د. حسن حنفي
الشعارات العلمانية(1)
كما أن الشعارات السلفية لها مضمون نفسي واجتماعي وسياسي، وتعبر عن أزمة اجتماعية حقيقية، وتكشف عن رفضللواقع، وضيق بالنظم القانونية التي يئن تحتها المواطن، وتعبر عن السلب أكثر ما تعبر عن الإيجاب فإن الشعارات العلمانية مثل العقل، والعلم، والحرية، والإنسان،والمجتمع، والتقدم تكشف عن رغبات دفينة وحاجات فعلية وتمنيات حقيقية للوجدان العربي.
والسؤال هو: هل هذه الشعارات العلمانية غريبة على الثقافة العربية والتراثالإسلامي الذي يشكل الرافد الأساسي فيها أم أنها تعبر عن مضمون الثقافة العربية سواء بألفاظها أو بألفاظ أخرى بديلة؟
فشعار 'العقل' أو 'العقلانية' أو 'التنوير' يعبر عنلب الثقافة العربية والتراث الإسلامي. فقد ذكر العقل بكل مشتقاته الإسمية والفعلية في القرآن الكريم حوالي 49 مرة، عقل الكلام والأفعال، وفهم الوقائع، والوعي بالمصير،والتدبر بالإرادة، وتأويل الأمثال، والتأمل في الطبيعة لمعرفة قوانينها، وسبر أغوار المجتمع لمعرفة مكوناته. ويستهجن القرآن من لا يُعمل عقله في عدة صياغات هي أوسعالاستعمالات انتشاراً مثل (أفلا تعقلون)، (لعلكم تعقلون)، (إن كنتم تعقلون)، (أفلم تعقلون). وهناك ألفاظ أخرى مثل البرهان، والعلم، واليقين، والتفكر، والتدبر، ولكها تحيلإلى معاني العقل. وهو العقل النظري العملي، المنطقي الأخلاقي وليس العقل الصوري الذي غلب على الفلسفة الغربية والذي انفصل عن القيمة بدعوى الموضوعية والحياد، فاصلاًبين أحكام الواقع وأحكام القيمة.
وظهر الإعلاء من قيمة العقل في الحديث النبوي وفي إحساس العرب بأنه لا يوجد أمر في الدين نهى عنه العقل، ولا يوجد نهي في الدين أمر بهالعقل. والعرب أهل الفطرة والفصاحة. ويروى الصوفية حديثاً قدسياً 'أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، أدبر فأدبر، وعزتي وجلالي ما خلقت أعز منك'. فالعقل أولما خلق الله، يستجيب للأوامر لا فرق بين طاعة العقل وطاعة الوحي.
وقد أكد علماء أصول الدين وفي مقدمتهم المعتزلة على دور العقل وجعله أصلاً من أصولهم الخمسة فيالتوحيد والعدل، العقل أساس النقل.
وقد أكد الفلاسفة أيضاً نفس الشيء، فالعقل والوعي طريقان متفقان في الغاية، معرفة الحقيقة، والكمال الخلقي، ويستطيع الفيلسوفبالعقل أن يصل إلى كل الحقائق التي يصل إليها النبي بالوحي. الحقيقة أخت الشريعة كما يقول ابن رشد، متفقتان بالطبع، متحابتان بالجوهر والغريزة.
أما الفقهاء فإنهمجعلوا القياس المصدر الرابع للتشريع. والقياس استدلال عقلي يقوم على تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. ويعتمد على تحليل العلة في النص عن طريقالتفسير اللغوي والعقلي له ثم البحث عن العلة في الفرع عن طريق الاستدلال التجريبي. كما أقر ابن تيمية بموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وأن ما لا دليل عليه فيجبنفيه، وأن وجود الشيء هو البرهنة عليه.
واستمر العقل في باقي العلوم مثل علم التفسير في التفسير بالمعقول في مقابل التفسير بالمأثور كما فعل الزمخشري في 'الكشاف'، وفيعلم السيرة عند كتاب السيرة المحدثين مثل طه حسين في'على هامش السيرة'، ومحمد حسين هيكل في 'حياة محمد' وفي 'في منزل الوحي'، وعبد الرحمن الشرقاوي في 'محمد رسول الحرية'،والعقاد في 'عبقرية محمد' وخالد محمد خالد في 'محمد'. وفي علوم اللغة اعتمد البصريون على العقل في القياس اللغوي. فلا توجد حضارة قامت على العقل وعظمته كما فعلت الحضارةالإسلامية.
كما ترفع العلمانية شعار 'العلم' وتعني بالعلم العالم الطبيعي وتطبيقاته في التقنية أكثر مما تعني الرؤية العلمية للعالم. بل ويقصر الشعار على العلمالتجريبي في مقابل العلم الديني أو الميتافيزيقي أو حتى العقل مما سبب أزمة في العلم، وشكاً فيه كقيمة معرفية.
ولا تُوجد حضارة قامت على العلم كما قامت الحضارةالإسلامية. بل إن آلاف المخطوطات التي لم تنشر بعد وفي عصر ما قبل الطباعة، ما زلنا غير قادرين على نشرها، ونعيش عليها وربما أقل إبداعاً منها. روح الحضارة الإسلامية روحالعلم. فلم يتوقف ابن رشد عن القراءة والكتابة طيلة حياته، وكما تروى الآثار، إلا ليلتين: ليلة وفاة أبيه وليلة البناء على أهله. ومات الجاحظ بعد أن وقعت مكتبته عليه كماتخبر الروايات.
ويبدأ علم أصول الدين بوضع أصول للعلم قبل الحديث عن قواعد الإيمان. فالحديث عن العلم يسبق الحديث عن المعلوم. والسؤال: كيف أعلم؟ سابق على سؤال: ماذاأعلم؟ والعلم فطري ومكتسب، بديهي واستدلالي، عقلي وحسي، وجداني ونظري، داخلي وخارجي. وكذلك يضع علم أصول الفقه مقدماته الأولى في منطق الاستدلال ومنطق اللغة. فالعلمتصور وتصديق، حد وبرهان. كما وضع الفلاسفة أصول العلم المنطقي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي. وسموها حكمة. فالعلم أحد أبعاد الوعي بالحقيقة. والعالم هو الفيلسوف. فإذا كان شعارا العلمانية، العقل والعلم، قد تم تحقيقها في الثقافة العربية وفي التراث الإسلامي ففيما الخلاف بين الشعارات العلمانية ومضامينها التراثية؟ ولماذا فصلالعلوم الدينية والإنسانية عن مفهوم العلم الشامل وقصره على العلم الطبيعي كما هو الحال في الغرب؟ لقد خرجت العلوم الرياضية والطبيعية من ثنايا العلوم الدينيةواللغوية. الحساب لمعرفة الشهور والأيام ومواقيت الحج وقوانين الميراث، والفلك لمعرفة أوقات الصلاة، والهندسة لمعرفة بناء القبلة والمساجد وعمارة الأرض، والموسيقىمرتبطة بأوزان الشرع وبموسيقى القرآن. كما ارتبطت العلوم الطبيعية بحاجات المسلمين وتوجبه القرآن العقل نحو النظر في الطبيعة والتدبر في آيات الخلق.
فلماذا ترفعالعلمانية شعار العلم بمعنى العلم الطبيعي وفصله عن باقي منظومة العلوم كما فعل القدماء؟
وهل تقليد الغرب أولى من إحياء القدماء؟
المصدر: الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي