خلود العذاب وانقطاعه
الطباطبائي مسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي ومن جهةالظواهر اللفظية.
والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: (وما هم بخارجين من النار) الآية، والسنّة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضةفيه، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفي الخلود، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب.
وأما من جهة العقل، فان الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعادبالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لأن العقل لا ينال إلا الجزئيات، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.
وأما النعمةوالعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو رديئة أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الأحوالوالملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.
وأن ماكانت من هذه الصور صوراً غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لأن القسر لا يكون دائمياً ولا أكثرياً، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتاً وعليها هيئات شقيةرديئة ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، وهذا كله ظاهر.
وأما الهيئات الرديئة التي رسخت في النفس حتى صارت صوراً أو كالصور الجديدة تعطي للشيء نوعية جديدةكالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لإنسانيته كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعاً جديداً تحت الحيوان فالانسان البخيل أيضاً نوع جديد تحت الانسان، فمن المعلومأن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنهالما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل مَن ابتلى بمرض الماليخولياأو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإنلم يكن متألماً من حي انتهاء الصدور إليه نفسه، لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلى به وهذا الحد يصدق علىالأمور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منطقع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.
وقد استشكلهاهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شيء؟
ومثل أن العذابإنما يكون عذاباً إذا لم يلائم الطبع فيكون قسراً ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم؟
ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنباً منقطع الآخر فكيف يجازى بعذاب دائم؟
ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة. ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد؟
ومثل أن العذاب للمتخلفعن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوزمه العذاب وخاصة العذاب المخلد؟
فهذه وأمثالها وجوه من الإشكال أوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه. وأنت بالإحاطة بما بيّناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطةمن رأس، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعدتمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الأحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضةالصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الأفعال الانسانية بعد ورود الصورة الانسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الانسانية كذلكلا معنى للسؤال عن لمية ترتيب آثار الشقاء اللازم، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالاتجميعاً، فهذا هو الجواب الإجمالي عنها.
وأما تفصيلاً: فالجواب عن الأول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والإشفاق والتأثر الباطني فإنها تستلزم المادة ـتعالى عن ذلك ـ ، بل معناها العطية والإفاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسأله بلساناستعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسأله، والرحمة رحمتان: رحمة عامة، وهي إعطاء ما يستعد له الشيء ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة، ورحمة خاصة، وهي إعطاء ما يستعد الشيءفي صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها،وأما الرحمة الخاصة لا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامة فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، وإنأراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس مورداً لها، على أن الاشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضاً حتى أنواع العذاب الدنيوي، وهو ظاهر.
والجواب عن الثاني:أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملاءمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والأثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر عن قسر القاسر ويقابله الأثر الملائمالذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشيء وعاد الشيء يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما في مثال الماليخوليائي (صاحب الكابوسالمستمر) فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث، والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشيء لا يرتضيهافهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.
والجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، وهو صورةالشقاء فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، وهي المخالفات المحدودة، وليس معلولاً لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثراً غير متناهوهو محال، ونظيره أن عللاً معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الانسانية فيصير إنساناً يصدر عنه آثار الانسانية المعلولة للصورة المذكورة، ولامعنى لأن يسأل ويقال: إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدوراً دائمياً سرمدياً لحصول معدات محدودة مقطوعة الأمر للمادة فكيف صارت مجموع منطقع الآخر منالعلل سبباً لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائماً لأن علتها الفاعلة ـ وهي الصورة الانسانية ـ موجودة معها دائماً على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لامعنى لذلك أيضاً.
والجواب عن الرابع: أن الخدمة والعبودية أيضاً مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدأ الوجود، وعبودية خاصة وهوالخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة،والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، والعبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في موردالعذاب المنقطع الأخروي بل الدنيوي أيضاً.
والجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان كما عرفت، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقالفي كل موجود: إنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفّي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى الجزاء الشاق والأثر السيئ الذي يجزي به المولى عبده في مقابلتعديه عن طور العبودية، وخروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد والمخالفة مما يصدق فيه تعالى، لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاماً بهذا المعنى إشكالاً ألبتة.
على أنهذا الإشكال أيضاً لو تم لورد في مورد العذاب المؤقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضاً.
المصدر : الميزان في تفسير القران/المجلد1