أرکون و مشروع نقد العقل الاسلامی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أرکون و مشروع نقد العقل الاسلامی - نسخه متنی

کامل الهاشمی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

أركون ومشروع نقد العقل الاسلامي

أركون ومشروع نقد العقل الاسلامي


كامل الهاشمي

يزعم الباحث المعروف محمد أركون انه ياخذ على عاتقه انجازمهمة جسيمة في المجال الفكري يرى أنها تتمثل في 'نقد العقل الاسلامي'وهذه المهمة أو الدعوة التي يتبناها اركون لا يمارسها بشكل خفي أو تحت غطاء.بل هو يدعو اليها بكل صراحةويعتقد أنها مهمة لا بد من انجازها وتحريك الفكر الإسلامي باتجاه تحقيقها.

وما أرغب في استثارة الحديث عنه في هذه المقالة هو مهمة نقد العقل الإسلامي في ما يرتبطبعلاقة العقل بالوحي,والتي يرى أركون أن العقل الإسلامي ظل يمارس فيها ومن خلالها دور التابع والخادم للوحي من دون أن يسمح لنفسه بسؤال أو مبادرة,فلنر ماذا يحمل أركون منأفكار في هذه القضية,وما هي الملاحظات التي يمكن أن تسجل على أفكاره تلك !!!

1- العقل الإسلامي والعقل العربي

يحاول أركون أن يتفهم القارىء العربي بشكل خاص مشروعهالنقدي من خلال التأكيد أولاً على ضرورة التفريق بين العقل الإسلامي والعقل العربي,فبماذا يختلف مفهوم العقل الإسلامي عن مفهوم العقل العربي؟ وما هو النقد الذي يتوجهللعقل في علاقته بالوحي بما هو معطى ومنزل إلهي؟يجيب أركون عن السؤال الأول بالقول : ( إن الأول يتقيد بالوحي أو المعطى المنزل,ويقر أن المعطى هو الأول لأنه إلهي,وأن دورالعقل ينحصر في خدمة الوحي أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد,ثم الاستنتاج والاستنباط منه,فالعقل تابع وليس بمتبوع اللهم إلا بالقدر الذي يسمح به اجتهادهالمصيب لفهم وتفهيم الوحي ) و( أما العقل العربي فهو الذي يعبر باللغة العربية أياً تكن نوعية المعطى الفكري الخارج عنه والذي يتقد به ).

وأما السؤال الثاني فان أركونيقول بشأنه : ( ترتكز عملية النقد على علاقة بالمعطى المنزل,وعلى رضاه أن يبقى دائماً في الدرجة الثانية,أي في حدود الخادم دون أن يجرأ على مبادرة أو سؤال أو تأويل لا يسمحبه الوحي المحيط بكل شيءوبينما العقل لا يدرك شيئاً إدراكاً صحيحاً إلا إذا اعتمد على الوحي المبين.هذا هو أساس النزاع بين المعتزلة القائلين بخلق القرآن وأهل السنةوالجماعة وخاصة الحنابلة والأشعرية القائلين بأن القرآن غير مخلوق ويجب على العقل ان يقرأه بلا كيف 'غضاً كما أنزل').

ويشير أركون الى أن المجال لو بقي مفسوحاًللمسلمين للمناظرة والجدل في مثل هذه القضايا العقلية والعقائدية ما كان وضع المسلمين يصل الى هذه المستويات الحالية من ضيق الأفق والاستبداد بالرأي ف ( لو استمرتالمناظرات بين العقل القائل بخلق القرآن والعقل الخادم الخاضع للقرآن غير المخلوق,لكان الوضع المعرفي للعقل الإسلامي اليوم على غير ما هو عليه,أعني أن الفسحة العقلية ماكانت لتصبح ضيقة محدودة تسودها الأرثوذكسية العقائدية الى الدرجة المعروفة اليوم ).

2- هل كل عقل إسلامي هو كذلك؟

إن الامر المهم الذي نريد أن نحاور فيه أركون فيهذه المقالة يتعلق بما ذكره أركون من حكم مطلق على العقل الإسلامي بأنه عقل يتقيد بالوحي وأن دور العقل ينحصر في خدمة الوحي,وعلى هذا الاساس يبقى العقل الذي يؤمن بالوحي (دائماً في الدرجة الثانية,أي في حدود الخادم دون أن يجرأ على مبادرة أو سؤال أو تأويل لا يسمح به الوحي المحيط بكل شيء )...نقول : إن هذا التعميم والاطلاق الذي يستخدمه أركونلا يتناسب ومقتضيات الانصاف والتحقيق ومتطلبات الموضوعية والنزاهة في البحث العلمي,وذلك لأن دراسة بسيطة وأولية لتمايزات الفرق والمذاهب الإسلامية تكشف بما لايدعمجالاً للشك على أن هذه الفرق والمذاهب لم تكن ذات اتجاه واحد في هذه المسألة,وفي الموقف المتبنى من العقل في طبيعة علاقته ورابطته بالوحي,وعلى هذا الأساس يمكننا القولأن هناك عقولاً إسلامية متعددة,وليس مجرد عقل إسلامي واحد,وإن كان ذلك لا ينفي واقعية وصحة التمييز الذي يذكره الباحث بين العقل العربي والعقل الاسلامي,وأركون نفسه يصرحبأن المعتزلة كانوا يمثلون اتجاهاً عقلياً اسلامياً مضاداً ومخالفاً للاتجاه العقلي الاسلامي الذي تبناه أهل السنة والجماعة,وبحسب قوله عن هذين المذهبين:انهما ( يحيلانفي نهاية الأمر الى مرتبتين ونظريتين ووضعين انطولوجيين أيسيين مختلفين للعقل ).

وإذا كان هذا التقييم يصح أن يصدق في حق المعتزلة فهو أولى بأن يصدق على التراث الفكريوالعقلي الذي خلفه الشيعة الإمامية,والذي كان يستند الى العقل كدعامة اولى وأساسية ودائمة في فهم الحقيقة الدينية ومحاولة التعرف عليها,والذي يستشير الاحساس هو ذلكالاهمال المتعمد والمقصود الذي ما زال التراث العقلي للشيعة يتعرض له من قبل مختلف الباحثين من اسلاميين وغيرهم,والأدهى والأمر أن يكرس هذا الاهمال من قبل الباحثينالجدد والمعاصرين من أمثال أركون الذي يصر على أنه لا يصدر من حساسيات مذهبية وطائفية في تقييماته المعرفية واحكامه العلمية,وهو يقول بالحرف الواحد في بيان أهم المبادىءالتي يتأسس عليها مشروعه النقدي للعقل الإسلامي : ( مشروع نقد العقل الإسلامي لاينحاز لمذهب ضد المذاهب الأخرى ولا يقف مع عقيدة ضد العقائد التي ظهرت أو قد تظهر فيالتاريخ؟)...إن علامة الاستفهام التي يضعها أركون في نهاية كلامه هذا تكون مبررة جداً في ظل هذا التجاهل غير المبرر للفكر والتراث الإسلاميين الشيعيين بالرغم من كونالتراث العقلي للشيعة الإمامية استطاع أن يجسد طوال تاريخه الفكري صورة وحيدة وفريدة وذات نسيج خاص في قضية العلاقة بين العقل والوحي,ولقد استطاع الفكر الشيعي أن يتجاوزالأزمة التي عرضت للفكر المعتزلي في انحيازه للعقل ضد الوحي,كما أنه نجا من الوقوع في براثن المحنة التي وقع فيها الأشاعرة وأهل السنة من الانحياز للوحي ضد العقل.

وباعتقادنا أن هذه هي النقطة المهمة التي ينبغي أن يتعرفها ويعيها الدارسون المعاصرون في الفكر الشيعي الإمامي,في الوقت الذي لا ينبغي أن ينسى الدارسون والباحثونأبداً طبيعة الصعاب والمشاكل التي تعرض لها الشيعة طوال تاريخهم السياسي,والتي ساهمت في تشويه وتغطية الكثير بل الأكثر من أبعاد التراث العقلي والفكري للشيعة وطمسالمهم من معالمه,وبالرغم من أن أركون لا ينسى التنبيه على هذه النقطة في كتاب سابق له إلا انه يعودها هنا لتناسيها والتغاضي عن أهميتها التي أفصح عنها بنفسه حينما قالموضحاً تطور النظرية الشيعية في مسألة الخلافة والشرعية السياسية : ( في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري راحت فكرة الشرعية تكتسب وجودها التنظيري وبلورتها العلميةتحت اسم النظرية الشيعية للخلافة.وسوف تترسخ هذه الفكرة ضد الاضطهاد الأموي للهاشميين وبسببه,هذا الاضطهاد الذي سيلاحق باستمرارأنصارعلي.سيتحول هذا الاضطهاد الى مجاوزمرعبة كان التاريخ السني قد مررها قليلاً أو كثيراً تحت الصمت ).

ويبين أركون نفسه كيف ساهم هذا الاضطهاد في القضاء على الكثير من الوثائق والشهادات العلمية التي كانتتحسب لصالح الشيعة في الإمامة حينما يقول : ( كان من نتائج هذه المجاوز الكبرى التي حلت بانصار علي القضاء على فكرة الإمامة - الإمام هو الوارث الروحي للنبي - وبالتاليالحذف الكامل لمجموعة من الشهادات ذات الأهمية القصوى,وخصوصاً الشهادات المتعلقة بالفترة التأسيسية الأولى للاسلام أي لفترة العشرين عاماً التي قضاها النبي في التبشيروالدعوة والتعليم والسلوك ).

ومن أجل أن نتعرف على عظيم الاجحاف الذي تعرض له الفكر الشيعي طوال تاريخه فإن ذلك يستدعي منا أن نلقي بعض الضوء على الدور الذي مارستهالسلطة السياسية في العالم الإسلامي في مواجهتها للفكر الشيعي,وهي المهمة التي سنقوم بها في النقطة القادمة من البحث.

3- السلطة السياسية والفكر الشيعي

لا يترددأركون في هذا المجال أي يقدم شهادة ناصعة للتاريخ عز أن تجد لها مثيلاً في هذا الزمن حينما يفصح عن ماهية الدور الذي مارسته السلطة السياسية منذ وقت مبكر في تاريخ الإسلامفي تغطية الحقائق وتزويد وقائعه,فيتحدث قائلاً : ( إن العقل التدبيري للدولة بكل عنفه ومقتضياته القاسية التي لاترحم راح يحذف بضربة واحدة تجارب وشهادات ذات قيمة روحية لاتقدر بثمن.الشيء الأسوأ من ذلك هو أن هذا العقل السياسي التدبيري راح يركب من عنده وحسب مصلحته شهادات أخرى تخص تشكيل القرآن مما أدى الى نتائج خطيرة جداً.ذلك أن هذهالعملية راحت تشكل البنى العقلي والتصورية التي ستسيطر على وعي ملايين البشر منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.هذا هو الرهان الذي يحيط بكل تلك القصة ( قصة الخلافة ).ينبغي ألاتغيب عن وعينا هذه النقطة الحاسمة ).

إن هذه الشهادة التي يدلي بها أركون تجاه الدور الذي مارسته السلطة السياسية في تاريخ الإسلام رغم أهميتها إلا أنها ليست بالمستوىالذي يكفي للكشف عن مقدار الطمس والتشويه والقلب الذي تعرضت له الكثير من الحقائق والمقولات,ولا سيما عقائد الشيعة وآرائهم في القضية مورد البحث اعني العلاقة بين العقلوالوحي.

وإذا ماأردنا أن نتعرف أبعاد الفكرة التي جسدها التشيع في مشروعه العقلي والفكري في مسألة العلاقة بين العقل والوحي فسنجد لزاماً علينا أن نستعرض تراثاًضخماً من علوم مختلفة ومتنوعة تشمل التفسير والحديث واصول الفقه والفلسفة والكلام,ساهم الشيعة منذ وقت طويل من خلالها في تأسيس وتجلية وتوضيح موقفهم المتزن والرائع فيالعلاقة بين هذين المصدرين المعرفيين,أعني العقل والوحي,وهذا النوع من الاستعراض سيكون هو المتكفل ببيان النتيجة الرائعة التي استطاع التشيع الإمامي أن يصل اليها فيهذه القضية المهمة.

ومن المهم ان نشير في هذا المقام الى قلة الدراسات الجادة التي عنت ببيان هذا البعد من أبعاد التشيع,مع تاكيدنا على أن الحث على دراسة موقف الشيعةالإمامية من مسألة العلاقة بين العقل والوحي لاينطلق من تعصب مذهبي,بقدر ما ينطلق من محاولة لتسليط الضوء على أهم تجربة دينية بحسب تقديرنا من التجارب البشرية الناجحةفي تحديد الموقف العقلي المتزن والمضبوط من هذه المسألة التي شغلت الأفكار والأذهان وما زالت تشغلهما وتلح عليهما.

وقبل بيان معالم المنهج الذي تبناه الشيعة في هذهالقضية بشكل خاص فإننا نجد من الضروري التعرف أولاً وقبل كل شيء على التمايزات التي اتسم بها التشيع كمنهج خاص في فهمه وتفهيمه للوحي وفي علاقته بالنص الديني,وهذا الأمرإنما يتيسر لنا عبر محاولة التعرف ولو بشكل إجمالي وأولي على الإفرازات الاجتماعية والسياسية وبالتالي المعرفية التي أفرزها الوجود الإسلامي في الفترة التالية لوفاةرسول الله ( ص ).

فلقد أفرز الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه المسلمون بعد ارتحال رسول الله ( ص ) عدة اتجاهات في التفكير والممارسة,وقد برزمن بين تلك الاتجاهاتاتجاهان رئيسيان كان لكل واحد منهما تفسيره الخاص للدين والعقيدة,ورغم ان الاتجاهين المذكورين برزا وتمايزا بشكل واضح بعد وفاة رسول الله ( ص ) وبدأ يتشكل كل منهما فيوجود اجتماعي منحاز ومنفصل,إلا أن الجذور الأصلية لكلا الاتجاهين كانت قد تشكلت وانبتت على عهد رسول الله ( ص ) نفسه,والتأمل الدقيق في ممارسات أصحاب كل واحد من الاتجاهينفي زمن رسول الله ( ص ) يعطى إنطباعاً بأن أصول كلا الاتجاهين قد انغرست في بنية المجتمع الإسلامي على حياة رسول الله ( ص ).

وذلك أمر باعتقادنا طبيعي جداً,تقتضيه طبيعةكل دعوة رسالية تستهدف توعية انسان عصرها,ونقله من واقع حياتي معين تتحكم في صياغته وتسييره قيم فكرية واجتماعية وانسانية معينة الى واقع حياتي آخر,تسعى تلك الدعوةالرسالية الى تثبيته على ضوء أفكار وقيم اجتماعية وانسانية مستجدة ومناقضة لأفكار وقيم الواقع الحياتي السابق,والقول بأن كل فرد يظهر الإيمان بالدعوة الجديدة ,ويكشف عناستجابته الظاهرية لها,فإن ذلك يعني انصهار الفرد بتعاليم تلك الدعوة ووعيه الحقيقي بأفكارها ومتبنياتها هو قول جزافي,لايمكن أن تؤيده النظرة التقييمية الواقعيةلطبيعة التعامل الإنساني مع الأفكار المستجدة,ولاسيما إذا كانت تلك الأفكاروالقيم والتعاليم التي بشرت بها الرسالة أو الدعوة الجديدة عميقة ومتينة,ولم يحض القائمونبشكل رئيسي على تلك الدعوة أو الرسالة بالفرصة الكافية من العمر لإنجاز مهمة التغيير الاجتماعي,بالشكل الذي يجسد وعيهم الخاص بـأفكار وقيم الدعوة أو الرسالة واختبارمدى قدرة الجموع المؤمنة بهما 'الدعوة أو الرسالة ' على وعي أفكارهما أولاً وتجسيد قيمهما في الواقع الحياتي ثانياً.

وهذا ما حصل بالضبط للدعوة الإسلامية,اذ لم تكنالفترة الزمنية التي قضاها رسول الله ( ص ) بين المسلمين تكفي للقيام ب ' عملية تطهير' شاملة للمجتمع الجديد الذي قبل الإيمان بالاسلام بعد صراع مرير على المستوىالداخلي,وإذا أدركنا أن المجتمعات البشرية لا تتخلى عن عقائدها الموروثة وأعرافها الاجتماعية بشكل فجائي حتى ولو اتخذت قرار التغيير بالفعل وآمنت بضرورته,وإنما تجرىعملية التغيير بشكل تدريجي وبطيء,وربما لا يستطيع الكثير من الأفراد - رغم قناعتهم بالدعوة الجديدة وتبنيهم لأفكارها- من التحرر من ' الموروث الاجتماعي ' السابق,والذي قديستنبطه الفرد في اللاشعور من دون أن يعيه.

ولقد حكى لنا القرآن المجيد قصة بني اسرائيل الذين آمنوا بدعوة موسى( عليه السلام) وتحملوا الكثير من العناء في سبيل الدعوةالجديدة,ولكنهم بمجرد أن مروا على أناس يعبدون حجارة صنعوا بايديهم حتى استثار ذلك المنظر كل موروثهم الاجتماعي المدفون في أعماق نفوسهم فاقترحوا على نبيهم الجديد أنيجعل لهم آلهة محسوسة يعبدونها كما لهؤلاء القوم آلهة,وقد حكى سبحانه وتعالى قضيتهم هذه في قوله عز شأنه: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهمقالوا ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعلمون.قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ) (الأعراف / 138- 140 ).

وتتجلى قوة هذا الموروث الاجتماعي الراسخ بكل قوة في نفوس بني اسرائيل في دعوتهم المجددة لعبادة العجل مع كل مالاقوة من استنكار من قبل نبيهم فيمحاولتهم الماضية,ولكن الاستجابة المجددة لضغوطات الموروث الاجتماعي في هذه المرة تطفح الى السطح في مواجهة الوصي الشرعي لموسى( عليه السلام ) وهو هارون ( عليه السلام )وفي ذلك يقول تعالى : ( وما أعجبك عن قومك ياموسى.قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى.قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري.فرجع موسى الى قومه غضبان أسفاًقال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أو أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي.قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينةالقوم فكذلك ألقى السامري.فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم واله موسى فنسي.أفلا يرون ألا يرجع اليهم قولاً ولا يملك لهم ضراًَ ولا نفعاً.ولقد قال لهم هارونمن قبل ياقومي إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى) ( طه / 83- 91 ).

إن حالات الصراع التي يستذكرها القرآنالمجيد خلال استعراضه لحياة ومسارات الأمم السابقة ولا سيما صراعات التجربة اليهودية خلال العهد الموسوي لها دلالاتها الكثيرة والغنية التي لا ينبغي أن تعزب عن بالناأبداً,ومن المهم جداً الاستفادة منها في تحليل مسيرة المجتمع المسلم في علاقته مع الرسالة الإلهية الخاتمة,وهو الأمر الذي يدفعنا لمحاولة الكشف عن بعض أبعاد هذه التجربةفي ما مثلته من اتجاهات مهمة في التعامل مع النص الديني وتفسير كلمات الوحي الإلهي.

4- الوحي في مواجهة تفسيرين متضادين

لقد افرز المجتمع المسلم على عهد رسول الله (ص ) توجهين رئيسيين في النظرة الى الدين وتفهم طريقة ارتباط الانسان به,ولكن بقيت شخصية رسول الله ( ص ) بسلطتها التاسيسية في المجال الفكري والاجتماعي تفرض نفسها على كلالتوجهات وتمنع من بروز حالة إستقطاب معارضة ومناوئة للاتجاه الفكري الذي يتبناه ( ص ),ولكن بمجرد وفاة رسول الله ( ص) في هداية المجتمع وتربية النفوس المستعدة وتزكيةالناس وتعليمها الكتاب والحكمة وإدارة شؤونها السياسية والاجتماعية قد انتهت وتوقفت بموت رسول الله ( ص ),وفي هذا اعتراف ضمني بانقطاع دور النبوة وانفصام الرابطة بينالأرض والسماء التي كان يجسدها نزول الوحي على رسول الله ( ص ),وفي المقابل فقد تبلور اتجاه آخر اعتقد معتنقوه والمدافعون عنه أنه تأسس منذ البداية على عهد رسول الله ( ص )ولايمكن أن يكون الأمر إلا كذلك,باعتبار ان رسول الله ( ص )كان حريصاً على مستقبل الرسالة وكان يهمه أن يهيىء لهذا الدين مبررات خلوده,ومن مبررات خلود أية فكرة أو عقيدة هواعداد الجموع البشرية التي تعي كل الوعي وتفهم كل الفهم آفاق الفكر الذي طرحه من كان لهم دور التأسيس وإرساء قواعد البناء الجديد.

وكان هذا الاتجاه يرى أن مهمة رسولالله ( ص ) لايمكن أن تتوقف أو تنتهي بموته,ورغم ان هذا الاتجاه كان يرى في موت رسول الله ( ص ) مسألة طبيعية جداً فلم يحاول انكارها أو التشكيك في واقعيتها,إلا انه كان يضر فيالمقابل على ان ضرورة الارتباط بين السماء والأرض لا يمكن أن تفقد أهميتها بارتحال الرسول,وان الحاجة تبقى ماسة - ولا سيما بعد وفاة الرسول - الى من تستشعر الجموع المؤمنةبالرسالة أنه يمثل امتداداً شرعياً وواقعياً لأفكار ومفاهيم الرسالة التي بشر بها الرسول المؤسس ( ص ).

ومنذ ذلك الوقت و 'الاسلام' يتجاذبه هذان الاتجاهان,الذي يقدمأحدهما نفسه على أنه تفسير بشري للدين,وأنه لا يستعيد سوى خطاب النبوة وأهدافها وغاياتها,وهو الاتجاه الشيعي بكل تياراته ومذاهبه أيضاً.

ورغم أنه - وكما أشرنا - قدانقسم كلا الاتجاهين الرئيسيين الى عدة اتجاهات فرعية الا انه يظل المائز الذ ي يميز بين كل واحد من الاتجاهين هو مقدار انتسابه الى فكرة النبوة وخطابها,والذي يلحظهالمتتبع لطبيعة الخطاب الشيعي - منذ يوم وفاة رسول الله ( ص ) الى عصرنا الحاضر- هو أن الخطاب الشيعي ظل وفياً تمام الوفاء لإحياء خطاب النبوة,وبقي رغم كل الظروف والمحنالتي كابدها معتنقوه يتواصل مع خطاب النبوة بل ويستعيد حرارة وحيوية ذلك الخطاب الذي رأت الجموع الغفيرة من المسلمين ' الغالبية' أنه قد خمد وسكت بوفاة الرسول الخاتم ( ص).

وفي واقع الامر اننا نلحظ أن السمة البارزة التي ميزت الاتجاه الشيعي وشخصته من أول الامر هي قدرته على استشعار الارتباط الوثيق بمهمة النبوة وانه لابد وان يجسدامتدادها المشروع في مواجهة الاتجاه الآخر الذي لم يتأخر عن إلغاء دور النبوة بمجرد وفاة رسول الله ( ص) .بل وقبل وفاته ( ص ) حينما سعى للتشكيك في مصداقية خطاب النبوةوالدعوة للاكتفاء بكتاب الله ,تلك الدعوة التي كانت تعني فيما تعنيه بداية التأسيس لدور 'الاتجاه البشري' في أن يكون حاكماً على ' الاتجاه النبوي' وهكذا كان الأمر في تاريخالفكر الإسلامي بشكل عام إلا ما كان من استثناء مثله الفكر والخطاب الشيعيان,مما جعل البحث عن 'الأصيل' و' الطارىء' في بنية الفكر الاسلامي عملية إن لم تكن مستحيلة فهيمعقدة بكل معنى الكلمة.والذي نعتقده انه لاسبيل لانجاز هذا الأمر - ان كانت ثمة رغبة حقيقية في انجازه - إلا عن طريق 'الحفر المعرفي' في بنية الفكر الشيعي والسعي لاكتشافالمجاهيل والتشوهات التي فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية على هذا الفكر أولاً والخطاب النبوي ثانياً,ولو قدر لهذه المهمة أن تنجز على أيدي المفكرين والباحثينالاسلاميين بكل انصاف وتجرد فاننا نثق كل الثقة ان النتائج المستخلصة ستعطي للفكر الاسلامي وجهاً آخر,وستفتح أمام الباحثين المسلمين آفاقاً من الفهم والمعرفة قد حجبتدونها العقول ممارسات السلطة والرغبة الشديدة في الحجر العقلي والاستئثار بسلطة المعرفة وغيرها من ممارسات قدر لها أن تتواجد بكل ثقل وقوة في تاريخ المسلمين الفكريوالسياسي والاجتماعي.

ونتمنى على كل الباحثين الاسلاميين أن يستوحوا كل مظاهر التحريف التي يمكن افتراض طروئها على البنية الاصلية للاسلام من خلال التمعن الدقيق فيمسارات الرسالات الالهية السابقة ومالاقته من تشويه وتحريف للكثير من تعاليمها بمجرد غياب الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) الدين حملوا لواء الحفاظ على الرسالات منالتشويه الفكري والانحراف العقائدي,ولا نعتقد ان الرسالة الاسلامية يمكن أن تمثل استثناء من هذه الحقيقة,إلا من خلال ما توفر لنصها الأصلي ' القرآن الكريم ' من حفظ ورعايةمن قبل الله تعالى,وهو استثناء تقتضيه خاتمية الرسالة الاسلامية إذ الحجة لاتقوم لله على خلقه لو تعرض القرآن المجيد لتحريف وتبديل على مستوى الألفاظ الاصلية للنص,وهذاالحفظ الإلهي يوفر مجالاً حيوياً لاستخلاص الرأي الاسلامي الأصيل في كثير من القضايا العالقة في الفكر الاسلامي ومنها التثبت من اصالة الفكر الشيعي وما يمثله مناستعادة واعية لخطاب النبوة.

5- الفكر الشيعي بين العقل والوحي

من الضروري التاكيد على أن من جملة أعقد المسائل الدينية والمعرفية التي عنى العقل البشري بمحاولةتحليلها وإدراكها,هي قضية العلاقة بين العقل والوحي,وبطبيعة الحال نحن لا نريد ولايمكننا في هذه العجالة أن نستعرض كل أبعاد المسألة,ولا سيما شغلت العقل البشري منذ آلافالسنوات,ولذا ما يهمنا ها هنا وما هو متاح لنا انجازه هو محاولة تقديم إطلالة سريعة على موقف الفكر الشيعي الإمامي بشكل خاص من هذه القضية,ومحاولة تسليط الضوء على موقفالفكر الشيعي بشكل خاص من هذه القضية يبتني باعتقادنا على مبررين :

الأول :الاهمال الذي لاقاه الفكر الشيعي طوال تاريخه وبشكل خاص في هذه المسألة.

الثاني:الموفقية التي حظى بها الفكر الشيعي بصورة خاصة في مجال تحليل وتحديد وضبط العلاقة بين هذين المصدرين المعرفيين.

وإذا كان الأمر الأول قد توضحت لنا بعض أبعاده فيالنقاط المتقدمة من البحث,فإن الأمر الثاني هو ما نحاول تجليته في هذه النقطة التي بين أيدينا,فلنر ما الذي استطاع الفكر الشيعي أن يقدمه للعلم وللمعرفة وللإنسان في هذهالمشكلة المعرفية التي شغلت وما زالت تشغل عقل وتفكير الإنسان..

وفي بداية حديثنا عن هذه المسألة ومحاولة بيان المسلك الذي سلكه الفكر الشيعي في مهمة التوفيق بينمعارف الوحي وحقائق العقل,يلزمنا القول أن الفكر الشيعي في حد ذاته يعتبر نتاج مزاوجة موفقة بين يقينيات العقل البشري وقطعيات الوحي الإلهي,فلقد أسس أئمة الشيعة المجالوفتحوه أمام العقل من أجل انجاز عملية تواصل مع الوحي عبر التعرف على الحاجة الذاتية التي لا يمتنع العقل من الاقرار بها الى الوحي في استلهام المعرفة وتصحيحها ,كما أنهممن جهة أخرى فسحوا المجال للوحي من أجل أن يتعرف للعقل بدوره التأسيسي في المعرفة وكونه القاعدة التي ينطلق منها الوحي في تثبيت مقولاته وبناء أفكاره.

وفي هذا الشأنيكفينا أن نتأمل في القول المنسوب الى رسول الله ( ص) والذي يقول فيه : ( قوام المرء عقله,ولادين لمن لاعقل له).

وأهمية هذا القول أنه أولاً يصدر من رسول الله ( ص ) الذي جاءنفسه بالوحي وحمل كلمته الى البشرية,وثانياً أنه لايتردد في سلب الدين الذي هو نتاج الوحي عن من فقد العقل,وقبل هذا وذاك فإن الرسول ( ص ) في كلمته هذه يجعل قوام كل انسانعقله قبل كل شيء فالعقل هو الذي يتيح أمام الإنسان التعرف على كلمة الوحي ووعيها,وهذا ما يفصله ابن عباس في بعض الكلمات المنسوبة اليه حينما يقول : ( أساس الدين بني علىالعقل,وفرضت الفرائض على العقل,وربنا يعرف بالعقل,ويتوسل إليه بالعقل,والعاقل أقرب الى ربه من جميع المجتهدين بغيرعقل,ولمثقال ذرة من بر العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألفعام ).

ونجد في بعض مرويات ائمة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن النبي ( ص ) تعبيراً رائعأً عن المهمة التي ينبغي أن توكل للعقل في حياة ووجود المسلمين,فهي تعبر عن العقلبأنه 'فسطاط المسلمين' فقد روي عنه ( ص ) أنه قال : ( لكل شيء آلة وعدة وآلة المؤمن وعدته العقل,ولكل شيء مطية ومطية المرء العقل,ولكل شيء غاية وغاية العبادة العقل,ولكل قومراع وراعي العابدين العقل,ولكل تاجر بضاعة,وبضاعة المجتهدين العقل,ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل,ولكل سفر فسطاط يلجأون إليه وفسطاط المسلمين العقل ).

إنالنكتة المهمة والدقيقة التي ينطوي عليها هذا الحديث الشريف تختزل في أنه أراد أن يؤسس دور العقل والعقلانية في حياة المسلمين,وذلك حينما اعتبر العقل الفسطاط الذي يلجأإليه المسلمون جميعهم,ولو قدر لهذا التأسيس والإرشاد النبوي أن يأخذ مجاله في عقائد وافكار وممارسات المسلمين لكان من المؤكد أن تكون الحالة العقلية عند المسلمين علىغير ما جسدوها طوال تاريخهم حينما سمحوا لأنفسهم أن يتحركوا باتجاه مضاد للعقل في العديد من أبعاد حياتهم وممارساتهم,مما خلف صورة سيئة ومشوهة عن حقيقة الدين والإسلام,وبالأخص في حيز العقائد الدينية التي وجدت لها مجالاً أن تصاغ في كثير من الأحيان بعيداً عن منطق العقل,بل وأن تكون مضادة للعقل.

وهذا التصوير الذي يطرحه هذا الحديثعن العقل ودوره في حياة المسلمين يجعل من الضروري جداً على كل الباحثين أن يعيدوا النظر في العديد من التصورات والعقائد والأفكار التي قدمت على أنها القراءات الصحيحةوالموضوعية لتراثنا الديني والإسلامي,وهوالامر الذي نجزم أن الباحث محمد أركون ينطلق منه حينما يسمح لنفسه أن يعتبر العقل الإسلامي مجرد تابع وخادم للوحي من دون أن يسمحلنفسه بسؤال أو مبادرة.

وثمة حقيقة مهمة في هذا الشأن تكشف لنا عن البعد الأساسي والأولي الذي أرساه الفكر الشيعي للعقل في فهم الدين ووعي حقيقته,ويتمثل هذا البعد فيالمضمون الذي صرحت به العديد من مرويات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من اعتبار التكليف الإلهي منوطاً بالعقل,فبالعقل استحق الإنسان أن يكون موضوعاً للخطاب والتكليفالإلهين,وهذا ما تفصح عنه عدة من المرويات التي تقول أن أول ما خلق الله من خلقه هو العقل,وأن أول من حظى بخطاب الله وأمره ونهيه هو العقل أيضاً,فعن الإمام الباقر ( عليهالسلام ) : ( لما خلق الله العقل استنطقه, ثم قال له : أقبل فاقبل,ثم قال له : أدبر فأدبر,ثم قال له :وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب الي منك,ولا أكملك إلا في من أحب,أما إنيإياك آمر,وإياك أنهى,وإياك أثيب ).

ومن الواضح أن الفكر الشيعي مادام يتبنى هذه النظرة حول العقل فليس من المعقول أبداً أن يتمثل هذا الفكر مسلكاً منافياً للعقل في مايدعو إليه من حقائق دينية ومعرفية كما يحاول بعض الكتاب المعاصرين أن يجهد نفسه في إثبات ذلك والقول بأن التشيع قد جسد منهجاً باطنياً غنوصياً في معارفه عن الدين,وأنه قدتخلى عن العقل والعقلانية.

وانطلاقاً من ذلك أيضاً ليس من مجال للقوة بأن التشيع كان ملازماً للعقل في مباحثه العقائدية حول التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ما خلاآرائه في الإمامة والعصمة التي - كما يزعم البعض - ناقض فيها العقل وتخلى عن التزامه بمبادئه وقواعده,وهي الفكرة التي يثيرها الكاتب المصري محمد عمارة حينما يتحدث قائلاً: ( والعقلانية : واحدة من القسمات التي تتجلى للناظر في تراث الشيعة الفكري,وذلك إذا استثنينا تراثهم في الإمامة وما يتعلق بها؟!.. فهم في الامامة - كما قدمنا - قد غدوا اسرىلنصوص وتفسيرات لنصوص ,وتفسيرات لنصوص,تعبدوا بها,ونحوا العقل جانباً,أمام هذه النصوص ذات الطابع الاسطوري,بل وفاخروا بذلك غيرهم من التيارات؟!.. أما في غير الإمامة ومايتعلق بها فإن تراثهم صفحة من صفحات الفكر الإسلامي المشرقة بنور العقل,والمزدانة بسلطانه..يتفقون في ذلك كثيراً أو يقتربون الى حد كبير من المعتزلة,فرسان العقلانية فيالإسلام ).

إن هذا التقييم الذي يطلقه الباحث المذكور يفتح أعيننا على طبيعة المشكلة التي واجهها الدارسون للتراث الشيعي فهؤلاء لما لم يستطيعوا أن يتعقلوا فكرةالتشيع عن الإمامة والعصمة لم يترددوا في اتهام الفكرة نفسها بأنها مجافية ومناقضة للعقل,وكان من الحري بهم أن يرجعوا الى أنفسهم فيبحثوا عن قصورهم أو تقصيراتهم التيحالت بينهم وبين وعي وإدراك البعد العقلاني الذي انطوت عليه النظرية الشيعية في الإمامة,والتي دفعت الشيعة - كما يشير الباحث - الى أن يصيروا أسرى نصوص وتفسيراتللنصوص,فما دفع الشيعة لأن يصيروا اسرى للنصوص وبتعبير أدق ل' الوحي ' هو نفس اعتقادهم بمكانة العقل التي تلزمهم بالرجوع الى كلمة الوحي في تشخيص الإمام,فبعد أن دلهمعقلهم على ضرورة الإمامة وأنه من المحال أن يترك الله عز وجل الخلق من دون أن ينصب اليهم هادياً في كل زمان وآن.فقد التزموا باستحالة أن لا يكون هناك نص وبيان من الشارعالمقدس على هذه المسألة التي يدركها العقل كبروياً إدراكاً مستقلاً كما يدرك ضرورة النبوة والحاجة الى الرسول من قبل الله تعالى,وتبقى الصغرى وهي تشخيص الإمام وتعيينهمن بين الناس مسألة منوطة بالبيان الشرعي من قبل الله ورسوله,إذ لا يتميز الإمام المعصوم بميزة ظاهرة في خلقه تدل على إمامته,والعصمة أمر خفي لا يطلع عليه إلا خالق الخلقفلزم أن يكون البيان من جهته وبأمر منه,وهي الفكرة التي يفيض الإمام الصادق ( عليه السلام ) في بيانها حينما يستدل على لزوم وجود الحجة لله على خلقه في كل زمان بالقول : ( إنالما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق,وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه,يعبرون عنه الى خلقه وعباده,ويدلونهم على مصالحهمومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم,فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز,وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) وصفوته منخلقه,حكماء مؤدبينبالحكمة,مبعوثين بها,غير مشاركين للناس,على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب,في شيء من أحوالهم,مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة,ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت بهالرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين,لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته ).

وهذا الأفق الذي يطرحه الإمام ( عليه السلام ) فيقضية الحاجة الى السفراء الذين يحملون كلمة الله عز وجل الى الخلق في كل زمان,هو الذي تنبني عليه العلاقة بين العقل والوحي ( = النص الديني ) في الفكر الشيعي,وعلى أساس منذلك انطلق الفكر الشيعي ليؤكد على تمسكه بفكرة استمرار الإمامة التي تجسد معنى الارتباط بين الأرض والسماء,أو بعبارة أخرى بين الله والخلق,أو بعبارة ثالثة بين العقل'البشري ' والوحي ' الإلهي ' وعلى ضوء هذه العلاقة المستمرة والممتدة في التاريخ البشري والوجود الإنساني بين العقل ( = الإنسان ) والوحي ( = الله ) انبثقت مهمة السفارة التيتربط الإنسان بخالقه,والتي كانت تتمظهر تارة في شخصية النبي المرسل وتارة اخرى في شخصية الإمام المعصوم,وهذا ما جعل مهمة الأنبياء والتي تختزل في حمل كلمة الله عز وجلالى الإنسان تتواصل مع دور العقل في حياة ووجود الإنسان ,وهو المعنى الذي يفصح عنه الإمام علي ( عليه السلام ) في ثنايا حديثه عن دور الأنبياء والرسل,حينما يقول : ( وواترإليهم أنبياءه, ليستأدوهم ميثاق فطرته,ويذكروهم منسي نعمته,ويحتجوا عليهم بالتبليغ,ويثيروا لهم دفائن العقول...).

فمهمة الأنبياء والرسل :تنسجم وتتواصل مع الدورالمنوط بالعقل في حياة البشر,فحينما تدفن الثورة والثروة العظيمة التي ينطوي عليها العقل الإنساني لسبب أو آخر من سوء تربية أو عقيدة منحرفة أو غير ذلك يأتي الوحي ليزيحالتراب والغبار عن المدفون من ثورة وثروة العقل ,ويحرر العقل مرة أخرى من اسار كل القيود التي تعيقه عن القيام بدوره وتفعيل مهمته, وبعد أن يحرر الوحي العقل فإن العقليعود ليستفهم الوحي ويسائله ويسبر أغواره ويكشف عن مطوياته,ومن هنا يدعو النبي الأعظم ( ص ) علياً ( عليه السلام ) الى التقرب الى الله تعالى بعقله إذا ما راى غيره يتقرباليه بعمله فيقول في ما روي عنه : ( ياعلي إذا رأيت الناس يتقربون الى خالقهم بأنواع البر فتقرب اليه بانواع العقل تسبقهم).

ولقد أبدع الفكر الشيعي صورة من أعظم واجملالصور في مجال العلاقة بين الوحي والعقل,حينما استطاع أن يتجاوز طوال تاريخه - وليس لمدة محدودة - كل المطبات التي كانت تستزله ,من أجل أن يحيد ويميل لصالح العقل ضدالوحي,أو لصالح الوحي ضد العقل,بل عمل الفكر الشيعي على الدوام لتفهم صوت العقل بالمستوى الذي يتفهم فيه نداء الوحي,ولذا لا عجب أن يقوم أئمة أهل البيت ( عليهم السلام )الذين احتلوا في التشيع موقع التواصل مع الوحي وتمثيل كلمته بالحث على الرجوع الى العقل وضرورة تحكيم وتفعيل دوره في حياة الانسان ,وهو الأمر الذي تفصح عنه العديد منكلماتهم ( عليهم السلام ),ففي الحديث عن الإمام أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( ص ) لم يعبد الله عز وجل بشيء افضل من العقل ...).

وفي خبرآخرعنه ( ص ) : (ما عبد الله بمثل العقل ...)

وهذا التفعيل والتاصيل لمهمة ودور العقل من قبل أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) يجعلنا نتحفظ تجاه بعض المحاولات التي تسعى - وإن كان ذلكبحسن نيه - الى إسباغ طابع عرفاني روحي على جملة من المعالجات الفكرية التي قدمها الأئمة ( عليهم السلام ) لبعض القضايا العقائدية كما هو الشأن بالنسبة الى مسألة رؤية اللهسبحانه وتعالى,ومسألة معرفة الخالق وما يتعلق بها من زيادة الصفات أو عينية الصفات واتحادها مع الذات ,ففي المسألة الأولى حينما يستعرض بعض الباحثين قول الإمام الصادق (عليه السلام ) المروي عنه في الكافي,والذي يقول فيه : ( ..من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ,لأن حجابه ومثاله وصورته غيره,انما هو واحد متوحد ) ..الخ ,نرىهذا الباحث يعتبر هذه المعالجة التي يقدمها الإمام ( عليه السلام ) في موضوع الرؤية ذات صبغة عرفانية ,إذ أن ( هذا الموضوع - في نص كهذا - عرفاني بالدرجة الأولى,تشارك فيهمعرفة القلب ,وهو ما فسرت به مدرسة أهل البيت رؤية الله سبحانه في الآيات التي تطرقت اليها في القرآن الكريم,الرؤية القلبية ).

وفي المسألة الثانية - أعني موضوعالمعرفة - يتحدث الباحث بالقول : ( هنا لا بد من الاشارة الى ان المتكلمين في محاولتهم الوصول الى كنه المعرفة جدلياً, تحدثوا أحياناً بما يصعب فهمه أو بما لا يؤدي الىنتائج يقينية تحدد ماهية المعرفة,وظل الاشاعرة أكثر هؤلاء تشوشاً وبعداً عن المنطقية,بينما حسم الامام المسألة باحالتها الى القلب والوجدان,بوصفه الذات بالصفات ,رافضاًالفصل بينهما,ويشير الباحث بكلامه الأخير الى أولى خطب الإمام المذكورة في نهج البلاغة والتي يتحدث فيها عن الذات والصفات قائلاً: ( من وصف الله فقد قرنه,ومن قرنه فقد ثناه).

ان اعتبار هذه المعالجات معالجات عرفانية فيه خلط غير يسير بين كون موضوع الرؤية التي يمكن أن تنسب اليه سبحانه وتعالى,وكذا موضوع المعرفة الواقعية عليه عز وجل همارؤية ومعرفة قلبيتان بمعنى أنهما غير حسيتين ولاعقليتين ولاوهميتين,وبين كون المنهج المتبع في التدليل على استحالة الرؤية والمعرفة غير القلبيتين في حقه تعالى منهجاًعرفانياً ,لأننا حينما نشير الى المنهج العرفاني في تثبيت الحقائق فإننا نشير بذلك الى المنهج الذي يرصد الحقيقة ويعيها عبر القلب بما يتوفر عليه من قدرات كشفية وذوقية,ولانريد بذلك أن ننفيها أو أن نلغي قيمتها المعرفية,ولكننا نقول أنها ذاتية تختص بمن حصلت له ولايمكن أن ينالها غيره ممن يفتقد مبررات حصولها,وهذا بخلاف المنهج العقليالبرهاني في الاثبات ,والذي يسلك طريقاً مشتركاً بين كل الناس في تحصيل المعرفة,وهو طريق التدليل والبرهنة العقليتين.

والأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) كانوادائماً سواء في معارفهم التي كانوا يطرحونها ابتداء أم في محاوراتهم مع الآخرين في الشأن العقيدي لايستندون الى شيء سوى العقل والبرهان ,وحتى حينما كان يجادلهم من يؤسسعقائده بالانطلاق من النص وبعيداً عن مقتضيات العقل فإنهم كانوا يفرغون النص في قالب عقلي نافين عنه كل الدلالات التأويلية والتحميلية التي تجعله في موقع التعارض معالعقل,وهذا ما يتبين لنا في هذين النصين الذين يتحاور فيهما الامام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) مع بعض أهل الحديث ممن كانوا يستندون الى ظواهر الآيات والروايات فيتأسيس عقائدهم الدينية,والنص الأول يدور الحوار فيه عن موضوع رؤية الله سبحانه بشكل خاص,إذ يقول صفوان بن يحيى : ( سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا ( عليهالسلام ) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله الى التوحيد فقال أبو قرة:إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيينفقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية.

فقال أبو الحسن ( عليه السلام ):فمن المبلغ عن الله الى الثقلين من الجن والإنس : ( لاتدركه الأبصار ) ( ولايحيطون به علماً ) و( ليس كمثلهشيء ) ,أليس محمد؟

قال : بلى.

قال : كيف يجيء رجل الى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم الى الله بأمر الله فيقول: ( لاتدركه الأبصار ) ( ولايحيطونبه علماً ) و ( ليس كمثله شيء ) ثم يقول أنا رأيته بعيني واحطت به علماً,وهو على صورة البشر؟! أما تستحون ؟!ماقدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء,ثميأتي بخلافه من وجه آخر؟!

قال أبو قرة: فإنه يقول : ( ولقد رآه نزلة اخرى ) ؟

فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن بعد هذه الآية ما يدل على مارأى .حيث قال : ( إذا ادركتالروايات مخالفة للقرآن كذبتها.وما اجمع عليه المسلمون أنه لايحاط به علماً ولاتدركه الأبصار وليس كمثله سيء).

والنص الثاني والذي يدور الحوار فيه بين نفسالمتحاورين السابقين هو مايرويه صفوان بن يحيى أيضاً,قال : ( سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فاسـتأذنته فأذن لي ,فدخل فسأله عن الحلالوالحرام ,ثم قال له : أفتقر أن الله محمول؟

فقال ابو الحسن ( عليه السلام ) :كل محمول مفعول به مضاف الى غيره محتاج,والمحمول اسم نقص في اللفظ ,والحامل فاعل وهو اللفظمدحه,وكذلك قول القائل :فوق وتحت وأعلى وأسفل ,وقد قال الله : ( وله الأسماء الحسنى فادعوه بها ).ولم يقل في كتبه :انه المحمول ,بل قال :إنه الحامل في البر والبحر والممسكالسماوات والأرض أن تزولا ,والمحمول ماسوى الله,ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه :يامحمول.

قال أبو قرة:فانه قال: ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )وقال : ( الذين يحملون العرش ).

فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) :العرش ليس هو الله ,والعرش اسم علم وقدرة ,وعرش فيه كل شيء ,ثم أضاف الحمل الى غيره,خلق من خلقه,لأنه استعبدخلقه بحمل عرشه وهو حملة علمه وخلقاً يسبحون حول عرشه وهو يعملون بعلمه وملائكة يكتبون أعمال عباده ,واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته,والله على العرش استوى كماقال,والعرش ومن يحمله ومن حول العرش والله الحامل لهم,الحافظ لهم,الممسك القائم على كل نفس وفوق كل شيء وعلى كل شيء,ولا يقال :محمل ولاأسفل ,قولاً مفرداً يوصل بشيء فيفسداللفظ والمعنى.

قال أبو قرة :فتكذب بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم,فيخرون سجداً,فإذا ذهبالغضب خف ورجعوا الى مواقفهم؟

فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) :أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس الى يومك هذا هو غضبان عليه,فمتى رضي؟وهو في صفتك لم يزل غضبانعليه وعلى اوليائه وعلى اتباعه,كيف تجترى أن تصف ربك بالتغيير من حال الى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوق؟!

سبحانه وتعالى,لم يزل مع الزائلين ,ولم يتغير معالمتغيرين ,ولم يتبدل مع المتبدلين ,ومن دونه في يده وتدبيره,وكلهم اليه محتاج وهو غني عمن سواه).

وفي نهاية حديثنا هذا عن طبيعة العلاقة التي رسمها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بين العقل والوحي,وهي الطبيعة التي استلهمها الفكر الشيعي في معالجته لمسائل الدين والشريعة ,نريد الإشارة الى أننا قمنا بطرح الرؤية التي تبناها الفكرالشيعي في مجال العلاقة بين العقل والوحي ضمن المجال المعرفي العقائدي والفلسفي ,على اساس تخطئه الفكرة التي أطلقها أركون,من كون العقل ظل في تراثنا وفكرنا الاسلامييمثل دائماً دور الخادم المطيع والتابع للوحي من دون أن يجرؤ على سؤال أو مبادرة,وتبقى عندنا مجالات أخرى مهمة للعقل في علاقته بالدين تم التعرض اليها في الفكر الاسلاميالشيعي بشكل مفصل,وذلك ضمن ما يمكن أن نعبر عنه بمجالات العقل العملي,ونأمل أن نقوم في مستقبل الأيام بتقديم إطلالة أو دراسة مفصلة عن هذا البعد العقلي في الفكر الشيعيالإمامي.

المصدر : قضايا اسلامية معاصرة.

/ 1