مقدمة
الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ مجموعة مقالات وأحاديث للأستاذ الشهيد مرتضى مطهري في فترة زمنية تبلغ اثنتي عشر عاماً ويوضح أغلبها نظم وقوانين وثقافة الإسلام؛ ويمكن تشبيه هذا الكتاب بكتاب "عشرون مقالة" من جهة، وبكتاب "قصص الأبرار" من جهة أخرى، وكلاهما من آثار الشهيد رضوان الله عليه.
لم تكن هذه المقالات في حوزة "مجلس الاشراف" ولكنها كانت في أرشيف إحدى المؤسسات الثقافية. وننتهز هذه الفرصة لنعرب عن تقديرنا للأستاذ حميد خزائي الذي كان له دور في المحافظة عليها.
عنوان الكتاب، وكذلك ترتيب المقالات وتنقيحها تم بإشراف أحد الأساتذة المختصين حيث جهد على أن تكون المقالات مرتبة ترتيباً تبرز فيه وحدة الموضوع.
يعكس الكتاب ثقافة الإسلام الأصيلة والمفاهيم السامية للدين الإسلامي الحنيف. نأمل من العلي القدير أن يحقق هذا الأثر النفيس ـ شأنه شأن بقية آثار الشهيد ـ أهدافه في إرشاد الأمة الإسلامية، والإنسانية جمعاء.
معرفة الله أساس إنساني
يقول أميرالمؤمنين علي عليه السلام: "أول الدين معرفته".
لو شبهنا الدين ببناء يتألف من جدران وباب وسقف ونوافذ وقواعد ينهض عليها البناء فإن قواعد جميع الأفكار والعقائد والأخلاق الدينية هي معرفة الله؛ ولو شبهنا الدين بكتاب علمي يضم أبواباً وفصولاًَ وقضايا متنوعة وأفكاراً يقوم عليها أصل الكتاب فإن معرفة الله سبحانه هي الأساس الأول في ذلك.
إذا أردنا مثلاً أن نخزن مقداراً من مواد البناء فليس مهماً ترتيب خزنها، أو أدرنا أن نؤلف كتاباً متنوعاً يضم مقالات مختلفة فليس مهما ترتيب مقالاته أو تسلسلها، ذلك أنه كتاب متنوع في مواضيعه. وحتى مطالعة مثل هكذا كتاب لا يلزمنا أن نبدأ بالموضوع الأول أو ب
فالتدين المنطقي والسليم يلزم المرء أنيشرع من البداية من الأسس ألا وهي التوحيدومعرفة الله، فإذا لم يثبت هذان الأصلانفي أعماق الروح وطيات القلب فإن سائرالأجزاء ستبقى دونما أساس متين.
فعندما صدع الرسول الأعظم بدعوته وبشربرسالته هل قال صلوا أو صوموا؟ وهل قالصِلوا أرحامكم، ولا يظلم بعضكم بعضاًَ،وهل دعا إلى الالتزام ببعض الآدابالمستحبة في المشي أو الجلوس أو تناولالطعام؟ إنه لم يقل أو يذكر من ذلك شيئاً،بل هتف عليه الصلاة والسلام: قولوا لا إلهإلا الله تفلحوا. لقد بدأ الرسول الأعظمدعوته إلى الدين الحنيف بهذه العبارةفاحتل بها قلوب العالمين ومن ثم بنى أمتهالعظيمة انطلاقاً من ذلك الأساس المتين.
إن معرفة الله لا تقتصر على الدين فحسب،بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أنبناء الإنسان لا يتم إلا على أسس التوحيد.
إننا نطلق على كثير من الأمور والشؤونوننعتها بالإنسانية، فنقول إن الإنسانيةتقتضي الرحمة والمروءة والإحسان وإنالإنسانية تنشد السلام وتنفر من الحربوتجعلنا متعاطفين مع المرضى والجرحىوالمنكوبين وتدفعنا إلى مساعدة المحتاجينوتطلب منا التضحية بالنفس واحترام حقوقالآخرين وإلى غير ذلك من المواقف والسلوك،وكل ذلك صحيح لا يعترض عليه أحد بل إن علىكل إنسان أن يحقق إنسانيته من خلال ذلك،ولكنا لو تساءلنا عن الأسس المنطقية التيتستند إليها تلك الوصايا والأخلاق التيتدفعنا إلى التضحية بمصالحنا من أجلهافإننا سنكون حينها عاجزين عن إقناع أنفسناوالآخرين بالفلسفة الكامنة وراء تلكالأخلاق والمواقف إذا لم نأخذ بنظرالاعتبار معرفة الله.
لا يمكننا أبداً اكتساب القيم الأخلاقيةالرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحيبعيداً عن نبعه الإلهي، فحتى أكثرالمؤسسات مادية في العالم تجد نفسها مضطرةإلى أن تبني نظمها الاجتماعية على أسسأخلاقية.
لا يمكن إقصاء الإنسانية بعيداً عن معرفةالله؛ فأما الإيمان أو السقوط في حضيضالحيوانية وعبادة الذات والمصلحة الشخصيةوما تضج به من انقياد إلى الشهوة والوقوعفي أسرها؛ فأما عبادة الله أو عبادة البطنوالجاه والمناصب والمال. إذ ليس هناك منطريق ثالث.
ومن يدعي الشرف والخلق والتقوى والعفةوهو بعيد عن الله الذي هو نبع كل تلكالصفات فإن ذلك مجرد أوهام لا غير.
يعبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقولعز وجل: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فيالسماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).(إبراهيم: 27)
الإيمان شجرة تمد جذورها في أعماق الروحفتتفرع منها أغصان الاعتقاد بالنبوةوالولاية والأديان، وكذلك الاعتقاد بأنهذا العالم قائم على العدالة والحق وأنهلا يضيع أجر المحسنين وسيلقى المسيئونجزاء أعمالهم.
أما ثمار هذه الشجرة الطيبة فهي الشرفوالكرامة والعفة والتقوى والإحسانوالتسامح والفداء والقناعة والطمأنينةوالسلام.
وفي مقابل ذلك يضرب القرآن مثلاً آخر،يقول سبحانه وتعالى: (ومثل كلمة خبيثةكشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها منقرار). (إبراهيم: 28) وهذه حقيقة تتجلىأحياناً في أفراد نراهم يتحمسون دفاعاً عنعرق أو قومية أو يقعون تحت تأثير بعضالعقائد فتشتعل في نفوسهم المشاعرالكاذبة التي قد تدفعهم إلى التضحيةبأرواحهم من أجلها، ولو سنحت الفرصةلأحدهم أو راجع نفسه قليلاً لعجز عن إيجادأساس منطقي لموقفه وسلوكه، فقليل منالتأمل والإرشاد سوف يقشع تلك السحب عنسماء روحه.
أجل إن الإيمان هو وحده الذي يمتلك أساسهالإنساني المتين، وإن قواعد البناءالإنساني إنما تنهض على التقوىوالاستقامة والطهر وعلى الشجاعة والشهامةوالفداء، وهي الخصال التي يمتاز بهاالإنسان عن الحيوان.
الإيمان بالله وحده البديل لعبادة الذاتوالمصلحة الشخصية، وهو ما يشير إليهالقرآن الكريم في قوله تعالى:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلماتإلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوتيخرجونهم من النور إلى الظلمات). (البقرة:255 ـ 256)