ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ.
إذن هذا المثل الأعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لأنه يعطي الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا، ليس أمرا ثانويا في مسيرة الإنسان، بل هذا شرط أساسي في إمكان إنجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني، للجدل الإنساني، لان الإنسان يعيش تناقضا، الإنسان بحسب تركيبه وخلقته يعيش تناقضاً، لأنه هو تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح اللّه سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.
الآيات الكريمة قالت بان الإنسان خلق من تراب، وقالت بأنه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
إذن فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان، حفنة التراب تجره إلى الأرض، تجره إلى الشهوات إلى الميول، تجره إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط وروح اللّه سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات اللّه، إلى حيث أخلاق اللّه، تخلقوا بأخلاق اللّه، إلى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها، إلى حيث العدل الذي لا حد له، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام، إلى حيث هذه الأخلاق الإلهية، هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي، بحسب تركيبه الداخلي، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحته قصة آدم على مأتي إنشاء اللّه تعالى، هذا الجدل الإنساني له حل واحد فقط، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يوضع لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية، لكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل، فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل، هو ابن الجدل بل هو
إفراز هذا التناقض وإنما الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله إلاّ المثل الأعلى الذي يكون جهة عليا، يحس الإنسان من خلالها بأنه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم، مجاز على العدل.
إذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغيير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان.
دور دين التوحيد إذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل، تعبيده، إزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمياً وكيفياً، محاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية، أن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى، ومن هنا كان حرب الأنبياء كما أشرنا، كان حرب الأنبياء مع الآلهة المصطنعة على مرّ التاريخ.
ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول إلى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق، حينما تتحول إلى تمثال تجد في مجموعة من الناس، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم، ترفهم، كيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول إلى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال، يقفون دائما في وجه الأنبياء ليدافعوا عن مصالحهم، عن دنياهم، عن ترفهم.
ومن هنا إبراز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الأنبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر في المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول إلى التمثال هذا المثال تحول إلى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع، المنعّون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين نجدهم دائما في الخط المعارض للأنبياء، (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آبأنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مقتدون)(91)، (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما أرسلتم به كافرون)(92)، (سأصرف عن آياتي الّذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتّخذوه سبيلا، وان يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)(93)، (وقال الملا من قومه الّذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدّنيا ما هذا إلاّ بشرٌ مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون)(94.)
إذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت إلى تمائيل، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع
صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطاء برأسها في التراب، لكي يحولها إلى كومة مادية ليس لها أشواق، ليس لها طموحات، ليس لها تطلعات إلى أعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ، أولئك أيضاً يحاربون هذه الآلهة المصطنعة ويسمون هذه الآلهة المصطنعة ولكننا نحن نحارب هذه الآلهة المصطنعة لا لكي نحول الإنسان إلى حيوان، لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا، لا لكي نحول مسار الإنسان من أعلى إلى أسفل، وإنما نقطع صلة الإنسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده إلى المثل الأعلى، لكي نشده إلى اللّه سبحانه وتعالى.
وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى الحق الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور:
أولاً ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الأعلى، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الأعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان باللّه سبحانه وتعالى، التي توحد بين كل المثل، بين كل الغايات، كل الطموحات، كل التطلعات البشرية، توحد بينها في هذا المثل الأعلى الذي هو علم كله، قدرة كله، عدل كله، رحمة كله، انتقام من الجبارين.
هذا المثل الأعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات، هذا المثل الأعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات اللّه واخلاق اللّه لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق، وإنما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائدا عمليا، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو اللّه سبحانه وتعالى.
عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الأول الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل الأعلى.
ثانياً ـ لابد من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الأعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمرا للإرادة البشرية على مرّ التاريخ، هذه الطاقة الروحية، هذا الوقود الذي يستمد من اللّه سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة، في عقيدة الحشر والامتداد، عقيدة يوم القيامة تعلم الإنسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطا مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر، وان مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية، ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائما قدرته على التجديد والاستمرار.
ثالثاً ـ ان هذا المثل الأعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الأخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا، على أساس ان هذا المثل منفصل عن الإنسان، ليس جزا من الإنسان، هو واقع عيني قائم هناك، قائم في كل مكان وليس جزءاً من الإنسان، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلى. لابد من صلة موضوعية بين هذا الإنسان وهذا المثل الأعلى، بينما المثل الأخرى السابقة كانت إنسانية، كانت إفرازا بشريا لا حاجة إلى افتراض صلة موضوعية، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من أنفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس، وآلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان الإله هناك كان وهما، كان وجودا ذهنيا، كان إفرازا إنسانيا، أما هنا المثل الأعلى منفصل عن الإنسان ولهذا كان لابد من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المثل الأعلى.
وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر اللّه سبحانه وتعالى، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدة من الإيمان بيوم القيامة، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة، الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ليحمل هذا المركب إلى البشرية بشيرا ونذيراً هذا ثالثاً.
ورابعاً ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء اللّه شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجي البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة أو التكرارية، تعني وجود تلك الآلهة المزورة على الطريق، وجود تلك الحواجب والعوائق عن اللّه سبحانه وتعالى، إذن لابد للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّما على البشرية وحاجز وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية، لابد من معركة ضد هذه الآلهة، ولابد من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الإمامة، هي دور الإمامة، الإمام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها إنشاء اللّه تعالى ونقول بأنها بدأت في اكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعدُ لا تزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبي.