د. محمد يوسف موسى
مصدر السيادة في الأمة
الخليفة هو صاحب السيادة في الدولة , بصفته خليفة, لا بصفته الشخصية ما دامت الأمة قد أقامته فيهذا المنصب الاسمي, وذلك ليسوسها بحكم الله وشريعته , ويوجهها الى مافيه الخير والصالح العام, ويدير شئونها بالامانة والعدل, ويقودها الى حياة العزة والكرامة والمجد0 ولكنه مع هذا ليس الا فردا من ابناء الامة التي وكلت أليه امور الدين والدنيا, فصار أكثرهم تبعات وأثقلهم حملا0 ومن ثم, ليس له أن يستبد بالأمر دونهم, ويزعم أنه لا سلطانفوق سلطانه, وأنه مصدر القوة والسلطان والسيادة0
ان الله سبحانه وتعالى يخاطب سيد الناس جميعا بقوله : فذكر انما أنت مذكُر, لست عليهم بمسيطر ' وبقوله : ' نحن أعلم بمايقولون وماأنت عليهم بجبار , فذكر بالقرآن من يخاف وعيد'0
والرسول (ص) يقول لرجل أخذته الرهبة منه فتعثر لسانه بالكلام :' لا تخف فلست ملكا ولا جبارا '0 وعمر بن الخطابيقول لأحد ولاته , وهو أبو موسى الأشعري : ' يا أبا موسى , انما أنت واحد من الناس , غير أن الله جعلك أثقلهم حملا '0
وعمر بن الخطاب هو الذي كان يقول للناس , وقد أحسوا منهشيئا من الغلظة والشدة احيانا في الحق : ' والله ما أنا بملك فأستعبدكم بملك او جبرية , وما أنا الا أحدكم, منزلتي منكم كمنزلة والي اليتيم منه ومن ماله '0
فاذا كانالخليفة, وهو الرئيس الأعلى للدولة, ليس مصدر السيادة فمن هو أذن مصدر السيادة ؟
نستطيع أن نقول أجابة عن هذا السؤال بأن مصدر السيادة هو الأمة وحدها لا الخليفة , وذلكلأنه وكيل عنها في أمور الدين وفي أدارة شؤنها حسب شريعةالله ورسوله , وهو لهذا يستمد سلطانه منها , ولها حق نصحه وتوجيهه, وتقويمه ان أساء , بل حق عزله من المنصب الذي وليهعنها باختيارها ان جد ما يوجب عزله , فيكون من المنطق أن يكون مصدر السيادة هو الموكل الاصيل, لا النائب الوكيل0
هذا وقد يستدل على سلطة الامة وأنها مصدر السيادة ,بحديث: ' لا تجتمع أمتي على ضلالة ' , أوكما جاء في رواية أخرى : ' سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة وأعطانياها ' فان هذا معناه أنه متى أجتمعت الأمة على رأي كان هو الحق ,وكان واجبا الأخذ به, لأنه صدر ممن له حق السيادة0
وكذلك قد يستدل لهذا ايضا بأن القران في كثير جدا من آياته يتوجه بالخطاب في الأمور العامة الى المؤمنين, أي الىالجماعة الاسلامية كلها, وماهذا الا لأنها صاحبة الحق في تنفيذ الاوامر والرقابة على القائمين بها , وهذا بيقين مظهر السيادة والسلطان0
ومن هذه الآيات قوله تعالى : 'يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط , شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين , أن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما , فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا '0 وقوله : 'وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان '0 وغيرهما 0
ومن هذا القبيل آيات كثيرة أخرى جاء الخطاب فيها للمؤمنين , وفيها الأمر بأداء الامانات الىأهلها, والحكم بالعدل , والوفاء بالعهد, ووجوب التواصي بالحق والصبر , وتنفيذ الحدود والعقوبات والقصاص , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقتال الفئة الباغية000
وفيتوجيه القرآن الخطاب في تلك الآيات وامثالها الى الأمة جميعا, دلالة بالغة على أن الأمة هي التي تتحمل مسئولية أقامةالدين وشرائعه ورعاية المصالح العامة ,فتكون, اذن, هيمصدر السيادة العليا لقاء ما تحمل من المسئولية الكبرى , ويكون لها حق أختيار الرئيس الأعلى للدولة , وحق الأشراف عليه وعلى سائر الحكام 0
وبذلك- كما يقول الدكتورعثمان خليل في بحث له- لم يعتبر الفقه الاسلامي الوالي صاحب حق في السيادة, بل أعتبرها حقا للامة وحدها يمارسه الوالي كأجير او وكيل عنها , فيمكنها بهذا عزله ان وجدتمبررات لذلك0
ومعنى هذا في جملته أن ' الأمة مصدر السلطات ' وأن العلاقة بين الأمة والحاكم علاقة ' عقد أجتماعي ' سماه المسلمون ' المبايعة ' وجعلوها حقيقة لا افتراضا,وهذا هو الفهم الصحيح للسيادة في العصر الحديث0 وقد تميزت به نظرية ' العقد الاجتماعي في أحدث مراحلها , ونعني به نظرية ' جان جاك روسو ' التي فضلت بذلك غيرها من النظرياتالسابقة عليها وبخاصة نظريتا الفيلسوفين الانجليزيين المشهورين ' هوبز ' و ' لوك ' في القرن السابع عشر0
هذا , واذا كانت السيادة هي للأمة ممثلة في ' اولي الأمر ' الذينتجب طاعتهم بأمر الله في القرآن , او' أهل العقد والحل' كما يعبر الفقهاء, فمن هم هذه الطائفة على وجه التحقيق ؟ وما هو النظام الذي يجمع شملهم ويعرفنا اراءهم التي يجب أننخضع لها في شئون الامة عامة ؟0
لا نجد الفقهاء تكلموا عن السؤال الاول بشئ من التفصيل, وغاية ما نجده هو وجوب توافر بعض الصفات فيهم, وهي كما يذكر الماوردي مثلا :العدالة, والعلم, والرأي والحكمة0
قال الشيخ رشيد رضا : وأما أولوا الأمر فقد أختلف فيهم , فقال بعضهم هم الامراء واشترطوا فيهم ألا يأمروا بمحرم0 والآية مطلقة, وانماأخذوا هذا القيد من نصوص أخرى كحديث ' لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ' , وحديث ' انما الطاعة في المعروف '0
وبعضهم أطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كل حاكم وغفلوا عن قولهتعالى ' منكم '0
وقال بعضهم : انهم العلماء , ولكن العلماء يختلفون , فمن يطاع في المسائل الخلافية ومن يعفى ؟ وحجة هؤلاء أن العلماء هم الذين يمكنهم ان يستنبطوا الاحكامغير المنصوصة من الأحكام المنصوصة0
وأما الشيخ محمد عبده فأنه قال :
المراد بأولي الأمر جماعة ' أهل الحل والعقد ' من المسلمين , وهم الامراء والحكام والعلماءورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع اليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة, اذا اتفقوا على أمر او حكم وجب أن يطاعوا فيه , بشرط أن يكونوا منا, وألا يخالفواأمر الله ولا سنة رسول الله (ص) , وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة, وهو ما لأولي الامر سلطة فيه ووقوف عليه0
وأما العبادات , وماكان من قبيل الاعتقاد الديني,فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد , بل يؤخذ من الله ورسوله فقط, وليس لأحد فيه رأي الا مايكون في فهمه0
فأهل الحل والعقد من المؤمنين , اذا أجمعوا على أمر من مصالح الامةليس فيه نص عن الشارع, مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه, فطاعتهم واجبة0 ويصح أن يقال : هم معصومون في هذا الاجماع 0 ولذلك أطلق الامر بطاعتهم بلا شرط, معاعتبار الوصف والاتباع المفهوم من الآية, وذلك كالديوان الذي انشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة , وغيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الأمر من الصحابة ولمتكنفي زمن النبي (ص) ولم يعترض أحد علمائهم على ذلك0
ثم قال بعد ذلك : فأمر الله في كتابه وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها (ص) وهما الاصل الذي لا يرد, وما يوجدفيه نص عنهما ينظر فيه أولو الأمر ان كان من المصالح, لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم, فيجب أن يتشاوروا في تقدير ما ينبغي العمل به فاذا اتفقوا واجمعوا وجبالعمل بما أجمعوا عليه0
وان اختلفوا وتنازعوا , فقد بين الله الواجب فيماتنازعوا بقوله : ' فأن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ' ذلك بأن يعرض على كتاب الله وسنةرسوله ومافيهما من القواعد العامة والسيرة المطردة0 فماكان موافقا لهما علم أنه صالح لنا , ووجب الأخذ به وما كان منافرا علم أنه غير صالح , ووجب تركه, وبذلك يزول التنازعوتجتمع الكلمة0
وبعد هذا, يقول السيد رشيد رضا في موضع أخر من تفسيره : هكذا يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها ومصالحهاالاجتماعية وقدرة علىالاستنباط يرد أليهم أمر الامن والخوف وسائر الامور الاجتماعية والسياسية, وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الاسلام ' أهل الشورى ' , و ' أهل الحل والعقد ' 0 وهم الذين يسمون عندالأمم الأخرى بنواب الامة : فالنواب هم مصدر القوانين كلها بلا استثناء, والأمر كذلك في الاسلام الا فيما جاء فيه نص محكم من القرآن أو سنة ثابتة عن الرسول, فان هذا لا رأيفيه لأهل الحل والعقد مطلقا الا في فهم هذه النصوص :
ومع هذا فان المنصوص عليه في الكتاب والسنة على ذلك النحو, أي فيما يتصل بأمور الأمة الاجتماعية والاقتصاديةوالسياسية, قليل جدا كما يذكر كثير من المفسرين ومنهم الامام الرازي :
وناحية أخرى من الاختلاف ينبغي أن نشير أليها ايضا, وهي أنه عند الاختلاف في الرأي في الهيئاتالنيابية في هذا العصر يجب أن يؤخذ فيها برأي الأكثرية , والأكثرية قد لاتكون دائما على الحق كما هو معروف بالتجربة0
على حين انه يجب عند الاختلاف والتنازع رد الامرالى القواعد والأصول العامة التي تؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة, وما كان متفقا من الاراء مع ذلك يجب الأخذ به , لأننا نعلم حينئذ أنه الرأي الصالح الصحيح الذي فيهالخير للأمة, وبه تجتمع الكلمة0
هذا, وللأجابة عن السؤال الثاني , ونعني ماهو النظام الاسلامي الذي يجمع شمل أهل الحل والعقد ومنه نعرف آراءهم التي يجب على الامةاتباعها ؟, نذكر أن الاسلام ليس له نظام خاص محدد في هذه الناحية0
ومهما يكن من امر, فان الاسلام بأصوله العامة, وبما فرضه من الشورى في أمور الأمة , قابل تماما لكل نظاميؤدي الى تبين أهل الرأي والبصر ما فيه الخير للأمة وما يحقق المصلحة العامة في جميع أمورها0 ولكل أهل عصر من العصور أن يتخذوا النظام الذي يرونه كفيلا بتحقيق تلك الغايةالجليلة, معتمدين على أجتهادهم ومستلهمين روح الاسلام وشريعته0
ومن هنا نرى, في التحليل الاخير, أن مصدر السيادة هو التشريع الذي يؤخذ من الكتاب والسنة الصحيحة اذاأسعفت النصوص , والذي -فيما لا نصوص فيه- لا يتعارض مع شئ من روح هذين الاصلين المقدسين ومقاصدهما0
ومن الطبيعي أنه لابد للسيادة ممن يمثلها , وهنا نقول ان الذي يمثلهاهم أهل الحل والعقد نيابة عن الأمة كلها, وحينئذ تكون قراراتهم والقوانين التي تصدر بناء على مايتفقون عليه صحيحة شرعا وملزمة للأمة جميعا0
المصدر : نظام الحكم في الاسلام