دور التدوين في حفظ ذخائر الفكر العربي والاسلامي
* د. محمد عبد الرحمن مرحبا ان تدوينالقرآن في حياة النبي(ص) كان عاملاً أساسياً في تطور الوعي التاريخي عند المسلمين. فقد كان هنا القرار الهام تعبيراً عن أزمة الذاكرة العربية التي ثقلت بالأحداث وفقدتصفاءها المألوف، ذلك الذي تمتعت به في فترة سابقة على الاسلام، لها آفاقها الفكرية والاجتماعية الضيقة. فقد أصبحت الذاكرة من هذا المنطلق جزءاً من الماضي، ملحقةبالموروث القبلي وما يختزنه من معلقات وأشعار وشجرات أنساب مطولة، تشابكت فروعها وضعفت أصولها على مرّ الزمن، بينما القرآن مدوناً ارتبط بالدولة والتحولات الجديدة فيالمجتمع.
والحديث أيضاً كان عاملاً بارزاً مؤثراً في الكتابة التاريخية العربية، فقد كان النبي (ص) محور اهتمام المؤرخين الأوائل وحافزهم على الكتابة التاريخية التيانطلقت من السيرة وتطورت أغراضها في عهود الخلفاء، بعد أن طغى الحدث على الشخصية التي أخذت تَبهُت أمام الشخصيات السابقة المتألقة والمنجزات الكبيرة المرتبطة بها. وهكذا، فإن الذاكرة التي لم تستوعب القرآن استيعاباً تاماً، لم تعد قادرة على الاحاطة بالتفاصيل الواسعة في الاسلام؛ فكيف بالأخبار القديمة التي بدت عامة أو غائمةفضلاً عن الابهام المحيط بها، والأساطير الجانحة إليها، وكل ما يجعلها مختلفة اختلافاً كبيراً عن الأخبار الاسلامية.
إن قوة الذاكرة التي اشتهر بها العرب وأعطتلصاحبها امتيازاً على غرار ما تميز به الذهبي أو الطبري في القرن الثالث، لم يعد التوكؤ عليها وحدها ممكناً في ذلك الوقت، وكان هذا أحد الأسباب التي دفعت العرب إلىالتدوين قبل القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد)، بعد أن اتسعت الشقة بين الحدث وتاريخه، وما لذلك من أثر سيئ في طمسه وإضعافه رغم الحرص على توثيق السند والرجوع إلىالمصدر. وقد ذكر الذهبي في هذا السياق، إن التدوين بدأ حوالي منتصف القرن الثاني، محدداً السنة الثانية والأربعين بعد المئة بأنها السنة التي شرع فيها علماء الاسلام فيتدوين الحديث والفقه والتفسير. على أن الذهبي برغم تحديده السابق لم ينف وجود الكتابة التاريخية قبل هذه السنة، ولكنها أخذت تشيع وتأخذ تدريجاً مكان الذاكرة، حيث (كثرتدوين العلم وتبويبه، ودُونت كتب العربية، واللغة والتاريخ وأيام الناس) بعد أن كان (الأئمة يتكلمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرئية)، لكنها ليست قيدالتداول، بل كانت جزءاً من التراث الشخصي.
والذي يهمنا من أمر التدوين هنا هو تدوين الشعر والأدب.. وهكذا فحيث يكون تدوين يكون تثبيت ويكون توثيق ويكون تدقيق، وحيث لايكون تدوين يكون تلفيق ويكون تخييل، ويكون تهويل، ويكون تحويل، وتكون إشاعة.. أخبار متضاربة وروايات متعارضة، وتخليط وتشويه وقلب لأعيان الأشياء والحقائق. هنا حكاياتالجن، وقصص لغيلان، ومعارك السماء والشياطين.. هنا كل شيء ممكن وكل شيء حقيقي إلا الحقيقة الموضوعية.. هنا كل شيء معقول إلا منطق العقل..
التدوين كابح للأخيلةوالأساطير والأكاذيب، إنه يحفظ للحقيقة توازنها ويُبقي عليها تماسكها وانسجامها، أو على الأقل يصون كثيراً من عناصرها وخيوطها، ويمنعها من التشتت والضياع والتلف، فلاتتبدل معالمها ولا يختل كيانها، ولا يدخل في قوامها إلا ما انتزع منها أي ما هو قمين أن يكون جزءاً من طبيعتها ويكتمل به وجودها. فما دامت العناصر الأصلية للحقيقةالتاريخية محفوظة، فإن الطريق أصبح ممهداً لإعادة تجميعها من جديد، وصياغتها الصياغة التي كانت لها في يوم من الأيام، أو تلك القريبة منها على الأقل. ومع ذلك فإن التدوينليس ضمانة كافية للحقيقة، ولكنه على كل حال يُمسك بالكثير من تلابيبها. أو هذا ما يُفترض به على الأقل. فكم من مُدوِّن لا يصدق تدوينه، وكم من ناقل شفوي جدير بالثقةوالحترام، وكم من قرينة تعدل ألف تدوين! هنا تتدخل طرق التحقيق التاريخي. فبالمقارنة والموازنة والمعارضة والنقد الداخلي للنصوص، وفحص الوثائق، وما الى ذلك في التقنياتوالوسائل وطرق البحث والنظر، يمكن تقويم الصورة المعوجة، والوصول إلى الحقيقة في مجردها، بعيدة بقدر الامكان عن التزييف والتزوير، أو إلى شيء قريب من ذلك.
فللتدوينإذن حسنات كثيرة. فهو الذي حفظ القرآن والحديث والفقه والتفسير والأدب العربي منظومه ومنثوره. ولولا التدوين لضاع ميراث كبير، ولكن هذه الحسنات يجب ألا تنسينا ما له منسيئات وعيوب. إنه كابح، والكبح يوقف الأخيلة والأساطير ـ وحتى هذه المسألة ليست أمراً مسلّماً به ـ فإنه يوقف أيضاً تدفق الحياة. فإذا كان التدوين قد حفظ ما حفظ، فقدجمَّد حركة اللغة. فمما لا شك فيه أن التدوين هو الذي يثبت اللغة ويحفظها من الضياع، ولكنه وهو يفعل ذلك يقف حجر عثرة في طريق ادخال تغييرات جوهرية عليها. أما التناقلالشفوي للأدب فهو الذي يمنحه حرية أكبر في التغيير والتطور. ان لغة الأدب والشعر ليست متجمدة بل هي لغة متطورة، وللشاعر أن يستخدم الكلمات المألوفة والموروثة، وأن ينحتكلمات جديدة على نمط الكلمات القديمة، وأن يستعمل المترادفات والأشكال البديلة، بل وأن يُطعِّم لغته بمفردات محلية.
فلغة الأدب والشعر العربية إذن لغة متعارف عليهادون أن تكون جامدة، فهي على الدوام متجددة. فلما بدأ عصر التدوين في أواخر القرن الثاني توقفت اللغة وبقي قالب الشعر الشفوي الموروث كما هو منذ ذلك الحين. شعراء عباقرةقاموا بتحويل مسار الشعر من القبيح المنقوش الذي وصلت إلينا شذرات قليلة منه إلى السلس الأنيق الجميل الذي لم يتوقف عن التجدد والتطور إلا ببدء عهد التدوين. ذلك أن شيوعالكتابة وفن تدوين الأدب يعني أن الشعراء أخذوا يهجرون رويداً رويداً تقنيات الأدب الشفوي العفوي ليدخلوا مرحلة التأليف المدروس المتأني، أي البعيد عن العفويةوالتلقائية، والمشبع بالعقلانية واعادة التفكير والصياغة والمراجعة وما إلى ذلك. فهم منذ الآن سينتقون الكلمات بعناية شديدة وسيستخدمون أساليب منمقة مصطنعة، ونحن لاننكر أن هذا مسار التطور الطبيعي ولكنه م خالف لطبيعة الشعر الذي دفع الثمن غالباً ومناقض لازدهاره.
وعلى كل حال، لم يصل إلينا شيء ذو بال عن العصر الجاهلي. فليستلدينا معلومات توحي بالثقة عن تفكير القوم وعقائدهم وأديانهم.. فجُلُّ ما وصل إلينا في هذا المضمار إنما كتب بعد الاسلام وبعقلية اسلامية صرف ضاعت فيها المعالم وافتقدتالصورة أهم ملامحها.. فلا يزال ما قبل الاسلام ـ تاريخاً وأدباً ومجتمعاً وثقافةً وحضارةً ـ يكتنفه ضباب كثيف بل ظلمة حالكة. وأكثر ما يصدق ذلك على عرب الشمال، وهم الذينيحرص الباحث في بذور الحياة العقلية وبواكيرها في الجاهلية الأولى على تقصي أحوالهم ودراسة منازعهم واتجاهات تفكيرهم وأنظارهم، لا، منهم ستنطلق الشرارة وينبثق الضوء.وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا من آثار الجنوب ما يكفي للحكم على حضارات العرب القديمة، فإنه لم يصل إلينا إلا النزر اليسير من عرب الحجاز. ومن هنا صعوبة الحكم على الحياةالعقلية في هذا الجزء من شبه الجزيرة قبل بزوغ الاسلام.
إن أقرب الفترات التاريخية والأدبية إلى عهد الاسلام هي الفترة الجاهلية. ويعتقد الكثيرون أن أوثق مرجع بينأيدينا عن هذه الفترة هو الشعر الجاهلي الذي يعتقد الكثيرون انه المحاولة الأولى لحفظ أحداث الماضي، والذي نكشف من خلاله صوراً صادقة أمينة عن الحياة الأدبيةوالاجتماعية والثقافية للعرب قبل الاسلام، حيث يتسنى للقارئ أن يطلع على أوجه حياة البدو ونمط الأخلاق والعادات والعقائد التي كانت سائدة بينهم، وطريقتهم في الحربوالقتال والنزال والصيال والطعان، وطموحهم إلى مكاسب الكرامة والحرية والمنعة وقيم العز والفخر والشجاعة والبذل، وروح النجدة والمروءة والكرم..
لكن هذا المرجع(الشعر الجاهلي) لم يصل إلينا مباشرة، بل من خلال الكتابات الاسلامية التي يفصل بينها وبين الشعر الجاهلي وقت طويل يجعل المؤرخ لا يطمئن إلى ما روته الكتب الاسلامية عنالتاريخ الجاهلي، بل يشكك فيها ويرى نفسه مضطراً للرجوع إلى مظان أخرى تساعد على كتابة هذا التاريخ وهي مع قلتها تقدم لنا مادة لا بأس بها تظل خيراً من التاريخ الذي كانمتعارفاً من قبل، والذي اصطبغ كثيراً بنزعات المؤرخين الاسلاميين، واتسم بميولهم وتصوراتهم، وخضع لحاجاتهم الملحة إلى تأييد الدين الجديد بشتى الوسائل والأدواتالمتاحة.
فالأدب الجاهلي هو في مجمله أدب شفاهي مسموع لا أدب مكتوب مقروء. إن مصيبة الشعر العربي إن أكثره قد ضاع، فلم يصل الينا إلا جزء يسير مما يسمى بالتراثالجاهلي، وإن ما وصل إلينا منه لم يصل سليماً، بل لقد وصل مختلطاً بالكثير من المنحول والموضوع، والمصنوع والزائف، حتى أصبح التمييز صعباً، قال أبو عمرو بن العلاء: ماانتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.