عبد الله العروي
إشكالية التعريب
|أن لمشكل التعريب وجهين:
_ كون لسان أجنبي يحل محل اللسان الأصلي في دور الوسيط بيناللغات الاصطلاحية التي تستعملها الفئات المختلفة في المجتمع.
_ وكون هذا اللسان الأصلي، التي ضبطت قواعد توليد مفرداته وتركيبها في جمل مفيدة وتغيير معانيها،منقطعاً عن اللغات التي تكون بدورها قد توقفت عن النمو بسبب جمود المجتم|.
هذان وجهان لمشكل واحد. يبدو من السهل أن يخفي الأول الثاني. لكن لا يمكن سبر عمق مشكلالتعريب، إذا لم نميز بينهما نظرياً على الأقل. الوجه الأول ظاهرة اجتماعية تنشأ عن القهر والاحتلال الأجنبيين، حيث يصبح اللسان الدخيل عنوان التقدم والعلم والأناقةواللسان الأصلي سمة كل ما هو بلدي متخلف.. فنرى الموظف يخاطب الزبون بلسان الأجنبي ليظهر نفوذه، والأم تخاطب ابنها باللسان نفسه للإعلان عن انتمائها إلى طبقة راقية،والطالب يقحم الكلمات الأجنبية ليثبت ثقافته العصرية، إلى آخر المظاهر المؤسفة المضحكة التي نلاحظها اليوم في المغرب العربي، وفي بعض الأوساط المشرقية، والتي كانتمنتشرة في أثناء القرن الماضي في روسيا.
للدعوة إلى التعريب في هذا المجال مغزى سياسي واضح. إنها دعوة إلى الوحدة الوطنية ومحاولة لإيقاف تيار خطير يحوّل التقسيمالاجتماعي إلى تقسيم لغوي وثقافي. فالتناقض الذي كان موجوداً أيام الاستعمار بين الجالية الأجنبية والشعب المستعمر يتحول إلى تناقض بين النخبة الحاكمة، ذات النفوذالاقتصادي، وباقي الطبقات المحكومة والمحرومة. وفي هذا الوضع ما فيه من تبعية اقتصادية وسياسية للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة، لكن هذا الوجه الاجتماعي الأكثر وضوحاً،يخفي في الغالب الوجه التاريخي، الذي يكتسي أهمية أكبر إذا حللنا الأمور على المدى الطويل.
نجد دليلاً على التمييز بين الوجه السياسي الآني والوجه التاريخي فيالتجربة الصينية. لقد دخلت الصين في عهدها الحديث بوعي حادّ بضرورة إصلاح لغوي، حدد برنامجه مصلحو القرن الماضي. فطبقت مبادئه تحت الحكم الجمهوري الوطني وعممت نتائجهتحت الحكم الشيوعي. فأمحت بذلك جميع مخلفات التمزيق والاحتلال الاجنبي والاستغلال الإمبريالي والنشاط التبشيري. هل اعتبر الصينيون أن الإصلاح قد تم؟ لا، بل قالوا إن ماتبقى من القرن العشرين لا يكفي لإتمامه. لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن التقدم العلمي والثقافي يحتم فك الارتباط التاريخي بين اللسان المقولب (لغة العاصمة بكين) وبين مجموعةالرموز التي يرجع قسم كبير منها إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة. إن قرار الكتابة الهجائية قد اتخذت قبل أن يصل الشيوعيون إلى الحكم بسنوات عديدة. ورغم ذلك لم يطبق إلى الآنلأسباب تدل على صعوبة المشكل وضرورة التروي في شأنه. لكن كل هذا لم يدفع القادة الصينيين إلى نفيه أو تناسيه. تركوه قيد الدرس، وأعطوا أنفسهم مهلة للتفكير، وربما للقيامبتجارب جزئية، قبل اتخاذ قرار التطبيق النهائي.
ولنا دليل أوضح في قضية اللسان الفرنسي الحالي. لقد انتبه الفرنسيون يوماً ليجدوا أن علوماً بكاملها تدرّس في معاهدحرة باللسان الإنكليزي، وأن المتخصصين بالإعلاميات مثلاً يستعملون لغة، مليئة بالمصطلحات الأميركية ومتأثرة في تراكيبها بالأنماط الإنجلوساكسونية، إلى حد أنها لم تعدتخضع لقوانين النحو الفرنسي المعهود. وأنت تقرأ الآن في صحفهم، مقالات تشبه كثيراً ما نكتبه نحن عن التعريب. بل تعدت القضية ميدان الاختصاص إلى الميدان الاجتماعي العام،حيث بدأ قسم من الطبقة الوسطى يتأثر في لسانه بالتراكيب والمفردات الأميركية، ويبتعد عن اللسان المتداول، أي أن لهجة برجوازية في طريقها إلى التبلور.
ويدل المثالانالسابقان على أن وراء القضية الاجتماعية قضية ثقافية، تتعلق بحيوية المجتمع المعني، ودوره في الحضارة وتطور العلم الحديث.
صحيح أن قضايا اللغة لا تنفصل عن القضاياالمجتمعية في كل الأحوال. بيد أنه يجب أن نضبط ما نعني بالمجتمع. اللغة مرتبطة بهيكل المجتمع، بتجزئته إلى طبقات، بعلاقة كل طبقة بالسلطة في الداخل وبمراكز القوة فيالخارج. لكن هذا كله يعبر عن قسم فقط من الواقع. القسم الآخر هو أن اللغة مرتبطة بمستوى المجتمع بالنسبة إلى ثقافة القسم المتقدم من المعمور.
قلنا إن الوجه الثانيللمشكل اللغوي يربطه بالمستوى الحضاري، وإن اللسان القومي يزدهر، أو يضمحل، بحسب تجدد اللغات الاصطلاحية وتعدد الرموز العلمية. فهل يعني هذا أن أي استدراك للتخلفالحضاري يحل بالتأكيد مشكل اللغة؟ من الواضح أن الأمر ليس كذلك. يكفي أن يترك المسؤولون الأمور تجري على حالها، أن يميلوا لسبب اقتصادي، إلى ربح الوقت والتقليل منالنفقات، فيستعيضوا باللسان القومي لساناً أجنبياً. بهذه الطريقة قد يتقدم المجتمع ويستدرك الكثير مما فاته في حقل العلوم والتقنيات، بل قد يستفيد اللسان القومي منالوضعية الجديدة فينتشر ويزيد تداوله، لكن كلغة خاصة بجانب اللغات المتداولة (لغة النجاة والشعراء، لغة العواطف والحفلات الرسمية) دون أن يسترجع موقعه المركزي كوسيطضروري لكي تتفاهم الفئات الاجتماعية والحرفية.
قد يقال: ولماذا لا نرضى بما يؤول إليه التطور تلقائياً، أي الازدواجية اللغوية؟ لماذا لا نرحب بحالة مثل حالة الهند،التي أحرزت درجة لا بأس بها من العلم والتكنولوجيا؟ هل هناك مصلحة حقيقية في طرح قضية التعريب، سوى تعلق عاطفي بتراث عقيم. وسوى مصلحة فئة قليلة من الفقهاء والأدباءوالنحاة الذين لا يتقنون شيئاً غير اللسان القديم؟. إن الاعتراض يبدو وجيهاً، ويدفع المرء إلى كثير من التساؤلات. لكن لدى الفحص يظهر أنه مبني على مغالطة، على افتراض شيءلا وجود له في الواقع. يكون الاعتراض مقبولاً لو كان يتنافس بالفعل في الوطن العربي مشروع التعريب ومشروع مضاد يستهدف تطوراً ثقافياً بلسان متطور غير عربي. في الهند، منذثلاثين سنة توجد سياسة تثقيفية مبنية على استيعاب ونشر اللسان الانجليزي، والكلام عن إحياء اللسان الهندوستاني يعد من قبيل الدعاية السياسية. أما في الوطن العربي،فإننا لا نجد سوى الإهمال، وترك الأمور تتطور كما كتب لها. ليس هناك قرار تعريب جدي ولا قرار مضاد. وبما أن إهمال الأمور يعني في الحقيقة استمرار التخلف والتبعية والأمية،فكل قرار يستهدف التقدم والتطور يتساوى منطقياً مع قرار التعريب. فمضمون القرارين واحد، هو سياسة قومية تخطط لمستقبل عربي. يتجلى من هنا، أنه غير وارد تقديم أو تأخيرعملية التعريب عن عملية التوحيد. العمليتان وجهان لقرار واحد يؤخذ أو لا يؤخذ. وبما أن مشكل التعريب، قائم إلى الآن، فهذا دليل على أن القرار الوحدوي لم يتخذ فعلاً في أيكيان عربي.
المصدر: ثقافتنا في ضوء التأريخ