منزلة العلم فی الخطاب الدینی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

منزلة العلم فی الخطاب الدینی - نسخه متنی

فیصل العوامی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فيصل العوامي

فيصل العوامي

منزلة العلم في الخطاب الديني


إن (حب العلم) تتضح في الخطاب الديني في حالتين نظرية وتطبيقية ... فأما النظرية فهيتتجلى في تراكم من الإشارات والترميزات الواضحة، على رأسها:

1 ـ تسفيه الجهل والجهلة ... فمع أن الدين نطق بكرامة الانسان بما هو إنسان في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بنيآدم) الإسراء/ 70، حيث يظهر من ذلك تقديراً خاصاً لكل مَن يمتد نسبه إلى نبي الله آدم (ع)، بل تجاوز حد التكريم وأعطاه وساماً شرفياً عظيماً حين اعتبره خليفة لله سبحانهوتعالى على أرضه، حيث قال تعالى: (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة/ 30، وظاهر هذا القول العظيم شامل لكل إنسان، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد حيثالتكريم والتوسيم التشريفي، وإنما تخطاه أيضاً إلى حد تسليمه فعلاً مهمة من أشرف المهمات، تمثلت في اختصاصه بحمل المسؤولية الدينية، كما جاء مقرراً في قوله تعالى: (إناعرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب/ 72، ولا شك في شملوها لمطلق الانسان ...

فمع أنالدين أعطى الانسان هذه المنزلة الرفيعة، ونظر إليه نظرة مثالية ارتفع بسببها على كافة المخلوقات، إلا أنه قيد هذا الإطلاق بإعلانه تسقيط الإنسان إلى ما دون الحيواناتعند افتقاد الشروط الأساسية المكونة لإنسانية الانسان.

فحيث إن الإنسان تقوّم بعقله وتميز به على سائر المخلوقات، فلابد أن يكون لهذا العقل حركة يؤدي من خلالها دورهالحقيقي، فإذا انعدمت هذه الحركة انسلت مميزات الإنسان، وهذا الانسلال لا يخرج الإنسان فقط عن دائرة الانسانية ويجعله في صف واحد مع سائر المخلوقات، وإنما يجعله أنزلمنها مرتبة، لأنه حاز ما لم تحزه (وهو العقل) فأهمله، بينما هي لم تملك القدرة العقلية فأصبحت معذورة.

إن هذا الانسلال هو الجهل بذاته، وهو ما يخرج الانسان عنانسانيته، ويجعله دون الحيوانات شأناً ... يقوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان/ 44.

اُنظر كيف أن الدين أنزلالجاهل الذي لا يسمع ولا يعقل ـ فعدم الاستماع وعدم التعقل هو الجهل بعينه لأن أبرز علامات الجهل توقف حركة العقل ـ إلى ما دون الحيوانات ... وفي ذلك تسفيه وتحقير شديدللجهل ولمن يتصف به.

هذه صورة تقع في سياق تسفيه الجهل، وهي تقتضي سحب المميزات الخاصة بالانسان (الانسانية-العقلائية)، وهناك صورة أخرى تزيد من حدة التسفيه، تمثلت فيحرمان الجاهل من روح الحياة وذلك بتنزيله منزلة الميت، كما لوحظ ذلك في كلام للإمام علي (ع).

(الجهل موت).

(الجاهل ميت وإن كان حياً).

(الجاهل صخرة لا ينفجر ماؤها،وشجرة لا يخضر عودها، وأرض لا يظهر عشبها).

فإنزال الجاهل منزلة الميت إعدام لمكانته وتحقير لذاته، واعتباره شيئاً مؤذياً بين عامة الناس لابد من إقباره.

ثمتتوالى عبارات الإسقاط والتهميش للجاهل في الخطاب الديني...

يقول الإمام علي (ع):

(الجهل أدوء الداء).

(الجهل داء وعياء).

وإن كان في كل ذلك تسقيط للجاهل، فإنفي الخطاب الديني ما قد يكون أشد وقعاً على الجاهل، وذلك حين صوّره على أنه وباء اجتماعي ينبغي تجنبه ... فقد تضافرت النصوص الداعية للهروب والإعراض عن الجهلة، جاء علىرأسها قوله تعالى للنبي محمد (ص): (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).

ثم أعقبه نصيحة مهمة في هذا الشأن، صدرت من رسول الله (ص) لأمته: (أحكم الناس مَن فرّ من جهالالناس).

وتبعها إرشاد آخر للإمام علي (ع): (صديق الجاهل معرض للعطب).

ثم قول للإمام الرضا (ع): (يا صديق الجاهل في تعب).

وآخر للإمام العسكري (ع): (صديق الجاهل تعب).

وفي كل هذه الأقوال العظيمة دعوة صريحة لمقاطعة الاجتماعية مع الجهلة وكلنا يعلم ما للمقاطعة من أثر على نفسية الانسان.

هكذا نرى في الإشارة الأولى كيف أن الخطابالديني وضع الجاهل موضعاً لا يحسد عليه، حيث سلبه إنسانيته واعتبره عديم الفائدة وأوصى بمقاطعته. وفي كل ذلك تسفيه شديد له.

2 ـ إكبار العلم والعلماء ... ففي الوقت نفسهالذي حطّ الخطاب الديني من مكانة الجاهل وأسقطه إلى الحضيض، فإنه رفع من مكانة العالم ووضعه في منزلة أقرب ما تكون إلى النبوة.

إن الخطاب الديني في هذا الشق منالمسألة أثار أمراً بالغ الأهمية ذا أثر نفسي واجتماعي كبير، وذلك حين قرر عدم المساواة بين الشريحتين، شريحة العلماء وشريحة الجهلة في قوله تعالى: (قل هل يستوي الذينيعلمون والذين لا يعلمون) الزمر/ 9. (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة/ 11. (أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولواالألباب) الرعد/ 19.

فإعلان عدم المساواة بين العالم والجاهل فيه ما لا يخفى من الأثر، إذ إنه على الصعيد النفسي يشعر الجاهل بالدونية، وفي ذلك تثوير له، حيث يخاطبعلناً بأنك أنت جاهل وشأنك دون شأن العالم.

والشعور بالدونية ليس أمراً اعتباطياً عديم الأثر والضغط على الانسان، بل هو بالعكس تماماً، فضغطه شديد لأنه يرتبط مباشرةبكرامته الذاتية ومكانته الاجتماعية .. ومن طبيعة الانسان ـ أي إنسان ـ أنه يحب ذاته ويريد لها الرفعة والتفوق على الغير، كما أن من طبيعته التطلع للحصول على مكانةاجتماعية حسنة في محيطه، فلا يكاد إنسان يخلو من هاتين الطبيعتين، ولهذا فإن عدم مساواته بغيره يعد ضغطاً خطيراً في حياته.

كيف إذا كانت عدم التسوية بالغة جداً، حيثوضع واحد في الحضيض، بينما رفع الآخر إلى القمة ...

لا شك أن هذا الأمر بالغ الخطورة وشديد الأثر، وهو من المحفزات المهمة نحو العلم ...

ويمكن ملاحظة هذا الأثر بوضوحعند قوم طالوت، عندما أشكلوا على ترؤسه عليهم ... يقول تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتسعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه مَن يشاء ... ) البقرة/ 247.

فالخطاب الديني بداية جعل العالم في قمة الهرم الاجتماعي،وفي ذلك لغة تثويرية كافية للإعراب عن تكريم العلم والعلماء ... لكن مع ذلك قد سبقت هذه اللغة تصويرات تأسيسية كانت هي الخلفية الحقيقية لاستخدام هذه اللغة القاضية بعدمالتسوية.

لقد ابتدأ الخطاب الديني في سياق تأسيسه لمكانة العلم والعلماء، بأن أعطى العالم شرف التعرف على الحقيقة الكبرى وهي التوحيد ... فإن مجرد المعرفة والاطلاععلى تلك الحقيقية التي هي أسس الدين شرف عظيم يمنّ به الخالق جل علا على عباده ... وإنما يدرك هذا الأمر العارفون بالله سبحانه، حيث يرون بأن مجرد تأهيلهم لمعرفة وجودهووحدانيته منّة تستحق الشكر، أما الجهلة والغافلون فإنهم لا يدركون هذا المعنى أبداً، ولهذا عابت عليهم الآيات ذلك في قوله تعالى: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون) يوسف/ 40.

فمجرد الاستدلال على الله سبحانه، والتحقيق من وحدانيته أمر عظيم راجع لعظمة المستدل عليه جلت قدرته ... وقد أشار إلى هذا الأمر إمامنا زين العابدين (ع)في دعائه المشهور بدعاء (أبو حمزة الثمالي) بقوله: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت).

وإنما كان الطريق إلى هذه المعرفة الجليلة هوالعلم والعالم الذي يحمله، حيث يقول تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ... ) سبأ/ 6. (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ... ) الحج/54.

فهذا الأمر لوحده يعد من أكبر المدح التي وجهها الخطاب الديني للعلم والعلماء ... ولقد أحسن وأجاد شيخنا الشهيد زين الدين العاملي في تقريره لهذا الأمر حين قال فيسياق نصائحه للعلماء: (اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً وكفى بذلك جلالة وفخراً.

قال الله في محكم الكتابتذكرة وتبصرة لأولي الألباب: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) الطلاق/ 12 وكفىبهذه الآية دليلاً على شرف العلم لاسيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم ومدار كل معرفة.

وجعل سبحانه العلم أعلى وأشرف وأول منّة امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقهوإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه محمد (ص): (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّمبالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم) العلق/ 1 ـ 5.

فتأمل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومَن من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بنعمة الإيجاد،ثم أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة منة أو توجد نعمة بعد الايجاد هي أعلى من العلم لما خصه الله تعالى بذلك ... ).

هكذا ابتدأ الخطاب الديني تأسيسه لمكانة العلموالعلماء، ثم انطلق التصوير في هذا الخطاب ليبين لنا مكانة العلماء في السلّم الاجتماعي، فأعلن عن أن مكانته تقترب من مكانة النبوة، وأي مكانة أعظم من هذه المكانةالراقية ... فقد قال رسول الله (ص): (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد ... ). (فضل العالم على غيره كفضل النبي على أمته).

فمكانة العلم إذاً ليست بذات بعد عنمكانة النبوة، وهي بذلك تتعالى حتى على مكانة العباد والمتنسكين ...

فمن جهة، العلم أفضل من العبادة، بل قليل العلم يرجح وزناً الكثير من العبادة، كما قال رسول الله(ص): (قليل من العلم خير من كثير العبادة).

ومن جهة أخرى، العالم يفوق العابد مكانة ووزناً بالشيء الكثير ... بيّن ذلك رسول الله (ص) في قوله: (إن فضل العالم على العابد كفضلالشمس على الكواكب ... ).

وأكد ذلك الإمام الباقر (ع) بقوله: (عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد).

كل ذلك يزيد من شرف العلم ومكانة العلماء ... لكن الخطابالديني لا يتوقف عند هذا الحد ونما يواصل تسجيله للمدح والإطراءات في عرض مقارن بين العالم والجاهل ... فيلفت انتباهنا إلى حقيقة بالغة الأهمية فيها شيء من المقارنة بينالاثنين، بتأكيده على أن الجاهل إن كان وجوده وعدمه سواء لأنه بمنزلة الميت ـ كما هو ـ فإن العالم يرزق الحياة الأبدية لأنه يبقى علماً يستضاء به وإن مات .. إلى هذا أشارالإمام علي (ع) في قوله: (مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة).

ثم بعد كل هذا العرض، تتواصل فصول الخطابالديني مقررة مكانة لعلم، فتصل بنا إلى كلمة بليغة يلخص فيها قائلها (ع) المكانة الرفيعة للعلم، حيث يقول الإمام علي (ع): (لا شرف كالعلم).

فكل الفضائل والكرامات تتصاغرأمام المكانة العظيمة التي يحتلها العلم، والتي يضفيها بدوره على المتلبسين به.

هذه هي إذاً إشارة أخرى يمكن أن نفهم من خلالها الصورة الفعلية للعلم في الخطابالديني.

وقبل أن أغلق باب هذه الإشارة، أحب أن أستعرض رواية مفصلة وردت بأسانيد عديدة، كلها تمتد إلى رسول الله (ص) ... وهي رواية رائعة تبين الكانة الحقيقية للعلم.

فقد نقل المجلسي في البحار هذه الرواية بثلاثة أسانيد أحدها عن (جماعة عن أبي المفضل، عن جعفر بن محمد بن جعفر الحسني رحمه الله، عن محمد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي بنلاحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: حدثني الرضا علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عنأبيه الحسين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله فإنتعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه مَن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبلالجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الإخلاء، يرفع الله به أقواماًفيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كل رطب ويابسحتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالسالأبرار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الذكر فيه يعد بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله ويعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، العلم أمامالعمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظه).

3 ـ ضرورة تصوير العلم على أنه قنطرة سالكة للأحسن، وفي قباله الجهل طريقللأدنى ...

ففي النقطتين السابقتين كان العرض من قبل الخطاب الديني موضوعاً، أما في هذه النقطة فالعرض طريقي ... إذ في السابقتين كان الحديث عن العلم بذاته، وأنه بصفتهموضوعاً كيف صوّره الدين، أما في هذه النقطة فالخطاب متوجه إلى مؤديات العلم، وقد بين فيها أن العلم طريق إلى كل خير وصلاح، بينما الجهل على العكس من ذلك فهو طريق إلى كلشر.

قال رسول الله (ص): (العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله).

وقال الإمام علي (ع): (اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة).

ولو نعود إلى القرآن الكريم، ونراجع آياتهالواقعة ضمن هذا السياق، نلاحظ كيف أنها تؤكد على أن أكبر الانحرافات في العقل البشري والسلوك الانساني تعود في حقيقتها إلى عامل الجهل.

فالجهل الذي كان شائعاً عندالعديد من الأقوام والحضارات القديمة، بما فيهم مَن عاصر الرسول (ص) من كفار قريش وغيرهم، ذلك الجهل كان السبب الأساسي في حدوث الانحرافات العقلية كالكفر بالله سبحانه،وعدم الاقتناع بالرسل (ع)، وعدم التسليم للقيم الدينية ... كما أنه السبب أيضاً في تشوه السلوك والمعاملات الاجتماعية، فبسبب الجهل تحدث الجرائم والتحاسدات والاعتداءاتوالمظالم والتمزق الاجتماعي ...

ولأن الجهل هو السبب في حدوث هاتين الإشكاليتين، فإننا وبتوسط المفهوم نستدل على أن العلم هو السبب في هداية العقل البشري وسلامةالحياة الاجتماعية.

لنلاحظ كيف تبين الآيات سببية الجهل في انحراف العقل ... يقول تعالى: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الأعراف/ 138.

(قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون) الأحقاف/ 23.

وهناك آياتكثيرة غيرها، بالذات في هذه المفردة (لا يعلمون)، كلها تقود الذهن إلى هذه الحقيقة...

وأما الآيات التي تشير إلى سببية الجهل في تشوه المعاملات الاجتماعية فهي كثيرة،منها قوله تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) يوسف/ 89.

(أإنكم لتأتون الرجل شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) النمل/ 55.

(وإذا خاطبهمالجاهلون قالوا سلاماً) الفرقان/ 63.

هذه هي مؤديات الجهل العقلية والاجتماعية، أما العلم فهو على العكس من ذلك تماماً في لسان الدين، فمؤدياته استواء العقل والمجتمع... وقد تلخص كل ذلك في آية واحدة في القرن الكريم، حيث قال تعالى: (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) مريم/ 43.

فالهداية إلى الصراطالسوي الذي يستوعب كل مناحي الحياة، إنما هي نتيجة طبيعية لتوفر عنصر العلم، وفي ذلك إشعار بأن الجهل لا يؤدي إلا إلى عكس ذلك تماماً (قد جاءني من العلم ما لم يأتك).

فهذه الإشارات الثلاث عندما نجمعها ونضمها إلى بعضها تتضح لنا صورة العلم في الخطاب الديني النظري ...

وأما الخطاب الديني التطبيقي، فتجلياته كثيرة جداً، ومع ذلكيمكن حصرها من خلال الاستقراء في أمور أربعة، سأرمز لها باختصار:

ول هذه التجليات يتمثل في إظهار الاحترام للعلماء والتنصيص عليه، كما في كلام الإمام علي (ع): (مَنوقّر عالماً فقد وقّر ربه).

وكذلك ما ورد عن الإمام الكاظم (ع): (عظم العالم لعلمه ودع منازعته ... ).

ومثله ما روي عن أبيه الصادق (ع): (مَن أكرم فقيهاً مسلماً لقي اللهيوم القيامة وهو عنه راض، ومَن أهان فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان).

وقد ظهر هذا التعظيم على هيئة أفعال عند المعصومين (ع)، حيث إنهم كانوا يبدونالاحترام والتقدير لهم أمام الناس، كما حصل مع هشام بن الحكم حسبما روي عندما دخل على الصادق (ع) ذات يوم وكان في حضرة الإمام عدد من الرجال الذين يكبرون هشاماً سناً،فبالغ الإمام في احترامه وأدناه منه.

فقد ورد في رواية مفصلة أن رجلاً من الشام من أهل الكلام دخل على الصادق (ع) وأراد مناظرة أصحابه، وكان عند الإمام (ع) جمع من أصحابهثم جاء آخرون وليس فيهم هشام بن الحكم. وبينما الإمام كان جالساً بعد استقرار المجلس، تقول الرواية: فأخرج أبو عبدالله رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب، فقال: هشام وربالكعبة، قال الراوي: فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له.

قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا مَن هو أكبر سناً منه، قال:فوسع له أبو عبدالله (ع) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.

إلى آخر الرواية وفيها ثناء جميل على هشام ولطائف علمه.

وروي أيضاً في (أمالي المفيد) أن أحد الرواة قاليوماً للإمام الصادق (ع): ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي؟ فقال (ع): لا تقل: سلمان الفارسي، ولكن قل: سلمان المحمدي. أتدري ما كثرة ذكري له؟ قلت: لا، قال: لثلاثخلال إحداها إيثاره هوى أمير المؤمنين (ع) على هوى نفسه، والثانية حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعُدد، والثالثة حبه للعلم والعلماء).

وثانيها حثأبناء المجتمع للاقتراب من العلماء، وقد شاع هذا الأمر حتى أصبح سيرة في وسط المسلمين.

ولا يخفى على مَن لديه أدنى أنس بالروايات مستوى هذا الحث وكثرته، فقد تضافرتعليه الروايات المعصومية، ويكفينا منها ما رواه بعض الصحابة عن رسول الله (ص)، قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله إذا حضرت جنازة ومجلس عالم أيهماأحب إليك أن أشهد؟

فقال رسول الله (ص): إن كان للجنازة مَن يتبعها ويدفنها فإن حضور مجلس عالم أفضل من حضور ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيامألف يوم، ومن ألف درهم يتصدق بها على المساكين، ومن ألف حجة سوى الفريضة، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل الله بمالك ونفسك وأين تقع هذه المشاهد من مشهد عالم؟ أماعلمت أن الله يطاع بالعلم ويعبد بالعلم؟ وخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل؟).

وثالثها التشجيع على طلب العلم بكل السبل، فقد دفع المعصومون(ع) عموم الناس إلى طلب العلم وحببوه إليهم، حتى قال رسول الله (ص): (مَن جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله تعالى ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة).

كما ورد عنالإمام أبي جعفر الباقر (ع): (سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة. وذلك أن الله يقول: (ماأتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

بل نقل أن الإمام علي (ع) كان يختص شيئاً من بيت مال المسلمين لتشجيع طلبة العلم الذين تفرغوا لتعلم القرآن الكريم.

وأمارابع التجليات في هذا السياق، فهو الارتقاء بالعلماء إلى المناصب المهمة في الأمة دون سواهم ... فهناك مواقع بارزة ومهمة جداً في الأمة اشترط في تسلمها توفر عنصر العلم ...

ويمكن ملاحظة ذلك في مواقع عديدة من بينها منصب القضاء حيث اشترط فيه العلم ولم يؤهل له إلا العلماء ...

فقد ورد في مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع): (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياًفتحاكموا إليه).

فالمدار في هذه الرواية يتركز في قوله (ع): (يعلم شيئاً من قضايانا)، وهي تعبير عن العلم المشترط في التأهل لمنصب القضاء.

وكذلك مقبولة عمر بن حنظلة،قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلىالطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقدأمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران مَن كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً،فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله).

فقوله (ع) في هذه الرواية (فمن قد روى حديثنا،ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا)، دليل على شرطية العلم في القضاء والحكم.

وكما هو حال القضاء، كذلك حال الإفتاء، حيث لا يسوغ لأحد مهما كانت مكانته ممارسة دورالإفتاء، ما لم يكن متمتعاً بقسط وافر من العلم.

وقد ورد في تأكيد ذلك العديد من الروايات، من بينها خبر سليم بن أبي حية، قال: كنت عند أبي عبدالله (ع) فلما أردت أنأفارقه ودعته وقلت: أحب أن تزودني، فقال: (إئت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني).

وكذلك التوقيع الشريف للإمام المنتظر (عج). فقد روىالصدوق في كتاب كمال الدين، قال: حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل ليكتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع): (أما ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبتك ـ من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا ... وأماالحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).

فقوله (ع): (قد سمع في حديثاً كثيراً) في الرواية الأولى، و(رواة حديثنا) فيالرواية الثانية، إشارات واضحة إلى أن مقام الإفتاء لا يؤهل له إلا مَن تتوفر عنده حصيلة علمية كافية.

وهكذا يقفز العلم ليصبح نقطة القوة التي بها يتأهل الانسانللتصدي للكثير من المواقع القيادية، كما يظهر ذلك في العديد من الروايات، من بينها ما ورد في كنزل العمال: بعث النبي (ص) وفداً إلى اليمن، فأمّر عليهم أميراً منهم وهوأصغرهم، فمكث أياماً لم يسر ... فقال له رجل: يا رسول الله أتؤمّره علينا وهو أصغرنا؟ فذكر النبي (ص) قراءته القرآن).

وقراءة القرآن في العصر الاسلامي الأول، خاصة علىعهد رسول الله (ص)، كانت العلامة الأبرز على القدرة العلمية عند الانسان.

فبضم هذه التجليات الأربعة تتضح لنا الصورة الحقيقية للعلم ومكانته في الخطاب التطبيقي للدين...

ومن خلال تأملنا في الخطاب النظري والتطبيقي معاً، نجد أن الدين يدعو إلى (حب العلم)، إذ لا يمكن ترجمة كل المقدمات والإشارات الكبيرة الكثيرة الأهمية التي تماستعراضها في الخطابين، إلا بذلك فكلها يفهم منها الدعوة لحب وتقديس العلم.

*المصدر : عن ثقافة النهضة

/ 1