دلالة الصدى الحالم
د. محمد حسين الصغير تنطلق في القرآن أصداء حالمة، في ألفاظ ملؤها الحنان، تؤدي معناها من خلال أصواتها، وتوحيبمؤداها مجردة عن التصنيع والبديع، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها، دون إضافة وإضاءة، وما أكثر هذا المنحنى في القرآن، وما أروع تواليه في آياته الكريمة، ولنأخذعينه على هذا فنقف عند الرحمة من مادة 'رحم' في القرآن الكريم بجزء من إرادتها، ولمح من هديها:
قال تعالى: (أولئكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَّبهم وَرَحمةٌ).
وقالتعالى: (لمغفرةٌ من اللهِ ورحمةٌ خيرٌ ممّا يجمَعونَ).
وقال تعالى: (فَبِما رحمةٍ مِنَ اللهِ لنتَ لَهُم).
وقال تعالى: (كهيعص، ذِكرُ رَحمتِ رَبّكَ عَبدهُ زَكريّا).
وقال تعالى: (قالَ رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتكَ).
وقال تعالى: (واخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِ من الرَّحمةِ وقُل رَّبِ ارحمهُما كما ربّياني صغيراً).
فأنتتنادي من صدى 'الرحمة' بأزيز حالم، وتحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي، يهز المشاعر، ويستدعي العواطف، ناضحاً بالرضا والغبطة والبهجة، رافلاً بالخيروالإحسان والحنان، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم وعليهم، ولمغفرة من الله تعالى ورحمة خير مما تجمع خزائن الأرض وكنوزها، وهذا محمد (ص) ذوالخلق العظيم، والمخائل الفذة، لولا رحمة ربه لما لان لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم وغلظتهم، وهذا زكريا تتداركه رحمة من الله وبركات في أوج احتياجه وفزعه إلى اللهعزّ وجلّ: (إذ نادى رَبَّهُ نداءً خَفياً).
فيهب له يحيى (واللهُ يختصُّ برحمتِهِ من يشاءُ).
ووقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين (واخفض لَهُما جَناحَ الذُّلِ مِنَالرَّحمةِ وقُل رّبِ ارحَمهُما كَمَا ربياني صغيراً). فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة وأرقاها، توجيه رحيم، واستعارة هادفة، وعاطفة مهذبة، فقد اقترنتالرحمة بالاسترحام، وخفض الجناح بتواضع بل بذلّ إشفاقاً وحنواً وحدباً، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم،أو صيانة لهم من كل الطوارىء، أو هما معاً، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة ورعاية، مواساة ومعاناة، في حالتي الصحة والسقم، الرضا والغضب، الدعة والاحتياج، يضافإلى ذلك الدعاء من الأعماق (وقل ربّ ارحمهما) مجازاة على تربيته صغيراً، والرحمة وارحمهما، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً منالقلب وإلى القلب، ومن الشغاف إلى الشغاف، وهنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة والنقاء والحبالسرمدي، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة والقهر والإستطالة، وإنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي. 'والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو: رحم الله فلاناً. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلاالإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف'. فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته، فجاء له الحمدمساوقاً لهذه الرحمة (الحمدُ للهِ ربِ العالمين، الرَّحمنِ الرَّحيم). ونشر الرقة بين البشر في الطباع (ليُدخلَ اللهُ في رحمتهِ من يشاءُ).
ولو تابعنا أصل المادةلغوياً لوجدنا ملاءمتها للمعنى صوتياً في الرقة واللحمة والتناسب، فالرحم رحم المرأة، قال تعالى: (هوَ الّذي يُصَوركُم في الأرحامِ كيف يشاءُ). ومنه استعير الرحمللقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً، لذلك قال تعالى: (وأُولوا الأرحامِ بَعضُهُم أولى بِبعض). ولولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم.
فكان الالتصاق في الرحم قد نشرالالتصاق بالولاية من جهة، وجدد الرحمة بالرقة والمودة والعطف الكريم.
المصدر : الصوت اللغوي في القرآن