أصل المعرفة فی القرآن الکریم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أصل المعرفة فی القرآن الکریم - نسخه متنی

راجح الکردی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

أصل المعرفة في القرآن الكريم

أصل المعرفة في القرآن الكريم


د. راجح الكردي

(أ) الله سبحانه هو مصدر المعرفة

لابد من الإشارة الى قضيةهامة أثارها القرآن,وهو بصدد الحديث عن أصل المعرفة,وهي أن أصل المعارف كلها يعود الى الله سبحانه,فهو الذي خلق وعلم.وأن هذا الإنسان بما أعطيه من المعارف والاستعداداتاللازمة لتحصيلها,لا يتصرف في هذا الكون,شخصية مستقلة بذاتها,يعبد الحس ويقدسه,أو يعبد العقل ويقدسه,كما في الاتجاهات الفلسفية الشاردة عن هدى الله.وإنما يتصرف من منطلقأنه مخلوق ومدين في أصل خلقه لله سبحانه,وعارف مدين في أصل معرفته لله تعالى.وهنا يثور سؤال : هل الإنسان مدين في معرفته لله بأن علمه الله تعالى علما أو لقنه قضايا,أوبديهيات عقلية أم أن تعليمه إياه يعنى خلق العلم الضروري فيه,أم أنه منحه ما يؤهله للمعرفة والوصول اليها عن طريق الحواس والعقل؟

والاختلاف منبثق من الاختلاف في فهمالآية الكريمة التي تتحدث عن أصل المعرفة الإنسانية,تلك التي علمها الله سبحانه لأول إنسان خلقه,وهو آدم عليه الصلاة والسلام.وهل هناك من فرق بين أصل المعرفة لأول عارفلم تكن له تجربة بعد على وجه الأرض,وبين الإنسان الذي يعيش على وجه الأرض بعد ذلك,وله تجربته وخبرته ويجد من سبقه من بني جنسه فيعطيه ما عنده من معلومات سابقة أصبحت بمثابةالعلوم الضرورية التي لا يبحث لها عن دليل؟ هذه المسائل قائمة كلها,على فهم قوله سبحانه وتعالى:( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال :أنبئوني بأسماء هؤلاءإن كنتم صادقين.قالوا :سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم.فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السمواتوالأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).

وقوله سبحانه:( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).

ونجعل البحثهنا في المسألتين التاليتين وهما: ماذا علم الله تعالى آدم؟ وكيف كان هذا التعليم؟

(ب) ماذاعلم الله تعالى آدم ؟

وهذا السؤال يعني ما المقصود بالأسماء في قولهتعالى:( وعلم آدم الأسماء كلها )؟ نجد للمفسرين رأيين في هذه المسألة:

الرأي الأول : وهو المشهور عن معظم المفسرين أن المقصود بالأسماء هو أسماء كل ما خلق الله من أجناسالمحدثات. إذ ظاهر النصوص واضح في أن الله تعالى علم آدم أسماء الأشياء ثم عرض مسميات هذه الأسماء على الملائكة في معرض الامتحان وقال لهم :'أنبئوني بأسماء هؤلاء'والتعبيربالأسماء ظاهر كما أن إجابة الملائكة واضحة في أنهم لا يعلمون هذه الأسماء لأنهم لم يعلموها من قبل.ثم إن الإشارة دقيقة في قوله تعالى 'عرضهم' حيث أرجع الضمير علىالمسميات لا على الأسماء الواردة في صدر الآية أي أنه عرض الأشياء نفسها أو حقائقها وطلب منهم أن يعرفوا أسماءها واستعمال ضمير المذكور في قوله 'عرضهم' دون المؤنث إذ لميقل 'عرضها' تغليب للعاقل على غير العاقل وللكامل على الناقص,على عادة العرب في الاستعمال.

قال الزمخشري :'وعلم آدم الأسماء كلها' : أي أسماء المسميات,فحذف المضاف لكونهمدلولا عليه بذكر الأسماء,لأن الاسم لا بد له من مسمى.فإن قلت : هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه,وأن الأصل وعلم آدم مسميات الأشياء؟

قلت : لأن التعليموجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات.لقوله :'أنبئوني بأسماء هؤلاء' و'أنبئهم باسمائهم' 'فلما أنبأهم بأسمائهم' فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل أنبئونيبهؤلاء وأنبئهم بأسمائهم,وجب تعليق التعليم بها' كما فسر قوله تعالى عرضهم :أي عرض المسميات.وفسر أسماء المسميات بأنها الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسم فرس وهذا اسمبعير وهذا اسم كذا...كما علمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية.

ورجح الطبري أنها أسماء ذريته - آدم - وأسماء الملائكة دون أسماء سائر أجناس الخلقمعتمداً على قوله تعالى 'عرضهم' أي عرض العاقلين.ويمكن أن يقال بأنه لا وجه لهذا التراجع,إذ العرب تغلب العاقل على غيره في الاستعمال.

وعن قتادة قوله : علم آدم من أسماءخلقه ما لم يعلم الملائكة فسمى كل شيء باسمه وألجأ كل شيء الى جنسه.

ولعلهم استندوا الى قوله تعالى 'كلها' ذلك أنه بيان التقرير الذي هو تأدكيد الكلام بما يرفع احتمالالمجاز والتخصيص.فقرر معنى العموم بذكر الكل في الاصلاح اسم لجملة مركبة من أجزاء ويقتضى عموم الأشياء وهي الإحاطة على سبيل الانفراد.

والرأي الثاني : للإمام الرازيحيث يذهب الى أن المقصود بالأسماء هو صفات الأشياء ونعوتها وخواصها,وليس رموز الأشياء أو أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات ووجه لذلك باللغة,ذلك أن الاسم مشتق إمامن السمة أو من السمو.

وإن كان الاسم مشتقاً من السمو,فهو كذلك,لأن دليل الشيء,كالمرتفع على ذلك الشيء فلا امتناع في اللغة إذن,من أن يكون المراد من الاسم الصفة,وتخصيصالنحاة الاسم بالألفاظ المخصوصة - في نظره - عرف حادث لا اعتبار به.

ووجه لذلك بالعقل من وجهين هما :

(1) أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفةأسمائها,وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من حمله على ماليس كذلك.

(2) إن التحدي إنما يجوز بما يتمكن السامع من مثله,والملائكة لميعلموا لغة آدم,واللغة لا تعرف بالعقل,ومن ثم فتحدي الله لهم في أن يعلموا حقائق الأشياء أولى من تحديهم بمعرفة الأسماء أي الألفاظ اللغوية,إذ العقل متمكن من تحصيلالحقائق وغير متمكن من تحصيل اللغة بمفرده,فصح وقوع التحدي فيه.

والتحقيق :

إنه لا داعي لهذا الاختلاف والتطويل في المراد بالأسماء,هل هي السمات أي الحقائقوالصفات الدالة على الحقائق فقط أو أنها أسماء الأشياء فحسب.

ذلك أن اشتقاق الاسم من السمة أو من السمو,إنما هو توجيه لوجه تسمية الشيء باسمه.كما أنه لا داعي لاحتمالالإضمار كما يرى الرازي إذ لماذا نضمر ونقدر,(وعلم آدم مسميات الأسماء؟ ولا يلجأ الى الإضمار والاحتمال الإ حينما لا يظهر المعنى بظاهر التركيب,والمعنى واضح جداً وظاهرفي الآية,ذلك أن الله سبحانه علم آدم أسماء الأشياء أي أعطاه علما يلزمه على وجه الأرض مما لا يلزم الملائكة,ثم عرض مسميات هذه الأسماء على الملائكة ممتحنا لهم لإظهاركرامة وفضل هذا النوع الجديد العابد لله وفضله عليهم.ولم يكن التحدي لعقولهم كما ذهب الرازي,وإنما هو زيادة إظهار لقدرة الله وعلمه,وخاصة أن هؤلاء الملائكة ليسوا مكلفينحتى يكون التحدي بمعناه إما أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا,فهم مجبولون على الإيمان,كما أنه فيه المعنى الذي هو في سياق النص القرآني وهو إعلام جديد للملائكة بأن ثمة نوعا جديدامن المخلوقات سيخلف في هذه الأرض,وأنه له طبيعة عالية عارفة من نوع جديد,قائمة على الابتلاء.وأنه سبحانه قد زود هذه المخلوقات بعلوم تلزمهم ,إذ علم أباهم آدم وجعل لهاستعدادات التعلم الذي يكون طريقا من طرقه طريق التلقى المباشر من الله,على أحد احتمالات التعلم.

كما أنه لاداعى للاقتصار في ما علمه آدم على أسماء الأجناس فحسب,كمايرى المعتزلة والفلاسفة,ذلك أن الله سبحانه قد خلق الأرض قبل آدم عليه الصلاة والسلام,وفيها من المخلوقات المحدثة ما الله أعلم به,كما كان سبحانه قد خلق الجن والملائكةقبل آدم,والجن يسكنون الأرض كما يتصلون بالسماء,والملائكة تسكن في السموات وان كان ثمة لهم نزول الى الأرض فبحسب وظائفهم التي يؤدونها بتسخير الله لهم.وإبليس كان من الجنووصل درجة من العبادة أهلته لأن يكون مع الملائكة ثم فسق عن أمر ربه في امتحان السجود لآدم,وهذا دليل على أن الجن مخلوق قبل الإنسان.وحوار الملائكة مع الله سبحانه حينماقال لهم :( اني جاعل في الارض خليفة) دليل على أسبقية الملائكة على آدم عليه السلام.على ضوء ذلك نقول :- والله أعلم - إن الله سبحانه علم آدم علما جديدا على الملائكة,بما يلزمالإنسان على وجه الأرض.وهو أعم من أن يكون مجرد الألفاظ وإنما ألفاظ ومعان,كما أنه أعم من أن يكون تصورات مفردة,الشيء واسمه,وإنما قضايا أيضاً,وأنه سبحانه لقنه معلوماتبديهية جاهزة,- من جملة ما علمه - كي يستطيع أن يحيا أول حياة له على وجه الأرض,وكيف يترك من غير هذه المعلومات الضرورية زمنا ما أو فترة حتى تكتسب بخبرة وتجربة؟ وأما مايتعلق بالمسألة الخاصة بالاسم والمسمى فإن الاسم في اللغة العربية إذا أطلق لا يمكن أن يكون مجرد لفظ وإنما هو اسم ومسمى,لفظ ومعنى,رمز وحقيقة,وهذا ما نفهمه من صريح النصفي الآيات,فالاسم متضمن لحقيقة المسمى وصفته,إذ لا وجه لتعليم شيء لا حقيقة له,فضلا عن امتحان الملأ الأعلى به,فضلا عن جعل العلم به سببا لتفضيل نوع جديد من المخلوقات علىنوع آخر.وحتى على اعتبار تعليم الأسماء الخيالية,فإن ذلك لا يكون بغير تركيب أشياء حقيقية لا بد أن تكون معروفة بأسمائها,فالمخيلة تستعين بالحس السابق على مرحلة التمثل,أو التخيل.

( ولا مانع من أن يكون الامتحان للملائكة في كلا الأمرين الاسم والمسمى معا,اللفظ والحقيقة,بل لا مانع أن يكون ثمة معنى ثالث للامتحان,وهو الامتحان بأن هذاالاسم هو لهذا المسمى.وكل هذه :الاسم,والمسمى,وأن هذا الاسم لهذا المسمى هو ما علمه الله تعالى لآدم عليه السلام.) بل إننا نرجح - إذا كان له معنى للتحدي على راي الرازي - أنيكون هذا التحدي في الأسماء أقوى وأظهر,لأنه تحد شامل في الاسم والمسمى أو في اللفظ والحقيقة وأما تسمية الحقيقة باسمها,أو إطلاق الاسم على المسمى فإنه أظهر شيء فيالدلالة عليه.فإن إطلاق الاسم فيه العلوم التالية: العلم باللفظ والعلم بحقيقة اللفظ أي ما يدل اللفظ عليه من المعنى الذهني المتصور عند إطلاق اللفظ الذي يكون بإزاءحقيقة الشيء في الخارج أو في الذهن,والعلم بأن هذا اللفظ يدل على هذا المعنى الذهني ويشير الى هذه الحقيقة للمسمى.ومن ثم فإن هذا الفهم أدق واشمل وأليق بنعمة الله تعالىفي تعليم آدم عليه السلام.وهو رأى يجمع بين الفهوم السابقة ويتواءم مع النص ,والله اعلم.

وفائدة هذا المبحث فيما علمه الله للإنسان في أول مرة يحصل فيها تعليم له,أنالقرآن يضعنا أمام مشكلة اللغة أو الرموز اللغوية,والتي أصبح من اللازم علينا أن نميز بين المعرفة التي نتلقاها أو نتعلمها أو نحصلها اليوم,وبين المعرفة في منبعهاالوحيد أو أصلها الأول,والتي تلقاها آدم عليه السلام,أول مرة.وأنه وإن كان للعقل دوره وطريقته في المعرفة,وإذا كان الحس له دوره كذلك,فإن كلا من العقل والحس لا يستطيعانأن يتجاوزا مسألة اللغة كرمز للمعنى الحاصل في العقل والحس.وإن الإنسان لا يستغني عن الرموز اللغوية في كلتا الحاليتين,ولا بد أن يأخذ في الحسبان هذه المسألة قبل أن يفكرويبحث في طرق المعرفة بعد ذلك من عقل وحس.إذ يجمع علماء اللغات اليوم,على أن ميزة الإنسان على غيره من المخلوقات هي قدرته على استعمال الرموز اللغوية,من أجل توصيل المعانيوتكوين المفاهيم,'أي أن المفاهيم تتكون عن طريق اللغة,ولا توجد مستقلة عنها,بحيث يتعذر على الانسان أن يفكر بدون الكلمات والحروف.ولهذا قال بعض العلماء في اللغة والفكر:إنهما كقطعة النقود,وجهان لحقيقة واحدة.وهذا ما فطن له علماء الكلام المسلمون واللغويون العرب,عندما نصوا على أن العلاقة بين الشيء واللفظ الدال عليه تثبت دائمابواسطة,وهي الصورة الذهنية التي يحدثها الإدراك للشيء.والتي تثير في ذهن المتكلم اللفظ المرتبط بها ارتباطا اعتباطيا,وأنه على العكس من ذلك لا يمكن اللفظ أن يثير في ذهنالسامع إلا الصورة التي يرتبط بها عادة في لغة هذا السامع'.

وهذا كله يعني أن المعرفة أصلا متوقفة على معلومات سابقة أو مسبقة,وهذا ما أشارت اليه الاية القرآنيةالكريمة بوضوح,إذ أشارت الى أن حصول المعرفة لدى الإنسان متوقف على معلومات أو معارف مسبقة علمها من قبل الله عز وجل,مهما كان حجم هذه المعارف,ومهما كانت طبيعتها أوعددها.وإن كانت كلمة 'كلها' في الآية بحاجة الى فهم دقيق ربما يفتح كثيرا من مغاليق الأمور في فهم الآية , رغم أن الجرجاني قد ذهب الى أنها 'تفيد العموم وترفع احتمال المجازوالاستثناء'.

وهذا الرأي وهو البحث في أصل المعرفة التي تدل عليها اللغة لا يلغي دور الحواس والعقل وأنهما طريقان للمعرفة,ذلك أن الفكر معناه 'الحكم على الشيء'وعوامله في طبيعة الإنسان ووجوده من حواس وعقل,وفي تعامل الإنسان مع الواقع,ولكن ليس بالإمكان إعطاء الحكم على الواقع الذي ظهر بمجرد ظهوره للإحساس ووصوله صورة ذهنيةللعقل,بل لا بد من معلومات سابقة.وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في تحديد المنبع الأصيل للمعرفة.

( ج ) طريقة التعليم أو كيفيته في منبعه البعيد

تشير الآيةالكريمة السابقة الى أن الله تعالى علم آدم عليه السلام.ولكن كيف علمه؟ هل لقنه العلم أو أصول المعرفة أو المعلومات المسبقة تلقينا ؟ وهل لقنه المعرفة كلها؟ أم كانتطريقة تعليمه إياه بإلقاء العلم الضروري في نفسه مع خلق القدرة على النطق ؟ ومن ثم تكون اللغة أو المعرفة تلقينية أو تعليمية وكلاهما يعني أنها بطريق التوقيف لا بطريقالوضع أو الاصلاح أو التواطؤ؟ والمسألة هنا تهمنا من جهة أصل اللغة وأصل المعرفة معاً,ومن جهة طريق التعليم أو تكوين اللغة واستقاء المعرفة الأولى ونفصل آراء العلماء فيذلك ,فنقول:

1- ذهب الأشعري من أهل السنة والجبائي والكعبي من المعتزلة وابن فارس من اللغويين,الى ترجيح رأي ابن عباس القائل بأن أصل اللغات والمعرفة كلها توقيفيةبمعنى,إما أن الله تعالى علم آدم بطريق التلقين :'وذلك بعرض المسمى عليه,فإذا رآه لقن اسمه بصوت مخلوق بسمعه,فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري.

وإما أنهعلمه بطريق التعليم : وذلك بإلقاء علم ضروري في نفس آدم عليه السلام,بحيث يخطر في ذهنه اسم الشيء عندما يعرض عليه,فيضع له اسما بأن ألهمه وضع الأسماء للأشياء,ليمكنه أنيفيدها غيره,وذلك بأن خلق فيه قوة النطق وجعله قادرا على وضع اللغة.كما قال تعالى ( خلق الإنسان .علمه البيان ).

وجميع ذلك تعليم ,إذ التعليم مصدر علمه أي جعله ذا علم,مثلأدبه.فلا ينحصر في التلقين وإن تبادر فيه عرفا.

2- وذهب أبو هاشم من المعتزلة الى أن أصل المعرفة واللغة كان بطريق الوضع والاصطلاح,إذ لا بد من لغة اصطلاحية واحتج علىانه لا بد وأن يكون الوضع سبوقا بالاصطلاح بأمور منها:

( أ ) أنه لو حصل العلم الضروري بأن الله تعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم : إما أن يحصل للعاقل أولغير العاقل.لا جائز أن يحصل للعاقل لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله تعالى معلومة بالضرورة,مع أن ذاته معلومةبالاستدلال,وذلك محال.

ولا جائز أن يحصل لغير العاقل,لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل,فثبت أن القول بالتوقيففاسد.

( ب ) وأنه تعالى خاطب الملائكة,وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم.

( ج ) أن قوله تعالى :'وعلم آدم الأسماء كلها' يقتضى إضافة التعليم الى الأسماء وذلك يقتضى فيتلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم,وإن كانت كذلك فاللغات حاصلة قبل ذلك التعليم.

والجواب على هذا الرأي لأبى هاشم :

- عن الأول : أنه لم لا يجوز أن يقال :يخلق الله لعلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات,من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا فلا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حالكون الذات معلومة.

- وعن الثاني : لم لا يجوز أن يقال : خاطب الملائكة بطريق آخر,بالكتابة ؟ وغيرها.

- وعن الثالث : لا شك أن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلكالمعاني سابقة على التعليم,فكفى ذلك في إضافة التعليم الى الأسماء.

ثم إن هذه النظرية في تحديد أصل المعرفة أو اللغة - نظرية المواضعة أو الاصطلاح - ليس لها سند عقلي أونقلي أو تاريخي,بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظام الاجتماعية.كما أن ما يجعله من قبل.وفضلا عن هذا كله,فإن هذه النظرية تغفل المشكلةالرئيسية التي تهمنا في هذا البحث,وهي المعرفة في منبعها البعيد,وليس المعرفة أو اللغة وكيفية تحصيلها بعد ذلك.

3- وهناك نظرية ترى أن نشأة اللغة ترجع الى غريزة خاصةأو أستعداد فطري زود به الإنسان في الأصل,وكانت هذه الغريزة تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة,كما أن غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحملالإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة. وأنه بعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم يستخدم الانسان هذه الغريزة فأخذت تنقرص شيئا فشيئا.و أصبح العلم بالنظروالاكتساب,والملاحظة والمعاناة والتجربة,الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه .ففي آدم - بما أودع الله سبحانه فيه من قوى - قدرة على الترقي والاستزادة من المعارفبتوجيه ملكاته الى النظر في هذا الوجود وملاحظة الأسباب والمسببات,وربط العلل بالمعلولات,وقوله سبحانه 'وعلم آدم' أي أودع فيه القدرة على البحث والنظر في الكشف عن خصائصالأشياء وعللها وأسبابها,وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.

وهذه النظرية فاسدة كذلك:

- لأنها لم تحل مشكلة نشأة اللغة وأصلها,بل اكتشف بأن تضع مكانها مشكلةالغريزة الكلامية ,وهي أكثر منها غموضا.

- وهي من قبيل تفسير الشيء بنفسه إذ يفهم منها أن الانسان قد لفظ أصواتا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة,وهذا ليس إلا تقريراللمشكلة في صيغة أخرى.

- وإن غاية ما تثبته هذه النظرية هو وجود قدرة للإنسان أو غريزة على لفظ الأصوات وهذا ليس موضع الخلاف هنا.

كما أن تتمة هذه النظرية كما ذهبإليها السيد عبد الكريم الخطيب,تنحو الى جعل المعارف في أصولها استدلالية أو كسبية,بمعنى أنها قائمة على النظر والاستدلال.إذ لا ينحصر معنى قوله تعالى :'وعلم آدم الأسماءكلها' في أنه أودعه القدرة على البحث والنظر ومن ثم فالعلوم الاستدلالية لأنه لابد للنظر حتى ينتج من معلومات سابقة ضرورية.

- وهناك نظريات أخرى كنظرية المحاكاة أوالتطور,تلك النظرية القائلة بأن اللغة الإنسانية في أصلها ناشئة من الأصوات الطبيعية أو من التطور الطبيعي للانفعالات وأصوات مظاهر الطبيعة.فأخذ الإنسان يستعينبالإشارات اليدوية والحركات الجسمية,ثم تطورت وسائل التعبير عنده وارتفعت شيئا فشيئا,تبعا لارتقاء الحياة العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة الى أن وصل التطور الى مرحلةالنطق الإنساني,مع تطور في العلاقات بين اللغة والأشياء.ويرجح د. وافى هذه النظرية وكأنه مؤمن بنظرية التطور والنشوء والارتقاء.ونخالف د.وافى في ذلك :

- لأن هذهالنظرية قائمة على نظرية التطور,وفساد نظرية التطور معروف على ألسنة الداروينيين أنفسهم.وهي مخالفة لما نص عليه اليقين القرآني من أن الله سبحانه خلق الانسان في أحسنتقويم كما في قوله سبحانه :( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ).وخلقه وخاطبه بلغة ناضجة,وكان عقله ناضجا منذ أن خلقه,وذلك لأنه خلق من أجل الخلافة على وجه الأرض مكلفاوعابدا لله سبحانه,ولا أهلية للخطاب الشرعي والتكليف الرباني,مالم يكن هذا الانسان متمتعا منذ أول يوم خلق فيه بكامل خلقته وتكوينه العقلي والنفسي واستعداده المعرفي.

- كما أن اعتماد د.وافى في ترجيح نظرية التطور على تطور لغة الطفل لا يعد دليلا على ذلك.وإنه يعمم ظاهرة ارتقاء الطفل في تكوين لغته على النوع الإنساني,وهذا التعميم ليسعلما ولا سند له.ذلك أن هذا الطفل تتقدم لغته ويتطور عنده النمو اللغوي الخاضع لنمو عقلي وعضوي لأعضاء النطق,وضمن أبعاد اجتماعية وفكرية,ولكن هذا لا علاقة له بنشأة اللغةوأصلها,بل 'إن الأطفال لا يعلموننا,إلا كيف تحصل لغة منظمة,ولا يعطوننا أية فكرة عما كان عليه الكلام عند أصل نشوئه,فحينما نلاحظ المجهودات التي ينفقها أحد الأطفال ليعيدما يسمعه مما يقال للمدركين,فإننا نلحظ أكثر من علامة دالة على أسباب التغيرات التي يتعرض لها الكلام.ولكن الطفل لا يؤدي إلا ما قيل أمامه,فهو يشمل بالعناصر التي يمده بهامن حوله,ومنها يركب كلماته وجمله,إنه يقوم المحاكاة لا الخلق '.

'أن الله علم آدم الأسماء كلها,أي علمه اللغة وما وضعت بإزائه من معان,فاللغة في أصلها تعليم والمعرفة فيأصلها تلقين,ويكفي هذا المعنى للتوقيف.وكون أبي هاشم يعتبرها اصطلاحية على رأيه قبل التعليم,فنحن لا شأن لنا باللغة والفكر قبل خلق آدم عليه السلام,لأننا نتحدث عنالمعرفة الإنسانية في منبعها البعيد الذي يبدأ من خلق آدم وتعلمه.والمعاني ثابتة ولكن لا مانع بعد ذلك من أن يصبح اشتقاق واصطلاح في اللغة لتدل على تلك المعاني الثابتةالتي كانت الأسماء مسميات لها.ومن هنا نرى سر اختلاف اللغات واللهجات مع عدم الاختلاف في المعاني نفسها.ولعل في رسالات الأنبياء المتواصلة ما كان يوحد بين اللغة وبين ماتدل عليه من معان سابقة,فينزل الله سبحانه كتبا بلغات مختلفة تعبيرا عن المعاني النفسية الثابتة التي لا تخضع لتغير اللغة أو الألفاظ .ولهذا فإن الله سبحانه لما اقتضتحكمته أن يجعل الاسلام دينا عاما شاملا خالدا,أوقف اللغة العربية بألفاظها على تلك المعاني النفسية الثابتة متمثلة جميعها في القرآن الكريم,واقتضت حكمته أن تثبت اللغةفي دلالتها على المعاني,وتكفل سبحانه بحفظ الذكر الذي هو القرآن ألفاظا ومعان,كما قال سبحانه :( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وبذا فإننا حينما نقول إن منبع اللغةالتعليم,إنما نرد على من ادعى انفصال المعرفة البشرية عن الله سبحانه,وجعلها من وضع البشر وبا صطلاحهم وتواطئهم,ومن ثم تتغير المعاني والألفاظ فلا استقرار ولا ثباتللمعرفة - على رأيهم - .

وبعد أن أثبتنا أن أصل اللغة والمعرفة تعليم لا ضير من أن يقول :إنه لا مانع أن يراد بالتعليم كلا معنيية التلقين وخلق العلم الضروري والقوةالناطقة.ولا مانع أيضاً من أن تكون بعض هذه المعرفة بما أودع الله في الانسان من القدرة والاستعداد الفطري, وأن منها ما يرجع الى أوائل الحس وبداهة العقل,ولكن المعرفةالنظرية أو الكسبية لا بد أن ترجع الى المعلومات السابقة.ولا مانع من أن يكون حصل ذلك كله آدم عليه السلام ثم نالت ذريته من ذلك كله,ولذا فإن استعمال حرف العطف 'ثم' الذييدل على التراخي والمهلة ربما يفيد أن آدم عليه السلام قد تعلم بهذه الطرق كلها : التلقين والتعليم والحس والبداهة العقلية,والكسب.ثم الوحي,وهو طريق من طرق المعرفة منفصلوخاص بالأنبياء دون الناس,فالله سبحانه 'علمه بخطاب الوحي مالم يعلمه بمجرد العقل '.

المصدر: نظرية المعرفة بين القرآن والسنة.

/ 1