السؤال الأول: تنصيص القرآن على أن جميع أهل الشرائع ينالون ثواب الله.
إن القرآن الكريم ينص على أن المؤمنين بالله و باليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب الله و أنه لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و معنى ذلك أن جميع الشرائع السماوية تحفظ إلى جانب الإسلام، و أن أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام و صار تحت لوائه تماما، و على ضوء هذا، فكيف تكون الشريعة الإسلامية واقعة في آخر مسلسل الشرائع السماوية و كيف تكون رسالته خاتمة الشرائع؟ و إليك ما يدل على ذلك حسب نظر السائل:
1 ـ قال سبحانه: إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون (البقرة/62).
2 ـ إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون (المائدة/69).
3 ـ إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شي ء شهيد (الحج/17).
إن استنتاج بقاء شرعية الشرائع السماوية من هذه الآيات مبني على غض النظر عما تهدف إليه الآيات و ذلك أن الآيات بصدد رد مزاعم ثلاثة كانت اليهود تتبناها، لا بصدد بيان بقاء شرائعهم بعد بعثة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله. و هي:
1 ـ فكرة «الشعب المختار»:
كانت اليهود و النصارى يستولون على المسلمين بل العالم بادعائهم فكرة «الشعب المختار» بل إن كل واحدة من هاتين الطائفتين: اليهود و النصارى، كانت تدعي أنها أرقى أنواع البشر، و كانت اليهود أكثرهم تمسكا بهذا الزعم و قد نقل عنهم سبحانه قولهم:
و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق (المائدة/18) و الله سبحانه يرد هذا الزعم بكل قوة عند ما يقول: فلم يعذبكم بذنوبكم، و قد بلغت أنانية اليهود و استعلاؤهم الزائف حدا بالغا و كأنهم قد أخذوا على الله عهدا بأن يستخلصهم و يختارهم، حيث قالوا: و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة (البقرة/80).
2 ـ الانتماء إلى اليهودية و النصرانية مفتاح الجنة:
قد كانت اليهود و النصارى تبثان وراء فكرة: الشعب المختار، فكرة أخرى، و هي: أن الجنة نصيب كل من ينتسب إلى بني إسرائيل أو يسمى مسيحيا ليس إلا، و كأن الأسماء و الانتساب مفاتيح للجنة، قال سبحانه ناقلا عنهم: و قالوا لن يدخل الجنة إلامن كان هودا أو نصارى (البقرة/111).
و لكن القرآن يرد عليهم و يقول: تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله و هو محسن فله أجره عند ربه و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون (البقرة/111 ـ 112) فان قوله سبحانه بلى من أسلم يعني الإيمان الخالص و قوله: و هو محسن يعني العمل وفق ذلك الإيمان و كلتا الجملتين تدلان على أن السبيل الوحيد إلى النجاة يوم القيامة هو الإيمان و العمل لا الانتساب إلى اليهودية، و النصرانية، فليست هي مسألة الأسماء و إنما هي مسألة إيمان صادق و عمل صالح.
3 ـ الهداية في اعتناق اليهودية و النصرانية:
و هذا الزعم غير الزعم الثاني، ففي الثاني كانوا يقتصرون في النجاة بالانتماء إلى الأسماء و في الأخير يتصورون أن الهداية الحقيقية تنحصر في الاعتناق باليهودية و النصرانية و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا (البقرة/135) و القرآن الكريم يرد هذه الفكرة كما سبق، و يقول ان الهداية الحقيقية تنحصر في الاقتداء بملة إبراهيم و اعتناق مذهبه في التوحيد الخالص الذي أمر الأنبياء بإشاعته بين أممهم، قال سبحانه قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين (البقرة/135) و في آية أخرى ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين (آل عمران/67).
نستخلص من كل هذه الآيات أن اليهود و المسيحيين و بخاصة القدامى منهم كانوا يحاولون ـ بهذه الأفكار الواهية ـ التفوق على البشر، و التمرد على تعاليم الله، و التخلص بصورة خاصة من الانضواء تحت لواء الإسلام، مرة بافتعال اكذوبة (الشعب المختار) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف، و مرة أخرى بافتعال خرافة (الأسماء و الانتساب) و ادعاء النجاة بسبب ذلك و الحصول على مغفرة الله و جنته و ثوابه.
و مرة ثالثة بتخصيص (الهداية) و حصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنه كلما مر القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة و تأكيد: أنه لا فرق بين إنسان إلا بتقوى الله فإن أكرمكم عند الله أتقاكم.
و أما النجاة و الجنة فمن نصيب من يؤمن بالله، و يعمل بأوامره دونما نقصان لا غير، و هو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود و النصارى الجوفاء.
بهذا البحث حول الآيات الثلاث (المذكورة في مطلع البحث) نكشف بطلان الرأي القائل بأن الإسلام أقر ـ في هذه الآيات ـ مبدأ (الوفاق الإسلامي المسيحي و اليهودي) تمهيدا لإنكار عالميةالرسالة الإسلامية و خاتميتها، بينما نجد أن غاية ما يتوخاه القرآن ـ في هذه الآيات ـ إنما هو فقط نسف و إبطال عقيدة اليهود و النصارى و ليعلن مكانه بأن النجاة إنما هي بالإيمان الصادق و العمل الصالح.
فلا استعلاء و لا تفوق لطائفة على غيرها من البشر مطلقا، كما أن هذا التشبث الفارغ بالأسماء و الدعاوى ليس إلا من نتائج العناد و الاستكبار عن الحق.
فليست الأسماء و لا الانتساب هي التي تنجي أحدا في العالم الآخر، و إنما هو الإيمان و العمل الصالح، و هذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان يهوديا كان أو نصرانيا، مجوسيا أو غيرهم.
و يوضح المراد من هذه الآية قوله سبحانه: و لو أن أهل الكتاب آمنوا و اتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم و لأدخلناهم جنات النعيم (المائدة/65).
فتصرح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أن أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم و كفرنا عنهم سيئاتهم.
هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات، و ليس أي شي ء آخر. إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره و إنما تدل على أن القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.
هذا كله حول السؤال القرآني، و هناك أسئلة أخرى جديرة بالذكر و التحليل، و إليك بيانها: