د0 محمد حسين الصغير
المصدر العقلي
وقع الخلاف بين المسلمين في مدى صلاحية العقل للاستقلال بالحكم , أو بإعتباره طريقاًموصلاً الى الحكم , أو بإلغاء هاتين الصلاحيتين له, وحجبهما عنه, فعلى هذا تكون النظرة إلى العقل بثلاث اتجاهات :
الإتجاه الاول : نسب الى المعتزلة بأنهم يرون العقل هوالحاكم , وهم بهذا يقدمون حكم العقل على حكم الشرع0 إلا أن التحقيق بخلاف هذا , فلم يرد عنهم استقلال العقل بالحكم دون الشرع بل الأولى عندهم - كما نسب لهم - أن العقل طريقالى العلم0 وذلك بإعتبار التكليف منوطاً بالعقل 0
الإتجاه الثاني : وقد إعتبر الإمامية العقل طريقاً موصلاً إلى العلم القطعي , فلذلك لا يصح عندهم أن يكون شاملاًللظنون0
وقد عد الشيخ المفيد (ت: 413ه) العقل هو السبيل الى معرفة حجية القرآن , ودلائل الاخبار0
الإتجاه الثالث : وقد ذهب الأشاعرة بأن التكليف مهما كان فمنشؤه حكمالشارع لا العقل , والعقل لا يعتمد عليه في أدراكاته لحكم الشارع0
ووافقهم جمع من الاخباريين من الأمامية , وذهبوا الى القول بعدم جواز الاعتماد على شئ من الادراكاتالعقلية0
ويمكن إجمال القول في الخلوص الى رأي في المقام بما يأتي :
إن أهل العدل من المعتزلة والامامية لم يجمدوا على المصدر النقلي, وإحتاجوا بهذا التحرر إلىالتجوز والتخطي, فتجاوزوا القول بالمأثور والمنصوص في اللغة, إلى إستغلال مرونة اللغة العربية , فقاموا بتفجير لطاقتها , فتذرعوا باللغة لتأييد الحكم فيما لا دلالة عليهحقيقة, وكان سبيل ذلك : أن عمدوا الى ما في اللغة من إشارات ورموز قد تكون دلالتها الاولى قد ذهبت مع الزمن ولا سبيل لكشف كثير من هذه الرموز إلا بالتجوز, والتجوز عادة يكونمداره العقل ومداركه في التمييز والتمحيص, كما يكون مداره القرائن اللفظية , فلو ورد شئ من القرآن لا مجال لفهمه أو العلم به عن طريق النص المأثور , لأحتيج الى الكشف عنهوالدلاله اليه , وما سبيل ذلك إلا العقل بإعتباره مناط التكليف , وحيث لا يمكن أن يكون الشرع مخالفاً للعقل السليم , فقد عاد العقل بمنزلة الشرع عند المعتزلة من هذا الوجه ,وهنا يأتي الشرع مؤيداً للعقل أو دالاً عليه , او متوافقاً معه عند الامامية , ولهذا لجأوا الى التنظير على صحة ذلك إلى القول بالقبح والحسن العقليين , تسويغاً لنظرتهم هذهوهي أساس عقلي دون ريب0
ولكننا مع هذا نجد أن التحقيق في الموضوع يرجح عندهم الجنوح إلى المجال اللغوي أكثر من الجنوح الى الأصل العقلي, فكأنهم تذرعوا بالعقل إلىالوصول إلى مدارك العقل واجتهاداته في النصوص القرآنية , فالنحو الذي يدرسون به النص من وجوهه المحتملة , والبلاغة التي فرضت وجودها في مجالات التأويل , دليل علىالتذرعبالعقل في إستخدام اللغة , وقد نجم عن ذلك تأليف الزمخشري للكشاف الذي إعتمد الجانب البلاغي في ترجيح العقل , وهو من آبرز آثار المعتزلة في التفسير ,أو أمالي المرتضى الذييعتبر من أبرز من أكد على الجانب اللغوي من الامامية في تفسيره لجملة من الآيات , فنجد أن كلاً منهما
قد عني بمسائل اللغة والبيان والتمثيل , كماعني بالمسائل العقليةالنظرية , فجاء التفسير مزيجاً بين هذا وهذا , ففي الوقت الذي تذهب فيه اللغة إلى التجوز العقلي في صفات الله , يدفع فيه العقل الفطري حسن الحسن وقبح القبح , وغير هذا ممايكشف عنه , وجه ربك وهو ذاته , وعينه وهي عنايته ورعايته , ويده وهي قوته وارادته , فإنه يستعمل الدلالة اللغوية في تجوزها من المعنى اللغوي الأصلي الى المجاز والاستعارةوالكناية , ويمتد ذلك الجانب اللغوي كله فنجد العناية بالمعنى ودلالته, والنظم والتركيب وتجوزهما بلاغياً فتلمس أهمية التمثيل والتخييل من باب ضرب المثل , وتجدد الحوادث, ومماثلة القصص, وإستخلاص العبر, مما يخلص معه إلى أثر العقل في هذا الشأن , وإن كان مرجعه اللغة0
ويبدو واضحاً أن أهل العدل في نظرتهم هذه للعقل ' لا يريدون التفاضل بينحكم العقل وحكم الشرع إلا من حيث الاستدلال على العقيدة والتدين بها بالنظر إلى أن العقل مناط التكليف , ولا يمكن تفضيله , وإلا أدى الى إهداره النص , والتخفف من المسؤوليةالمنوطة به '0 ومن يدافع عنهم يذهب الى هذا فيعتبرهم أصحاب دعوة للعقل حين يعرض القرآن لمسائل الاعتقاد أو أصول الدين , أو بعض الفروع , حتى ذهب جملة من الامامية على ما حكىعنهم السيد الحكيم إلى ' أن العقل مصدر الحجج واليه تنتهي '0
والعقول وإن كان لها قابلية الادراك إلا أنه إدراك يتناول الكليات, ولا يتعدى ذلك الى الجزئيات والفروعالتي تحتاج الى دليل نصي على إرادتها, وهذا لا يمانع من أن يدرك العقل خصائص كثيرة في تفسير النصوص جارية وفق مقتضيات العقل السليم , ويستفاد من هذا الرجوع إلى العقل السويبإعتباره مجرداً غير خاضع لتأثيرات أخرى تصده عن الوصول الى الواقع, وذلك لإدراكه بالبداهة والفطرة جملةمن الاوليات والبديهيات وتسليمه بها تسليماً تاماً من قبيلالأدراك أن الواحد نصف الأثنين , وأن الكل أكبر من الجزء , وأن المظروف أصغر من الظرف , وأن العلم خير من الجهل , وأن الحسن أولى من القبح 00 وهكذا0
وقد يورد بعضهم المأثورعن اهل البيت (عليهم السلام) : ' إن دين الله لا يصاب بالعقول '0 وليس فيه حجة لهؤلاء إذ ليس الأمر كما ذهبوا إليه من إبطال حجية العقل كمدرك لكليات الامور , بل المراد منقولها (عليهم السلام) : بيان عدم أستقلال العقل في أدراك الاحكام ومداركها, أي أن الاحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول إستقلالاً 0 والظاهر أن هذه الأخبار وأمثالهاإنما يعمل بها في مقام معارضة الإجتهاد بالرأي , والنص بالقياس, والعمل بالاستحسان بدعوى أن العقل الانساني يدرك الأحكام بهذه الملاكات , فيستنبط في ضوئها مايشاء دونالرجوع الى نص أو أثر أو مدرك شرعي , وهذامنفصل عنه دون ريب 0
المصدر : المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق