فقه الاختلاف و المستقبل الإسلامی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فقه الاختلاف و المستقبل الإسلامی - نسخه متنی

احمد التویجری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

د

د. احمد التويجري

فقه الاختلاف والمستقبل الإسلامي


مقدمة

الاختلاف سنة من سنن الله في الحياة، وسر من أسرار الوجود العظمى. وهو بجميعدرجاته، بدءاً من التناقض والتضاد إلى التشابه والتماثل، ضرورة حياتية لا يمكن أن يتصور وجود بدونها. ولئن كان جزء غير يسير من النصوص وجزء آخر من مأثورات الأئمة علىامتداد التاريخ الإسلامي قد أفاض في ذم الاختلاف فإن ذلك محمول على الاختلاف المؤدى إلى الفرقة والتناحر والذي لم يبن على علم واجتهاد.. فقد جاءت نصوص ومأثورات أخرى تضعمبادىء وأصولا للاختلاف المحمود ترتقي به في كثير من الأحيان إلى درجة الوجوب العملي، والتجربة الإسلامية على المستويين المعرفي والواقعي تؤكد أن الاختلاف كان دعامة مندعائم الوجود الإسلامي على مر العصور. فقد تعددت المدارس الاسلامية في كل ضرب من ضروب الحياة وفي كل فرع من فروع المعرفة. وكان نتيجة ذلك كله الرصيد المشرق للحضارةالإسلامية الذي لم تعرف البشرية له مثلاً على الإطلاق.

ومن المثير للعجب أن توجد في أوساط المسلمين بين الحين والحين تيارات تنفر من الاختلاف وتضيق به وتعده بكل صورهرجزاً من عمل الشيطان، بل تتعدى ذلك فتسعى جاهدة للقضاء عليه وإزالته من الوجود، متأثرة بأمور كثيرة أهمها، في نظري، عدم أو قلة فهم النصوص المحذرة من الاختلاف، أو وضعهافي غير مواضعها، أو الخلط بين ما هو مطلق وما هو نسبي من الحقيقة، وقد كانت هذه التيارت وما تزال من أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية لما تحمله أطروحاتها من دواعي الفتنةوالتناحر ولما تجسده ممارساتها من حجر على الفكر وكبت للحريات. وقد أحسن الدكتور يوسف القرضاوي في وصف فئة من هذه التيارات حين قال في كتابه، (الصحوة الإسلامية بينالاختلاف المشروع والتفرق المذموم): 'ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناساً لا هَمّ لهم إلا الجدل في كل شيء وليس لديهم أدنى استعداد لأن يعدلوا عن أي رأي من آرائهم،وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون، فهم على حق دائماً، وغيرهم على باطل أبداً. منهم من يجادل في كلمات أعطاها اصطلاحاً خاصا خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزمالآخرين برأيه مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في اصطلاح. ومنهم من يذم التعصب للمذاهب، وهو يقيم مذهباً جديداً، يقاتل الآخرين عليه! ومن يحرم التقليد ويطلب من الناس أنيقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلد بعض المعاصرين! ومن يقيم معركة من أجل مسائل فرعية، وجزئية، اختلف السلف فيها وفي أمثالها، ولم تعكر لعلاقاتهم صفواً'.

والمتأمل في حال هذه الفئات يجد أن تأثرها (وهو تأثر غير شعوري) بالعراف والتقاليد أكثر من تأثرها بالأحكام الشرعية. وطالما عجبت لحماس كثير منهم وتشنجه في الإنكار علىمخالفيه في مسائل مثل الموسيقى وغطاء وجه المرأة في حين لا يكترث باختلاف المسلمين في أركان الصلاة وواجبات الحج وبعض الأحكام الكبرى في الدين. والسبب الرئيسي، في نظري،لمثل هذه المواقف هو قلة الفقه بوجه عام، وقلة الفقه بما يمكر أن يطلق عليه 'فقه الاختلاف' بوجه خاص ومن المحزن أن تكون هذه حال المسلمين، وموروثهم الفقهي زاخر بالمصنفاتالتي أفردت لقضايا الاختلاف وشرح أسبابه ودواعيه وتاريخهم في كثير من جوانبه هو في حقيقة الأمر ثمرة من ثمرات الاختلاف.

ولئن كان الفقه العام متيسرا للجميع، فإن فقهالاختلاف أمر دقيق يحتاج إلى عناية خاصة، فعلى الرغم من كثرة المصنفات التي تطرقت إلى الاختلاف ومسائله فإن القليل القليل منها الذي قدم تأصيلاً له وبلور تصوراً شاملاًللموقف منه، إذ اكتفت معظم المصنفات بذكر أسباب الاختلاف وسرد مسائله وبعض آدابه، دون تنظير فلسفي وتأصيل فقهي له.

إن فقه الاختلاف، في نظري، يتكون من ثلاثة جوانبرئيسة: الأول: جانب تصوري عقدي يحرر الموقف الفكري والفلسفي للإسلام تجاه الاختلاف سواء من حيث تحليل الدواعي والأسباب، أم من حيث تقرير المقاصد والغايات. والثاني: جانبفقهي تشريعي يؤصل الضوابط والحدود للاختلاف ويرسى المبادىء والأصول العامة له ويبين حقوق المختلفين وواجباتهم. والثالث: جانب أخلاقي يرسم المسار السلوكي للاختلافويحدد القيم والمثل التي يجب أن تحيط به.

وغني عن القول أن حاجة الأمة لهذا النوع من الفقه اليوم هي أعظم من أي وقت مضى، وهذه الدراسة محاولة متواضعة وجهد مقل للإسهامفي هذا الجانب، وهي في حقيقة الأمر بداية تثير من القضايا أكثر مما تقدم من الحلول، وتطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات.

الاختلاف العام

لا يسع المتأمل فيالنصوص القرآنية إلا أن يدرك أن الاختلاف سنة من سنن الوجود، وسر من أسرار الحياة. بل لا يسعه إلا أن يدرك أنه النتيجة الطبيعية لحرية الاختيار التي منحها الله عز وجل لكلإنسان وجعلها مرتكزاً للابتلاء في الحياة الدنيا. وقد عد الله عز وجل الاختلاف آية من آياته التي يُهتدى بها إليه فقال: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكموألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين)(سورة الروم آية 22) وجعله في آية أخرى غاية من غايات الخلق: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك،ولذلك خلقهم)(سورة هود الآيتان 18، 19) وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله عز وجل ولذلك خلقهم، فمنهم من ذهب إلى أن المقصود للاختلاف خلقهم وهو مروى عن الحسن البصري. وقالالإمام مالك: خلقهم ليكونوا فريقين (فريق في الجنة وفريق في السعير) وعلق الفخر الرازي على الآية بتفصيل فقال: قال تعالى (ولذلك خلقهم) وفيه ثلاثة أقوال: (القول الأول) قالابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه: الأول أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلىأبعدهما، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما. والثاني أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كانوامطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقاً لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال:ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم، قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً، فكان محمولا على الفضل والغفران كقوله (هذا رحمة ربي)، وقوله (إن رحمة ربي قريب من المحسنين)،(والقول الثاني) أن المراد وللاختلاف خلقهم. (والقول الثالث) وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهلالرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا (انتهى كلام الرازي).

والذي أراه ولم أجده عند أحد من المفسرين هوأن المقصود لتكون لهم حرية الاختلاف والقدرة عليه.

ومهما تكن الحال فإن للإسلام تصوراً شاملاً للاختلاف في مستواه الإنساني العام. وهو إن لم يحرر في دراسة مستقلة إلاأن استجلاءه متيسر من خلال كليات الإسلام ومبادئه العامة. ومن أهم الأصول التي يمكن أن يبنى عليها التصور الإسلامي للاختلاف على المستوى الإنساني ما يلي:

1_ أنالاختلاف سنة كونية من سنن الله عز وجل في الوجود، وسر من أسرار الحياة التي لا يمكن أن تتصور بدونها، كما لا يمكن تصور زوالها في الحياة الدنيا إلا بمعجزة إلهية.

2_ أنالاختلاف جزء من الابتلاء الإلهي للانسان في الحياة الدنيا، سواء أكان ذلك من خلال ما أودعه الله في طبائع الناس من اختلاف القدرات والملكات وما منحهم من حرية الاختيار،أم من خلال ما نتج عن ذلك من اختلاف الملل والنحل ومناهج النظر والاستدلال والمعارف والعلوم.

3_ أن حق الاختلاف مكفول للناس أجمعين ما لم يصدر عنهم بغي بأي صورة منالصور. والأصل في ذلك حرية الدين التي أقرها الله عز وجل للناس أجمعين، والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصى في مثل هذه العجالة.

4_ أن المعيار لاحترام الرأي المخالف هوالتجرد من الأهواء وبذل الوسع في طلب الحق واجتناب البغي بكل صوره.

5_ أن أمر من لم تبلغه الرسالة موكول إلى الله عز وجل. وظننا أن الله لن يعذبه إذا كان متجرداً منالأهواء غير باغ وكان قد بذل وسعه في طلب الحق والأصل في هذا قول الله عز وجل: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء:15) وقد ذهب إلى هذا الإمام أبو محمد ابن حزم في 'الأصولوالفروع' حيث قال بعد أن أورد هذه الآية وقوله تعالى: (لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد) (سورة الأنعام:19)، قال: 'فنص اللهعلى أن النذارة إنما تلزم من بلغته وأنه عالى لا يعذب أحد إلا بعد إرسال الرسل، فصح بهذا أن من لم تبلغه الدعوة إما لانقزاح مكانه، وإما لقصر مدته إثر مبعث النبي (ص)، فإنهلا عذاب عليه ولا يلزمه شيء، وهذا قول جمهور أصحابنا.

6_ أن كل رأي غير إسلامي مناف لما نعتقد هو ابتلاء من الله عز وجل لصاحبه أولا، وللناس، ونحن منهم، ثانيا وواجبناتجاه صاحب هذا الرأي أن نبذل الوسع لتبيان الحق له بأحسن السبل التي نستطيعها.

7_ أن نظرتنا إلى مخالفينا في أمور الدين هي نظرة إشفاق ورغبة صادقة في هدايتهم إلى الحقوالخير، وهي نظرة نابعة من الشعور بالأخوة الإنسانية والمسؤولية الرسالية.

8_ أننا مأمورون شرعاً ببذل الوسع لإبلاغ الناس ما نعتقد أنه الحق، والواجب أن يكون إبلاغنابالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والأصل في هذا قول الله عز وجل: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وقوله عز وجل: (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).

هذه جملة من الأصول الفكرية العامة التي يجب أن تحكم اختلافنا مع غيرنا من غير المسلمين، ولا شك أن هناك أصولاً كثيرة غيرها،ولكن القصد هنا هو تبيان الخطوط العامة والمعالم الكبرى.

اختلاف المسلمين فيما بينهم:

اختلط على كثير من المسلمين موضوع الاختلاف فلم يفرقوا بين الاختلاف الذينهت عنه النصوص، والاختلاف الذي لا مندوحة عنه والذي هو ضرورة بل رحمة في هذا الوجود، وقد نشأ هذا الخلط في نظري نتيجة لخلط آخر بين الرأي الناتج عن الهوى أو الذي لا يستندإلى دليل أو برهان، والرأي الناتج عن اجتهاد منضبط بالأصول الشرعية للاجتهاد. ومعلوم أن الإسلام وإن كان قد نهى عن الاختلاف الأول وغلظ القول في الزجر عنه، بل عده عملاًمن أعمال الكفر، فإنه نهى عن التقليد وحذر منه وعده عملاً من أعمال الكفر أيضا في بعض الأحيان وأوجب في المقابل الاجتهاد وجعله فرضا كفائياً وعينياً حسب الأهليةوالقدرة.

وقد كان التطبيق العملي في حياة المسلمين دليلاً أبلغ على موقف الأمة من الاختلاف. فقد أجمعت جماهير المسلمين على مر العصور على قبول تعدد آراء الأئمةالمجتهدين، فتعددت مدارس المفسرين والمحدثين والأصوليين والفقهاء، بل تعددت مدارس النحاة والأدباء والمؤرخين وغيرهم. غير أن ذلك لم يمنع عدداً من المسلمين من الانزلاقفي مزالق عدم التفريق بين الاختلاف المذموم والاختلاف المحمود، فأنكروا على مخالفيهم وتمادى بعضهم في ذلك ففسق قوما وكفر آخرين ومن المؤسف أن عدداً من كبار الأئمة الذينأبدعوا في التنظير للاختلاف وتأصيله، وقعوا هم أنفسهم، عند التطبيق، فيما يخالف أصولهم. فهذا ابن حزم رحمه الله على الرغم من تأصيله الرائع لمسائل الاجتهاد في كتابهالنفيس 'الأحكام في أصول الأحكام'، وتأكيده المتكرر على وجوب الاجتهاد وذم التقليد وعلى عذر المجتهد المخطىء وكونه مأجوراً، بإذن الله، بنص الحديث، فإنه قلما التزم بهذاالأصل مع من خالفه الرأي من المجتهدين، بل كثيراً ما شنع عليهم وقسا في نقدهم وتجريحهم. وإذا كان هذا حال الأئمة الكبار فمن باب أولى أن يقع في هذه المزالق من هم دونهم، علىأن هذه الحقيقة المرة يجب أن لا تكون مبرراً للخطأ وإنما حافزاً للعمل على تجنبه.

وإذا التزمنا بما ذكرناه في بداية هذا البحث من مكونات فقه الاختلاف، فإن أول ما تجبالعناية به في فقه الاختلاف على المستوى الإسلامي، هو بلورة تصور فكري لاختلاف المسلمين فيما بينهم. وأهم الأصول العامة التي يجب أن تراعى في ذلك هي ما يلي:

1_ أنالاختلاف كما كان سنة ماضية في الخلق وناموساً من نواميس الوجود، فهو كذلك ماض في المسلمين في معظم شؤون حياتهم.

2_ أن الاختلاف نوعان: نوع مذموم وهو ما كان نتيجة للهوىوالقول بغير علم، أو ما كان متضمناً بغياً بأي صورة من الصور. ونوع محمود وهو ما كان نتيجة للاجتهاد المنضبط بجميع مستوياته.

3_ أن من القضايا ما لا يجوز الاختلاف فيه،ومنها غير ذلك. وما لا يجوز الاختلاف فيه هو جملة الأمور القطيعة الثبوت القطيعة الدلالة وكل معلوم من الدين بالضرورة مما لا يحتمل إلا رأيا واحداً. أما ما سوى ذلك فهو محلاجتهاد ونظر واختلاف، واختلاف الآراء فيه سائغ. وقد أوسع الإمام الشافعي رحمه الله هذه المسألة بحثا في الرسالة. ومما قاله في ذلك: قال: 'فإني أجد أهل العلم قديما وحديثامختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال قلت: فقلت له الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، ولا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة فيكتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويُدرك قياسا، فذهب المتأول أو القالس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس،وإن خالف غيره لم أقل أنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص. قال فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين؟ قلت: قال الله في ذم التفرق: (وما تفرق الذين أوتوا العلم إلا منبعد ما جاءتهم البينة)، وقال جل ثناؤه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات)، فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات. فأما ما كلفوا فيه الاجتهادفقد مثلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها. قال فمثل لي بعض ما افترق عليه من روى قوله من السلف، مما لله فيه نص حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟ قلت: قل مااختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله وسنة رسوله، أو قياسا عليهما، أو على واحد منهما'.

4_ أن الاجتهاد في طلب الحق فرض على جميع المسلمين كل حسباستطاعته وهو بالنسبة لأصحاب الأهلية الفقهية إما أن يكون اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً ترجيحياً أو اجتهاداً جزئياً. وبالنسبة لغير أصحاب الأهلية الفقهية يكوناجتهاداً في اختيار الفقيه المقلد. ولابد هنا من التفريق بين مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد فليست كل مسائل الخلاف من مسائل الاجتهاد، بل كثير من مسائل الاختلاف إنمانشأت على غير دليل إما لهوى أو لقلة علم.

ان المجتهد إذا تجرد وبذل وسعه في طلب الحق فإنه مبرىء لذمته مأجور على اجتهاده، له أجران إن أصاب وله أجر إن أخطأ. والأصل فيذلك قول الرسول (ص): 'إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر' وقد علق ابن حجر رحمه الله على هذا الحديث في فتح البارى فقال: 'قوله (أيالإمام البخاري) (باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) يشير إلى أنه لا يلزم من رد فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر فإن أصاب ضوعف أجره. وهذا هوما ذهبت إليه جماهير الفقهاء على مر العصور' ولابد من التنبيه هنا إلى أن الخطأ المشار إليه هنا هو الخطأ في الوصول إلى الحق. أما من حيث الاجتهاد فإن المجتهد مصيبباجتهاده في الحالين سواء وفق إلى الحق أم لم يوفق.

6_ أن التجرد وبذل الوسع في طلب الحق لا يؤديان بالضرورة إلى معرفة الحق دائماً، فقد يتجرد الإنسان ويبذل وسعه ولايوفقه الله إلى الحق لحكمة يراها.

7_ أن الحقيقة المطلقة هي من علم الله عز وجل وحده. وما نقطع به منها هو ما جاء به الوحي القطعي الثبوت القطعي الدلالة. وما سوى ذلك فليسمبنياً إلا على غلبة الظن ورجحان الدليل.

8_ أن اختلاف المسلمين فيما يسوغ الاختلاف فيه هو في جانب ابتلاء لهم، وفي جانب آخر رحمة لهم، وهو ابتلاء لما يشكله من تحدمعرفي ومعاشي، وهو رحمة من حيث عدم المؤاخذة على الخطأ فيه ولما فيه من توسيع عليهم.

9_ أن أهلية الاجتهاد قد تكون مطلقة، وقد تكون للترجيح بين المذاهب، وقد تكون فيالمذهب الواحد أو المسألة الواحدة. ومن المؤسف أن التصور الإسلامي للاجتهاد لدى كثير من المسلمين المتأخرين قد تشوه حتى أصبح لا يرى من الاجتهاد إلا الاجتهاد المطلق،وأصبح لذلك كل اجتهاد صادر عن غير مجتهد مطلق اجتهاداً مرفوضاً غير معترف به، بل انحرافاً يجب محاربته.

هذا في الجانب الفكري التصوري، أما في الجانب الفقهي التشريعيوهو المتعلق بما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم في مسائل الاختلاف، فإن أهم ما يجب أن يراعى هو المسائل التالية:

1_ أن الاجتهاد في طلب الحق فرض عين على كل مسلم حسبالاستطاعة وفي نطاق الأهلية الاجتهادية بمعناها الواسع.

2_ أن المجتهد ملزم بما أداه إليه اجتهاده وإن كان مخالفاً لكثيرين غيره. فإن كان مجتهداً مطلقاً فلا يجوز لهالتقليد بأي حال من الأحوال وإلزامه بمقتضى اجتهاده أشد من غيره. وإن كان مرجحاً فهو ملزم بترجيحه، وإن كان مقلداً فهو ملزم بفتوى من يقلد. قال الشاطبي رحمه الله فيالموافقات: 'فأما المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه' وقال ابن حزن رحمه الله في الإحكام: 'فإذا قام البرهان عند المرء على صحة قول ما _قياماً _فحقه التدين به، والفتيا به، والعمل به، والدعاء إليه، والقطع أنه الحق عند الله عز وجل' ولا يستثنى من ذلك إلا الحالات التي يرى الحاكم المسلم فيها حمل الأمة على أحدالآراء في مسألة من المسائل لمصلحة عامة. فعندئذ يسقط عنه الإلزام خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بعبادة جماعية أو معاملة عامة.

3_ لا يجوز الإنكار ولا التشنيع علىالمخالف فيما يجوز الاختلاف فيه مهما كان واضحاً للآخرين خطأ المخالف، ذلك أن الخطأ في الاجتهاد لا يستدعي المفارقة ولا التفسيق ولا التكفير مهما كان ذلك الخطأ، لعمومالنصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله عز وجل: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)، وقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: 'رفع عن أمتى الخطأ والنسيانوما استكرهوا عليه'. قال ابن حزم: 'فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ، وهو عند الله تعالى خطأ، فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ، فهذا لا جناح عليه في ذلك عند اللهتعالى. وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون، فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به، مما هم مخطؤون فيه، وصح أن الجناح إنماهو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بما يدري أنه ليس حقاً، أو بما لم يقده إليه دليل أصلاً'.

4_ أن الحكم على المسلمين هو على ظواهرهم فقط، أماالنيات فعلمها عند الله عز وجل وهو الوحيد المطلع عليها. وليس من واجب المسلم ولا من حقه أن يسعى لاستكشافها.

5_ الاختلاف المعتبر له أسباب كثيرة ذكرها عدد من الأئمة فيمصنفات مستقلة أو ضمن مصنفاتهم الأصولية. ومن جوهر فقه الاختلاف الدراية بهذه الأسباب.

6_ من أخطر وأهم ما واجهه المسلمون على امتداد تاريخهم الطويل ظاهرة التكفيرالذي هو آخر مرحلة من مراحل الاختلاف بين المسلمين. وقد انزلق كثير من المسلمين في هذا المنزلق الخطير على الرغم من تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام لأمره وتحذيرهم منهفي حق المسلم، وعلى الرغم من تأكيدات العلماء على خطورته وحثهم على عدم التسرع فيه. ولا يزال الفقه الإسلامي في نظري مقصراً في تحرير هذه المسألة سواء من حيث تحديد مايكفر به المسلم، أم من حيث تحديد ضوابط التكفير ومعاييره، ولئن كان كثير من العلماء قد فرقوا بين إطلاق الكفر على القول أو الفعل وبين تكفير صاحبه، وذهبوا إلى أن الجزمبالأول لا يؤدي بالضرورة إلى الجزم بالثاني، فإن المسألة لا تزال في كثير من الأحيان عائمة غير منضبطة.

والذي يهمنا في هذا المجال تبيان أمرين: الاول: أن المجتهد إذاأداه اجتهاده إلى أمر كفري وهو لا يعلم أنه كفر، فإنه لا يكفر بذلك، وإنما يعد من الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه بنص الشرع. والثاني: أن جماهير العلماء متفقة على عدم تكفير أحدمن أهل القبلة بذنب أو خطأ.

أخيراً إن من فقه الاختلاف معرفة الآداب الإسلامية الواجبة في الحوار والجدل بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغيرهم. فهي من مكارمالأخلاق التي بعث النبي عليه الصلاة والسلام ليتممها. وليس من المبالغة القول ان جزءاً كبيراً من اختلاف المسلمين وفرقتهم إنما نشأ بسبب عدم أو قلة التزامهم بأدب الحواروالجدل. وإن مستقبل المسلمين، في نظري، مرهون إلى درجة كبيرة بمدى قدرتهم على إدارة خلافاتهم بالأسلوب الذي يرتضيه ويقرره الإسلام وعلى الأسس الشرعية المعتبرة. ولنيتحقق ذلك بنشر فقه الاختلاف فقط في أوساطهم والتواصي فيما بينهم بالالتزام به.



* المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 60 يوليو 1991

/ 1