الإسلام بين الإرادة والإكراه
كثر الحديث عن مسألة العنف والإيمان ، ويحاول البعض أن يصوّر الاسلام دين عنف وقتل وإرهاب . . والقرآنيؤكد أن دعوته ، دعوة الفكر والحجة والبرهان العلمي ، ودعوة الحوار والتفاهم والتعايش ، وإنّ الجهاد بالمال والنفس ، هو وسيلة من وسائل الدفاع ، وليس أسلوباً لفرضالاسلام ، فالدين عقيدة وسلوك ، والعقيدة والسلوك لا يكونان بالقهر والقوّة . . ولبيان ذلك قال الله تعالى : (لا إكراه في الدِّين قد تبيّن الرُّشد من الغي فمن يكفربالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) . وقال مخاطباً النبي محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ولو شاء ربّك لآمن مَنْ فيالأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) .
ويتحدّث القرآن عن بيان النبي نوح (عليه السلام) لقومه إنّ حقائق الدين غير قابلة للإكراه والإلزام والجبر ،فهي عقيدة يقتنع بها العقل، وإيمان تقبله النفوس عن رضاً وقناعة، جاء ذلك في قوله تعالى :
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيِّنة من ربِّي وآتاني رحمة من عنده فعُمِّيتعليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) هود / 28.
(وما أنت عليهم بجبّار فذكِّر بالقرآن مَن يخاف وعيد ) .
وقال سبحانه : (وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل ) .
وقال تعالى : (لست عليهم بمسيطر ) .
ولكي يتّضح لنا المعنى المقصود في هذه الآيات النافية للإكراه في الدين ، والمؤكدة ان مهمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ،ودعاة الاسلام هي الدعوة الى الاسلام ، والتعريف بمبادئه ، وأنّ عليهم أن يحسنوا الخطاب ، واعتماد أسلوب العقل والعلم والحوار ، ليواجه الانسان المخاطب مسؤوليته وواجبه. . وان تشريع الجهاد والقتال ، إنّما هو وسيلة دفاعية ووقائية ، لكي يتضح ذلك فلنقرأ ما كتبه المفسِّر الكبير العلاّمة السيِّد محمد حسين الطباطبائي في تفسير هذه الآيات، قال (رحمه الله) :
«قوله تعالى : (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ ) الشورى / 48.
عدول من خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لإعلامه أن ما حمله من الأمر إنّما هو التبليغ لا أزيد من ذلك ، أُرسل مبلغاً لدين الله ، إنْ عليه إلاّ البلاغ ، ولم يُرسل حفيظاً عليهم ، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم ،حتى يمنعهم عن الإعراض ، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه» .
«قوله تعالى : (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكر بالقرآن مَن يخاف وعيد ) ق / 45.
في مقام التعليللقوله : (فاصبر على ما يقولون ) ، فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا ، ولست أنت بمتسلط جبّار عليهم ، حتى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر ،وإذا كانت حالهم هذه الحال ، فذكِّر بالقرآن مَن يخاف وعيد» .
«قوله تعالى : (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل ) .. تطييب لقلب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يجد لشركهم ولا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم ، فإنّهم غير معجزين لله فيما أشركوا ، فإنّما المشيئة لله ، لو شاء ما أشركوا ، بل تلبّسوابالإيمان عن طوع ورغبة ، كما تلبّس من وفّق للإيمان ، وذلك أ نّهم استكبروا في الأرض ، واستعلوا على الله ، ومكروا به وقد أهلكوا بذلك أنفسهم ، فردّ الله مكرهم إليهم ،وحرمهم التوفيق للإيمان والاهتداء ، إذ كما أنّ السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب وقانون العلية والمعلولية العام ، والمشيئة الإلهية إنّما تتعلق بالأشياء ،وتقع على الحوادث على وفقها ، فما تمت فيه العلل والشرائط ، وارتفعت عن وجوده الموانع ، كان هو الذي تتعلق بتحققه المشيئة الإلهية ، وإن كان الله سبحانه له فيه المشيئةمطلقاً ، إن لم يشأ لم يكن ، وإن شاء كان ، كذلك السنة في نظام التشريع والهداية هي سنة الأسباب ، فمن استرحم الله رحمه ، ومَن أعرض عن رحمته حرمه ، والهداية بمعنى إراءةالطريق تعمّ الجميع ، فمن تعرض لهذه النفحة الإلهية ، ولم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد ، شملته وأحيته بأطيب الحياة ، ومَن اتّبع هواه ، وعاند الحق ،واستعلى على الله ، وأخذ يمكر بالله ، ويستهزئ بآياته حرمه الله السعادة ، وأنزل الله عليه الشقوة ، وأضلّه على علم ، وطبع عليه بالكفر فلا ينجو أبداً .
ولولا جريانالمشيئة الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب ، وقانون العلية والمعلولية ، وحلّت الإرادة الجزافية محله ، ولغت المصالح والحِكم والغايات ، وأدى فساد هذا النظام إلىفساد نظام التكوين ، لأنّ التشريع ينتهي بالآخرة إلى التكوين بوجه ، ودبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله . وهذا كما أنّ الله سبحانه لو اضطرّ المشركين على الإيمان ،وخرج بذلك النوع الانساني عن منشعب طريقي الإيمان والكفر ، وسقط الاختيار الموهوب له ، ولازم بحسب الخلقة الإيمان ، واستقر في أوّل وجوده على أريكة الكمال ، وتساوىالجميع في القرب والكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة ، ولغو التربية والتكميل ، وارتفع الاختلاف بين الدرجات ، وأدّى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والأعمالوالأحوال والملكات ، وانقلب بذلك النظام الانساني ، وما يحيط به ويعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر ، لا خير فيه عن إنسان ، أو ما يشعر به فافهم ذلك» .
«قوله تعالى :(لا إكراه في الدِّين قد تبيّن الرُّشد من الغي ) الاكراه هو الاجبار ، والحمل على الفعل من غير رضى ، ثمّ قال : وفي قوله تعالى : لا إكراه في الدين ، نفي الدين الاجباري ، لماأنّ الدين ، وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنّها اعتقادات ، والاعتقاد والايمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والاجبار ،فإنّ الاكراه إنّما يؤثر في الأعمال الظاهرية ، والأفعال والحركات البدنية المادية ، وأمّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والادراك ، ومنالمحال أن ينتج الجهل علماً ، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقاً علمياً ، فقوله : لا إكراه في الدين ، إن كان قضية اخبارية حاكية عن حال التكوين ، أنتج حكما دينياًبنفي الاكراه على الدين والاعتقاد ، وإن كان حكماً إنشائياً تشريعياً ، كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله : قد تبين الرشد من الغي ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقادوالايمان كرهاً ، وهو نهي مُتّكئ على حقيقة تكوينية ، وهي التي مرّ بيانها أنّ الاكراه إنّما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية .
وقد بيّنتعالى هذا الحكم بقوله : قد تبين الرشد من الغي ، وهو في مقام التعليل فإنّ الاكراه والاجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيلإلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور ورداءة ذهن المحكوم ، أو لأسباب وجهات أخرى ، فيتسبب الحاكم في حكمه بالاكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه ، وأمّا الأمور المهمةالتي تبين وجه الخير والشر فيها ، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها ، فلا حاجة فيها إلى الاكراه ، بل للانسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل ، وعاقبتي الثوابوالعقاب ، والدين لما انكشفت حقائقه ، واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية ، فقد تبين أنّ الدين رشد ، والرشد في اتباعه ، والغي في تركه والرغبة عنه ،وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين .
وهذه إحدى الآيات الدالة على أنّ الاسلام لم يبتن على السيف والدم ، ولم يفت بالاكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة منالباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الاسلام دين السيف واستدلوا عليه : بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين . وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال ، وذكرنا هناكأنّ القتال الذي ندب إليه الاسلام ليس لغاية إحراز التقدم ، وبسط الدين بالقوة والاكراه ، بل لإحياء الحق ، والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد ، وأما بعد انبساطالتوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر ، فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال ، فالإشكال ناش عن عدم التدبر . ويظهر مما تقدم أنّ الآية ـ أعني قوله : (لاإكراه في الدين ) ـ غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم» .
«وقوله : (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، الالزام جعل الشيء مع الشيء بحيث لا يفارقه ولا ينفك منه ، والمرادبإلزامهم الرحمة وهم لها كارهون ، إجبارهم على الايمان بالله وآياته ، والتلبس بما تستدعيه المعارف الإلهية من النور والبصيرة . ومعنى الآية - والله أعلم ـ اخبروني إنكانت عندي آية معجزة تصدّق رسالتي مع كوني بشراً مثلكم ، وكان عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب وعلم يهديكم الحق ، لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم ،أيجب علينا عندئذ ان نجبركم عليها ؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته ، وقد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به ، طغياناً واستكباراً ، وليس عليَّ أن أجبركمعليها ، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه .
ففى الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة ، وبانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا ، لكنهم مع ذلك يريدون أمراً يؤمنون لأجله ، وليسإلاّ الاجبار والالزام على كراهية ، فهم في قولهم : (لا نراك إلاّ بشراً مثلنا ) لا يريدون إلاّ الاجبار ، ولا إجبار في دين الله . والآية ، من جملة الآيات النافية للاكراهفي الدين ، تدل على ان ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع ، وهي شريعة نوح (عليه السلام) وهو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ».
« (أفأنت تكره الناسحتى يكونوا مؤمنين ) أي بعدما بينا أن أمر المشيئة إلى الله ، وهو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة ، لم يبق لك إلاّ أن تكره الناس وتجبرهم على الايمان ،وأنا أنكر ذلك عليك ، فلا أنت تقدر على ذلك ، ولا أنا أقبل الايمان الذي هذا نعته».
وقال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليوضح له مهمته كنبي مبلغويحدّد له موقفه ممن يرفض دعوة الحق والهدى والصلاح :
(فذكِّر إنّما أنت مذكِّر * لست عليهم بمصيطر * إلاّ منَ تولّى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر ) الغاشية / 21 ـ 24. قال المفسر الإمامي الكبير : «معناه لست عليهم بمتسلط تسليطاً يمكنك أن تدخل الايمان في قلوبهم ، وتجبرهم عليه ، وإنّما الواجب عليك الانذار ، فاصبر على الانذاروالتبليغ ، والدعوة إلى الحق .. وقيل معناه ، لست عليهم بمتسلط الآن حتى تقاتلهم إن خالفوك ، وكان هذا قبل آية الجهاد ثمّ نسخ بالأمر بالقتال .. والوجه الصحيح انّه لا نسخفيه ، لأنّ الجهاد ليس بإكراه للقلوب ، والمراد إنّك إنّما بعثت للتذكير وليس عليك من ترك قبولهم شيء .. إلاّ مَن تولى وكفر ، أي أعرض عن الذكر ، ولم يقبل منك ، وكفر بالله ،وبما جئت به فكل أمره إلى الله ، عن الحسن ، وقيل معناه إلاّ مَن تولى وكفر فلست له بمذكّر ، لأنه لا يقبل منك فإنك لست تذكره (فيعذبه الله العذاب الأكبر ) وهو الخلود فيالنار .. ».
وبعد هذا العرض للآيات القرآنية المتحدثة عن الايمان ورفض الاكراه ووجوب أن يكون الايمان عن قبول وقناعة عقلية وقلبية يتضح أنّ القرآن لا يريد إيصال دعوتهبالقهر والاكراه ، بل بالوعي والفهم والتفكير .. قال تعالى : (وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا معالشاهدين ) المائدة / 83.
(وأنزلنا إليك الذِّكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) النحل / 44، (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبتلكم به الزرع الزيتون * وسخّر لكم اللّيل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) النحل / 10 ـ 12.
*المصدر : البلاغ