جولة في شعر أحمد شوقي الإسلامي الوطني
لم يكن أحمد شوقي الذي عاش في عصر شهد تغلغل النفوذ الأوروبي إلىقلب المنطقة العربية، سوى الابن البار لعصره فارتبط بهموم مجتمعه وآماله وآلامه، لذا نراه قد شهر سيفه محارباً محاولة الغرب تسريب ثقافته ولغته وتقاليده ومظاهرهوتقريبها إلى عقول الناس بحيث تصبح نمطاً عادياً ينسيهم واقعهم وحضارتهم ويشدهم إلى «التفرنج» والتغريب الذي كان له الأثر الكبير في العديد من الدعوات والدعوات المضادةمن اصلاحية وتجددية واسلامية وعربية إلى جانب دعوات الالتصاق بالغرب. وقد شهد شوقي الثورة العربية وسقوط السلطنة العثمانية والحرب الكونية الأولى وسيطرة الانجليز علىمصر وقيام الحركات الوطنية التي توجّت بالثورة العربية الكبرى وبالثورتين العراقية والسورية وثورات الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وكانت بذور النهضة العربية القوميةقد أخذت تتبلور منذ أواخر القرن التاسع عشر. ـ حياة شوقي:
وسط هذه الأجواء الحبلى بكل أمر جديد، ولد شوقي العام 1869م حيث قضى طفولته وقسماً من فتوته عند جدته لأمه،وعندما بلغ شاعرنا عتبة الشباب، تأثر بمحمود سامي البارودي من المحدثين وبالشعراء العباسيين من أمثال المتنبي وأبي تمام والبحتري كما تأثر ببعض أدباء الغرب، وعندماألحقه والده بمدرسة الحقوق، لم يتابعها بل التحق في قسم الترجمة، وفي هذه المرحلة المهمة من حياته اتصل اتصالاً مباشراً بأستاذ في اللغة العربية الشيخ محمد البسيونيالبيباني، الذي أفاده لغوياً بفضل كونه شيخاً أزهرياً. وبعد تخرجه من قسم الترجمة عيّن موظفاً في قصر الخديوي توفيق الذي أرسله إلى فرنسا ليكمل دراسته في الحقوقوالأدب معاً. وتعتبر هذه المرحلة ذات مؤثرات ثقافية وشعرية من حيث اطلاع شاعرنا على الحضارة الغربية وآدابها. ولدى عودة شوقي إلى مصر اتصل بالخديوي عباس الذي خلف أخاهالمتوفي توفيقاً. فقربه منه وأرسله إلى سويسرا ليمثل مصر في مؤتمر المستشرقين وعندما قامت الحرب العالمية الأولى، خلع الانكليز الخديوي عباساً وعينوا مكانه السلطانحسين كامل وصدر الأمر بنفي شوقي إلى اسبانيا بسبب مهاجمته الانكليز. وفي عام 1919 عاد إلى مصر التي استقبلته استقبالاً حافلاً واختير عام 1927 عضواً في مجلس الشيوخ وكرّس فينفس العام أميراً للشعراء، وفي الرابع عشر من تشرين الأول عام 1932 توفي الأمير المتوج فرثاه شعراء العرب بأحلى القصائد الخالدة.
ـ الأثر الإسلامي:
لا يمكن الحديثفي تلك الفترة عن أي اتجاه اسلامي أصيل متجدد خارج ما طرحه الأفغاني ومحمد عبده ولا نظن أن شوقي كان يحبذ هذا التيار، خاصة وإن الدولة الإسلامية كانت عالقة بين مطرقةالأتراك الضعفاء وسندان التغريب، لذلك نرى كيف سادت النزعة الاسلامية في مصر على كل الروابط حتى أوائل القرن العشرين وكان من البديهي اعتراف المصريين بسلطة الخليفةالتركي عليهم؟، حتى إن أحمد عرابي، حينما ثار على فساد الحكام والحكم في مصر وعلى تغلغل النفوذ الأجنبي، لم يفكر بالخروج على السلطان أو عدم طاعته. وكانت الأحداثالمتسارعة بسبب المسألة الشرقية تتلون بلون ديني عند معظم الكتاب والمفكرين في الشرق والغرب معاً. وكان الشعراء يمدحون الخليفة ويشيدون بفضله وحرصه على إعلاء كلمةالدين وكانوا يرون إن الخليفة هو موحد المسلمين والمدافع عنهم يقول شوقي في ذلك:
رضي المسلمون والاسلام فرع عثمان. دُم فِداكَ الدوامُ
عمرٌ أنتَ، بيد أنك ظل للبرايا وعصمة وسلامُ
عالم لم يكن لينظم لولا إنك السلم وسطه والوئامُ
ايه عبدالحميد جل زمان أنتفيه خلافة وامامُ
عالم لم يكن لينظم لولا إنك السلم وسطه والوئامُ
عالم لم يكن لينظم لولا إنك السلم وسطه والوئامُ
عالي الباب، هزّ بابك منا فسعينا وفي الناس مرام
نستميح الإمام نصرا لمصرمثلما ينصر الحسام الحسام
فلمصر ـ وأنت بالحب أدرى ـ بك يا حامي الحمى استعصام
وإلى السيد الخليفة نشكر جور دهر أحراره ظلام
وعدوها لنا وعودا كبارا هل رأيتالقرى علاها الجهام
ويقول شوقي في قصيدة «ضجيج الحجيج» التي رفعها إلى السلطان عبدالحميد، شاكياً اضطراب الأمن في الحجاز بسبب تمرد شريف مكة:
ضجّ الحجيج وضجّالبيت والحرم واستصرخت ربها في مكة الأمم
قد مسّها في حماك الضر فاقض لها خليفة الله، أنت السيد الحكم
وعندما ينتصر الأتراك في حربهم مع اليونان عام 1897م يرتفع صوتشوقي مشيداً بانتصار الترك الذين أعلوا راية الاسلام وصانوا خلافته:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب وينصر دين الله أيان تضرب
رفعنا إلى النجم الرؤوس بنصركم وكنابحكم الحادثات نصوّب
ومما لا شك فيه أن للاسلام والمسيحية أثراً عظيماً في شعر شوقي، فالاسلام أوحى له قصائده الشهيرة: «نهج البردة والمدائح النبوية» والمسيحية أوحتله الكثير من المقتطفات الرائعة فهو يقول في «الأندلس الجديدة»:
عيسى سبيلك رحمة ومحبة في العالمين وعصمة وسلام
يا حامل الآلام بعد هذا الورى كثرت عليه باسمكالآلام
وقد قاده تقديسه للديانتين إلى نظم قصيدة في مسجد «آيا صوفيا» أحسن فيها بقوله:
كنيسة صارت إلى مسجد هدية السيد للسيد
كانت لعيسى حرماً فانتهت بنصرةالروح إلى أحمد
ـ الأثر الوطني:
كان عصر شوقي على المستوى الاقليمي صراعاً شعبياً مصرياً ضد الانكليز، تمثل في ثورات أحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفىكامل ضدهم، وقد لقي الشعب المصري أصنافاً من العذاب على يد جيش الاحتلال الانكليزي، من هنا نرى عاطفة شوقي الوطنية الصادقة حيث أنشد قصيدته التي حيا بها الوطن بعد عودتهمن منفاه قائلاً: ولو أني دعيت لكنت ديني عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا
ويقول في قصيدته «توت عنخ آمون»:
هذاالمقام عرفته وسبقت فيه القائلين
ووقفت في آثاركم أذِنُ الجلا واستبين
وبنيت في العشرين من أحجارها شعري الرصين
ولشوقي مطولة تزيد على مائة وخمسين بيتاً فينهر النيل وهي من إحدى القصائد التي تأخذ عليه في سياق اقليميته حيث يقول:
أين الفراعنة الأول استذري بهم عيسى ويوسف والكليم المصعق
الموردون الناس منهل حكمةأفضى إليه الأنبياء ليستقوا
الرافعون إلى الضحى آباءهم فالشمس أصلهم الوضيء المعرق
وطبعاً لا يجوز أن نلصق بالشاعر تهمة الاقليمية أو الفرعونية بسبب قصيدة أوقصائد كتبت في مرحلة كان الاستعمار يحاول فيها القضاء على الهوية وعلى الانسان وذلك بتحويله إلى مقلد يستهلك كل حضارة الغرب دون النظر إلى واقعه، إلى جانب التأثربالدعوات الوطنية والاقليمية في أوروبا وانتقال أثرها إلى الشرق عبر البعثات المتبادلة. والذي يؤكد عدم اقليمية شوقي ذلك الفيض من أشعاره الذي يشارك فيها الدولةالعربية همومها ومظالمها ومن أهمها قصيدة «تحية دمشق»:
قم ناج جلّق وأنشد رسم من بانوا مشت على الرسم أحداث وأزمان
بنو أمية للأنباء ما فتحوا وللأحاديث ما سادواوما دانوا
كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها في كل ناحية ملك وسلطان
بالأمس قمت على الزهراء أندبهمواليوم دمعي على «الفيحاء» هتان
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم ونحن في الجرح والآلام إخوان
وفيقصيدته «نكبة دمشق» أبان الثورة السورية نجد أصالة الروابط وعمق الأسى حين وصل إلى مسامع شاعرنا أخبار دمشق وهي تئن تحت قنابل المستعمرين:
سلام من صبا بردى أرق ودمعلا يكفكف يا دمشق
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
ـ أسلوب شوقي:
تأثر شوقي في حياته وشعره بالظروف السياسيةوالاجتماعية التي كانت سائدة في البلاد كذلك تأثر بالحياة الأوروبية وبالشعر الأوروبي، وبهذا نصبح أمام رجلين مختلفين لا صلة لأحدهما بالآخر، فأحدهما مسلم يقدس أخاهالمسلم ويجعل من الخلافة الاسلامية قدساً مقدساً ومحافظاً على اللغة العربية، والآخر رجل دنيا متسامح ساخر من الناس وتقاليدهم: رمضان ولى هاتها يا ساق مشتاقة تسعىلمشتاق
وقد جدد في اللغة وهذا ما يوضح لنا ازدواجيته:
1 ـ أثر التراث العربي القديم على نفسه وقد حاول أن يعيش شاعراً عباسياً في القرن العشرين وهذا واضح في قصائدهوأسلوبه وتقرّبه من السلاطين. 2 ـ احتلال الانكليز لمصر جعل شوقي خصماً لهم مما جعله المعبر عما يجول من آمال وآلام عند أهل الشرق قاطبة.
3 ـ إذا كتب قصيدة فهو لايشير إلا بأبيات عن المناسبة وأكثر الأبيات في الحكم والوصف.
4 ـ له عاطفة اسلامية وعاطفة وطنية.
5 ـ أشاد بالاسلام لإيمانه بمعانيه، وتعجب هنا إزاء ترفه وأحياناًاسفافه.
6 ـ شعره عربي متجدد ولم يتأثر بالغرب إلاّ قليلاً.
7 ـ كان كثير التحدث عن الأتراك والخلافة.
8 ـ غلوّه في الألفاظ كان أكثر من غلوه في المعاني وموسيقاهالشعرية هي لبّ إبداعه.
9 ـ لا نستطيع أن نشتم من قصائده أي تحيز لأي فكر أو اتجاه عدا ما كان معاصراً.
10 ـ يعلق شوقي بالشباب الآمال.
* مجلةالموقف/العدد السابع /1983م