائه مع شعراء واُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
(122). حديث القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي ورؤساء مناطق التربية والتعليم، 21/5/1371.
(123). حديث القائد في لقائه مع العاملين في أجهزة الاتصال الجمعي ورؤساء مناطق التربية والتعليم، 21/5/1371.
(124). حديث السيد القائد في لقائه شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
(125). حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من أُدباء الحوزة الفنية التابعة لمؤسسة الاعلام الاسلامي، 12/7/1372.
(126). من حديث القائد في لقائه مع شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
(127). من بيان القائد في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(128). حديث السيد القائد في لقائه مع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(129). حديث القائد في لقائه مع مجموعة من أبناء الشعب بمناسبة يوم العامل ويوم المعلم، 9/2/1371.
(130). حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين، 28/9/1369.
(131). حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين، 28/9/1369.
(132). حديث القائد في لقائه بأعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(133). حديث السيد القائد في لقائه مع مجموعة من الحوزويين والجامعيين، 28/9/1369.
(134). حديث القائد في لقائه مع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(135). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أهالي شيراز وبندر عباس وساري، 21/4/1368.
(136). حديث قائد الثورة في لقائه مع ضيوف مؤتمر الفكر الإسلامي، 12/11/1368.
(137). بيان قائد الثورة في تجمع قادة جيش العشرين مليون، 2/9/1368.
(138). بيان قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(139). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أهالي شيراز وبندر عباس وساري، 21/4/1368.
(140). حديث قائد الثورة في لقائه مع مجموعة من أبناء الشعب وأعضاء لجنة صلاة جمعة طهران، 1/9/1368.
(141). حديث قائد الثورة في لقائه وزير ومعاوني التربية والتعليم، 25/10/1370.
(142). حديث قائد الثورة إلى الضيوف الأجانب المشاركين في الذكرى السنوية الثانية لوفاة الإمام الخميني، 15/3/1370.
(143). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة وزير ومسؤولي وزارة التربية والتعليم والمعلمين لسماحته، 26/3/1367.
(144). حديث قائد الثورة في لقائه مجموعة من المعلمين والمسؤولين عن الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
(145). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة أهالي مدن باختران وآراك ورشت مع سماحته، 14/4/1368.
(146). حديث قائد الثورة في لقائه سفراء الجمهورية الإسلامية والعاملين في السلك الدبلوماسي،19/5/1371.
(147). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أهالي مدينة زنجان ومدن إيرانية أُخرى، 19/5/1371.
(148). حديث قائد الثورة في لقاء الممثلين الثقافيين للجمهورية الإسلامية خارج البلد، 3/2/1370.
(149). من حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من أبناء الشعب، 1/9/1368.
(150). حديث قائد الثورة في لقاء الضيوف الأجانب المشاركين في الذكرى السنوية لانتصار الثورة، 17/11/1369.
(151). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة مجموعة من أبناء الشعب، 22/4/1368.
(152). حديث قائد الثورة إلى العاملين في وزارتي التجارة والزراعة، 12/12/1368.
(153). بيان قائد الثورة بمناسبة اليوم الوطني لمواجهة الاستكبار العالمي، 13/8/1369.
(154). حديث قائد الثورة في لقائه مع أبناء المدن المختلفة، 3/8/1368.
(155). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة علماء وطلاب الحوزة العلمية لمدينة مشهد، 20/4/1368.
(156). حديث قائد الثورة إلى العلماء والوعاظ على مشارف شهر رمضان المبارك، 2/12/1369.
(157). حديث قائد الثورة إلى مجموعة من الطلبة الجامعيين وعوائل الشهداء، 2/3/1369.
(158). كلمة قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 14/4/1368.
(159). حديث قائد الثورة إلى ضيوف مؤتمر الفكر الإسلامي، 12/11/1368.
(160). حديث قائد الثورة في لقاء أعضاء الحكومة، 1/6/1369.
(161). حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من أبناء الشعب من عدد من المدن الإيرانية، 3/8/1368.
(162). حديث قائد الثورة إلى جماعة من العلماء، 22/2/1369.
(163). حديث قائد الثورة في مراسم الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 14/3/1369.
(164). كلمة قائد الثورة بمناسبة بداية الدورة الثانية لأعمال مجلس الخبراء، 1/12/1369.
(165). كلمة قائد الثورة إلى تجمع مدرسي مادة القرآن للصفوف الثانوية الأولى، 20/7/1368.
(166). كلمة قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(167). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة أعضاء مجلس الخبراء، 21/3/1367.
(168). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة حرفييي مدينة مشهد، ومؤسسة الخامس عشر من خرداد ومركز محو الأمية، 8/4/1368.
(169). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة أعضاء الحكومة، 16/3/1368.
(170). حديث قائد الثورة إلى جماعة من الأحرار (الأسرى العائدين إلى أرض الوطن)، 29/5/1369.
(171). حديث قائد الثورة إلى قادة كتائب قوات التعبئة الشعبية، 22/4/1371.
(172). حديث قائد الثورة في مراسم تجديد بيعة أعضاء مؤسسة باقر العلوم الثقافية، 1/11/1368.
(173). كلمة قائد الثورة إلى حجاج بيت اللّه الحرام، 14/4/1368.
(174). كلمة قائد الثورة بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(175). حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من الطلبة الجامعيين، وأعضاء اللجنة السباعية، وعوائل الشهداء، 2/3/1369.
(176). حديث قائد الثورة في لقاء مجموعة من الطلبة الجامعيين، وأعضاء اللجنة السباعية، وعوائل الشهداء، 2/3/1369.
(177). حديث قائد الثورة إلى أعضاء القوة الجوية بمناسبة يوم القوة الجوية، 19/11/1370.
(178). حديث قائد الثورة إلى ضيوف مؤتمر الفكر الإسلامي، 12/11/1368.
(179). حديث قائد الثورة إلى قادة وأعضاء الحرس الثوري والقوات المسلحة في ذكرى يوم الحرس الثوري، 10/12/1368.
(180). حديث قائد الثورة في لقائه مقاتلي شهداء السابع من تير وأهالي الأسرى والمفقودين والمعلولين، 6/4/1369.
(181). حديث قائد الثورة إلى قادة القوة البرية التابعة لحرس الثورة، 21/2/1370.
(182). حديث قائد الثورة في لقاء طياري (نهاجا) في قاعدة الشهيد بابايي الجوية في أصفهان، 18/7/1370.
(183). حديث قائد الثورة الى جمع من العلماء وأئمة الجمعة، 22/2/1369.
(184). حديث قائد الثورة الى جمع من العلماء وأئمة الجمعة، 22/2/1369.
(185). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة العاملين في وزارة الأمن، 30/3/1368.
(186). حديث قائد الثورة في تجمع أهالي جهار محال وبختياري في ملعب شهركرد، 15/7/1371.
(187). حديث قائد الثورة في مراسم بيعة أهالي مجموعة من المدن الإيرانية المختلفة مع سماحته، 14/4/1368.
(188). حديث قائد الثورة إلى قادة كتائب قوات التعبئة الشعبية، 22/4/1371.
(189). حديث قائد الثورة إلى العلماء وطلبة الحوزات وأئمة الجماعة، 7/5/1371.
(190). حديث قائد الثورة في لقاء مع أبناء الشعب، 29/7/1371.
(191). حديث قائد الثورة في ملعب تختي في خرم آباد، 30/5/1370.
(192). حديث قائد الثورة إلى العاملين في وسائل الاتصال الجمعي ومسؤولي دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
(193). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 19/9/1371.
(194). حديث قائد الثورة إلى ممثلي طلبة وفضلاء الحوزة العلمية بمدينة قم، 4/11/1369.
(195). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 19/9/1371.
(196). حديث قائد الثورة إلى العلماء والمبلغين والخطباء على مشارف حلول شهر محرم، 20/4/1370.
(197). كلمة قائد الثورة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الإمام الخميني، 10/3/1369.
(198). حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
(199). حديث قائد الثورة إلى العاملين في وسائل الاتصال الجمعي ومسؤولي دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.