أسلوبنا بين الانحراف القديم والانحراف الجديد
محمد حسين فضل الله ربما يتطور الانحراف في واقع الأمة من مرحلة إلىمرحلة متقدمة، فيولد من خلاله واقع جديد يتجاوز الانحراف السابق إلى انحراف جديد، بحيث لا يمثل الانحراف السابق أي شيء في حياة المجتمع لأنه أصبح من الأمور المألوفةالمعروفة التي لا ينكرها أحد ولا يعترض عليها أحد لوصول الواقع إلى المرحلة التي يتحول فيها المنكر إلى معروف والمعروف إلى منكر.. فلا تعود هناك مشكلة تبحث عن حل ... فقدبدأت المشاكل الجديدة للواقع تقتحم الساحة، وتلح في الظهور لتفرض الواقع الجديد فماذا نفعل؟
هل نظل واقفين مع المرحلة الأولى للانحراف في حركة ترجع إلى الماضي مناجل نقل المشكلة منه إلى الحاضر، لإخراج المجتمع من جو التسليم المطلق بالواقع بعد أن تجازوه لإثارة المشكلة في حياته من جديد، أو تتقدم إلى المشكلة الجديدة التي لا تزالالأرضية الفكرية والنفسية صالحة لإدارة المعركة عليها وإثارة الجو ضدها في حركة تجند الفكر والشعور معا في وحدة عملية تتقدم ميدان الصراع وتتحكم لتسيطر على طلائعالانحراف الطارئ قبل أن تفرض وجودها على أفكار الناس وأوضاعهم العامة ... وتبقى المشكلة الأولى في طور التجميد، ريثما يتم الحصول على النتائج الحاسمة للمعركة الحالية...لنرجع إلى مواقعنا الأساسية حيث نبدأ المعركة في اتجاه تصحيح كل الانحرافات فنحرك المشكلة الأولى من جديد....
***
ربما يختار بعض العاملين في الحقل الديني، الموقفالأول، على أساس النظرية القائلة بأن إغفال المشاكل الأولى التي سقطت شعاراتها صريعة في المعركة أمام قوى الانحراف، سوف يؤدي إلى الاعتراف بالانحراف من ناحية عملية،وإلى الإقرار بشرعيته كأمر واقع مفروض لا ينكره أحد، ولا يعترض عليه أحد تبعا للمثل المعروف 'السكوت علامة الرضا' ... ثم يتطور الموقف إلى ولادة جيل جديد يتجاوز كل حساسياتالجيل الماضي إزاء هذا الواقع، فلا تبقى هناك أية عقدة شعورية تشير إلى ضرورة إعادة النظر فيه ولو بعد حين. وربما يشارك هذا الأسلوب في مواجهة الانحراف، إلى تبدل الأحكامالشرعية في وعي الناس، وإلى تساقطها واحدة واحدة أمام قوة الانحراف.
ولكننا نختار الموقف الثاني ـ بالرغم من ذلك كله ـ لأننا نعتقد أن ولادة الواقع الجديد الذي يستعدلطرح المشكلة الجديدة التي تتحدى حكماً شرعياً، أو مفهوماً إسلامياً لا يزال يعيش في حياة الناس وفي وجدانهم، يدل دلالة واضحة على أن إدارة المعركة في إطار القضيةالأولى سوف يؤدي إلى خسارة كلتا المعركتين، أما الأولى فلأن الخروج من حالة الهزيمة فيها إلى حالة النصر، يتوقف على خلق الأرضية الصالحة للصراع في حياة الناس وأفكارهمومشاعرهم، قبل الدخول في المعركة، مما يكلفنا جهداً كبيراً يمنعنا من الدخول في المعركة الثانية، التي يتقدم فيها العدو دون مقاومة، فيجهض كل استعدادات الدفاع في كلاالموقفين ... بل أنه يستخدم الحالة النفسية التي يشعر بها الناس تجاه الانحراف السابق وتعاطفهم معه، سلاحاً يحاربنا به في كلتا المعركتين ... وبذلك لا يحقق الموقف أي ربحعلى كلا الحالين.. فما فائدة من الإلحاح عليه.. أما الوقوف مع المشكلة الجديدة، فأنه يفسح المجال للتقدم وإدارة المعركة في ظل ظروف موضوعية طبيعية لأن الأرضية لا تزالصالحة والأجواء النفسية التي لا تزال غير منسجمة مع الانحراف الجديد، جاهزة، أما القوة الذاتية التي يملكها العاملون في سبيل الله، فلا تزال كبيرة مما يجعل إمكاناتالنصر كثيرة واحتمالات تحقيقه قريبة جداً..
ولعلنا لا نذهب بعيداً إذا طرحنا المثال العسكري المعروف في قضايا الحرب، فهناك في الخطط العسكرية عدة خطوط دفاعية ترسمهاالقيادات التي تحاول أن لا تتجمد المعركة في خط واحد يفقد معه المقاتل الفرصة في مواصلة القتال في حالة سقوط الخط في يد الأعداء، بل يفسح المجال للجيش المقاتل أن ينسحبإلى خط ثان وثالث، يقف فيه على أرض صلبة محكمة محصنة، ليقاتل فيها من موقع قوة فيتقرر على ضوء النتائج الجديدة عودته إلى الخط الأول للدفاع عنه من جديد أو الانسحاب إلى خطثالث، وهكذا حتى تنتهي المعركة بالنصر الكامل أو بالهزيمة الساحقة ....
***
أما المثال العملي الذي نقرأه الآن كواقع حي يعيش الإسلام في معركته المستمرة ضد الانحرافالفكري أو العملي في واقع الناس وحياتهم العملية العامة والخاصة فهو مثال السفور والحجاب كنموذج لمشكلة الانحراف السابق الذي انتهى أمره في كثير من البلدان.. ثم مثالالحرية الجنسية بين الفوضى والنظام كمثال لمشكلة الانحراف المتقدم الذي بدأ نفسه ليفتح الواقع على أفق جديد في علاقته المرأة والرجل، يتجاوز قضية الشرعية الزوجية، إلىقضية الانفلات بعيداً عن نظام الأسرة القائمة على شريعة الزواج بكل ما تمثله من أحكام والتزامات وقوانين.
فقد عاشت البلدان الإسلامية في النصف الأول من هذا القرنالرابع عشر الهجري الصراع بين السفور والحجاب، وبدأ السفور يفرض نفسه بفعل القوى الانحرافية المسيطرة في كثير من البلدان حتى انحسر الحجاب كلياً أو كاد، بحيث أصبحمنكراً ينظر إليه باستغراب من الطبقات العامة للمجتمع.. ولكن ذلك لم يؤثر على النظرة العامة للإطار الإسلامي الذي وضعت فيه العلاقة الجنسية، في الإسلام، في نطاق الأسرةوقوانينها، ولم يوجب زوال الحواجز النفسية التي أقامها الإسلام في نفوس المسلمين ضد الانفلات الجنسي في علاقة الرجل والمرأة، مما يجعل الزنا عملاً فاحشاً مرفوضاً منالناس جملة وتفصيلاً ....
ثم جاءت التطويرات الجديدة في التفكير الأوروبي في السنين المتأخرة لتدفع 'الحرية الجنسية' إلى الواجهة في معركة الحريات العامة لدى الإنسان،لتكون لها قداسة الحريات الأخرى في التفكير والشعور الإنساني، وحدثت المعركة كأعنف ما يكون، ولا تزال الأفكار الجديدة تفعل فعلها في مجتمعاتنا بأسلوب تدريجي يحاولأصحابه أن يهدموا القلاع والحواجز النفسية واحدة واحدة، دون أن يجرأوا على الهجوم مرة واحدة، ولا تزال أكثرية المجتمعات الإسلامية ممن يؤمن بالحجاب وممن لا يؤمن به،تعارض هذه الحرية الجديدة، وتعتبرها بداية للفوضى الجنسية التي تهدم كل مبادئ الأسرة وقوانينها. لتجعل منها شيئاً بغيضاً لا معنى له، تماماً ككل القيود التي يفرضهاأعداء الحرية على حياة الإنسان وكرامته... وفي هذا الجو تطرح القضية نفسها في طبيعة الصراع الذي نخوضه، فهل نخوض المعركة في قضية السفور والحرية الجنسية معا، أو نخوضها فيالقضية الأولى فقط، أو في القضية الثانية فقط، أن نترك الصراع ونستسلم للهزيمة مقدماً، وتفتح الأبواب مشرعة للفاتحين الجدد... ربما لا يكون الفرض الأول عملياً، لأنكثيراً من الذين يحاربون ضد الحرية الجنسية يدافعون عن موضوع السفور، مما يوجب ارتباكاً في صفوف المقاومين للحرية ويؤدي بالتالي إلى ضعف يشق الطريق للأعداء أن ينفذواإلى الساحة بسهولة وهدوء ولا مجال للفرض الأخير، لأننا لسنا في موقف الهزيمة السريعة بلا قتال، أما الفرض الثاني، فلن تكون نتيجته أفضل من نتيجة الفرض الأول، فيتعينالموقف الثالث الذي يحاول أن يربح المعركة معركة الحرية الجنسية أو التنظيم لهذه الغريزة، ليأخذ منها قوة جديدة يستعد فيها للربح في القضية الأولى في معركة جديدة...انسجاماً مع واقعية الأسلوب ومرونته.
وقد يحسب بعض الناس، في هذا الأسلوب، تراجعا عن الالتزام بالمواقف الإسلامية إزاء الواقع، مما يخضع الطريقة العملية المفروضةإلى مزيد من التراجعات المستمرة تبعاً لقوة حركة الانحراف... فينتهي الأمر ـ في خاتمة المطاف ـ إلى الانسحاب كلياً من ميدان الصراع ولكننا نرفض هذا الاستنتاج، لأن الموقفالذي نقرره لا يمثل قاعدة الحركة، بل يمثل نوعيتها في نطاق المرحلة، كما يعبر البعض عندما يقول أن الخلاف ليس في الاستراتيجية بل في التكتيك، فأننا لا نتخلى عن المبدأولا ننسحب من السعي الدائب تجاه الحركة، بل كل ما هنالك أننا نجمد التحرك في مرحلة معينة، لنجمع الطاقات في الدفاع عن الموقف الذي يستعد الأعداء لإسقاطه من أجل أن نكتسببقوة نحشدها من جديد لبدء الحركة في اتجاه الموقف السابق وبهذا يكون الموقف للتقدم لا للتأخر، وللقوة لا للضعف، وللمحافظة على العقيدة والشريعة لا الانسحاب منها أوإهمال الدفاع عنهما.
***
وربما كان من الضروري للاستمرار في ملاحقة هذا الجانب العملي المرتكز على النظرة الواقعية السليمة، أن نرصد الانحراف من خلال التقييمالدقيق للمرحلة التي بلغها في استيعابه للواقع لنعرف كيف نتعامل معه وكيف نواجهه، وكيف نتابع معالجته، في أسلوب الحركة، أو في إطار التجميد، لأن الخطأ في أمثال ذلك يفوتعلينا كثيراً من الفرص المتاحة أو يدخلنا في فراغ عملي لا فائدة منه إلا المزيد من الجهد الضائع والعبث الهزيل.
وأخيراً أن رسالية العمل تفرض على العاملين أن يتحركوافي كل مجال من مجالات الصراع ليكتشفوا الأرضية التي يتحركون عليها وليفهموا كيف يمكن لهم أن يجعلوا من مواقعهم التي يقفون فيها منطلقاً للانفتاح على الواقع من خلال مايمكن للرسالة أن تعمله، وما يمكن له أن يهيئ لها من ظروف العمل وأدواته.
المصدر : خطوات في طريق الإسلام