الغزالي وقوله بقدم الكلام النفسي ووحدته وقيامه
فاطمة أحمد رفعت بذات البارى خلافا للمعتزلة
إذا كان الغزالي قد أثبتلله كلاماً نفسياً، فقد ذهب أيضاً إلى إثبات قدم هذا الكلام واعتبر الألفاظ والحروف حادثات دالة على هذا الكلام، وهنا نراه يواجه نفس المشكلة التي كثيراً ما واجهها فيبحثه للصفات، ونعني بها مشكلة اتصال الحادث _وهو هنا الالفاظ والحروف، بالقديم _ وهو الكلام النفسي القائم بذات الله. فمثلاً نرى الغزالي في محاولة له لرد دعوى خصومهمن المعتزلة القائلين بحدوث الكلام _إذ لم يثبتوا من الكلام إلا الألفاظ والحروف منكرين الكلام النفسي_ نقول إن الغزالي يلجأ إلى رد ذلك مستخدما نفس المسلك الذي سبق أنسلكه وسلكه من قبله أئمته في تفسيرهم لاتصال الحادث بالقديم، إذ يرى أنه لما كان العالم حادثاً وهو يشير في نفس الوقت إلى صانع قديم، ولما كانت دلالة العالم، وهي الحدوث،على مدلوله، وهو قديم، هي دلالة ذاتية تدل على ذات الصانع، فانه من الأولى أن تدل الحروف وهي حادثة على صفة قديمة وهي الكلام النفسي، علما بأن دلالتها إصطلاحية وليستبذاتية كالعالم.
أيضاً يناقش الغزالي دعوى خصومه من الفلاسفة والتي تقضي باستحالة سماع موسى لكلامه تعالى ما دام الغزالي وأئمته قد أثبتوا لله كلاما نفسياً قديماً،تماماً كما أثبتوا حدوث الألفاظ والحروف الدالة على هذا الكلام، فكيف سمع موسى إذا كلام الله وهو قديم؟ أسمع أصواتاً وحروفاً وهي حادثة، ومن المحال باتفاق قيام الحادثبالقديم؟ أم أنه لم يسمع أصواتا ولا حروفا؟ وفي كلتا الحالتين فانه فيما يذكر الفلاسفة _لم يسمع كلام البارى، لأنه ان كان قد سمع أصواتا وحروفا فهي ليست بكلام الله، وانلم يسمع أصواتا ولا حروفا فكيف يمكنه سماع ما ليس بحرف ولا صوت.
والواقع أننا نرى من جانبنا متفقين في ذلك مع الغزالي وأساتذته من الأشاعرة أن قياس الفلاسفة للغائبعلى الشاهد هو ما تأدى بهم إلى انكارهم لتكليمه تعالى موسى (س). وقد إستطاع الغزالي وأئمته جميعا أن يجدوا إلى حد ما حلا مناسبا لهذه المشكلة عن طريق ابطالهم لقياس الخصومللغائب على الشاهد.
فالغزالي يذهب إلى أنه من الصعوبة الاجابة على سؤال الفلاسفة جوابا مقنعا، إذ أن ذلك يتضمن استحالة هي أن كلام الله لا يشبه شيئا من مسموعات موسىالتي هي أصوات، وليس هو بصوت. والتقريب بالتشبيه يعد فيما يرى الغزالي غير مفيد للاقناع في مثل هذه الحالة. إذ أن سؤلهم يعد سؤالا في كيفية ما لا كيفية له، فضلا عن أنالاستحالة القائمة في السؤال والجواب لا تنفى وجود كلام الله تعالى الذي هو صفة قديمة.
ويضيف الغزالي متابعاً إمامه الأشعري بأن موسى قد سمع كلام الله وهو وصف قديمقائم بذاته تعالى ليس بصوت ولا حرف، وكما ترى ذاته تعالى رؤية تخالف رؤية الجسام والاعراض، فان موسى سمع كلامه سماعا يخالف الاصوات والحروف.
والغزالي في ذلك يتفقتماما مع ما ذهب إليه شيخه الاشعري ومن حذا حذوه من الاشاعرة في جواز رؤية ما ليس بجسم وسماع ما ليس بصوت عن طريق خرق العادة.
فاذا كان المعتزلة قد أنكروا الكلامالنفسي وذهبوا إلى أنه سبحانه يتكلم بكلام زائد على ذاته غير أنه غير قائم بذاته لانه يعد متكلما باعتبار فعله للكلام لا باعتبار قيام الكلام به، إذ الكلام مؤلف من أصواتوحروف، وهي حادثة، وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث. ولكنه تعالى يخلق كلامه في محل آخر كأجسام الجمادات ويكون هو المتكلم به. وعليه فالكلام عند المعتزلة يعد صفة فعلية لا صفةنفسية. فيما أثبته الغزالي والأشاعرة، ومن ثم كان حادثا أن يكون حادثا لأنه لو كان قديماً لأدى إلى إثبات قديمين فضلا عن أفضائه إلى الكذب في الخبر في قوله تعالى (إناأرسلنا نوحا إلى قومه)، إذ الخبر قديم والمخبر عنه محدث.
ويرد الغزالي على المعتزلة مبطلا لقولهم باستحالة قيام الكلام بذات البارى قائلا بأنه تعالى يعد متكلماباعتبار كونه محلا للكلام، لا غيره من أجسام الجمادات إذ لا فرق بين قولنا ليس بمتكلم وبين قولنا لم يقم بذاته كلام، فان صدق على الله قولنا: لم يقم بذاته كلام، صدق قولنا:ليس بمتكلم لأنهما عبارتان عن معنى واحد'.
ومن ثم فالكلام الثابت للبارى سبحانه هو -فيما يذكر الغزالي _ الكلام النفسي وهو قديم قائم بذاته تعالى ليس بصوت ولا حرفوإنما الأصوات والحروف الحادثة هي دلالات عليه، وهو سبحانه يعد متكلما بكلام زائد على ذاته لا بمجرد الذات.
أيضاً يرد الغزالي على دعوى المعتزلة المخالفين _في كونالكلام قديما وفيه أخبار عما مضى، وكيف يكون الخلق به مأمورين منهيين في الأزل ولم يخلق سبحانه الخلق _فيعالجها بمثل ما سبق وعالج به مشكلة إتصال علم الباري القديمبالمعلومات الحادثة، إذ يقول: 'الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده، وهذا العلم صفة واحدة مقتضاها في الأزل العلم بأن العالم يكون من بعد، وهذه الأحوالتتعاقب على العالم، ويكون مكشوفا لله تعالى تلك الصفة وهي لم تتغير، وإنما المتغير أحوال العالم'.
فالأزمنة تعد _فيما يرى الغزالي _ واحدة بالنسبة لله. إذ لا فرق عندهبين ما كان وما يكون وما سيكون ان لو كان كيف كان يكون. ومن هنا كان الكلام بذات الباري وان أخبر عن الماضي لا ينتفي قدمه، لأنها أخبار متعلقة بالمخبر وهو الباري سبحانه،والأوقات والأحوال بالنسبة إليه تعالى واحدة، وإنما الذي إختلف باختلاف الأحوال هو اللفظ الدال على كلام النفس القديم القائم بذاته سبحانه.
فالمدلول إذن قديم،والدال _وهو الألفاظ، حادث، ولذلك جاز مخاطبه المعدوم في حالة العدم على إقتضاء الوجود، ما دام وجوده _فيما يشير الغزالي _ ممكنا وليس مستحيلا.
ويضيف الغزالي أنالبارى سبحانه علم أن المعدوم سيوجد، فاذا كان تعالى قادراً قبل وجود المقدور _على ما ذهب المعتزلة، جاز أن يكون آمرا ناهيا قبل وجود المأمور والمنهى. وعليه لا يشترطالغزالي كون المأمور موجودا حال الامر، بل يشترط كونه معلوما _ أي معلوم الوجود، إذ لا يتصور أمر من يعلم إستحالة وجوده، وذلك لأن 'خلاف المعلوم محال وقوعه، ولكنه ليسمحالا لذاته، بل هو محال لغيره، والمحال لغيره في إمتناع الوقوع كالمحال لذاته'.
ويفصل الغزالي ذلك موضحاً أن المعتزلة، إذا كانوا قد إستبعدوا كون الكلام قديما، وهويتعلق في الوقت نفسه بالامر والنهي، ولا مأمور ولا منهى في الازل، فان إستبعادهم هذا كان سببه _فيما يذكر الغزالي _ تقديرهم الكلام صوتا وأحرفا فقط، وأنه لا سبيل إلى رد ماذهبوا إليه في هذا الشأن إلا بافهامهم الكلام النفسي، وهو يختلف إختلافا بينا عن الكلام باعتباراته الإنسانية (الامر والنهي والخير). وهذا الكلام مؤداه، القول بأنه يقومبذات البارى خبر عن إرسال نوح، يكون معناه قبل إرساله: انا نرسله، وبعد ارساله: انا أرسلنا. ويكون اللفظ مختلفا باختلاف الاحوال، أما المعنى القائم بذات الله، وهو حقيقةالخبر من حيث تعلقه بمخبر ذلك الخبر _وهو ارسال نوح في الوقت المعلوم _ فلا يختلف. أيضاً فقوله تعالى (إخلع نعليك)، هو لفظة تدل على الامر، ومفهوم الامر أنه اقتضاء وطلبيقوم بذات الآمر، ولا يشترط قيامه بذات الآمر أن يكون المأمور موجودا، ولكن يجوز أن يقوم بذاته قبل وجود المأمور، فاذا وجد كان مأمورا بذلك الاقتضاء، دون أن يتجدد إقتضاءآخر.
فالغزالي يذهب متابعا أمامه الأشعري فيجيز أن يقوم بذات الله أمر دون وجود المأمور، وهو لا يشترط في ذلك إلاّ كون المأمور معلوم وجوده لله، أما فهم المأمور للأمرفهو ما لا يشترطه الغزالي _خلافاً للمعتزلة إذ يرى أنهم اذا كانوا يجيزون وجود المأمور ولا أمر، فانه يلزمهم من ذلك أن يجيزوا الأمر ولا مأمور.
الواقع أننا نلاحظ أنرأي الغزالي في هذا الصدد يعد متعارضا الى حد كبير، إذ نراه يجيز أحيانا أمر المأمور ولا يشترط أن يكون المأمور فاهماً للأمر. ثم نراه يذهب في موضع آخر الى رأي مخالفتماماً لهذا الرأي، اذ يقرر منتحلا مذهب أهل السنة، أن حقيقة التكليف في نفسه _وهو من أقسام الامر _ أنه كلام، وله مصدر وهو المكلف ولا يشترط فيه سوى كونه متكلما. كما أن لهمورد وهو المكلف ويشترط فيه أن يكون فاهم للكلام، حيث أن تكليف الصبي والمجنون الجماد لا يسمى تكليفا ولا خطابا، لان هؤلاء لا يتحقق فيهم شرط الفهم.
ويرى الغزالي أنالخطاب والتكليف هما عبارتان عن معنى واحد، إذ التكليف هو نوع من أنواع الخطاب. وكما أن للتكليف مصدر ومورد فان له أيضاً متعلق، وهو المكلف به، والغزالي لايشترط فيه سوىأن يكون مفهوماً للمكلف، أما أن يكون المكلف به ممكنا، فهذا ما لا يشترط الغزالي لتحقيق صحة الكلام، اذ التكليف كلام، فاذا صدر الكلام ممن يفهم فيما يفهم مع من يفهم وكانالمخاطَب دون المخاطِب، فانه يسمى بذلك _فيما يقول الغزالي _ تكليفا، واذا كان المخاطَب مثله سمى إلتماسا، وأن كان المخاطَب فوقه سمى دعاءاً وسؤالا. فالطلب أو الاقتضاءفي ذاته يعد واحدا، غير أن الاسماء تختلف عليه باختلاف النسبة.
ونحن بعد ذلك نرى الغزالي يذهب مذهبا آخرا يعد مشابها لرأيه السابق الى حد ما، وفيه يشترط أن يكونالمأمور فاهما لرأي الآمر على سبيل العلم الكشفي لما في نفس الآمر، دون التلفظ بما يدل على الاقتضاء الباطن.
ويوضح الغزالي متابعا أئمته من الأشاعرة _وبخاصة الأشعريبقوله، أن أقسام الكلام من الأمر والنهي والخبر اذا كانت تعد مختلفة فيما بينها، فأنها ليست مختلفة بالذات ولكنها تختلف من جهة تغاير متعلقاتها مما لا ينفي وحدتها.فاختلاف التعبيرات عن الكلام الأزلي، ليس لتعدد في نفسه، بل لتعدد المتعلقات واختلاف الاضافات، وذلك لا يعد تناقضا _فيما يرى الغزالي _ وإنما يوجب التناقض هو التعبير عنالأمر من جهة ما عبر عنه بالنهي، ومن جهة ما عبر عنه بالخبر.
يقول الغزالي: 'كل اختلاف يرجع إلى تباين الذوات بأنفسها، فلا يمكن أن يكفي الواحد منها وينوب عنالمختلفات، فوجب أن يكون العلم غير القدرة وكذلك الحياة، وكذا الصفات السبعة، وأن تكون الصفات غير الذات من حيث أن المباينة بين الذات الموصوفة وبين الصفة، أشد منالمباينة بين الصفتين. وأما العلم بالشيء فلا يخالف العلم بغيره إلا من جهة تعلقه بالمتعلق. فلا يبعد أن تتميز الصفة القديمة بهذه الخاصية، وهو أنه لا يوجب تباينالمتعلقات فيها، تباينا وتعددا'.
فاذا كان كلام الباري وهو الكلام النفسي يعد قديماً فهو والألفاظ والحروف التي هي دلالات عليه حادثة، فهل يعتبر كلامه سبحانهالمكتوب في المصاحف، والمحفوظ في الصدور، والمقروء بالألسنة حالا في تلك الأشياء، وهو قديم وهي حادثة؟
يجيب الغزالي على ذلك بنفس ما أجاب به جميع من سبقوه من مفكريالأشعرية، اذ يرى أن كلام الله سبحانه هو بالفعل مكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور والمقروء بالألسنة، ولكن ليس معنى كونه مكتوبا أو مقروء أو محفوظا، أن يكون حالا فيالمصاحف أو في الصدور أو في الألسنة، بل أن معنى ذلك أنه قد حصل فيها ما هو دال عليه، وهو مفهوم منه ومعلوم. إذ أنه لا يلزم في كتابة اسم الله تعالى أو كلامه النفسي القديمفي المصحف أن يحل سبحانه في المصحف، تماما كما لا تحل النار بكتابة اسمها في الورق أو بالتلفظ به في اللسان.
والغزالي يفرق في هذا المجال بين الدليل، وهو الألفاظوالحروف الدالة على كلامه سبحانه النفسي، وبين المدلول، وهو ذات الكلام. فالحال في المصاحف هو الأصوات والحروف الحادثة والدالة على كلام الله النفسي والقديم، دون ذاتالكلام. وهذا يفسر _فيما يذكر الغزالي _ انعقاد الاجماع على وجوب احترام المصحف وتحريم مسه على المحدث 'إذا الحروف أدلة على ذات الكلام، وللأدلة حرمة، إذ جعل الشرع لهاحرمة، فلذلك وجب احترام المصحف، لأن فيه دلالة على صفة الله تعالى'.
* المصدر:مذهب اهل السنة والجماعة ومنزلتهم في الفكر الاسلامي