الاسلام دين العالمية لا العولمة
الأستاذ جمال البنا ما أن ظهر الاسلام حتى ظهرت طبيعته (العالمية) في صورة مصغرة أو(جنينية)! كما يقولون فمن الأيام الأولى كان حول الرسول سلمان الفارسي وصهيب الرومي (بالإضافة إلى جارية رومية عذبت واستشهدت في سبيل الاسلام) وبلال الحبشي لقد آخىالاسلام بينهم وصهرت روحه القوية فوارق الدم والجنس فيهم كما كان حوله الرجال والنساء والأطفال أحراراً وعبيداً.
صحيح أن دعوة الاسلام بدت أولاً محلية، ولكن هذا كانفي ترتيب البدء بالدعوة لأن هذا هو ما يقتضيه طبيعة الأشياء فقد بدأت أولاً ((أنذر عشيرتك الأقربين)) ثم (أم ((القرى حولها)) ثم جاء الأنصار، وأرسل الرسول إلى الأنصارمعلمين، ثم بدأت الهجرة إلى المدينة إرسالاً كللت بهجرة الرسول).
وعندما استقر الرسول بالمدينة كان من أعماله الأولى المؤاخاة التي قام بها بين المهاجرين والأنصارفقرن كل واحد من المهاجرين بواحد من الأنصار اعتبره أخاه، ووصل كرم الأنصار، وثقتهم في هذه المؤاخاة إلى الدرجة التي كان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله وإحدىزوجتيه بعد أن يطلقها.
وكانت الثانية هي (صحيفة الموادعة المشهورة) التي جمعت الفئات اليهودية داخل إطار (أمة المدينة) ورتبت عليهم واجبات كما منحتهم حقوق مثل واجباتوحقوق الأنصار.
وتعد صحيفة الموادعة من أولى المعاهدات إن لم تكن أولى المعاهدات التي تترفع فوق حواجز الدين وفوارق الجنس وتمنح الجميع حقوقاً وواجبات متساوية.. ومع الزمن كانت الطبيعية العالمية للاسلام تتضح وكانت نصوص القرآن صادعة بذلك، وحدت الآيات التي يتصدرها ((أيها الناس)) محل الآيات التي توجه إلى المؤمنين.. والتي تصرحببعثة الرسول ((إلى الناس جميعاً)) وتصف ((عالمية الاسلام)).
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف: 158.
وسلك الاسلام طريقة (حضارية) سلمية في الدعوةلعالميته، تلك هي الخطابات التي أرسلها الرسول إلى ملوك الدول المعروفة وقتئذ الروم والفرس ومصر وكانت هذه الكتب تدعو هؤلاء الحكام للإيمان بالاسلام أو تحملهم مسؤوليةإبقاء جماهيرهم في ظلمات الكفر إن رفضوا..
وكما هو معروف فقد رفض الجميع باستثناء المقوقس الذي لم يرفض ولم يقبل وأهدى إلى الرسول هدايا.
وأتم الخلفاء الراشدون مابدأه الرسول عندما أرسل رسله فجوبه بالرفض، ذلك أنه كان يسع المسلمون وليس لديهم قوة أن يقنعوا بتبليغ الملوك ولكن عندما توفرت لهم القوة كان لا بد من تبليغ الشعوبوالجماهير، والمجتمع الكافر بصفة عامة برسالة الاسلام..
ذلك أن التبليغ برسالة الاسلام جزء لا يتجزأ من عالمية الاسلام باعتباره الرسالة الخاتمة.
ولننظر سوياًإلى هذه الآيات الكريمة:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة: 143. (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك علىهؤلاء شهيداً) النساء: 41.
إن هذه الآيات عظيمة الدلالة فيما نحن بصدده لأنها تؤكد عالمية الاسلام بما تفرضه من واجب إشهاد الأمم على الاسلام، وهي:
1 ـ تؤكد عالميةالاسلام.
2 ـ تثبت هذا التأكيد بإيجاب تبليغ رسالة الاسلام وإن يكون المسلمون شهوداً على هذا.
3 ـ ينتهي الوجوب عند هذا ـ وليس فرض الاسلام لأن رسالة المسلم، ورسالةالاسلام ـ تقف عند التبليغ أما إيجاب الإيمان أو فرضه فهذا ما يخالف أصول حرية العقيدة في الاسلام، وما تثبته قاعدة قبول الجزية ـ في حالة الحرب، وانتصار المسلمين.. ولقائل أن يقول ألم يكن هناك طريقة أخرى لتبليغ رسالة الاسلام سوى الجيش؟ فضلاً عن أن الجيش يتضمن أكثر من التبليغ ـ فنقول بعد أن كتب الرسول إلى الملوك، وبعد أن رفضالملوك لم يكن هناك طريق لإشعار المجتمع بأن هناك ديناً اسمه الاسلام يعرض على الشعوب إلا هذه الطرقة. لم يكن هناك إذاعات خارجية أو تليفزيونية أو صحافة أو انترنت أو أيوسيلة للاتصال بالناس.. والطريقة الوحيدة الفعالة والمؤثرة والتي تدفع الملوك والحكام للتحرك هي الجيش.
على أن هناك نقطة دقيقة يجب إيضاحها ذلك أن الاسلام كما هوعقيدة دينية، فإنه أيضاً عدالة دنيوية، وقيم حضارية، وقد استبعد الاسلام نهائياً فرض العقيدة الدينية بالقوة ليس لأنها تخالف طبائع الأشياء فحسب ولا لأنه لا قيمة لدينيكره عليه صاحبه ولكن أيضاً لأنه يخالف النصوص القرآنية الصريحة في أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وأن الهداية مردها إلى الله (إنك لا تهدي من أحببت، ولكنالله يهدي من يشاء).
ولكن من ناحية أخرى فإن نظم الجبروت والطغيان والطبيعة التي قام عليها العالم القديم وبنى عليها الفرس والرومان نظمهم. هذه النظم التي سحقتالجماهير وقضت عليهم بالاستعباد وحرمتهم كما يقولون، الحقوق الأساسية للانسان وكانت الحرب تعني تدمير هذه النظم الطاغية وتحقيق العدل الاسلامي للجماهير، مع منحها حريةالاحتفاظ بدينها وفي نفس الوقت يكفل لهم الجيش الاسلامي الحماية مقابل تقديم جزاء لهذا، وهي (الجزية) التي اشتقت من مادة الجزاء.
هنا نجد أفضل صورة للعالمية، صورةتعرف الناس بدين يستبعد عبادة الأحبار ـ والرهبان والملوك والطغاة، ويعرض عبادة الرحمن الرحيم الخالق الكريم رمز القيم والمثل الغائبة والإيمان برسول أرسله الله رحمةللعالمين.. ولكن هذا العرض لا يعني ـ كما أشرنا ـ الإجبار، أنه مجرد عرض، دور المسلمين فيه أن يكونوا شهداء عليه.
وفي الوقت نفسه فإن تطبيق القيم الاسلامية والنظمالاسلامية التي تقوم أساساً على العدالة وتستبعد كل صور الظلم والطغيان تحرر المجتمع وتفتح أبواب الحرية وآفاق المبادرات للأفراد جميعاً..
فعالمية الاسلامية عالميةحضارية تقوم على أسس وقيم الاسلام الحضارية سواء كان في مجال العقيدة أو في مجال النظم.
ومرة أخرى قد يقول قائل: ليس في هذا جديد فالمسيحية، يمكن أن تجعي هثل هذا الدوروهذا صحيح إلى حد ما لأن المسيحية والاسلام أخواعلات، كما يقولون: أي من أب واحد وأمهات شتى ولا يستشعر الاسلام حساسية، إذا قامت المسيحية بتعميم قيم الحب والخير بينالناس جميعاً والفرق الوحيد أن الاسلام أكثر أحكاماً من المسيحية سواء في عقيدة الألوهية الخالية من التعقيد الكهنوتي، أو في النظم التي تقوم على العدل..
خلاصة القولأن الاسلام بطبيعته عالمي وإن عالميته تقوم على التعريف به، وما فيه من قيم وأن هذا يمكن أن يتم مع احتفاظ الأمم الأخرى بأديانهم لأن الاسلام وإن كانت عقيدة من ناحية فهونظام في ناحية أخرى وقاعدته العامة هي الآية (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دونالله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
وهذه الآية هي التي تجعل الاسلام عالمياً، وتجعله في الوقت نفسه يرفض العولمة المزعومة لأنها تجعل من قادة المجتمعالأوربي الأمريكي أرباباً من دون الله وتملي على شعوب جماهير العالم الثالث التسليم لها.
والهدف الوحيد الذي تعمل له كل قوى العولمة هو أن يصبح العالم سوقاً واحداًمفتوحاً، دون جمارك أو حمايات، بحيث يمكن للمنتجات الأوروبية الأمريكية (المتلتلة) أن تجدلها مشترين، وأن يتم هذا على أنقاض الصناعات والمنتجات القومية التي لا تتمتعبمزايا المنتجات الأوربية الأمريكية. أما قضية الثمن فليست مشكلة. إذ يمكن التحكم في عملات الدول كما يشاء تجار العملة.. كما يمكن اللجوء في المرحلة الأولى إلى إسلوبالإغراق أولاً، أي النزول بثمن السلعة إلى ما دون التكلفة لفترة معينة تبور فيها كل السلع القومية، وتفلس مصانعها لتعود هذه الدول فترفع في الأسعار كما تشاء، بعد أنانفردت بالسوق..
ومن ترسانة العولمة الحديثة (العقوبات الدولية التي تفرضها أمريكا باسم دول العالم على من تشاء طبقاً لمعاييرها الخاصة، فتترك إسرائيل تصنع مئاتالرؤوس النووية وتضرب العراق، والسودان لمظنة أن لها نشاطاً ودراسات نووية، وقد سلطت العقوبات الدولية على ليبيا، فلم تستطع مصر، وهي أقرب الدول إليها أن تفعل شيئاًلها.
وكان وجود الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية يعوق انطلاقة وحش العولمة، فلما تهاوى الاتحاد السوفيتي انفردت الولايات المتحدة وانفسح أمامها المجاللأسوأ صور الاحتكار والعربدة.
وأعتقد أن من الضروري لمجموعة الدول الاسلامية أن تتكتل لمقاومة هذا الوباء، ولن تعجز من أن تجد حلفاء لها من الدول التي حاقت بها نقمةالعولمة لوضع حد لهذا الابتزاز والتحكم والهيمنة.
المصدر : الاسلام والعولمة