المثالية الغربية
عبد المجيد النجار كلالة النفس
قال الله تعالى: (وَضَربَ اللهُ مَثَلاً رَجُلين أحَدُهُما أبكمُ لا يقدِرُ على شيءوَهُوَ كَلٌ على مولاهُ أينما يُوجِههُ لا يأتِ بخيرٍ هل يستوي هُوَ وَمَن يأمرُ بالعدل وهو على صِراطٍ مستقيم) (النحل: 76)، وهو مثل ضرب لنوع من الخلل في إرادة الإنسان،وعُبّر عنه بالكلالة، وقد قال الرازي في شرحه: 'كل فُلان عن الأمر إذا ثَقُل عليه، فلم ينبعث فيه' وقال الزمخشري: 'كلٌّ على مولاه، أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله'فالكلالة إذن تجمع بين معنى الوهن في الإرادة، وبين معنى الاتكال على الغير في تحقيق الشؤون المتعلقة بخاصّة النفس، وهو خلل في الإرادة يتجاوز مجرد الفتور الذي بيّناهآنفاً. وحينما نتأمّل واقع المسلمين اليوم نقف على مظاهر متعدّدة من الكلالة والاتكالية تتّخذ أحياناً أشكالاً فردية، وتتّخذ أحياناً أخرى أشكالاً جماعية. وربماتكون التربية الأسرية في العديد من الاوساط الإسلامية أقرب مظهر من تلك المظاهر، حيث يُربّى الأولاد في نطاق الأسر الموسّعة على أن تقوم الأسرة بشؤونهم إلى مرحلةمتأخّرة من أعمارهم قد تتجاوز أحياناً سنّ الزواج، فإذا هم يتشرّبون الاتكالية فتصبح لهم خلقاً في مستقبل حياتهم، ينسحبون بها من تحمّل المسؤولية في المجتمع كما سُحبوافي تربيتهم من تحمّل المسؤولية في أسرهم.
ومن مظاهر الكلل في الواقع الإسلامي ما هو متمثّل في الفرق الصوفية الواسعة الانتشار في كثير من البلاد الإسلامية، وذلك فيمايعرف بالطرق التي يتقدّمها شيخ أكبر، وتحت إمرته شيوخ أصغر في دوائر وحلقات متسلسلة ينتظم الأتباع فيها بحيث ينضوي الجميع تحت إمرة الشيوخ، ويربّى هؤلاء الأتباع تربيةتُسلب فيها إرادتهم إلى حدّ كبير ليصبح الشيخ هو المتصرّف فيهم أمراً ونهياً، وليصبحوا هم عيالاً عليه فيما يرون وفيما يفعلون، لا تصدق لهم من ذواتهم عزائم إلا أن يعودواإلى شيوخهم، وقد يتجاوز ذلك الشؤون الشخصية إلى معرض الشؤون العامّة التي يشاركون بها في الحياة الاجتماعية، فإذا بالجموع الكثيرة من الناس تقصر إراداتهم عن أن يبرمواأمراً أو ينقضوه، وعن أن يقوموا بفعل أو ينتهوا عنه إلا أن يكونوا فيه عالة على شيخ الطريقة، فتصبح إذن جموعاً كلّة لا تكون منها مبادرة، ولا تكون في أعمالها فعالية تذكر.وفي بعض البلاد الإسلامية تكاد تقوم الحياة العامّة كلها بما فيها الحياة السياسية على هذا النمط من الكلالة الصوفية التي تؤثّر تأثيراً بيّناً في إنجاز الاعمال الذييتوقّف بدرجة كبيرة على قوّة الذات، ومبادرة الفرد وفعاليته.
وفي الحياة السياسية في العالم الإسلامي تبدو ظاهرة الكلالة خاصية من خصائصها، حيث تنسحب الجموعالعريضة من الناس من ساحة المشاركة في هذه الحياة لتلقي بزمام نفسها إلى زعماء الأحزاب فيها، أو إلى القيّمين على شؤون الحكم ليدبّر هؤلاء كل شيء في الشؤون العامّةللأمّة دون أن يكون لهذه الجموع رأي يذكر في تلك الشؤون، لا من حيث التشريع، ولا من حيث التنفيذ، ولا من حيث المراجعة والتعديل، بل تراها في كثير من الاحوال تُستخفّ فتطيعفيما يشبه أن تكون مسلوبة الإرادة، مستقيلة من المشاركة السياسية الحقيقية التي يكون لها فيها رأي تتحمّل مسؤوليته، وموقف تغيّر به مجرى السياسة العامّة نحو ما فيهالمصلحة. ولك أن تأخذ مثلاً في ذلك كيف أن عديداً من البلاد الإسلامية تبنّى فيها حكّامها المنهج الاشتراكي فانساق الناس وراءهم، ثم في لمح بصر وقع التخلّي عنه إلى ضدّهمن المنهج الليبرالي فانساق الناس وراءهم أيضاً دون أن يكون لهم موقف ذو بال في هذا ولا ذاك. وهكذا تترك الشعوب أمر نفسها إلى زعامات أو حكّام يفكّرون لها، ويوجّهونهاالوجهة التي يريدونها لا التي تريدها هي، ثم هي تثقل عن أن ترى ما تريد أو تفعل ما تريد.
ومن مظاهر الكلالة النفسية المتفشّية في كثير من المجتمعات الإسلامية ذلكالمظهر من الاتكالية الاجتماعية على الدولة، حيث يلقي المجتمع بمسؤولياته كاملة على الدولة، يطلب منها أن تقوم هي عنه بكل ما من شأنه أن يقوم هو به، فإذا هو ينسحب منميدان الأفعال الخيرية، وواجبات التكافل الاجتماعي، ومهمّات المراقبة العامّة والإِشراف التربوي ليلقي بها جميعاً على عاتق الدولة ويكون عيالا فيها عليها. وقد تمتدّهذه الاتّكالية الاجتماعية من الأسرة في واجبات تضامنها وتكافلها إلى المجتمع الأكبر في مهامّ تكافله وإشرافه، مروراً بجميع الحلقات بين الطرفين ليلقي الجميع بذلك علىعاتق الدولة تقوم به عوضاً عنهم. ولا شكّ أن ما يسمّى بالدولة الحديثة في العالم الإسلامي كان لها من شراهة التسلّط، ومن الرغبة في إحكام السيطرة على الشعوب ما توهّمت بهوأوهمت الناس أنها القادرة على القيام بكل شؤونهم، وأنها الكفيلة بالنيابة عن المجتمع في أداء كل واجباته، ومن ثمّة سلبت من المجتمع صلاحياته ومهامّه أحياناً بقوّةالقانون، وأحياناً بالإيهام والترغيب، فتكوّنت من ذلك في عديد من البلاد الإسلامية صفة من التخلّي عن الدور الاجتماعي في الترقية المادية والاجتماعية، وإيكال الأمركله في ذلك إلى الدولة، فإذا هي إرادة اجتماعية كليلة قاصرة عن أن تدفع إلى النمو والرقي.
إن هذه المظاهر المختلفة الفردية والجماعية تلتقي كلها عند خلل إرادي فيالأمّة يصيب فيها عزمها على أخذ أمورها بيدها في مستوى المجتمع لتتقاعس عن القيام بتلك الأمور، وتثقل عنها، ثم تلقي بها عالة على شيخ أو زعيم أو حاكم أو حزب، فإذا هيكلالة لا تأتي بخير كما وصفها القرآن الكريم؛ ذلك لأن حركة الإنجاز والتقدم لا يمكن أن يصنعها إلا الإرادة الجماعية المسؤولة التي تمتلك فيه الجموع زمام المبادرة،وتتحمّل فيها أمر نفسها، فتشترك بفاعلية في القرار، ثم تشترك بفعالية أيضاً في الإنجاز. أما الزعماء والنخب القليلة فإنهم حينما تُسلم الشعوب إليهم أمرها وتستقيل منمواقع القرار والإنجاز لا يقدرون أن ينجزوا شيئاً. وهذه هي حال المسلمين في واقعهم الراهن.
المصدر : عوامل الشهود الحضاري