الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الأصول - وسائل الرئیسیة للإثبات فی علم الأصول نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

وسائل الرئیسیة للإثبات فی علم الأصول - نسخه متنی

السید محمد باقر الصدر

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید







الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الأصول



1 - البيان الشرعي (الكتاب والسنة).



2 - الإدراك العقلي.



فلا تكتسب أي قضية طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط, ولا يجوز إسهامها في العملية إلا إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيتين, فإذا حاول الأصولي مثلاً أن يدرس حجية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط - إذا كان حجة - يطرح على نفسه هذين السؤالين: هل ندرك بعقولنا أن الخبر حجة وملزم بالاتباع أم لا؟ وهل يوجد بيان شرعي يدل على حجيته؟ ويحاول الأصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقاً للمستوى الذي يتمتع به من الدقة والانتباه, فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنه لا يملك وسيلة لإثبات حجية الخبر, وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط.



وأما إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدي هذا إلى إثبات حجية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصراً اصولياً مشتركاً... وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أن عدداً من العناصر المشتركة قد تم إثباتها بالوسيلة الأولى - أي البيان الشرعي - وعدداً آخر ثبت بالوسيلة الثانية - أي الإدراك العقلي -.



فمن قبيل الأول حجية الخبر وحجية الظهور العرفي, ومن نماذج الثاني القانون القائل: (أن الفعل لا يمكن أن يكون واجباً وحراماً في وقت واحد).



وعلى ضوء ما تقدم نعرف أن من الضروري - قبل البدء في بحوث علم الأصول لدراسة العناصر المشتركة - أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر, ونتكلم عن حدودها لكي نستطيع بعج هذا وأن نستخدمها وفقاً لتلك الحدود.



البيان الشرعي



البيان الشرعي هو إحدى الوسيلتين الرئيسيتين لإثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط.



ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي:



1 - (الكتاب الكريم) وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين (ص).



2 - (السنة) وهي كل بيان صادر من الرسول (ص) أو أحد الأئمة المعصومين (ع), والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:



1 - (البيان الإيجابي القولي) وهو الكلام الذي يتكلم به المعصوم عليه السلام.



2 - (البيان الإيجابي الفعلي) وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليه السلام.



3 - (البيان السلبي) وهو تقرير المعصوم (ع), أي سكوته عن وضع معين بنحو يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة.



ويجب الأخذ بكل هذه الأنواع من البيان الشرعي, وإذا دل شيء منها على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي.



وفي هذا المجال توجد عدة بحوث نتركها للحلقات المقبلة انشاء الله تعالى.



الإدراك العقلي



الإدراك العقلي هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط, إذ قد يكون العنصر المشترك في علمية الاستنباط مما ندركه بعقولنا دون حاجة إلى بيان شرعي لإثباته, من قبيل القانون القائل: (إن الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقت واحد), فإننا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيان شرعي يشتمل على صيغة القانون من هذا القبيل, بل هو ثابت عن طريق العقل, لأن العقل يدرك أن الوجوب والحرمة صفتان متضادتان, وأن الشيء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادتين, فكما لا يمكن أن يتصف الجسم بالحركة والسكون في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يتصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً.



والإدراك العقلي له مصادر متعددة ودرجات مختلفة.



فمن ناحية المصادر ينقسم الإدراك العقلي إلى أقسام: (منها) الإدراك العقلي القائم على أساس الحس والتجربة.



ومثاله إدراكنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة, وأن وضعه على النار إلى مدة طويلة يؤدي إلى غليانه.



(ومنها) الإدراك العقلي القائم على أساس البداهة.



ومثاله إدراكنا جميعاً أن الواحد نصف الاثنين, وأن الضدين لا يجتمعان, وأن الكل أكبر من الجزء.



فإن هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناء أو تأمل.



(ومنها) الإدراك القائم على أساس التأمل النظري.



ومثاله إدراكنا أن المعلول يزول إذا زالت علته, فان هذه الحقيقة ليست بديهية, ولا ينساق إليها الذهن بطبيعته, وإنما عن طريق البرهان والاستدلال.



ومن ناحية الدرجات ينقسم الإدراك العقلي إلى درجات: (فمنه) الإدراك الكامل القطعي.



وهو أن ندرك بعقولنا حقيقة من الحقائق إدراكاً لا نحتمل فيه الخطأ والاشتباه, كإدراكنا أن زوايا المثلث تساوي قائمتين, وأن الضدين لا يجتمعان, وأن الأرض كروية, وأن الماء يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.



(ومن الإدراك العقلي) ما يكون ناقصاً.



والإدراك الناقص هو اتجاه العقل نحو ترجيح شيء دون الجزم به لاحتمال الخطأ, كإدراكنا أن الجواد الذي سبق في مناورات سابقة سوف يسبق في المرة القادمة أيضا, وأن الدواء الذي نجح في علاج أمراض معينة سوف ينجح في علاج أعراض مرضية مشابهة, وأن الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.



والسؤال الأساسي في هذا البحث: ما هي حدود العقل أو الإدراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقلي كوسيلة للإثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته, أو لا يجوز استخدام الإدراك العقلي كوسيلة لإثبات إلا ضمن حدود معينة من ناحية المصدر أو الدرجة.



وقد إتجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتجاهه نحو معالجة المصدر, فاتسعت الدراسات الأصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة, واختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده - بوصفه وسيلة إثبات رئيسية - فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدي إلى مجرد الترجيح أو يختص بالإدراك الكامل المنتج للجزم؟.



ولهذا البحث تاريخه الزاخر في علم الأصول وفي تاريخ الفكر الفقهي, كما سنرى.



الاتجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي



وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتجاهين متعارضين في هذه النقطة كل التعارض, يدعو أحدهما إلى اتخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل الإدراكات الناقصة, وسيلة رئيسية للإثبات في مختلف المجالات التي يمارسها الأصولي والفقيه.



والآخر يشجب العقل ويجرده إطلاقاً عن وصفه وسيلة رئيسية للإثبات, ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط.



ويقف بين هذين الاتجاهين المتطرفين اتجاه ثالث معتدل يتمثل في جل فقهاء مدرسة أهل البيت (ع), وهو الاتجاه الذي يؤمن - خلافاً للاتجاه الثاني - بأن العقل أو الإدراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للإثبات إلى صف البيان الشرعي, ولكن لا في نطاق منفتح - كما زعمه الاتجاه الأول - بل ضمن النطاق الذي تتوفر فيه للإنسان القناعة التامة والإدراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ, فكل إدراك عقلي يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات, وأما الإدراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثبات لأي عنصر من عناصر عملية الاستنباط.



فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة, وجديرة بالاعتماد عليها والإثبات بها إذا أدت إلى إدراك حقيقة من الحقائق إدراكاً كاملاً لا يشوبه شك.



فلا كفران بالعقل كأداة للمعرفة, ولا إفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.



وقد تطلب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثله جل فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين: إحداهما المعركة ضد أنصار الاتجاه الأول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبناه بقيادة جماعة من أقطاب علماء العامة, والأخرى المعركة ضد حركة داخلية نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميين متمثلة في المحدثين والإخباريين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادعوا أن البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات, وهكذا نعرف أن المعركة الأولى كانت ضد استغلال العقل والأخرى كانت إلى صفه.



1 - معركة ضد استغلال العقل



قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة الرأي والاجتهاد بالمعنى الأول الذي تقدم في البحث السابق, وتطالب باتخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظن والتقدير الشخصي للموقف, أداة رئيسية للإثبات إلى صف البيان الشرعي, ومصدراً للفقيه في الاستنباط, واطلقت عليه اسم الاجتهاد.



وكان على رأس هذه المدرسة أو من روادها الأولين أبو حنيفة المتوفى سنة (150) والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعياً يدل على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصة وما يدركون من مناسبات وما يتفتق عنه تفكيرهم الخاص من مرجحات لهذا التشريع على ذاك ويفتون بما يتفق مع ظنهم وترجيحهم ويسمون ذلك استحساناً أو اجتهاداً.



والمعروف عن أبي حنيفة أنه كان متفوقاً في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي, فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن أن أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد.



وجاء في كلام له وهو يحدد نهجه العام في الاستنباط (إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته, فما لم أجده أخذت بسنة رسول الله (ص), فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله (ص) أخذت بقول أصحابه ومن شئت وأدع من شئت, ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم, فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن اجتهد كما اجتهدوا).



والفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبني العقل المنفتح بوصفه وسيلة رئيسية للإثبات ومصدراً لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: (إن البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة قاصر لا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة, ولا يتسع لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا والمسائل).



وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتجاههم المذهبي السني, إذ كانوا يعتقدون أن البيان الشرعي يتمثل في الكتاب والسنة النبوية المأثورة عن الرسول (ص) فقط, ولما كان هذا لا يفي إلا بجزء من حاجات الاستنباط اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد.



وأما فقهاء الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي, لأنهم كانوا يؤمنون بأن البيان الشرعي لا يزال مستمراً باستمرار الأئمة (ع) فلم يوجد لديهم أي دافع نفسي للتوسع غير المشروع في نطاق العقل.



وعلى أي حال فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنة لإشباع حاجات الاستنباط, ولعبت دوراً خطيراً في عقلية كثير من فقهاء العامة ووجهتهم نحو الاتجاه العقلي المتطرف.



وتطورت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج, إذ انتقلت الفكرة من اتهام القرآن والسنة - أي البيان الشرعي - بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثير من القضايا, إلى اتهام نفس الشرعية بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة, فلم تعد المسألة مسألة نقصان في البيان والتوضيح بل في التشريع الإلهي بالذات.



ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو أنها لم تشرع لتبقى في ضمير الغيب محجوبة عن المسلمين, وإنما شرعت وبينت عن طريق الكتاب والسنة لكي يعمل بها وتصبح منهاجاً للأمة في حياتها ولما كانت نصوص الكتاب والسنة - في رأي العامة - لا تشتمل على أحكام كثير من القضايا والمسائل, فيدل على ذلك على نقص الشرعية وأن الله لم يشرع في الإسلام إلا أحكاماً معدودة, وهي الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنة وترك التشريع في سائر المجالات الأخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعبير أخص ليشرعوا الأحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان, على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرعة في الكتاب والسنة النبوية.



وقد رأينا أن الاتجاه العقلي المتطرف كان نتيجة لشيوع فكرة النقص وانعكاسها, وحين تطورت فكرة النقص من اتهام البيان إلى اتهام نفس الشرعية انعكس هذا التطور أيضا على مجال الفكر السني, ونتج عنه القول بالتصويب الذي وصل فيه ذلك الاتجاه العقلي المتطرف إلى قصارى مداه, ولتوضيح ذلك لابد من إعطاء فكرة عن القول بالتصويب.



القول بالتصويب بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد, لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقاً للاتجاه العقلي المتطرف, كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعاً لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمون بها.



فهذا يرجح في رأيه الحرمة لأن الفعل فيه ضرر, وذلك يرجح الإباحة لأن في ذلك توسعة على العباد, وهكذا.



ومن هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى حظ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعاً مصيبين ما دام كل واحد منهم قد عبر عن اجتهاده الشخصي؟ أو أن المصيب واحد فقط والباقون مخطئون؟ وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنهم جميعاً مصيبون, لأن الله ليس له حكم ثابت عام في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفر فيها النص, وإنما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدي إليه رأيه واستحسانه, وهذا هو القول بالتصويب.



وفي هذا الضوء تبين بوضوح ما ذكرناه من أن القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحولها إلى اتهام مباشر للشرعية بالنقص وعدم الشمول, الأمر الذي سوغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ويصوبوا المجتهدين المختلفين جميعاً.



وهكذا نعرف أن فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتجاه العقلي المتطرف تعويضاً عن النقص المزعوم في البيان الشرعي, وحينما تطورت فكرة النقص إلى اتهام الشرعية نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدى ذلك إلى تمخض الاتجاه العقلي المتطرف عن القول بالتصويب.



وهذا التطور في فكرة النقص الذي أدى إلى اتهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين جميعاً, أحدث تغييراً كبيراً في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتجاه العقلي المتطرف, فحتى الآن كنا نتحدث عن العقل والإدراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات, أي كاشفاً عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنة, ولكن فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملاً تشريعياً لا اكتشافياً, فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة - كاشفاً عن الحكم الشرعي, إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد, وإنما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقاً لما يؤدي إليه رأيه.



وهكذا يتحول الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع, ويصبح الفقيه مشرعاً في مجالات الاجتهاد ومكتشفاً في مجالات النص.



ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه, وإنما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف وأهمية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت (ع) ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة, ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) في عصر تلك المعركة تؤكد اشتمال الشرعية على كل ما تحتاج إليه الإنسانية من أحكام وتنظيم في شتى مناحي حياتها, وتؤكد على كل ما تحتاج إليه الإنسانية من أحكام وتنظيم في شتى مناحي حياتها, وتؤكد أيضاً وجود البيان الشرعي الكافي لكل تلك الأحكام متمثلاً في الكتاب والسنة النبوية وأقوالهم عليهم السلام.



وفيما يلي نذكر جملة من تلك الأحاديث عن أصول الكافي: 1 - عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء, حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد, حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن, إلا وقد أنزله الله فيه).



2 - عنه (ع) أيضاً انه قال: (ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة).



3 - وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) انه قيل له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: (بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه).



4 - وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) يصف فيه الجامعة التي تضم أحكام الشريعة, فيقول: فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرض في الخدش.



رد الفعل المعاكس في النطاق السني ولا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركة حامية ضد الاتجاه العقلي المتطرف أن هذا الاتجاه كان مقبولاً على الصعيد السني بصورة عامة, وأن المعارضة كانت تتمثل في الفقه الإمامي خاصة, بل إن الاتجاه العقلي المتطرف قد لقي معارضة في النطاق السني أيضاً, وكانت له ردود فعل معاكسة في مختلف حقول الفكر.



فعلى الصعيد الفقهي تمثل رد الفعل في قيام المذهب الطاهري على يد داود بن علي بن خلف الإصبهاني في أواسط القرن الثالث, إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنة والاقتصار على البيان الشرعي, ويشجب الرجوع إلى العقل.



وانعكس رد الفعل على البحوث العقائدية والكلامية متمثلاً في الاتجاه الأشعري الذي عطل العقل وزعم أنه ساقط بالمرة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي.



فبينما كان المقرر عادة بين العلماء: أن وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكماً شرعياً وإنما هو حكم عقلي, لأن الحكم الشرعي ليس له قوة دفع وتأثير في حياة الإنسان إلا بعد أن يعرف الإنسان ربه وشريعته, فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي, أي أن تكون من نوع الحكم العقلي.



أقول: بينما كان هذا هو المقرر عادة بين المتكلمين خالف في ذلك الاشعري, إذ ليس عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكد أن وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم والصلاة.



وامتد رد الفعل إلى علم الأخلاق - وكان وقتئذ يعيش في كنف علم الكلام - فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتى في أوضح الأفعال حسناً أو قبحاً, فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما, وإنما صار الأول قبيحاً والثاني حسناً بالبيان الشرعي, ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حق للاعتراض على ذلك.



وردود الفعل هذه كانت تشتمل على نكسة وخطر كبير قد لا يقل عن الخطر الذي كان الاتجاه العقلي المتطرف يستبطنه, لأنها اتجهت إلى القضاء على العقل بشكل مطلق, وتجريده عن كثير من صلاحياته, وإيقاف النمو العقلي في الذهنية الإسلامية بحجة التعبد بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنة.



ولهذا كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت (ع) التي كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف, وتؤكد في نفس الوقت أهمية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود أداة رئيسية للإثبات إلى صف البيان الشرعي, حتى جاء في نصوص أهل البيت (ع) (إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة, فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة, وأما الباطنة فالعقول).



وهذا النص يقرر - بوضوح - وضع العقل إلى صف البيان الشرعي أداة رئيسية للإثبات.



وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت (ع) بين حماية الشرعية من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين.



وسوف نعود إلى الموضوع بصورة علمية موسعة في الحلقات المقبلة.



2 - المعركة إلى صف العقل وأما الاتجاه الآخر المتطرف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل نطاق الفكر الإمامي فقد تمثل في جماعة من علمائنا اتخذوا اسم (الأخباريين والمحدثين) وقاموا دور العقل في مختلف الميادين, ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط, لأن العقل عرضة للخطأ وتاريخ الفكر العقلي زاخر بالأخطاء, فلا يصلح لكي يستعلم أداة إثبات في أي مجال من المجالات الدينية.



وهؤلاء الأخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنت حملة ضد الاجتهاد كما أشرنا في البحث السابق.



ويرجع تاريخ هذا الاتجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر, فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم (الميرزا محمد أمين الإسترابادي) المتوفى سنة (1023) هـ, ووضع كتاباً أسماه (الفوائد المدنية).



بلور فيه هذا الاتجاه وبرهن عليه ومذهبه - أي جعله مذهباً -.



ويؤكد الإسترابادي في هذا الكتاب أن العلوم البشرية على قسمين: أحدهما العلم الذي يستمد قضاياه من الحس, والآخر العلم الذي لا يقوم البحث على أساس الحس ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي.



ويرى المحدث الاسترابادي أن من القسم الأول الرياضيات التي تستمد خيوطها الأساسية - في زعمه - من الحس, وأما القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدة عن متناول الحس وحدوده, من قبيل تجرد الروح, وبقاء النفس بعد البدن, وحدوث العالم.



وفي عقيدة المحدث الاسترابادي أن القسم الأول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة لأنه يعتمد على الحس, فالرياضيات مثلاً تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحس, نظير أن (2 + 2 = 4), وأما القسم الثاني فلا قيمة له, ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج إلى يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحس.



وهكذا يخرج الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحس معياراً أساسياً لتمييز قيمة المعرفة ومدى إمكان الوثوق بها.



ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاهاً حسياً في أفكار المحدث الاسترابادي يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائلة بأن الحس هو أساس المعرفة, ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الإخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب التي تسرب منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا الفكري.



وقد سبقت الإخبارية بما تمثل من اتجاه حسي التيار الفلسفي الحي الذي نشأ في الفلسفة الأوربية على يد (جون لوك) المتوفى سنة (1704) م و (دانيد هيوم) المتوفى سنة (1776) م, فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة (جون لوك) بمئة سنة تقريباً, ونستطيع أن نعتبره معاصراً لـ (فرنسيس بيكون) المتوفى سنة (1626) م الذي مهد للتيار الحسي في الفلسفة الأوربية.



وعلى أي حال فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الإخبارية والمذاهب الحسية التجريبية في الفلسفة الأوربية, فقد شنت جميعاً حملة كبيرة ضد العقل, وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس.



وقد أدت حركة المحدث الاسترابادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس إلى نفس النتائج التي سجلتها الفلسفات الحسية في تاريخ الفكر الأوربي, إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ إلى معارضة كل الأدلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله سبحانه, لأنها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس.



فنحن نجد مثلاً محدثاً - كالسيد نعمة الله الجزائري - يطعن في تلك الأدلة بكل صراحة وفقاً لاتجاهه الأخباري, كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفية, ولكن ذلك لم يؤد بالتفكير الأخباري إلى الإلحاد كما أدى بالفلسفات الحسية الأوربية, لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على نشوء كل منهما, فإن الاتجاهات الحسية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكونت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهميتها, فكان لديها الاستعداد لنفي كل معرفة عقلية منفصلة عن الحس.



/ 1