السيد حسين الشامي
مسؤولية الحوار
أكّد القرآن الكريم على الحوار الموضوعي الهادئ في العديد من الآيات الكريمة، قالتعالى:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين. ولاتستوي الحسنةولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم).
(ولاتجادلوا أهل الكتاب إلاّبالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
ولقد حدثنا القرآن في الكثير من الآيات الشريفة عنالحوارات التي عقدها الأنبياء عليهم السلام مع الأقوام التي بعثوا إليها، حيث كان تبليغ رسالتهم ودعوة الناس إلى الحق إنما يقوم أساساً على الحوار الهادئ.
ففي سورةهود نجد قصة نوح عليه السلام مع قومه، وكيف أنه عليه السلام إعتمد
الحوار العلمي إلى أبعد الحدود، لكنهم أصروا على الضلال:
(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكمنذير مبين. أن لا تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا باديالرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).
كان هذا منطق الكافرين المستكبرين في مواجهة دعوة النبي نوح عليه السلام، ورغم أن هذا المنطق يعبر عن حالة مستحكمة منالتكبر والتمرد على القيم الإنسانية، وشعور أجوف في الإستعلاء لايريد أن يخوض أي عملية حوار، لكن النبي نوحاً (ع)، لم ينه الحوار وينسحب من ساحاتهم، لأن ذلك هو مايريدونهبالضبط فانسحابه يعني انتصارهم، إنما واصل الحوار معهم من النقاط التي أرادوا إنهاء العملية الحوارية عندها:
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة منعنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون. ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلاّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكنّي أراكم قوماً تجهلون.ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون. ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراًالله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين).
لقد خاطبهم نوح عليه السلام بحميمية عندما قال لهم (يا قوم) حيث نسبهم إليه، ونسب نفسه إليهم، وكان يتلطف في توجيهأنظارهم، ولمس وجدانهم ويبصّرهم بأن الأمر ليس موكولاً إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها، وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم..مبدأ الإختيار في العقيدةوالإقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقوة والسلطان والاستعلاء.
ثم يحاول عليه السلام أن يفهمهم أن هروبهم من دعوته إذا كان نتيجة خوفهم من
الخسارة المالية التيتترتب عليهم بما يفرضه عليهم الرسول لمصلحته الشخصية، فان عليهم أن يطمئنوا إلى أن الأنبياء لن يطلبوا أجراً من أحد لأن أجره على الله في الدنيا والآخرة. ثم ينعطف إلىأتباعه، الفقراء البسطاء الذين لا يقفون في المستوى الأعلى من الهرم الاجتماعي الطبقي الذي يقيس الناس بمقياس المال والجاه والنسب والقوة، ليعلن لهم أنه لايمكن أن يطردهؤلاء المؤمنين، فإنهم سيلاقون الله تعالى ويقدمون له نتائج أعمالهم وسيجدون عند الله المقام الكبير والشأن العظيم.
والحوار الهادئ هو اسلوب رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلم) الاول في نشر دعوته في مكة وخارجها، فلم تحدثنا كتب السيرة المعتبرة عن موقف متشنج للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تخلى فيه عن الحوار الهادئ، ولجأ إلىاسلوب آخر مع الناس الذين كان يدعوهم إلى الايمان بالتوحيد وبرسالته الخاتمة.
رغم كثرة الأذى الذي تعرض له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل قريش من استهزاءوسخرية واتهام ورمي الأوساخ وتسليط الصبيان لرميه بالحجارة وغيرها من الاساليب.. رغم كل ذلك الأذى إلاّ أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتخل عن الحوار كخط عام،وأساس في طرح رسالته ودعوة الناس اليها.
لقد وقفت قريش هذا الموقف الارهابي العنيف من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أدركت أنها ستهزم بالحوار، وأنها عاجزةعن الوقوف أمام منطق الرسالة والرسول، لذلك لجأت إلى العنف، والارهاب، والتشكيك ورمي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بشتى التهم الباطلة كالسّاحر والمجنون وغيرها منتهم العاجزين، وهي تعلم كل العلم أن كل تلك التهم باطلة مفتراة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه العجز عن مجاراته والوقوف أمام دعوته الالهية التي يحركها في الوسطالاجتماعي من خلال العقل والوجدان.
وخلال تلك السنوات كانت قريش تبذل كل جهودها من أجل قتل الحوار وقطع كل الطرق أمام حركة الفكر، فقد لجأت إلى التشويش ومنع أصحابالرسول من قراءة القرآن الكريم، لكي تمنع الناس من الإستماع إلى كلام الله سبحانه، يروي إبن هشام في سيرته قصة اسلام الطفيل بن عمرو الدوسي فيقول: كان الطفيل بن عمروالدوسي يحدث: أنه قدم مكة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذاالرجل يقصدون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسّاحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبينأخيه، وبين الرجل وبين زوجته فلاتسمعن منه شيئا.
قال: فوالله ما زالوا بي حتّى أجمعت أن لاأسمع منه شيئاً ولا اكلمه، حتّى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاًمن أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي عند الكعبة.. فقمت منه قريبا فأبى الله إلاّأن يسمعني بعض قوله.. فسمعت كلاما حسنا.. فقلت في نفسي والله إني رجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي بهحسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.. فمكثت حتّى انصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيته فاتبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد قالوا لي كذا وكذاللذي قالوا فوالله مابرحوا يخفونني أمرك حتّى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، فأبى الله إلاّ أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليّ امرك.
قال: فعرض عليّرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولا أحسن منه ولا امراً أعدل منه. فأسلمت وشهدت شهادة الحق). سيرة ابن هشام 1/407.
إنأمثال هذه الحوادث كانت تحدث أمام قريش فترى أن لقاء الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واستماعهم إلى حديثه كاف لأن يقنعهم بالدخول إلى الإسلام، في حين أنهاعاجزة تمام العجز عن منع الناس عن الرسول من خلال الحوار، فكان موقف قريش يتمثل بالأساليب الملتوية والارهابية والتخويفية لإبعاد الناس عن الرسول، فكانت قبل مواسم الحجتستنفر طاقاتها لمنع لقاء الحجيج بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعندما ارسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة من المسلمين إلى الحبشة، حاولت قريش منعهممن الهجرة لكنها فشلت في ذلك، فأرسلت وفداً إلى النجاشي ليساومه على إعادتهم إلى مكة، لكن الوفد فشل في هذه المهمة، فقد استطاع المسلمون المهاجرون أن
يكسبوا موقفالنجاشي ويحصلوا على دعمه من خلال الحوار الهادئ.
فشلت قريش في كل محاولاتها الارهابية والتشويشية لأن هذه المحاولات عاجزة عن إسكات صوت الحق، وهي إنما لجأت إلى تلكالاساليب لأنها لاتريد لغة الحوار، ومن يعجز عن الحوار يلجأ إلى الاساليب الملتوية.
وسار على نهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحوار الهادئ الأئمة من أهلالبيت عليهم السلام، فالامام علي(عليه السلام) اعتمد الحوار مع خصومه عندما غصبوا حقه في الخلافة، وكذلك فعلت بضعة الرسول فاطمة الزهراء عليها السلام، وكان لإحتجاجاتهاعلى أبي بكر وأحاديثها مع الأنصار وخطبتها البليغة الرائعة في مسجد أبيها ووصيتها ذات الموقف الإحتجاجي البليغ، لقد كان لكل ذلك أكبر الأثر في تعريف الامة بحقها الضائعوحق زوجها المغصوب. ولم يكن هناك أفضل مما فعلته (سلام الله عليها) لمصلحة الإسلام في ظل تلك الظروف، فما فعلته كان أفضل الخيارات لأنها المعصومة المنزّهة عن الخطأ. وعندما بايعت الأمة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة، ثم خرج عليه أصحاب الجمل، بذل الامام عليّ (عليه السلام) كل جهوده السلمية من أجل منع الحرب، فقد أراد حل الأزمةبالطرق الحوارية. وقد اوصى (عليه السلام) جيشه بذلك فقد روى الحاكم في المستدرك 3/371: (لما كان يوم الجمل نادى عليّ في الناس: لايرمين رجل بسهم ولايطعن برمح ولا يضرب بسيفولاتبدأوا القوم بالقتال، وكلموهم بألطف الكلام فإن هذا مقام من أفلح فيه فلح يوم القيامة).
ويروي المؤرخون أن جيش البصرة وهم أصحاب الجمل عندما تأهبوا للبدء في قتالجيش الامام عليّ(عليه السلام) أرسل لهم رسولاً يحمل بيده المصحف الشريف يدعوهم إلى ما فيه لعل ذلك يمنع من وقوع الحرب، لكنهم قتلوه ورفضوا الحوار. ثم باشر أصحاب الجملالقتال فرموا معسكر الامام بالسهام وقتلوا نفراً منهم، وكان أصحاب الامام(عليه السلام) يطلبون منه أن يرد عليهم بالقتال،ولكنه كان يتأخر في ذلك على أمل أن يعود القوم إلىرشدهم فلا تقع الحرب.
وفي آخر لحظة لم يترك الامام(عليه السلام) محاولات الحوار فدعا طلحة والزبير إلى الحوار، وتحدث اليهما مذكّراً اياهما بحقه الشرعي وببيعتهما لهوما أخبر به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير في
خروجه ظلماً على الامام علي(عليه السلام)، وبعد كل تلك المحاولات أصر أصحاب الجمل على القتال فكانت تلك الكارثةالمأساوية التي نخرت جسم الامة الإسلامية. (انظر: تاريخ الطبري وفتوح ابن أعثم وشرح النهج في أحداث الجمل).
وعلى هذا النهج الثابت سار أبناؤه الأئمة عليهم السلام فكانالحوار ومنطق العقل هو الخيار الأول الذي يتبعونه مع الناس ومع خصومهم ومخالفيهم، وقد علّموا شيعتهم على هذا المنهج وأعدّوا أجيالاً من العلماء الذين انتشروا في مختلفالأمصار لينشروا فكر أهل البيت عليهم السلام عبر الحوار والمحاججة، ولم ينتشر التشيع مدى الدهور إلاّ من خلال الحوار العلمي الرصين.
وعلىطول التاريخ الشيعي نلاحظ أنالحوار هو السمة البارزة لهذا التراث العملاق،وأن الحوزات الشيعية الرائدة في بغداد والحلة وكربلاء والنجف كانت تنمو وتتطور وتؤسس النظريات الكبيرة في مختلف المجالات،من خلال ظاهرة الحوار والنقاش والمباحثة العلمية. ولعل هذا من أبرز ما يميز حوزات الشيعة ومدارسهم الدينية عن غيرهم، وهو موضع فخر وإعتزاز وشموخ الشيعة على مدى الدهور.
بل إننا نلاحظ أن الفترات التي تقل فيها ظاهرة الحوار والمباحثة، لاتشهد نمواً فكرياً،وتظل تعيش حالة الجمود والتوقف، حتّى تعود فيها الحيوية من خلال عودة البحثوالمناقشة والحوار.كما حدّثنا التاريخ عن الفترة التي أعقبت وفاة الشيخ الطوسي قدس سره. حيث يفسر ظاهرة الجمود تلك أستاذنا الكبير الامام الشهيد الصدر (قدس سره) في كتابه(المعالم الجديدة للأصول): (ان نمو الفكر العلمي والأصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلاً عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي، ومن تلك العواملعامل الفكر السني، لأن البحث الأصولي في النطاق السني ونمو هذا البحث وفقاً لأصول المذهب السني كان حافزاً باستمرار للمفكرين من فقهاء الإمامية لدراسة تلك البحوث فيالاطار الامامي، ووضع النظريات التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين).
وعندما بدأ التفكيرالاصولي السني في تلك الفترة ينكمش وينضب، فإن التفكير العلمي لدى فقهائنا فقد أحد المثيرات المحركة له، الأمر الذي يمكن أن نعتبره عاملاً مساعداً في توقف النمو العلمي،كما يقول السّيد الشهيد.
وقد انتهت تلك المرحلة على يد العالم الكبير إبن إدريس الذي أعاد للنشاط العلمي الشيعي حيوته وقابلياته الابداعية من خلال مناقشاته الجريئةلآراء الشيخ الطوسي، في كتابه (السرائر) في مقابل كتاب الشيخ الطوسي (المبسوط).
ونلاحظ ايضا أن الكثير من الكتب الهامة والقيمة التي صنّفها علماء الشيعة كانت كتباًحوارية، تجمعت فصولها وأبوابها من خلال مناقشة أفكار علماء المذاهب الأخرى، والرد عليهم بصورة علمية رصينة، أو من خلال تبادل المراسلات الحوارية والردود على أفكاربعضهم البعض حتّى تكون الغلبة لعلمائنا لأن آراءهم هي آراء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومن تلك الكتب كتاب (دلائل الصدق) الذي كان ردوداً متبادلة بين العلامة الحليوبين الفضل بن روزبهان، ومنها كتاب (منهج الرشاد) للعالم الكبير الامام جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) وهو جواب
على رسالة بعثها اليه إمام الوهابيين سعود العنزي، ومن تلكالكتب التي كانت في حقيقتها حوارات مطولة بين علمائنا وغيرهم والتي انتهت بالاعتراف بأحقية عقيدة أهل البيت عليهم السلام كتاب (المراجعات) للإمام السيد عبد الحسين شرفالدين (طاب ثراه).
وخلافاً لمنهج الأئمة عليهم السلام، نلاحظ أن رفض فكرة الحوار واللجوء إلى أساليب التشويه والتشكيك والإتهام بالتهم الباطلة كالشرك والكفر وغيرها،هي من الأساليب التي أثارها ضدهم مخالفوهم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام)والتشيع، فلقد لجأ هؤلاء إلى هذه الأساليب بعد أن عجزوا عن الدخول مع علمائنا في حوار علميومطارحات موضوعية.
وقد يلجأ أعداء مدرسة أهل البيت إلى العنف عندما يعجزون عن منازلة علمائنا فكرياً، كما حدث مع العالم الفذّ الشهيد الأول رضوان الله عليه، ومعالشهيد الثاني، ومع الشهيد الثالث التستري صاحب (إحقاق الحق) وغيرهم الكثير من شهداء الفضيلة من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
الموقف الإسلامي من الرأي الآخر
يروي العلامة الطبرسي في كتابه الإحتجاج أن المأمون العباسي جمع للإمام الرضا عليه السلام عدداً كبيراً من علماء النصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل والنحللمناظرته والدخول معهم في حوار مفتوح، وقد ناظرهم الإمام عليه السلام مناظرةً حرةً قدم فيها فكر الإسلام ودحض عقائدهم ومقالاتهم.
وينقل عن أحد الملحدين أنه قالللمفضل بن عمر بعد أن رأى منه حدّة في الكلام: (يا هذا إن كنت من اهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد فماكان هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولاتعدى في جوابنا، وأنه للحليم الرزين، العاقل الرصين، لايعتريهخرق ولاطيش ولانزق يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرف حجتنا، حتّى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أننا قطعناه، أدحض حجّتنا في كلام يسير وخطاب قصير يُلزمنا به الحجة، ويقطعالعذر ولانستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه).
هكذا كان الأئمة عليهم السلام في قضايا الفكر حتّى مع الزنادقة والملحدين يتحاورون بالاسلوبالهادئ والحجة القاطعة التي ينتصرون فيها لعقيدتهم. وقد أثّرت منهجيتهم في الحوار في نفوس الملحدين والأعداء. كانت مواقفهم عليهم السلام هادئة
رصينة لأن المسألةتدور في أجواء المناقشة الفكرية ولا مكان في هذه الأجواء للإنفعال والسب والشتم وغير ذلك من الاساليب البعيدة عن روح العلم وأخلاق الفكر.
إن من يملك القوة في فكرهوالثقة في نفسه لايخشى الحوار العلمي، بل يرحب به ويدعو اليه.. أما الذي لايملك هذه المواصفات فنراه يتهرب من الحوار ويلجأ إلى الاساليب التشهيرية وطرق الإتهام والسب بلوحتّى العنف عندما يواجه الفشل والهزيمة.
ورد عن الإمام عليّ قوله: ما حاججني عالم إلاّ غلبته وما حاججني جاهل إلاّ غلبني. وهذه مسألة طبيعية فالعالم يقدّر أبعادالفكرة ويحترم الرأي المقنع، أما الجاهل فليس لهذه المقاييس أي اعتبار عنده.
الفكر الجديد/العدد18/ 2000م