مسؤولية الولاة عن حفظ الأموال العامة
* د. محمد فاروق النبهانتعتبر وظيفة الوالي في التشريعالاسلامي وظيفة تكليفية أكثر منها وظيفة تشريفية، ولا يحق لولي الأمر أن يتصرف في الأموال الموجودة لديه في بيت المال إلا وفق ما تقتضيه مصلحة الأمة، ويجوز له أن يتقاضىمنه ما يكفيه وعياله للإنفاق على أنفسهم، لأنه حبس نفسه لمصلحة الأمة، فيجوز له أن يتناول من أموالها ما يكفيه، دون أن يكون له الحق في البذخ والترف.
وكان الخلفاءالأولون يسيرون وفق هذه القاعدة. قال رجل لعمر بن الخطاب: (يا أمير المؤمنين لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى، فقال له عمر: تدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قومكانوا في سفر فجمعوا منهم مالاً وسلّموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟).
ولما رأى ولاة الأقاليم الخلفاء يسيرون وفق هذا الطريقساروا عليه، وأصبح الواحد منهم يبعث الأموال الكثيرة إلى الخليفة دون أن يخطر بباله أن يأخذ منها شيئاً لنفسه، ويروى أن عمر بن الخطاب لما رأى الأموال الكثيرة المنقولةمن الأقاليم بين يديه، قال: (إن قوماً أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت لرتعوا).
وقدضرب هؤلاء الخلفاء أمثلة رائعة من سمو النفس حينما عفوا عن أموال بيت المال، حتى أن أحدهم كان يفضل أن يستلف من صديقه ولا يستلف من بيت المال، خوفاً من أن يموت قبل الوفاءفلا ترد الأموال إلى مكانها. روى الأعمش عن إبراهيم، قال: (أرسل عمر إلى عبدالرحمن بن عوف يستلفه أربعمائة درهم، فقال عبدالرحمن: أتستلفني وعندك بيت المال، ألا تأخذ منهثم ترده؟ فقال عمر: إني أتخوف أن يصيبني قدري، فتقول أنت وأصحابك: اتركوا هذا لأمير المؤمنين حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أتسلفها منك لما أعلم من شحك، فإذا متجئت فاستوفيتها من ميراثي).
وكان الناس يراقبون الخليفة فإذا وجدوا ما يشتبهون به من أخذه من بيت المال ذكروا ذلك له بكل صراحة، وكان يجيبهم عن سؤالهم دون أن يشعر أحدمنهم بغضاضة أو ضيق.
روى الأحنف بن قيس قال: (كنا جلوساً بباب عمر فخرجت جارية، فقلنا: هذه سرية عمر، فقالت: إنها ليست بسرية عمر، إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله،قال: فتذاكرنا بيننا ما يحل له من مال الله، قال فرقي ذلك إليه (وصل إلى علمه) فأرسل إلينا، فقال: ما كنتم تذاكرون؟ فقلنا: خرجت علينا جارية، فقلنا هذه سرية عمر، فقالت: إنهاليست بسرية عمر إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله، فتذاكرنا بيننا ما يحل لك من مال الله، فقال: ألا أخبركم بما أستحل من مال الله؟ حلتين حلة الشتاء والقيظ وما أحج عليهوأعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم، ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم).
وروى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلت على علي بالخورنقوعليه سمل قطيفة (ثياب عتيقة) وهو يرعد فيها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ قال: فقال: (إنيوالله ما أرزأكم شيئاً، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي، أو قال من المدينة).
ومن الطبيعي أن الخليفة الذي يحاسب نفسه، ويعف عن بيت مال المسلمين لا يسمح لولاتهأن يأخذوا من هذه الأموال ما لا حق لهم فيه، وكثيراً ما كان الخلفاء يشاطرون عمالهم أموالهم، لأن هناك شبهة أنهم جمعوها باسما لولاية، روى ابن سيرين قال: (لما قدم أبوهريرة من البحرين، قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو مَن عاداهما ولم أسرق مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لكعشرة آلاف درهم، فقال: خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق، وسهامي تلاحقت، فقبضها منه. قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين).
ولما صارت الخلافة لعمر بن عبدالعزيز لم يكن يكتفي بمطالبة ولاته بالأموال، فقد حبسهم عندما امتنعوا عن أدائها، حرصاً على عدم ضياعها، وروي عنه أنه استدعى عامله يزيد بن المهلب بعد أن صرفه عن ولايةخراسان والعراق، وكان يزيد قد كتب إلى سليمان قبل وفاته بأنه قد بقي معه أموال كثيرة بعد فتح جرجان، وأنه سيحملها إليه، فلما تولى عمر بن عبد العزيز طالب يزيد بهذهالأموال، فقال يزيد: إنما كتبت إليه لأسمع الناس به، وقد علمت أنه لم يكن يأخذني بشيء، فقال له عمر: (لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمينولا يسعني تركها) فلما لم يفعل أبقاه في الحبس حتى آخر خلافته.
ولم يكن هؤلاء الخلفاء يحرصون على جباية الأموال، بل كانوا يطالبون ولاتهم أن ينفقوا هذه الأموال علىالفقراء، لأنهم أولى بهذه الأموال من بيت المال، روي عن ابن جريج قال: أخبرني أن عمرو بن شعيب أخبره أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله (ص) إلى اليمن حتى ماتالنبي وأبو بكر، ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناسفتردها على فقرائهم، قال معاذ: (ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني، فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليهبها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك، فقال معاذ: ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً).