تعريف النفس
د. راجح الكردي تأثر تعريف فلاسفة المسلمين للنفس بتعريف أرسطو لها تأثرا واضحا حتى إنهم نقلوه بصيغته مترجما، إذ عرفوهابأنها 'كمال أول لجسم آلى ذي حياة بالقوة'.
أو هي: 'تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابل للحياة' كما عند الكندي، والفارابي.
ويعرفها ابن سينا بحسب اقسامها فيقول: 'والنفسكجنس واحد ينقسم بضرب من القسمة إلى ثلاثة اقسام:
أحدها: النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى.
والثاني: النفس الحيوانية وهي كمال أوللجسم طبيعي آلى من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
الثالث: النفس الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلى من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكريوالاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية'.
والذي يهمنا في بحث المعرفة هنا هو النفس الإنسانية أو العاقلة التي هي جوهر الإنسان عندهم. وهذه النفس الإنسانيةتحدث على ضوء نظرية الفيض بأن تفيض عن العقل الفعال، الذي هو الملك الذي يشرف على حركة فلك القمر، والذي يطلقون عليه واهب الصور.
وحدوث النفس وتعريفها _على طريقةالفيض _ له الأثر البالغ على تفسير نظرية المعرفة ذلك أنه إذا كانت النفس الناطقة هي جوهر الإنسان على التحقيق، فالمعرفة الحقة هي سبيل الصعود إلى العالم العلوي، هذا علىمبدأ أفلاطون.
أما ابن رشد فيعترف بصعوبة تعريف النفس وبيان حقيقتها، ومع ذلك يعرفها بأنها ذات ليست بجسم، حية عالمة قادرة مريدة بصيرة متكلمة، وبأنها الجوهر الذي هوالصورة.
طبيعة النفس:
تبدو عند فلاسفة المسلمين النظرة الروحية لطبيعة النفس موافقين للإسلام الذي يقرر روحانيتها ويقرون كذلك مع الأفلاطونية بأنها من طبيعةعالم المثل وليست من قبيل العالم المادي ومع أرسطو في تقرير جوهريتها وأنها صورة. كما يضع فلاسفة المسلمين النفس الناطقة أو القوة الناطقة من النفس الإنسانية على رأسالملكات الإنسانية، بل ويسندون إليها رئاسة سائر قوى النفس والرقابة عليها. ويوقنون كذلك بمقدرة هذه النفس على إدراك الحقيقة المطلقة بصورة يقينية.
وقد رأى ابن رشدأنه يستطيع التوفيق بين مذهبي أرسطو وأفلاطون بالنسبة للنفس فقال: 'إن النفس وإن كانت صورة للبدن _كما يقول أرسطو _ فإنها صورة من جنس خاص. ومعنى ذلك أنها ليست كباقي الصورالأخرى التي تتحد مع موادها. فإن هذه الصورة الأخيرة بما فيها النفس النباتية والنفس الحيوانية، لا تنفك عن أجسامها إلا أنها منطبعة فيها ومتحدة بها اتحادا جوهريا فلايمكن تصورها مستقلة وقائمة بذاتها، وهي في الوقت نفسه صورة للبدن حلت فيه لحكمة إلهية، وهي إلى جانب ذلك ذات روحية أي غير جسمية'. وهي ذات مستقلة تدير الجسم وفي نفس الوقتصورته. وهي مخلوقة لله خلقاً مباشراً مستمراً، لا على طريق الفيض الفارابي والسينوي. وهي المسئولة عن وحدة الجسم واتساق وظائفه. ومن ثم فلا وسط بين الله والنفس ولا وسطبين العالم المحسوس والعالم المعقول.
وحدة النفس الإنسانية
ذهب فلاسفة الفيض المسلمون إلى القول بوحدة النفس وأن النفس، هي شيء آخر غير العقل الفعال. بينما كانالفلاسفة اليونانيون يجعلون النفوس متعددة بتعددها في الجسم الواحد، كما عند أفلاطون أما أرسطو فكان مضطربا في تقدير وحدة النفس إذ يرجع هذا إلى اضطرابه في تحديد طبيعةالعقل الفعال، أهو إحدى وظائف النفس أم هو شيء آخر ومن جنس آخر؟وقد حل هذه المشكلة ابن رشد بالقول 'بأن جوهر النفس وحقيقتها نشاط وإدراك عقلي أي انها عقل فعال' ومن ثم كانمصدر القول بوحدة النفس عند فلاسفة المسلمين أرسطيا، ولكن تفسير وحدتها كان مختلفا عليه بين كل من فلاسفة الفيض الفارابي وابن سينا وبين فيلسوف الخلق المباشر ابن رشد.ففلاسفة الفيض يذكرون أن لكل جسم نفسه الخاصة وأنه من المستحيل أن يحتوي الجسم الواحد على أكثر من نفس واحدة، وأن للنفس قوى منبثة في جميع أنحاء البدن وتنقسم هذه القوىلديه إلى قسمين رئيسين: أحدهما موكل بالعمل، والآخر موكل بالإدراك، وينقسم الأول إلى ثلاثة أقسام فرعية وهي القوة النباتية والقوة الحيوانية والقوة الإنسانية. وينقسمالقسم الثاني منها إلى قسمين فرعيين: حيواني وإنساني. أما الحيواني فوظيفته الإحساس، وأما الإنساني فيضاف إلى تحصيل المعرفة العقلية بمعنى الكلمة، ويطلق على هذا الأخيراسم العقل النظري والقوى الادراكية تفيض من النفس في مختلف الأعضاء. ووحدة النفس عند ابن رشد تعني أن العقل الفعال هو إحدى وظائف النفس وليس ذاتا خارجة عنها ذلك أنهجعل للنفس وظائف عديدة من تغذ ونمو وحس وحركة، وتنتهي بالاستعداد لقبول المعاني بعد تجريدها من كل طابع حسي، وسمي الوظيفتين الأخريين بالعقل الهيولاني والعقل الفعال،فالأمر الأول هو الذي يقيمها والثاني هو الذي يجردها.
الصلة بين النفس والبدن
أما صلة النفس بالبدن فهي على مذهب أصحاب الفيض صورة له من جهة وصورة ليست جسمية.والتوفيق فيها ظاهر. ذلك أن أفلاطون كما يرى أن النفس ذات طابع روحي وحالة في البدن واتصالها به عرضي، بينما كان يرى أرسطو أن لها بالبدن اتصالا جوهريا كاتصال الصورةبالمادة. فأخذ فلاسفة المسلمين من أفلاطون جوهرية النفس وروحانيتها في البدن، والدين لا يمانع من روحانيتها، كما أخذوا من أرسطو كونها صورة للبدن متحدة معه اتحاد الصورةبالمادة، وأن النفوس تفيض على الأجسام عند استعداد الأجسام لها، واتصال النفس بالبدن اتصال جوهر بجوهر آخر بصفة عرضية. بينما يرى ابن رشد أن النفس وإن كانت صورة للبدنعلى مذهب أرسطو فهي جوهر روحاني قائم بذاته لا ينقسم بانقسام الجسم، ولكنها لا تفيض عن العقل الفعال أو واهب الصور كما عند أصحاب الفيض، ولكن الله وحده هو الذي يخلقها معسائر ما يخلق من موجودات روحية ومادية، خلقا مباشرا. وهكذا تتصل النفس بالجسم على الرغم من اختلاف طبيعتها عن طبيعته اختلافا تاما. ومن ثم فهي لا تحل في البدن حلولا عرضياولا تتحد به اتحادا جوهريا، وصلتها بالبدن أمر يدق على فهم الإنسان وكل ما هنالك أن الجسم آلة تستخدمها النفس وبذا تكون النفس الناطقة هي 'الواصلة التي اتصل بها الوجودالمحسوس بالوجود المعقول'.
قوى النفس
لقد تأثر فلاسفة المسلمين في قولهم بطبيعة النفس بأفلاطون حيث قرروا استقلالها عن البدن أيا كانت صلتها اتحادا فيه أو حلولا،كما قرروا روحانيتها بسبب اعتقادهم الديني وتأثرهم كذلك بالأفلاطونية التي قررت أن النفس من طبيعة عالم المثل. أما قولهم بوحدة النفس فقد كانوا به أكثر تأثرا بأرسطوووحدة النفس لا تحول دون تعدد وظائفها بحسب صلتها بالبدن. ومن هنا درج فلاسفة المسلمين على تقسيم قوى النفس بنفس التقسيم اليوناني السابق لهم وجعلوا النفس الواحدة أوالروح أو القلب هي مركز هذه القوى. وهذه القوى هي: أ_ القوى المحركة:
وهي قوة يشترك فيها النبات والحيوان والإنسان، وتشتمل على القوى التالية: 1_ القوى الغاذية:وهي قوة تقوم بتحليل الغذاء وتوزيعه على البدن وهي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.
2_ القوة المنمية: وهي المسئولة عن تنميةالجسم وزيادته.
3_ القوة المولدة: وهي القوة التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءا هو شبيه له بالقوة، فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التحقيق والتمزيج مايصير شبيها به بالفعل.
4_ القوة النزوعية والشوقية: وهي القوة التي إذا ارتسم في التخيل صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تذكرها على التحريك. ولها شعبتان: _ شعبة تسمى قوة شهوانية وهي تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلبا للذة.
_ وشعبة تسمى قوة غضبية وهي تبعث على تحريك يدافع به الشيء المتخيلضارا أو مفسدا طلبا للغاية.
ب_ القوة المدركة وهي:
1_ القوة الحاسة: ويشترك فيها الإنسان والحيوان وهي قوتان: _ قوة الإحساس الظاهر أو الخارج المبثوث في الحواسالخمس: السمع والبصر واللمس والشم والذوق.
_ قوة الإحساس الباطن وهي مجموعة قوى الحس المشترك والمصورة والحافظة والمتخيلة والمفكرة والذاكرة.
_ والمدركة من خارجهي الحواس الخمسة...
_ وأما القوى المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صورة المحسوسات وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات.. فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية:
قوةفنطاسيا أي الحس المشترك وهي قوة تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأدية إليه منها.
*ثم الخيال والمصورة: وهي قوة تحفظ ما قبله الحس المشترك منالحواس الجزئية الخمس، وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات. واعلم أن القوة التي بها القبول غير القوة التي بها الحفظ.
*ثم القوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفسالحيوانية، ومفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية وهي قوة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار.
*ثم القوة الوهمية وهي قوة تدركالمعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب وأن الولد معطوف عليه.
*ثم القوة الحافظة الذاكرة قوة تحفظ ما تدركه القوةالوهمية كنسبة القوة التي تسمى خيالا إلى الحس ونسبة تلك القوة إلى المعاني كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة.
2_ القوة الناطقة _العقلية _ وهي النفس الناطقة التيتجمع بالاضافة لكل ما مر من قوى النفس قوة الإدراك العقلي وتنقسم إلى قوتين بحسب موضوعها:
قوة عملية وقوة نظرية، أو قوة عاملة وقوة عالمة، أو العقل العملي والعقلالنظري.
*فالقوة العملية أو العاملة أو العقل العملي: هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفعال الجزئية الخاصة بالروية على مقتضى آراء تخصها وتتسلط على البدن وما فيه منقوى من أجل تدبيره، فتنشأ من ذلك هيئات تسمى أخلاقا أو فضائل أو رذائل.
*والقوة النظرية أو العقل النظري: وهي 'قوة شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، فإنكانت مجردة بذاتها فذاك، وإن لم تكن فإنها تصيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء'.
_ إن المعقول من المعقولات هو الموجود، أي أن معقوليتهاووجودها شيء واحد بخلاف الصور الهيولانية فإن الموجود منها غير المعقول.
_ كما أن إدراكها غير متناه، لأنها تصدق على كثرة غير متناهية، بخلاف الصور الهيولانية التيلا تصدق إلا على المتناهي لهذا يجب أن تكون القوة النظرية الحاكمة في المعقولات غير متناهية.
_ كما أن الإدراك فيها هو المدرك والعاقل هو المعقول، بمعنى أن العقلعندما يجرد المعقولات عن المادة ويعقلها فهو إنما يعقلها ويعقل ذاته. والعقل والعاقل والمعقول شيء واحد.
_ كما أن الإدراك فيها ليس انفعالا، فلا تتأثر باستدامةالإدراك، واشتداده أو ضعفه، بخلاف الحس فإنه لا يقوى على إدراك المؤثرات الشديدة.
_ كما أنها تزداد قوة كلما تقدم السن بخلاف قوى النفس الأخرى، كالحواس فإنها تضعفكلما تقدم السن.
وهذا القوة النظرية أو العقل النظري هو العقل الذي به يكون تفسير عملية المعرفة.
* المصدر: نظرية المعرفة بين القرآن والسنة