محمد إقبال عروى
انهيار الحضارات في الأدب الاسلامي
ان الأدب الإسلامي ملتزم بالرؤية الإسلامية تجاه الكون والحياةوالإنسان. فالإلتزام، كما ينبغي أن يفهمه الأدباء المسلمون، ذو أربعة شعب. رؤيوي وداخلي وأدبي وخارجي، أي تصوري وذاتي وفني وإجتماعي. إنه بؤرة تتجمع عندها جميع الجوانبالمذكورة لتخلق معادلة تعطي كل جانب حقه من الوظيفة، فلا يغيب عنصر لصالح بقية العناصر، ولا يتم التركيز على جانب دون الجوانب الأخرى.
السؤال الذي يطرح لتناولالموضوع هو: كيف استطاع الأدب الإسلامي، قديمه وحديثه، أن يدرك لحظة الإنهيار والسقوط بالنسبة للحضارة، وأن يتبع مساربها وفعلها، ويقتنص أبعادها ويعبر عنها في ابداعه.فتتجلى آنئذ حيّة بكل ثقلها ومرارتها على مستوى الشكل والمضمون (طبعاً إن كان هناك فصل بين شكل الإبداع ومضمونه).
للإجابة على هذا السؤال، كان لابد من مقارنة عيّنة منالنصوص الإبداعية تنتمي إلى أدباء مسلمين، قديماً وحديثاً، عبرت بكل فعالية وعمق عن انهيار الحضارات وفنائها. فاخترت لذلك همزية حسان بن ثابت (رضي الله عنه) الشهيرة،وقصيدة 'شرق وغرب' للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي وقصيدة 'النبي.. وعصر التكنولوجيا' للشاعر العراقي المسلم 'حكمت صالح'.
أبعاد الانهيار الحضاري: جدلية الشكل والمضمون: بالنسبة لقصيدة حسان، تُواجهنا منذ البداية أسئلة ملحة: هل نظم الشاعر القصيدة بأكملها في عهده الإسلامي؟ أم أنه نظم الجزء الأول من الخمر والنسيب في الجاهلية، ونظمالجزء الثاني في الإسلام، ثم جمعهما الشاعر أو 'الرواة'؟ أم أنه نظم الجزء الأول في جاهليته والجزء الثاني في إسلامه ثم قرأهما معاً بين يدي رسول الله (ص).
والحقيقة أنهذه الأسئلة اراقت مداداً كثيراً، لكن دون الوصول إلى أعتاب الحقيقة، وتم الإكتفاء فقط بطرح الفكرة القائلة ينظم القصيدة في مرحلتين مختلفتين (الجاهلية والإسلام) كمايذهب إلى ذلك الدكتور شكري فيصل وجماعة من الدارسين، في حين اكتفى آخرون أمثال د. عبد القادر القط وغيره باعتبار القصيدة جسداً واحداً قيل في العهد الإسلامي. ورغمالمبررات والاحتمالات التي يطرحها الفريقان فإن أبعاد القضية تظل خارج إطار مناقشاتهما.
ولا أدعي حسما للنقاش، وإنما أرى بأنه لو تم بسط الإشكال في إطار مقولة'انهيار الحضارة' لتَمَّ إدراك الحقيقة في أبعادها وسياقها الطبيعي دون حرج أو تأويل. كيف ذلك؟
إن الشاعر ضمير الأمة ومجهرها، يعاين جميع الثوابت والمتغيرات داخلالحياة الإجتماعية ويدرك، بفضل عمق شعوره ورهافة إحساسه وتفتح وعيه، النواميس المسيّرة لحركة المجتمع الذي يكتوي بناره ويتلظى بآلامه، ويضبط تلك اللحظات في رحمالكلمات، فتتولد منها آفاق المستقبل الذي يدعو إليه الشاعر في كل وقت وحين. وحسان بن ثابت، رضي الله عنه، لا يخرج عن هذا الإطار ومن ثم فقد جسّد في قصيدته الهمزية سيرورةالمجتمع الجاهلي في وجه مجتمع جديد وحضارة جديدة هي حضارة الإسلام.
في لحظته يسقط عالم الخبرة واللهو والعبث المتجسد في الجزء الأول من القصيدة، انطلاقاً من المقدمةالطللية إلى البيت العاشر. فالطلل الذي عفّ ودرس وصار خالياً من الأهل ما هو إلا رمز للماضي الجاهلي الذي يسير نحو الافول ويصبح في خبر 'كان' الواقع في البيت الثالث. ويتضحهذا السقوط أكثر في البيت العاشر الذي يقول فيه:
ونشربها فتتركنا ملوكا واسداً ما يُنهنهُنا اللقاء
فالملك سمة للحضارة _على حد تعبير ابن خلدون _ ولكنه هنا جاءبفعل الخمرة (أهم ميزة لسلوكيات المجتمع الجاهلي)، فهو ملك لن يدوم لأنه بفعل الخمرة، بفعل نشوتها، والنشوة زائلة، توهم الملك 'تتركنا' ملوكا. أي بعد الخمر، بمعنى آخر،إنهم _طيلة نشوة الخمر _ يشعرون بالملك، وبصورة غير مباشرة، لكنها طبيعية، فإنهم عند زوال تلك النشوة، يشعرون با 'للاّ ملك'، بالضعة، بالسقوط.. ومن الذي أيقظهم من نشوةالخمر؟؟ إنه الإسلام وحضارته.
وفي نفس البيت، نجد لفظة الأسد المرتبطة بالملك، فهذا الملك كائن، لكنه ملك الأسود، وهذه الصفة تنقلنا مباشرة إلى الحقل المعجمي الذيوفدت منه لفظة 'الأسد'. والذي لا شك فيه أن الشاعر يستعير تلك اللفظة للدلالة على الشجاعة، هذا ما يقره البلاغيون منذ العصر اليوناني، ولكن _ونحن نبحث عن انهيار الحضارة فيقصيدة حسان _ لماذا نص تأويلاتنا بقيود بلاغية أحادية الجانب. أليس في لفظة 'الأسد' هنا، وبالاضافة إلى دلالة الشجاعة، تستعار للدلالة على 'القانون' المهيمن في 'الغاب'..قانون الافتراس والظلم والاعتداء (يستحضر هنا رمزية الدلالة في حكايات كليلة ودمنة)، ومتى كان ذلك قانونا؟؟ ومتى عاشت حضارة في ظل الإفتراس والظلم والإعتداء؟ أليست لفظة'الأسد' هنا، تؤسس مفهوم الإنهيار الذي يرافق ملك الخمرة وحضارتها؟
وليس من قبيل الصدفة أن يستعمل الشاعر مباشرة بعد هذا البيت فعل 'عَدِمنا' للدعاء.
عدمنا خيلناإن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
فهذا الفعل جاء هنا للدعاء، وتحققه مشروط بشرط أساسي وهو: إثارة الخيل للنقع في 'كداء' وهذه الإثارة كناية بعيدة على دخول مكةوالعمرة.. وإبراز النصر المبين. والشاعر يدعو لخيله بالعدم إن لم يتحقق ذلك الشرط، والتاريخ يؤكد لنا _في وقائعه _ أن التحقق كان طريقه، فالنتيجة _إذن _ هي بقاء خيولالمسلمين واستمرارها، ولكن من الذي أعدِمَ؟ ولمن كان الدعاء؟ إنه الطرف الآخر الذي لم يستطع إيقاف (الخيول/البذور) الإسلامية، طرف الجاهلية التي تلتقط أنفاسها الأخيرةبين يدي الحضارة الجديدة، حضارة (الخيل/والجد).
ومما يعمق هذا الفناء للحضارة الجاهلية كما يشهد عليها حسان، البيت الحادي والعشرون.
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنتمجوفٌ نخبٌ هزاء
أبو سفيان، هنا، لا نبحث عنه في تراجم الرجال.. إنما هو مالك الحضارة الجاهلية وسادنها بما أنه وقف في وجه الحضارة الجديدة منذ بدايتها _إن أبا سفيانرمز لتلك الحضارة، وهنا تتجلى دلالة الوصاف التي وسم بها الشاعر (أبا سفيان/الحضارة الجاهلية).. 'مجوف، نخب، هواء' أوصاف تتحدد في مصدر 'الخلو' والفراغ من الفؤاد والعقل، منالإيمان والعلم ركيزتي الحضارة الأساسيتين، فالحضارة الجاهلية/أبو سفيان، خالية من كل ذلك، وبالتالي فهي لا تستحق البقاء فضلاً عن الإستمرار، لأن ميكانيزمات ذلك مفقودةلديها، فلا طريق لها، إذن إلا الفناء والانهيار، وقد كان.
ويزداد شعورنا بانهيار الحضارة الجاهلية كما ترصدها قصيدة حسان في كلمة 'الفتح'، فهذا الحدث فاصل بين عهدينمتباينين، ترى ماذا حصل في هذا الحدث؟
يكفي أن نستحضر، هنا، ظاهرة تحطيم الأصنام، فما كان لهاته الأخيرة أن تحطم لو بقي للجاهلية ملك وحضارة وقوة، فتحطيمها يشكلالمرحلة الختامية من تحطيم تلك الحضارة نفسها، وصعود بلال فوق ركامها معلنا أذان الحياة رمز لميلاد الحضارة الجديدة التي تتشكل داخل القصيدة طرفا للثنائية والضدية التيعبر الشاعر، من خلالها عن انهيار الحضارة الأولى وتأسيس الحضارة الجديدة الثانية.
وبعد، ماذا عسانا أن نقول في شأن نظم القصيدة بقسميها معاً، بعد هذا التحليل الذياتخذ من 'انهيار الحضارة' محوراً تؤول إليه جميع الخيوط والعناصر المشكلة للنص الشعري؟
إن التأكيد على أنهما قسمان قيلا في زمنين مغايرين، ما هو إلا ضرب من السطحيةوالدفاع عن أخلاقيات حسان والإسلام بسيف من ورق. والأجدر بنا أن نتفهم أبعاد الكلام السالف، ليتأكد لدينا بأنهما قسمان قيلا حول (وليس في) زمنين مغايرين، وحضارتينمتقابلتين.
عندما نصل إلى العصر الحديث، ساعين إلى إختيار أدب إسلامي يشهد على الحضارة المعاصرة نفس الشهادة، لا شك أنه سيقفز سؤال جد مشروع كالتالي:
لماذا تمتجاوز مرحلة العصر الأموي والعباسي مع أنها مرت بنفس الضعف والانهيار اللذين يسعى المقال إلى اكتشافهما داخل الأدب؟ والجواب على مثل هذا السؤال ضروري، والإعراض عنهخيانة للمنهج وسوء فهم لسيرورة الحضارة العربية الإسلامية، فلا بد _إذن _ من ذكر كلمة، ولو وجيزة في هذا الصدد.
لا جدال بين المؤرخين والأدباء المسلمين أن المرحلةالمذكورة واناها ضعف عارم، وانهيار تسرّب في البداية خفيّا إلى جسم تلك الحضارة، وقام بدورة السقوطي 'في غالب المستويات، ولقد لعب الشعر دوره المسؤول في إدراك هذهالحالة، غير أني، بالرغم من نضج المستويات الفنية في هذا العصر، تجاوزت تلك المرحلة، وعذري الوحيد هو أنها لم تفرز لنا شعراً في مستوى الرؤية الإسلامية، أفقيا وعموديا،باستثناء 'المتنبي' الذي جسّد في شعره ذلك الانهيار، لكن نرجسيته وتضخم 'أناة'، بالإضافة إلى قناعات أخرى، جعلتني أزورُّ عن اختيار نموذج من شعره. ولم يبق لي سوى العصرالحاضر الذي أبحث فيه عن إبداع إسلامي يقتنص لحظة الإنهيار الحضاري 'الأوربي والعربي'، فتبين لي، بعد البحث والتنقيب، أن قصيدة الشاعر الشهيد هاشم الرفاعي 'شرق وغرب'،وقصيدة الشاعر العراقي المسلم 'حكمت صالح' 'النبي وعصر التكنولوجيا' كفيلتان بتحقيق هذا الغرض المنشود.
(الشرق والغرب): موسم الانهيار المتبادل
'شرق وغرب' التي تضمزهاء ثلاثة وسبعين بيتاً، والتي نظمها الشاعر في سبتمبر 1954، تشكل 'ملحمة' إسلامية، لكنها ترتبط بالواقع، وتشهد على 'نثر' أركانه وتفسخها، وفي شهادتها تلك تستعير منطقالتداعي الخاضع للرؤية الاسلامية، سلباً وإيجاباً، عربياً وغربياً، كما تبلوره القصيدة في مقاطعها. بل إن التشكيل المكاني لـ (القصيدة/ الملحمة) القائم على المقاطع منجهة، والثنائيات الضدية من جهة أخرى، يجلّي لنا، بدوره، أبعاد ذلك الإنهيار خاصة إذا اعتبرنا بأن النفسي شرط للفني ولازم له، فالشاعر في واقعه العربي، يعاين انهياراًوتقطعاً يشمل جميع المستويات ويخيم بكلكلة على المجالات، هذا الواقع الثقيل، يخلق لدى الشاعر تقطعاً نفسياً وتمزقاً وجدانياً مماثلين له، بالإضافة إلى التناقضاتالمهولة: (الجهل/ العلم)، (الظلم/العدل)، (التخلف/التقدم)، (اليأس/الأمل)، (الموت/الإنبعاث) كل ذلك يخلق نفس الثنائيات في وجدان الشاعر، فتتجمع تلك المعطيات لتشكل(القصيدة/الفن) وفق معمارية (التقطيع والثنائية). وليس من قبيل الصدفة أن يعمل العنوان (بإعتباره مفتاحاً لفهم القصيدة) على تحقيق تلك المعمارية، وهنا بالضبط، تكمن فنيةالشاعر وموقعه المسؤول.
ومنذ مطلع القصيدة يعبر الشاعر عن سقوط الحضارة العربية، وذلك في قوله:
أيقظ الشرق وهُزَّ العربا فبريقُ المجد في الشرق خَبا
ليس منالصعب أن ندرك بأن البيت الأول اشتمل على ثلاثة أفعال، اثنان منهما يتجهان جهة المستقبل، والثالث جهة الماضي. 'أيقظ، هز، خَبا' وكلها تعبر عن حقيقة الانهيار والسقوط، ولايمكن فهمها إلا في ضوء ذلك، فاليقظة والإهتزاز المأمور بهما يقتضيان فعل النوم السابق لهما.. و 'الخبو' يقتضي فعل الإشتعال السابق عليه كذلك.. ولكن من هو هذا الذي يحتاج إلىاليقظة والإهتزاز؟ (يُلاحظ هنا فعل الإهتزاز الذي يُذكر بالآية الكريمة (اهتزَّت ورَبَتْ مِنْ كُلّ زوجٍ بهيج) كدليل على الإخصاب والنماء الذين افتقدهما هذا الذي نسألعنه ألا وهو الشرق!!
والشاعر (الشهيد/الشاهد) لا يقف عند هذا الحد، بل إنه يربطنا، نفسياً، بجو الأطلال الموحي بالدمار وذلك في قوله:
قِف على بغدادَ واندبْ مَنْ بهارفعوا للشرق ذكراً طيّبا
وابك في الأيام من قال وقدْ أبصرَ الغيم تهادى صيبا
سِرْ يمينا أو يسارا إنّ لي خرج هذا الماء أنّي سُكِبا
إن هذا المقطع يجسد جوالوقوف على الطل والبكاء على الماضي الذي كان يعيش الخصب والعطاء:
وقديماً كان خصباً مُثمراً وأراهُ اليومَ أمسى مُجدبا
فعفت معالمه وذرته الرياح، وأمست معالمههباء 'تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد'.
ويستمر الشاعر في تداعيه، يستعيد صورة الماضي المشرقة، علماً وعملاً، جهاداً وتضحية، فكراً وأدباً. ولكن ماذا حصل فجأة: فأضعنا كلّ ما قدْ جَمَعُوا وهدَمنا ما بَنوا واحرَبا
ومن ثم يصبح من المستحيل، في لحظة الانهيار والسقوط، أن ننتمي إلى ذلك الماضي المتألق وخير لنا أن نقطع صلتنابه ما دام البون شاسعاً بين الطرفين:
لا تقولوا نحن عُرب إنّنا لهم لا نستحقَّ النَّسبـا
ولا شك أن في تأجيل الشاعر لكلمة 'النسب' إلى آخر البيت، تشكيلاً مكانياًللدلالة النفسية المعاينة للتباعد السحيق بين 'العرب' و 'النسب' من جهة، ولنفسيته الممزقة بين ماض ثابت وحاضر منهار.
ويلتفت الشاعر في بقية القصيدة إلى الغرب الذي كانبإمكانه أن 'يأخذ' الدورة الحضارية، ويخلص الإنسانية من انهيارها، ويبني حضارة تسير على رجلين مستقيمين، وليس على عكازة من أحقاد:
وأضاءَ الكونَ مـا جاءوا بـه منفنون قدْ أثارتْ عَجَبا
سارَ منْ سـارَ إلى العلياءِ لِمْ يأخذِ اللهو إليها مركَبـا
ومضى في الغرب أبطال إلى مجدهم لا يعرفون اللّعِبا
فلنا الأمسَ وهذايومَهُــم ما أرى الأيّام إلا قلبـا
ولكن هيهات، ففاقد الشي لا يعطيه، كما يقال، والحضارة الغربية، بشهادة مفكريها، لا تمتلك شروط البناء المستقبلي العادل، بل إنهاتحتضن في طياتها جرثومة الفناء والإنهيار، فتماسُكها قلما يدوم، والنتيجة المحتمة عليها، انطلاقاً من شروط ومقدمات موضوعية: هي الإنهيار الذي اختصت به أكبر المقاطع فيالقصيدة والذي سنراه بصورة فعالة في قصيدة 'حكمت صالح'.
والشاعر الشاهد، انطلاقا من عقيدته الإسلامية التي تشع في صاحبها أنوار الأمل، وتبعث في نفسه نسمات اليقينبالإنبعاث الجديد الذي توجبه أي الكتاب وأحاديث الرسول (ص)، انطلاقاً من كل ذلك،، يدعو قومه إلى تحمل المسؤولية من جديد، والنهوض من وهدة السقوط للقيام بالدور الحضاريالثاني. وهو أمل فيه صرخة إيمان ودعوة فيها قوة دين، وذكرى فيها حكمة ويقين، بعيداً عن أجواء اليأس والدمار التي لحقت الإنسان الغربي بعد الحرب العالمية، فأردته صريعالمفاهيم الرومانسية والرؤى الموغلة في 'الآهات':
يا بني الإسلام هُبّوا وانهضوا لا تناموا بَلَغَ السَّيلُ الزُّبى
واذكروا عهداً سَمَتْ أمجادْكُم فيه حيناً إذسَمَوتَمْ رُتبـا
وعندما نقترب من نهاية القصيدة يفجعنا الشاعر بمأساة فلسطين، لأنه، وهو المجهر والضمير بالنسبة للأمة، قد أدرك بأن قضية فلسطين تشكل محور الانهيارالمتبادل بين الشرق والغرب، فمن أجل أن يظل هذا الشرق منهاراً، ضعيفاً وعاجزاً عن الانبعاث، فلتكن هي الشوكة في حلقومه، والعرقلة في طريقه.
فلسطين أضيعتْ وغدتيندُبُ اليومَ بها مـن نَدَبا
جاءهـا كلُّ يهودي بدا هائما بين الورى مغتربا
فأقاموا شوكة في أرضها ذلك الشرق بها قد نُكبا
ومن مميزات الشاعر أنه يمتلك طاقةجوانية خلاقة قادرة على تكثيف الحدث وبثه بصورة مركزة، لكنها مريرة، خاصة في المقاطع الأخيرة، حيث يضعنا على مفترق الطريق لنختار، ولنتحمل مسؤولية الاختيار. وفي هذهاللحظة تتجمع خيوط القصيدة لتأخذ مسارها إلى نتيجة عميقة وموحدة تتحدد في تفجع الشاعر وحزنه الأليمين وهو يشهد على انهيار الحضارة في مستواها الغربي والعربي.
إيقاعالانهيار والشمس المرتقبة: (ثنائية الموت والإنبعاث)
عندما نقرأ قصيدة الشاعر حكمت صالح 'النبي.. وعصر التكنولوجيا' ينتابنا شعور غريب حول قدرة الشاعر على تكثيف مأساةالانهيار الحضاري وتجسيدها في شكل نسيج متداخل الخيوط متشابك السمات، حتى ليصعب على الدارس تشريحها ولو أنها خضعت مكانياً لشكل المقاطع لأن الحبل السري المتكون من نفسيةالشاعر ورؤيته وحرارة التجربة المتدفقة أقوى من أي تقسيم أو تقطيع. بالإضافة إلى ذلك تتداخل، على المستوى الثاني، العوالم الممتدة عبر التاريخ، منذ الجاهلية إلى عصرالتكنولوجيا، وهذا الإمتداد التاريخي يبتعد، أثناء تجسده في فضاء القصيدة، عن أن يكون امتداداً زمنياً بالمنظور الرياضي، وإنما يصبح امتداداً حضارياً خاضعاً لسلمالإستمرار أو الانهيار، وهي حالة ترافق أعضاء القصيدة كلها مما يبعدها عن أزمة التفكك التي تعاني منها القصيدة الحديثة في كثير من مظاهرها.
في البدء، يُرفع الستار عنالمشهد التراجيدي الذي خيّم على الحياة العربية الجاهلية:
'آفة تلتهِمُ الأرض التهاماً
لا دَواءَ في المذاخِر
ووراء السور قد عمَّ البلاء
يُؤذنُ الإنسانفي كل مكان بالفناءَ
إن هذا المشهد، بخصائصه الموحية، يحيل على النص الغائب الذي يقطن ذاكرة الشاعر ألا وهو الجزء الأول من قصيدة حسان السابقة، حيث يتآكل العالم'الماضي' وتعف معالمه، وتستسلم أرضه للجدب وانعدام الخصوبة والعطاء لأن:
'الماء إذا سال بها غارَ وجفا'.
وفي لحظة الإنهيار هاته، يعلن عن ميلاد شيء جديد:
'قيل يامعشرُ قدْ أنجبتِ الدُّنيا غلاما
سوفَ يبتز الظّلاما
يحملَ الأرضَ على راحتِه
يخرج الناس من الظلمة للنور
ألا يا قومُ قدْ حانَ النشور
ويولد (النبي/الحضارة الجديدة) الذي سار بالإنسانية في ركب الحياة، يؤسس أركان عالم جديد في 'جلال وخشوع'.
غير ان هذه الحضارة تستحيل في الزمن الحاضر إلى مجرد تداعيات تنهض في ذاكرةالشاعر بعد ما فقدت مشروعية وجودها على المستوى الواقعي الإجتماعي.. تداعيات مؤلمة تكشف عن بعد الثنائيات الضدّية بين عالمين ينتميان إلى خلفية مذهبية واحدة، الأول فيسموه وازدهاره، الآخر في موته وانهياره.
وتنغرس سهام الصدمة في كيان (الشاعر/ المسلم) عندما لا يجد معادلاً موضوعياً للرموز التي يحملها في ذهنه مثل: خالد وسعد وابنأبي سرح، ويحس بأنها أصبحت نكرات في هذا الزمان 'الرمادي'. ودلالة ذلك أن الشاعر عندما أحسن بوخز الصدمة، وراح يستقصي رجال الفكر والدين، بحثاً عن تلك الرموز دون أنيجدها، استعمل المنادي التالي:
'يا خالداً، يا سعداً'، ونصب المنادي هنا يخالف قاعدة حركات المنادي، فخالد وسعد معرفة، والمعرفة في حالة النداء يبني على ما يرفع به،ولكنه هنا لم يأت كذلك، بل جاء منصوباً بالفتحة الظاهرة وفقاً لحالة النكرة غير المقصودة، واتصال الحالتين معاً (المعرفة والنكرة) في منادي واحد يكشف أبعاد النكران الذيتتمتع به تلك الرموز في زماننا المحتضر.
وفي لحظة التداعي المستمرة، يحتمل أن يستعيد الشاعر أحداثاً عديدة ومتنوعة من ذلك (الماضي/ الجلال)، ولكن عندما يتم التركيزعلى ملمح معين منه فإن ذلك يكتسب دلالة لا ينبغي للناقد أن يهملها، إنه _كي يدرك مفاتيح النص _ عليه أن يدخل ذلك الملمح إلى دائرة الضوء ويسلط عليه أكثر من مجهر.. والملمحالذي تم التركيز عليه في تداعياته يتجلى في قوله (جدَّتِه/الماضي):
'حفظتني آية من سورة الفتح'.
والنص في هذه اللحظة _وعبر تناصه مع قصيدة حسان الهمزية _ يؤكد علىالشحنة الحضارية التي تحملها لفظة 'الفتح' باعتباره لحظة (الانهيار/ الانبعاث)، (السقوط/ النهضة)، (الفناء/ النماء) بين عالمين متباينين.. تلك اللحظة التي باركتها السماء،ودخلتْ عالم القرآن، فغدت آية تتلى عبر السنين والأيام.. مجسدة فرحة الأكوان عند مشهد الفتح، وشاهدة على سقوطنا الحضاري الحاضر، وحاملة للوعود المستقبلية، باعتبار أنالشرط الذي احتضنته سورة النّصر يتجه جهة المستقبل، ودخول الناس في دين الله أفواجاً تظهر صورته في هذه الأيام مع الصحوة الإسلامية التائبة إلى ربها، مما يجعلنا نتنبأبولادة جديدة أو بفتح جديد، نتعرف فيه على أوراق تعاريفنا الضائعة ولون وجوهنا المشوه في زمن السقوط والانهيار.. ولكن مَتى؟؟
'وقومي اتّخذوا القرآن مهجوراً فغطوا
مثل أهل الكهف
في قبوِ السُّباتِ
ويستمر النوم والسقوط، وتبعث الحضارة في
شكلها الغربي، فيرجو العالم الخلاص على يديها:
'إن الحضاراتالحديثة،
حملتّ أعباء كلِ الأمم
وخطاها
لم تزل بَعدُ حثيثةً
غير أنها تتوقف في منتصف الطريق:
'ثم خانتها قواها
إذ تخلّت عن معاني القيم'. والنتيجة الحتمية هي السقوط. بل إن التشكيل الزماني المرتبط بالإيقاع يجسد هو الآخر حالة التعثر فالانهيار، إذ أن البيت الأخير من المقطع السابق: 'فهي تهوي نحو قعرالعدم 'يتشكل من ثلاث تفعيلات هي' فاعلاتن فاعلاتن فعلن'، وكل تفعيلة من التفعيلتين الأوليتين تتكون من سبب ووتد مجموع وسبب، وعند نطقنا لكلماتها نحس عند كل ساكن بنوع منالتعثر والصمت ينتابان ألسنتنا، وهو تعثر يناسب فعل 'تهوي' الحضاري، ثم تأتي التفعيلة الثالثة 'فَعِلن' المنتمية إلى أسرة 'فاعلاتن' لتؤدي هي الأخرى نفس المعنى 'فالخبن' منجهة، و 'الحذف' من جهة أخرى، أحالا كلمة 'عَدَم' إلى وجود مسطح لا نتوء فيه ولا ارتفاع، بالإضافة إلى رتابة الإيقاع بعد سقوط نفس الساكنين. وأثناء قراءة البيت منغما نحسفعلا بالسقوط نحو الحضيض إلى أن نصل إلى الكسرة الأخيرة الموغلة في هذا المسار، فيمسي الصرح والأبراج في مسرح هذا (العالم/الحضارة) 'مشهدا عيناه تبكي الدّمِنا'. وتستمر لحظة السقوط تلك لتشمل جميع الجوانب المادية، بل تتعداها إلى المجالات الفكرية:
'ويعودُ الناسُ يفني بعضهم بعضا
لأن العقل قد فسَّخَهُ
عصرُ الحضاراتالهزيل
عصر ذبح القيم
فوق صرح المدينة
'إن هذه الفلسفات
أفلتت من يدها حبل النّجاة'.
فتعذر عليها انقاذ البشرية من دروب الشوك والانشطار. ولقد أدركأبناؤها هذه الحقيقة إدراكا عميقاً، فها هو أحدهم، ممن تربَّوا في أحضانها يؤكد في صراحة منقطعة النظير بأن 'الغرب عَرَض، وثقافته شوهاءُ، إنها انعزلت عن أبعاد جوهرية'،ويضيف: 'إن الغرب يعتبر، خلال ألف سنة مضت، أكبر مجرم في التاريخ، إنه اليوم وبالنظر إلى سيطرته الإقتصادية والسياسية والعسكرية _ بلا مزاحم _ يفرض على العالم كله نموذجهالتنموي الذي يؤدي في الوقت ذاته، إلى انتحار عالمي' وليس الانتحار العالمي _بما أنه اختياري _ إلا مظهراً من مظاهر الإنهيار والسقوط.. ولقد 'شهد شاهد من أهلها'!!
ويستمرالشاعر في استحضار مظاهر ذلك السقوط الذي ساهمت فيه التكنولوجيا عن غير قصد، إلا أن إيمانه يفرض عليه مجابهة اليأس الذي حاول أن يسيطر على 'إليوت' في 'الأرض الخراب'، فيأملفي أن يتعانق (الحب = الإيمان) مع (الالكترون = العلم) حتى تبعث الحضارة اللائقة بانسانية الإنسان:
'لو أن حُباً ضمَّ جُنحيهِ على القطبين كيْ يبعثَ في أحضان هذا الكوكبالدفء اللطيف
لو جرى الحُبُّ بأعراق
دماغ الالكترون المخيف
لم نكن نخشى على مستقبل العالم والإنسان شيئاً'
غير أن هذا العناق لن يتحقق إلا بـ(النبي/الإسلام) الذي أنقذ الانهيار الأول بميلاد حضراته الجديدة:
'إن وضعاً عاليما
مثل هذا هدَّدَوهُ بالفناء
لم يعدَ يملكُ إلا دمعتين
رفعتها كفه نحوالسّماء
علها تبعثُ للأرض نبيا!!
يُخرجُ الناس من الظلمة للنور
ثُم يرعى حق إبداع العُصور'
وهنا تتحدد قصيدة هاشم الرفاعي بقصيدة حكمت صالح لينطلقا نحونهاية واحدة، وهي الأمل في الإنبعاث، إنبعاث الحضارة الإسلامية التي تجد مشروعيتها وولادتها في أحاديث الرسول (ص) الذي لا ينطق عن الهوى، وإذا كان السقوط حتميا فإن الأملفي الإنبعاث أكثر حتمية منه، وبذلك تخلق القصيدتان 'حتمية تفاؤلية' كما يسميها د. عماد الدين خليل.
ولكن السؤال الذي يلح هنا هو: متى؟؟ وكيف؟؟ بل إنها أسئلة كثيرة ترفعأعصابنا وأفئدتنا إلى حالة كبيرة من التوتر والمعاناة.. والمسؤولية بأننا:
'سنفتحُ هذا الزّمان العصيا
بأمر الذي قال: كُنْ فيكون
سنرفع هاماتنا للسماء ونزرعُ عالمنا بالضياء'
وهي أسئلة تؤرق المفكرين مع الأدباء، ألم يتساءل رجاء جارودي في قوله: 'لقد أنقذ الإسلام في القرن السابع الميلادي إمبراطوريات كبيرةمتهاوية، فهل يستطيع اليوم أن يجعل لنا جواباً على قلق ومشاكل الحضارة الغربية التي ظهرت _خلال أربعة قرون _ خليقة بحفر قبر، على المستوى العالمي، وقلب ملحمةٍ إنسانيةمبنية _من مليوني سنة _ على إبداعات وتضحيات؟؟' لقد ساعدني نص 'جارودي' هذا على إيجاد المصطلح اللائق بحضارة العصر الحديث، إنها، بالإضافة إلى إنهيارها، تسعى إلى 'التقبيرالعالمي'، حيث الأطلال تمتد هنا وهناك، وتجسد الموت الشامل الذي ينتظر الإنبعات، (وما ذلك على الله بعزيز).
وبعد، فإن قضية 'الموت والإنبعاث' بالنسبة للحضارات، تخضع،في الأدب الإسلامي، لمنطق الحقيقة والواقع، وليست بخاضعة لمنطق الأسطورة كما تذهب إلى ذلك الناقدة 'ريتا عوض' في نقدها الأسطوري خاصة في ظل الإختلاف حول تحديد مفهوم'الأسطورة'. ولقد حاولت أن أرصد تلك الظاهرة (الإنهيار والنماء) من خلال الرؤية الإسلامية، ليتم التأكيد، من جهة، على حضور الأدب الإسلامي وتفاعله مع القضايا الإجتماعيةوالحضارية، ولندرك، من جهة ثانية، بأن نقدنا الإسلامي يتوجب عليه _ حتى يكون في مستواه المطلوب_ أن يرتاد عوالم متعددة، وآفاق متنوعة، ليخرج سالماً من مرحلة العمومياتويدخل مراحل التفصيل والتبويب والتحليل المستفيد _بكل وعي وبصيرة _ من هنا وهناك داخل حقل الآداب الإنسانية المتنوعة.
المصدر:مجلة المسلم المعاصر/العدد44/1405