دور الحواس فی عملیة المعرفة و مجالها و خصائصها و تقییمها نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دور الحواس فی عملیة المعرفة و مجالها و خصائصها و تقییمها - نسخه متنی

راجح الکردی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دور الحواس في عملية المعرفة ومجالها وخصائصها وتقييمها

د. راجح الكردي


أ_ دور الحواس في عملية المعرفة

1_ عند التجريبيين:

لا خلافبين المذاهب الفلسفية في ان للحواس دورا ما في عملية المعرفة. ولكن الخلاف إنما هو في تقييم الدور الذي تقوم به الحواس في تحصيل المعرفة من ناحية، وفي تحليل دور الحواس فيهذه العملية من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى في مدى اعتماد المعرفة على الحواس وفي علاقة الحواس بغيرها من طرق المعرفة.

وبمناسبة الحديث عن المعرفة الحسية، نجد انالتجريبيين أو الحسيين يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا للمعرفة، بل ويعدونها المنبع الوحيد والسبيل الرئيسي للمعرفة. وتقوم نظرتهم لغيرها من الطرق، كالعقل، علىأنه تابع للحواس، بل وتعتمد عليها كلية وينحصر دوره فيما تقدمه له هذه الحواس، بل هو لا يعدو ان يكون مستقبلا، هذا إن كان ثمة اعتراف به وبدوره في المعرفة.

فالإحساسعند الأبيقوريين مثلا، أصل المعرفة وطريقها الوحيد، والإحساسات تعطينا صورة صادقة للأشياء أي صورة مطابقة لواقعها، 'وخطأ الحواس ليس يقع في الإدراك بل في الحكم الذييضيفه العقل إلى الإدراك'.

والرواقيون يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا وحيدا للمعرفة، إذ هي تتصل بالماديات، والوجود عندهم كله مادي، حتى العقل نفسه فإنه مادةإذ النفس مادية، والإنسان يولد وعقله صحيفة بيضاء خالية من كل معرفة، ثم تنطبع فيها صور الأشياء عن طريق الحواس، والعقل حاسة من الحواس، وهو يقوم بالتجريد والإضافةوالتأليف والنقل والمضاهاة، ولا يستطيع في عمله ذلك الخروج عما تقدمه له الحواس الخارجية.

والتجريبية الحديثة كذلك تجعل التجربة أو الحواس طريقا وحيدا للمعرفة.فالتجربة عند لوك مثلا نوعان: تجربة حسية أو إدراك حسي يعتمد على الإحساس المباشر ويقوم على تلقي الانطباعات الحسية، وتجربة باطنية أو تأمل يعتمد على التفكير ويقوم علىربط الإحساسات الخارجية وتكوين أفكار منها. فالأفكار العقلية ليست في النهاية إلا صورة من التجربة وإن كان هذا التوسع في معنى التجربة عند 'لوك' يعد تقدما نحو إقراربالعقل إلا أن مهمته عنده ما تزال سلبية. وإذا ما نظرنا إلى الاتجاه الحسي المتطرف، لدى 'كوندياك' نجده يقتصر على الإحساس الظاهري ويستغني عن التفكير كمصدر للمعرفة، ويرىأن أي إحساس ظاهري كاف لتوليد جميع القوى النفسية، وأنه عند أول إحساس يوجد شيء واحد في الشعور، وهو إحساس واحد لا غير، ويكون هذا هو الانتباه، ويبقى هذا الإحساس ومعإحساس آخر تحصل الذاكرة، وبتوجيه الانتباه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي تحدث المقارنة أو المضاهاة، وبإدراك المضاهاة مشابهة ومفارقة يتكون الحكم، وإذا تكررتالمضاهاة والحكم كان الاستدلال. فعمليات العقل إذن ليست إلا إحساسا خارجيا أصلا. أما الفيلسوف الحسي 'هيوم'، فيرى أن الافكار ليست إلا صورا باهتة للانطباعات الحسيةالقادمة من الحواس، ومن ثم فهو يجرد العقل من كل فاعلية، وأن ما ينشأ في العقل من انفعالات وإدراكات قوية بارزة فهو من الحواس الخارجية، بحيث تحدث صور لهذه الانفعالات،وتنشأ علاقات فيما بينها وبين المعاني بفضل قوانين تداعي المعاني أو التشابه والتقارن في الزمان والمكان والعلية، وهذه القوانين ليست أولية أو غريزية في العقل وإنما هيتكرار للتجربة كما أنها ليست قائمة في الخارج.

ومن ثم فإن للتجريبيين موقفا صلبا من القياس لأنه مبنى على المعنى المجرد الكلي، ولأنه يشهد بوجود العقل وفعاليته فيالمعرفة وهم ينكرون هذا الدور للعقل، ويعدون الحواس صاحبة المقام الأوحد في المعرفة، ومن ثم فإن الاستدلال عندهم ليس الانتقال من معنى عقلي إلى معنى عقلي وإنما هوالانتقال من محسوس إلى محسوس محكوما بقانون التداعي. ومن ثم فإنهم يفضلون الاستقراء الذي هو انتقال من محسوس إلى محسوس أو من جزئي الى جزئي، والاستقراء قائم عندهم علىمجرد التوقع الأولي أو مجرد عادة يولدها التكرار ذلك أن المستقبل شبيه بالماضي.

2_دور الحس عند العقليين:

أما العقليون فلا ينكرون وجود الحواس وأن لها دورا ما فيالمعرفة. ولكنهم يأخذون على التجريبيين اعتمادهم التام عليها طريقا للمعرفة، ثم يخالفونهم في اعتبار العقل محصورا في مهمة الحواس. ويقول العقليون: إن التجربة التي تحصلبوساطة الحواس مضللة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة لو اعتمدنا عليها كل الاعتماد في المعرفة، ذلك أن الإدراك الحسي إنما يخبرنا عما يتعلق بحالة واحدة من أحوالالشيء، كما أن ما تظهرنا عليه الحواس ليس إلا مظهر الأشياء فحسب، ولا تطلعنا على حقيقتها. وهذا لا يعني إنكار دور الحواس نهائيا في المعرفة، ولكن التجارب الحسية إنماتقدم عليها المعاني الأولية التي على اساسها تفهم التجربة ويحصل الإدراك الحسي. فالعقل أساس الحواس وموجه للإدراك الحسي.

والهجوم على دور الحواس في المعرفة يخدمفريقين: فريق السوفسطائية التي تنكر الحقيقة والعلم استنادا إلى خداع الحواس وقصورها ونسبيتها... وفريق العقليين الذين يقدمون في الأهمية عليها طريقا آخر وهو العقل.ولكنهم لا ينكرونها كلية. ولعل أقسى العقليين على المعرفة الحسية ودور الحواس في المعرفة أفلاطون، إلا أنه يعتبر الإحساس أول مراحل المعرفة ولكنه يعتبر دور الحواس لايعدو أن يكون مذكرا للنفس لتعود إلى علمها الازلي الكامن فيها، والذي نسيته بسبب تعلقها بالبدن أو حلولها فيه.

بينما جعل أرسطو للحواس دورا رئيسيا في المعرفة معالعقل إذ قسمها إلى حواس ظاهرة وباطنة. وجمع بين عملها وعمل العقل، بل صرح بأنه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس، وأن المحروم حاسة محروم المعارف المتعلقة بها،وجعل عمل العقل قائما على القوة المتخيلة من القوى الحاسة. ولعل أرسطو قد حاول أن يقف بهذا موقفا معتدلا بين الحسيين المتطرفين والعقليين المتطرفين، إذ جعل الحواس جزءامن النفس بالإضافة الى العقل، فعرف النفس بأنها 'ما به نحيا ونحس وننتقل في المكان ونعقل أولا'.

والحس عند الاتجاه العقلي الحديث كديكارت مثلا، ليس مصدر أساسياللمعرفة، ولكنه مصدر أو طريق يقدم للفطرة بما فيها من أفكار فطرية مادة معرفة، والمعاني إنما تستنبط من النفس أو إنما تعود إلى الحدوس العقلية، بل إن الثقة بما تقدمهالحواس، إنما يعود إلى وضوح البديهيات العقلية وتميزها، أما المحسوسات قبل توثيق العقل لها فهي مصدر شك وخداع، وأنه لا قيمة لإحساسنا دون أن نعرفها معرفة واضحة متميزة،وإلا إذا التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ومن ثم تكون لنا بها معرفة.

مآخذ على التجريبيين:

1_ إن في مذهبهم هذا تحديداً لطاقة الفكر البشري، وإنقاصا لفعالية العقل،ليس العقل بمفهومه التجريبي عندهم، وإنما العقل طريقا للمعرفة. كما أن اعتبارهم الحواس أو التجربة هي الطريق الوحيد للمعرفة يوقعهم في تناقض واضح. ذلك أن هذه القاعدةالتي يقررونها في اعتبار الحواس طريقا للمعرفة هل هي قضية حسية أي ثبوتها بالحس أم لا؟ ومن المستحيل أن تكون ثابتة بالحس إذ أن التجربة أو الحس لا يمكن أن يكون دليلا علىصدق نفسه، وإن لم تكن ثابتة بالحس فقد ثبت أنهم يؤمنون بحقائق وراء التجربة وليس ذلك إلا العقل.

2_ إن المعرفة لو كانت محصورة في التجربة مصدرا وحيدا لها، لما استطعناأن نحكم باستحالة شيء مطلقا، ذلك أن الاستحالة بمعنى عدم إمكان وجود الشيء، ليس مما يدخل في نطاق التجربة، ولا يمكن للحواس أن تكشف عنه، وكل ما هو في قدرة الحواس أن تقول:إنها لم تقع على هذا الشيء، ولكن عدم قدرة الحواس على معرفة شيء لا يمكن أن يسلم إنكاره. ومن ثم فإن قول الحسيين إنه لا موجود إلا المحسوس بصيغة الحصر تجاوز لحدوداختصاصهم، ذلك لأنهم حينئذ إما 'مستنبطون، وهو استنباط مجازفة تنقصه الأسس التي يقوم عليها الاستنباط الصحيح، وإما متحاملون'.

ومن ثم فان الانتقال من الحكم باستحالةتصور شيء أو احساسه الى الحكم باستحالة وجوده في الخارج هو استنباط شيء من شيء، وهذا الاستنباط خارج على مذهب الحسيين أنفسهم.

إنه من المعلوم أن الحواس تخدع ومعارفهاتحتمل الخطأ ومن ثم فإنه ينقصها الشرطان الأساسيان للمعرفة وهما الضرورة وصدق التعميم.

فالمعرفة القادمة لنا من الحواس، ما الذي يضمن لنا أنها ضرورية؟ إذ صدق ما تدلعليه الحواس لا يعرف إلا بالإحصاء، والتجربة، والمشاهدة، ولكن ما الذي يضمن لنا أن يكون هذا الصدق دائما وهو يخضع لعوامل التغير من جهة الأشياء والظروف، ومن جهةملاحظتها ومشاهدتها، وكلنا يعلم أن تغير الشيء وتغير الظرف وتغير مكان وزمان المشاهدة، وبقية العوامل الاخرى يؤثر على نتائج التجربة أي يؤثر على المعطيات القادمة عنطريق الحواس.

كما أنه ما الذي يضمن لنا، والحالة كذلك، أن نعمم الحكم من الجزئي أو الفرد الذي أجرينا عليه التجربة على كافة أفراد النوع؟ فالتعميم نفسه تجاوز لمصدرالحس وليس مما يقع في خبرة الحواس.

وهذا كله يجعلنا أن نبحث عن آخر يضمن لنا الضرورة والتعميم في المعرفة، وحيث إن الحواس لا يمكن أن تحقق هذين الشرطين وتنقصهماالمعرفة الحسية فلا بد إذن من العقل الذي يصحح خطأ الحواس ويوجهها، وتستند إيه في الضرورة وصدق التعميم، حتى نحصل على معرفة صحيحة صادقة.

4_ ثم ما الذي تمدنا به الحواسمن معرفة حتى يصح لنا أن نعتبرها مصدرا وحيدا للمعرفة؟ إن غاية ما تمدنا به الحواس هي آثار حسية لا تعدو أن تكون سوى مادة خام أولية مفككة، فإذا ما اجتمعت حول شيء في زمانومكان، تحولت إلى معرفة. وتحولت هذه الإحساسات إلى إدراك حسي أو إلى معرفة لا يكون بصورة آلية، ولا من تلقاء أنفسها، بل لابد لها من قوة إيجابية قادرة على تنظيمهاوتصنيفها، وعلى إرادة تتوجه إلى هذه الإحساسات وهي العقل. ومن هنا نجد فهما يحترم الحواس والعقل معا طريقين بالاعتماد على العقل وهو الفهم الإسلامي بصفة أساسية في مصدرهالرئيسي وهو القرآن الكريم، ومنعكسا على فهم فلاسفة المسلمين ومتكلميهم.

3_ الفهم الإسلامي لدور الحواس في المعرفة:

1_ إن القرآن لا يوافق أبداً على اعتبار الحواسطريقا وحيدا للمعرفة. كما أنه لا يوافق أبدا رفض الحواس طريقا من طرق المعرفة. وإنما يعتبر الحواس بابا للعقل في المعرفة، والحواس والعقل يعملان جميعا في عملية المعرفة.أما احترام القرآن للحواس واعتبارها طريقا للمعرفة، فلا أدل عليه من أنه ذكر السمع المتعلق بالإنسان وماله علاقة بهذه الحاسة ما يقارب من ثلاثمائة مرة، كما ذكر البصرومتعلقاته في ما يقارب مائتين واربعة وستين موضعا، ويمدح الله سبحانه في القرآن من استعمل نعمة الحواس في الوصول إلى المعرفة، ويذم من اكتفى بهذه الحواس لتؤدي مجردالدور الحيواني في الحياة وأفسد دورها المعرفي واستخدمت الحواس لتدل على العلم القوي حيث يقول سبحانه في كل ذلك:

(فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، (قل أرأيتم إن أخذالله سمعكم وأبصاركم)، (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)، (إنما يستجيب الذين يسمعون).

ويقول ذامّاً لمن لا يجعل هذه الحواس طريقا لمعرفة الله: (ولهم أعينلا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون).

2_ وقد جعل القرآن من المشاهد المحسوسة، والآيات الكونية المنظورة دليلا على وجودالله ووحدانيته وعظمته، وطلب إلى الإنسان أن ينظر فيما حوله ومن حوله، وإلى كتاب الكون المفتوح ببصره وسمعه وسائر حواسه. اذ يقول سبحانه: (ومن آياته منامكم بالليلوالنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)، ويقول سبحانه (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيفسطحت)، و (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها منكل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).

3_ وقد جعل القرآن دور الحواس مع العقل في المعرفة، ولم يجعلها مصدرا مستقلا. فإنها وإنكانت مهمة بحيث إن تعطيلها يؤدي إلى تعطيل العقل كما قال سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). إلا أنه لم يجعلها مصدرا مستقلا، بل إن الآيات الكثيرة في القرآن لتشير إلى أن الدور الأهم والأساسي هو للعقل، معكون الحواس طريقا أو بابا من أبواب المعرفة العقلية. بل إن العقل يحول المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية. مما يدل على ذلك قوله سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمعوالبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).

فالحواس تؤدي دورها في تقديم مادة العقل، الذي يقف وراءها ليجعل من هذه الإحساسات إدراكات ومعارف حقيقية. ودور العقل هنا ليسذلك الدور السلبي، كما عند جون لوك، وإنما هو دور إيجابي. وإذا كان الفكر حكما على الشيء فإن الحس أحد عوامل هذا الفكر بالإضافة إلى العوامل الأخرى وهي الواقع والدماغوالمعلومات السابقة أو العقل. فالواقع مصدر المعلومات الحسية والحواس تنقل هذا الواقع إلى الدماغ، والدماغ يميز هذا الانطباع للواقع، والمعلومات العقلية تربط هذهالعوامل لتكوين حكم هو الفكر. والحس هنا في عملية المعرفة أو الفكر لدى الإنسان مختلف تماماً عن التمييز الغريزي الذي يتم لدى الحيوان من تكرار الإحساس بالواقع، من أجلإشباع مركز الإحساس أو الحاجة العضوية. ومن ثم فإن الحس يخدم الطريقة العلمية، لأنها تقوم على إجراء التجارب للوصول إلى الحقيقة، وذلك بإخضاع المادة لظروف وعوامل جديدةوملاحظتها ومقارنتها بظروفها وعواملها الأصيلة، ثم يستنتج من هذه العملية حقيقة علمية تجريبية. وبالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم علىالمقدمات العلمية، نصل إلى حقيقة علمية تكون مادة للتفكير، أو للطريقة العقلية التي هي أساس التفكير وأساس الحكم.

4_ وإذا كانت التجربة أو الحواس تساهم بقدر ما فيعملية المعرفة، إلا أنه من الخطأ الكبير والمغالطة الواضحة اعتبارها مصدرا وحيدا وميدانا وحيدا للمعرفة. بل هي لا تعدو أن تكون فرعا واحدا من فروع المعرفة العقلية. وهنايقف القرآن في وجه كل من المذاهب الفلسفية: التجريبية التي تعتبر التجربة المصدر الوحيد والميدان الوحيد للمعرفة، والعقلية التي تنكر دور الحواس في المعرفة، والنقديةالتي تحد المعرفة بأنها المعرفة في حدود الظواهر التجريبية، أو في حدود عالم الشهادة بالتعبير القرآني الفريد. ذلك أن القرآن جعل من عالم الشهادة وما فيه من محسوسات،ينظر فيها بالنظر العقلي طريقا عقليا إلى معرفة جديدة غيبية، وهي وراء عالم الحس والشهادة، وعلى رأس هذه المعرفة الإيمان بوجود الله سبحانه ووحدانيته.

5_ وموقفالقرآن هذا كله له أثره في آراء المتكلمين وفلاسفة المسلمين، من حيث المبدأ، وهو أن الحس خادم العقل، وتابع له يمده بما يحتاج إليه من صور المعلومات في مختلف الحقولوالميادين.

ولعل تقدير دور الحواس والعقل في المعرفة في الإسلام، أدى إلى منهج تجريبي فيما يتعلق بعالم الشهادة، وجعل هذا المنهج خادما للإيمان. في الوقت الذي لا يصحفيه لهذا المنهج أن يُنصّبَ نفسه حكما أو معيارا لما هو خارج ميدانه. ومن هنا كانت المخالفة للمنهج التجريبي غير الإسلامي بالغة، لأنه لم يجعل لهذا المنهج ضابطا وهدفاكما فعل الإسلام، إذ إنه جعل التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالمالشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة الإنسانية، بينما جعل القرآن قوانين عالم الشهادة التجريبية لا تنفع إلا في عالم الشهادة، ولا يتجاوز دورهابالنسبة لعالم الغيب سوى أنها تسلم بوجوده. وهذا بخلاف نسبية 'كانت' التي جعلت عالم الغيب خارجا عن نطاق قدرة العقل. بينما يرى الإسلام أن بإمكان العقل، ومن خلال قوانينعالم الشهادة، أن يسلم بوجود عالم الغيب وإن كان لا يستطيع أن يدلي بتفاصيل هذا العالم، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عنه من طريق آخر فوق قدرة هذا الإنسان وهو طريقالوحي.

ب_ مجالات المعرفة الحسية وخصائصها وتقييمها

يمكننا بعد ذلك أن نذكر أهم خصائص المعرفة الحسية ومجالها وقيمتها في المعرفة فنقول:

1_ إن أهم خصائصالمعرفة الحسية أنها معرفة متصلة بالمحسوسات المادية، فعالم الحس أو عالم الشهادة بتعبير القرآن هو مجال هذه المعرفة. إذ تقوم فيه الحواس بتأكيد واقعية عالم الشهادةوخارجيته واستقلاله عن الذات العارفة. ولكن هذه المعرفة في تأكيدها لدور الحواس في إثبات خارجية العالم الحسي وواقعيته، لا تستقل بها وحدها إذ ليس في الإحساس حكم وإنماالحكم للعقل، وإن كان العقل لا يستطيع أن يحكم بشيء في عالم المحسوسات دون أن تقدم له الحواس مادة المعرفة أو صورة عن هذه الأشياء في الواقع. فالمعرفة العلمية أو المعرفةالتجريبية في طورها النهائي، إنما تقدم علما مجاله الكون أو عالم المحسوسات. وقيمة الحواس هنا أنها تقدم صورا متفرقة عن الأشياء تجتمع لدى العقل فينظمها ويصفها ويحكمعليها.

2_ ومجال الكون مجال واسع تطلعنا فيه الحواس على ظواهر الأشياء، ولا تستطيع أن تطلعنا على حقيقة الأشياء وكنهها. ومن هنا كان خطأ التجريبية التي تدعى أن الحواسوالمعرفة الحسية، هي التي تعطينا صورة صادقة عن الواقع وعن حقائق الأشياء وكيفياتها، ومن ثم كان متكلمونا المسلمون يعلمون خطورة هذا الادعاء من مثل المذاهب التجريبية،فكان تقييدهم لدور الحواس وقيمتها في المعرفة ومجالها، فهي تؤكد وجود الأشياء ولا تعطي الأشياء وجودها، وتؤكد واقعية الأشياء ولكنها لا تستطيع أن تدعى أنها تصل إلىحقائقها وكيفياتها، ذلك أن أعلى أنواع المعرفة وهي معرفة الألوهية، ليست داخلة في حقيقتها في مجال الحواس والاستدلال على عالم الغيب ليس من لوازمه ولواحقه في المعرفةمعرفة حقيقته وماهيته وفحواه وكنهه ومن ثم كان دور الحواس ومجالها قاصرا عن الدخول إلى هذا المجال وإن التقدم العلمي مهما بلغ في مجاله التجريبي لا يستطيع أن يعطينا أكثرمن التأكيد على وجود العالم المحسوس، ولكنه سيبقى قاصرا عن الدخول إلى ساحة المجهول بالنسبة لنا وهو حقيقة الأشياء وكنهها.

3_ والمنهج القرآني هنا متميز في تقييم دورالتجربة ومجالها عن كل المذاهب الفلسفية، ذلك أنه لا يقبل ادعاء المذهب التجريبي في الاقتصار على الحواس طريقا للمعرفة، والاقتصار على عالم الشهادة مجالا لها. كما يجعلالحواس بابا للمعرفة العقلية وأنه لا قيمة للحواس في عملية المعرفة بدون العقل الذي يوجهها ويضبطها ويجمعها ويرتب صورها ويعطي أحكاما على مجالاتها. كما يخالف تقييمالمذهب الافلاطوني المتطرف في تقييم دور الحواس الذي يجعلها لا تعدو أن تكون أشباحا أو ظلالا للحقيقة العقلية ولا يعدو دورها التذكير، بل هي حجاب تحول دون الوصول إلىالحقيقة. كما يخالف المذهب النقدي لدى 'كانت' الذي جعلها المضمون التجريبي للقوالب الفطرية أو لمقولتي المكان والزمان، وإن كان المذهب النقدي أقرب من سابقيه إلىالحقيقة، إلا أنه أخطأ إذ قصر دور العقل النظري في العمل مع الحواس فحسب أي اقتصر على الظواهر الحسية فحسب، وفطمه عن معرفة مجال علم الغيب. ونحن نقدر له محدودية الإنسانفي معرفته وعجز عقله عن الوصول إلى كنه الأشياء وحقائقها، ولكننا نجعل للعقل دوراً مع الحواس ومن خلال النظر في عالم الشهادة وقوانينها، يمكنه به أن يستدل على مبدأ وجودعالم الغيب، وإن كان بحاجة بعد ذلك إلى الوحي لمعرفة تفصيلاته.

4_ كما أن من خصائص المعرفة الحسية أنها محكوم عليها بالتغير بحسب الشخص والظروف والعوامل التي تتحكم فيالتجربة. وكل هذا يدعو إلى ضرورة ارتباط الإدراك الحسي أو الإحساس بالعقل الذي يضبط ظروف التجربة، ويقوم بعملية الاستنباط والاستنتاج، فيعطي للمعرفة الحسية ثباتا حتىيتصف هذا الإحساس بأنه علم أو معرفة.

5_ كما أن المعرفة الحسية ذات طبيعة جزئية أي تدلنا على الأفراد والجزئيات ومن ثم فمجالها أن تعرفنا على ما يحتويه الكون أو عالمالشهادة من أفراد وطبائعها من خلال التجربة. وقد جعل القرآن التعرف بالحواس على هذه المخلوقات وأفرادها وطبائعها من دلائل عظمة الله، وتصلح لأن تكون دليلا على وجودهووحدانيته وحكمته، كما قال سبحانه: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير). وذكر سبحانه بآلائه ونعمه المشاهدة فقال: (والأرضوضعها للأنام* فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام* والحب ذو العصف والريحان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* خلق الإنسان من صلصال كالفخار* وخلق الجان من مارج من نار* فبأي آلاء ربكماتكذبان). وغير هذا كثير في القرآن من آيات تثير العقل لتوجيه نظر الحواس إلى أفراد المخلوقات، وإلى عالم الشهادة بما فيه من عجائب وطبائع وما يثير الاعجاب، لتكون هذهالمعرفة الحسية أو العلمية التجريبية بهذه الأشياء طريقا لاستدلال العقل على وجود الله ووحدانيته وعظمته، مما يقتضي الإيمان به سبحانه وزيادة اليقين وإخلاص العبادة لهوحده سبحانه.

6_ ولهذه المعرفة قيمة كذلك في تمهيد الطريق للعقل وتسهيل المعرفة للأشياء وتسهيل عقد الصلة بين الإنسان والكون: صلة الانتفاع والتسخير وصحة التأملوالاعتبار. ومن ثم فالحواس موظفة وخادمة للعقل في نظر القرآن. والخادم لا يكون بديلا عن سيده في حال من الأحوال. وإذا ما نظرنا إلى استعمال القرآن لهذه الحواس نجده يحرصعلى توظيفها في خدمة الإيمان، وخدمة الإنسان، وهو يؤدي دوره العرفي في الحياة، والذي يقع على قمة هذا الدور أمانة الهداية التي كلفها الإنسان كما قال تعالى (إنا عرضناالأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).

والمعرفة الحسية هي إحدى مقدمات الدليل العقلي، إذ تكونيقينية في تأكيدها على الأشخاص والأحداث المرئية في العالم الخارجي. وقد عدها فلاسفة المسلمين ومتكلموهم في مرتبة البديهيات، بل جعلوها قسيمة لها وجعلوهما _البديهياتوالحسيات _قسمين للعلوم الضرورية، التي تقف عليها المعرفة النظرية.

7_ والحواس ذات طبيعة ناقصة لأنها تمثل جزءا من الوجود الإنساني الذي يقوم على كينونة إنسانيةمزدوجة، تجمع بين الحواس والعقل، وبين المادة والروح وتهيىء للإيمان بعالم الشهادة وعالم الغيب. والكينونة الإنسانية كينونة ذات فعالية في عملية المعرفة، سواء فيالإدراك الحسي أو في الإدراك العقلي. وليست سلبية تتلقى وتقبل أثر الاحساس وتتحكم فيها ظواهر الكون المحسوس. وإنه مع الاعتراف بنقص الحواس وعيوبها، إلا أن ذلك لا يبررالهجوم عليها، لأنه يمكن إكمال هذا النقص وتصحيح هذه العيوب بالعقل وتوجيهه. كما أن الاعتراف بدور الحس في المعرفة لا يخوّل للمذهب التجريبي أن يجعلها هي المصدر الوحيدذات القيمة الرئيسية في المعرفة مع إنكار دور العقل بصورته الإيجابية، وإلا أدى هذا الادعاء إلى موجات السفسطة والشك وإنكار الحقائق ونسبية المعرفة بل ضيق مجالهاوانحسار ميدانها.

وعلى ذلك فإننا إذا كنا بصدد تقييم سليم للمعرفة الحسية فإنه يمكن القول: بأننا مع اعترافنا بعجز الحواس ومحدوديتها وعيوبها وفرديتها إلا أنها تقومبدور في المعرفة مع العقل، فهي أبواب المعرفة العقلية المنفتحة إلى عالم الشهادة، والتي لولاها لما استطاع العقل أن يقدم حكما على هذا العالم المحسوس؛ ولكنها مع ذلكليست مصدراً وحيداً للمعرفة كما أنها ليست مصدرا مستقلا. وإذا كانت المعرفة الحسية أو المعرفة العلمية _التجريبية _ بابا للمعرفة العقلية، فإن المعرفة العقلية أعم فيدورها من العمل مع التجربة.

* المصدر: نظرية المعرفة بين القرآن والسنة


/ 1