الإسلام والربا
محمد حسين فضل الله بِسْمِ اللهِ الرِّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الَّذينَ يَأْكُلونَ الرِّبَا لاَيَقُومونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بَأنَّهُمْ قَالُوا إِنَّما البَيْعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحلَّ اللهُ البَيْعَوَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيَهاخَالِدُونَ يَمْحقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثيمٍ إِنَّ الَّذينَ أَمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَاتِ وَأَقَامُواالصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجْرهُمْ عِندَ رَبِّهمْ وَلاَ خَوفٌ عَليْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزنُونَ يَا أيُّهَا الَّذينَ أَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوامَا بَقِي مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤمِنينَ فَإِن لَّمْ تَفْعلُوا فَأْذنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرسُوِلهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلكُمْ رُءُوسُ أَمْوالِكُمْ لاَتَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرةٌ إِلى مَيْسَرةٍ وَأَن تَصدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماًتُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوفَّى كُلُّ نَفسٍ مَّا كَسَبتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [سورة البقرة 275 ـ 281].
الذين يأكلون الربا ...
الحديث في هذه الآيات عنالرّبا من خلال الواقع المتمثل في شخصية المرابي واختلاط الصورة في ذهنه، من جهة، وفي حركة الربا في حياة المرابي مقارناً بالصدقة في حياة المتصدق في حساب الله... ثمالملاحقة لهذا الواقع من أجل الدعوة إلى التخلص منه وتغييره بالموعظة الحسنة... والترغيب بما عند الله من ثواب للسائرين على خط التقوى... الذين لا يريدون أن يظلموا أحداًكما لا يريدون أن يظلمهم أحدٌ... فإذا لم ينسجموا مع هذا الخط ولم يتوبوا إلى الله الذي يقف بهم عند خط العدل في الأشياء، فليتحملوا مسؤولية إعلان الحرب عليهم من اللهورسوله، مما يعني المواجهة بالعنف في خطوات الشريعة في الدنيا، وفي عذاب الله في الآخرة حيث يوفّي الله كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون وربما كان هذا الواقع الربوي بعدنزول آيات التحريم ناتجاً عن طبيعة النظام الاقتصادي الذي كان يسود المجتمع العربي لا سيما مجتمع المدينة الذي كان خاضعاً للسيطرة الماليّة للمرابين اليهود، كما هوشأنهم في كثير من المجتمعات التي يعيشون فيها... فكان لابد من الحملة المشدّدة التي تواجه هذا الواقع بأسلوب عنيف لتكون عنصراً رادعاً للانحراف عن الخط المستقيم... الربا في سلبياته الأخلاقية والاجتماعية:
الربا... هو الزيادة والنمو للأشياء... ويراد به هنا، بيع المتماثلين جنساً وكمية بزيادة في أحدهما، أو إقراض مال بزيادةماديّة عينية، كإقراض عشرة في مقابل خمسة عشر أو بزيادة معنوية أو حكمية، كإقراض عشرة بعشرة بشرط صياغة خاتم أو خياطة ثوب... أمّا مضّاره الأخلاقية، فقد أراد اللهللإنسان أن يتفاعل مع أخيه الإنسان لاسيّما إذا كان أخاه في الإيمان، وذلك بأن يصنع المعروف إليه فيما يحتاجه من شؤون العيش وفيما يواجهه من مشاكل الحياة، فيشاركه آلامهوهمومه ويحاول أن يخففها عنه بالكلمة والبسمة والحركة والعمل... لتنفتح الحياة الإنسانية على البعد الروحي الذي يغني إنسانية الإنسان، ويرفع من مستواها الروحي فلا تعودالعلاقات مجرد مبادلات تجارية تقوم على استغلال فرص الربح في كل شيء مهما كانت الأوضاع والظروف. وترتكز على قاعدة المنفعة المادية... بل يبقى لله حساب في داخل هذهالعلاقات بحيث يفكر الإنسان بالثواب من عنده وبالعمل على الحصول على رضاه بعيداً عن رضا طرف العلاقة الأخر وعدم رضاه... مما يجعل التضحية مكسباً، والخسارة الماديةربحاً... فنحن نعطي لأن الله هو الذي يدفع لنا الثمن من ثوابه في الدنيا والآخرة، ونحن نتجاوز الربح لأن الله هو الذي يعوضنا عنه ثواباً مضاعفاً في مستقر رحمته. وقد أطلقالإسلام هذه الروح في اتجاهين، الأول: اتجاه العطاء الذي لا يبحث عن البدل حتى في الحساب المماثل للعطاء من ناحية مادية، بل يبحث عن الانطلاق من العطاء في ذاته كقيمةروحية يريد بها ما عند الله، لا ما عند الناس، وذلك هو ما يتمثل في الصدقة التي تقوم على العطاء دون مقابل قربة إلى الله، وبذلك كانت عبادة كبقية العبادات التي تقرّبالإنسان إلى الله...
الاتجاه الثاني: هو اتجاه القرض الذي يتمثل في دفع المال المقترض على أن يكون مضموناً عليه بمثله، فيجب عليه أن يدفعه للمقرض عند حلول الأجل... وفيهذا المجال يلتقي العنصر المادي الذي يفكر فيه الإنسان بحفظ ماله في ذمة المقترض ليرجع إليه بعد حين بالعنصر الروحي الذي يفكر فيه الإنسان بالتضحية بالزيادة التي قديأخذها الآخرون في مقابل تجميد هذا المال مدة من الزمن، وحرمانه من منافعه التجارية التي يمكنه أن يحرّكها في طريق تحصيل الربح... وذلك هو مورد القربة إلى الله في هذاالعمل الذي عبّر عنه في القرآن وفي الحديث بالقرض الحسن... فإن ذلك هو سبيل الوصول إلى محبة الله ورضاه لما يشتمل عليه هذا العمل من حلّ لمشكلة هذا الإنسان الواقع تحت ضغطالحاجة إلى المال الذي يسد به خلّته وقد وردت الأحاديث المتنوعة التي تتحدث عن القرض الحسن في أسلوب تشجيعي، يجعله أفضل من الصدقة في بعض المجالات فقد ورد أن درهم الصدقةبعشر، أمّا درهم القرض فبثمانية عشر... وربما كان ذلك من أجل مواجهة نزعة الربح التي قد تدفع إلى الرّبا وذلك بتحويلها إلى التفكير بالربح في الدار الآخرة، بالإيحاء بأنهاترقى إلى أعلى من مستوى الصدقة مما يرضي طموح المقرضين الذين قد لا يستريحون للصدقة من ناحية ذاتية هذا من جهة... ومن جهة أخرى، ربما كان درهم القرض متحركاً في حلّ أكثر منمشكلة لأكثر من شخص مما يعطيه معنى الامتداد والنموّ، عندما يعود من يد المقترض ليتحوّل إلى مقترض آخر، مما يوجب تضاعف جانب العطاء في المسألة، بينما يذهب درهم الصدقةليحل مشكلةً واحدة لإنسان واحد... ثم لا يعود...
الربا في سلبياته الاقتصادية:
أما الجانب الاقتصادي في الموضوع فيتمثل في عدّة نقاط سلبية... 1- إن الزيادة التييأخذها المرابي في مقابل لا شيء... لأن المفروض في ربا البيع، التماثل في النوع وفي الكم، فلا يحقق التبادل منفعة لكل منهما زائدة على ما يملكه من منفعة سلعته لتكونالزيادة في مقابل تلك الخاصة الزائدة على ما يدفعه للآخر... أما ربا القرض فكذلك فيما عدا الأجل فإذا كان الأمر على هذا الشكل فان الزيادة تكون أكلاً للمال بالباطل لأنهمال يكسبه بدون أن يقدم في مقابله عملاً أو خدمةً أو إنتاجاً.
2- إن الربا يؤدي إلى زيادة فقر الفئات المستضعفة، وتضخّم ثروات الفئات الغنية التي تملك رؤس الأموال، لأنالفقير ينطلق في استقراضه من موقع حاجته إلى هذا المبلغ فإذا انطلق في مجالات العمل فإن الحاجة ستتضاعف بينما يواجه العامل عبء الزيادة التي يضطر إلى اقتطاعها من أرباحهليوفّرها للدائن... وهكذا يأخذ الزيادة من حاجاته الأساسية إذا اضطر أن يضغط على تلك الحاجات أو تضيف إلى دينه ديناً جديداً وزيادة جديدة إذا لم يستطع أن يقلّص حاجاته إلىالمستوى الأدنى وهكذا حتى يسقط في قبضة المرابي حقيراً ضعيفاً مما يسيء إلى طبيعة العلاقات في المجتمع ويحوّلها إلى ما يشبه الثورة، إن لم يكن إلى ثورة تأكل الأخضرواليابس. كما نشاهده في وقتنا المعاصر...
3- إن الربا عادة، يؤدي إلى تجمع الثروات المادية في أيدي جماعة من الناس وهم أصحاب الأموال الضخمة الذين يستغلون حاجاتالمجتمع فيفرضون لأنفسهم النسب المئوية على رأس المال، مما يؤدي إلى نمّو رأس المال على حساب حاجة المستضعفين... الذين يمثلون الفئة المنتجة في المجتمع... وفي هذا الحاليتحول العامل إلى إنسان يكدح لمصلحة الرأسمالي من دون مقابل، مما يوجب استنزاف الطاقة المنتجة لغير مصلحتها... كما يؤدي بالأغنياء إلى السيطرة على الحياة الاجتماعيةوالسياسية والاقتصادية للمحافظة على الظروف الموضوعية لحرية الاستغلال، ولحماية حركة رأس المال في التزايد والتضخم بلا عمل أو جهد الأمر الذي يؤدي إلى استضعاف الشعوبمن قبل الطغاة والمستكبرين، ويهيّء للاستعمار الذي ينهب ثروات المستضعفين، ويحولهم إلى طاقة استهلاكية لا مجال لها إلاّ الاستقراض الدائم على حساب حاجاتها الحيويةوعزتها وكرامتها...
المصدر: من وحي القرآن