فيصل العوامي
خصوصيات المادة الدينية
انطلاقاً من هذا التحديد المفاهيمي يتضح وجه التحفظ في تحديد طبيعة النسبة الحاكمة بينالمثقف والثقافة الدينية. أعني من ذلك: أن للثقافة الدينية خصوصيات تجعل التعامل معها أكثر تعقيداً من التعاطي مع سائر فصول الثقافة العامة، وان للمثقف نواقص تحد منأهليته وقدرته على الحسم الفعلي في تلك الثقافة.
الخاصية الأولى: خطورة المادة الدينية.
إن الإستنتاج الذي يُتوصل إليه في خصوص هذه المادة، لا يُعد مجرد فكرةعابرة لا أثر لها، وإنما تبني ذلك الاستنتاج يستتبع إفراغاً لذمة المستنتج ومن ينقاد له. فالفكرة الدينية تكليف شرعي، والتكليف يشترط في إتيانه الصحة، إما الواقعية أولا أقل الظاهرية، وكلتاهما لا يمكن تحصيلهما إلا من قبل الخبير. ولهذا لا تفرغ ذمة المكلف إلاّ إذا أتى بذلك التكليف على وجهه الصحيح. نعم الخطأ قد يكون مغتفراً في ذلك،لكن إذا كان مبنياً على مقدمات وشروط علمية حتى يدخل ضمن قاعدة (من اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر). أما إذا كان فاقداً لتلك المقدمات والشروط فإنه يصبح لغواً.ولهذا ورد نهي شديد في القرآن الكريم والروايات عن التعامل السطحي مع النصوص الشرعية، الذي يقود إلى تبديل أحكام الله وقيمه وإلى تقديم الرأي الشخصي على الوحي الإلهي،قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم). (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئا). ولأن الظن في كثير من الأحيان لا يؤدي بالإنسان إلى الحق، فإن مجرد اتباعهيكون معصية وإثما. (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم). فليس أي ظنّ يظهر للإنسان يصح له اتباعه ويكون حجة يعتذر بها أمام الله. نعم هناك جملة منالظنون يمكن الاعتماد عليها، وهو ما أطنب علماء الأصول في بحثه واصطلحوا عليه بظن المجتهد أو الفقيه، وهو الظن الذي ينشأ نتيجة تطبيق العديد من المقدمات العلمية التي لاتتسنى إلا للمتخصص والخبير. بل قد يصبح ذلك علماً تعبدياً كما هو الظن الحاصل من الخبر الواحد. أما الظن الذي يحصل لغير الخبير، فلا يمكن اعتباره حجة بأي حال من الأحوال،ولعل هذا أصل عقلائي يجري في سائر العلوم. وإنما حَظَرَ الدين على الإنسان الاعتماد على مطلق الظنون، لأنها غالباً لا تقود الإنسان إلى الحقائق والأحكام الواقعية،والعمل على خلاف الحقائق من غير عذر محكوم عليه مسبقاً بالحرمة.
فتبني أي فكرة في سائر العلوم والمعارف غالباً لا يتصف بالحرمة أو الحلية، أما في خصوص ثقافة الدين،فإن كل فكرة يمكن أن يتصف اتباعها بالحرمة أو الحلية أو بافراغ الذمة وانشغالها. ولهذا فالمادة الدينية خطرة والاستعجال في التقوّل فيها واظهار الرأي للعلن يضع المتقوّلفي موقع الإدانة، ليس في حدوده هو فقط وإنما في حدود الآخرين أيضاً.
فقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: (من أفتى الناس بغير علم، كان ما يفسده من الدين أكثر مما يصلحه). الخاصية الثانية: صعوبة تحديد الفكرة الدينية:
مع ما أتبنّاه من ضرورة التسامح الفكري مع الآخر، ومن عمومية حق التعبير عن الرأي وعدم اختصاص أحد به، إلا أنني وقفتمشدوهاً وأنا أقرأ المقابلة التي أجرتها صحيفة المستقلة اللندنية مع العضوة السابقة في البرلمان الأردني (توجان الفيصل)، حيث قُدّم إليها سؤال حول ما يقال حولها من لغطبسبب جرأتها في طرح متبنياتها الشرعية المغايرة، فأجابت بأنها فقيهة وليست في حاجة للعودة إلى أحد في فهم الأحكام الشرعية، والسبب في فقاهتها _وهذا محل الشاهد _ أنهادرست الأدب الإنجليزي وقرأت أرسطو وراجعت صحيح البخاري ومسلم. وتساءلت على إثر ذلك بيني وبين نفسي، هل أن كل العلوم تحتاج إلى تخصص وعناية خاصة، إلا ثقافة الدين فإنها لاتحتاج إلى شيء من ذلك؟
كيف أن علم الفلسفة يحتاج إلى تخصص، حتى أننا نجد العديد من الفلاسفة غالباً ما يُشكِلون على نقادهم بأنهم غير متخصصين ولهذا أشكلوا، أما لوكانوا من أهل التخصص لأدركوا مغازي الكلام وأيدوا أو سكتوا (كابن رشد) الذي ردّ الإشكالات التي وُجهت من قبل (الغزالي) إلى فلاسفة المشرق (كالفارابي) و (ابن سينا) وأشباههمحول العديد من النظريات كالبعث الروحي، وقدم العالم، وعدم علم الله بالجزئيات _ومع ذلك فإن علم الدين لا يحتاج إلى التخصص؟ كيف ان علم الأدب لا يقبل في دائرته إلا المتفرغله، وعلم الدين لا؟ لماذا الكل يقبل بالتخصص في سائر العلوم، ولا يعتمد إلا على مقولات الخبراء فيها، ولكن حين يصل إلى ثقافة الدين يقول بالشياع؟
نواقص لابد منالإعتراف بها
1_ عدم التعمّق في المدارك الشرعية:
إن الممارس للتفكير في الأمور الشرعية العبادية والمعاملاتية، لابد أن يكون لديه خلفية واسعة وإلمام تام بالنصوصمن كتاب وسنة، لأنها المصدر الأساسي للتشريع.
وأعني بذلك أن من يطمح إلى تحرير المطالب الدينية واستخراج الأحكام الشرعية، عليه أن يجلس طويلاً أمام الكتاب والسنة،ليتعرف على أدق التفاصيل فيها ويلتقط الشاردة والواردة، ويكتسب منها بالمستوى الذي يجعله قادراً على الاستفادة منها متى شاء، ومتمكناً من استحضارها في المواقف بسهولةويسر.
فالمعرفة التامة بالنص الشرعي إحدى أهم المقدمات الواقعة في هذا الطريق، طريق الاستنباط الشرعي، أما المعرفة السطحية أو الجزئية فغير كافية. وما يؤخذ علىمثقفينا اليوم إما سطحيتهم أو جزئيتهم في التعامل مع النص، وذلك لأنهم لا يفرغون جزءاً مهماً من اوقاتهم لذلك، هذا إن لم يعتبره البعض ترفاً، وإنما يكتفون بملاحظةالإصدارات الثقافية الجديدة. ولعل البعض منهم يهتم بقراءة الكتابات النقدية للنصوص الشرعية من دون أن يقرأ النص ذاته قراءة صحيحة.
2_عدم الشمولية في فهم ثقافة الدين:
إن الدين كلّ لا يتجزأ، ولا يمكن فهم بعضه بدون معرفة الآخر المتبقي، حيث أن الأحكام والأفكار الدينية تتداخل مع بعضها البعض وتؤثر في بعضها البعض، بل قد يحكم بعضهاعلى البعض الآخر، كحاكمية قاعدة الضرر على كثير من الموارد الفقيه، أو حاكمية قاعدة الأهم والمهم على غيرها من القواعد.
لهذا فإن من يريد أن يسجل رأياً في فرع ديني،لابد أن يكون متمتعاً برؤية شاملة لكل الفروع والأصول والقيم وما أشبه. ففي الدين فروع عبادية كثيرة ومعاملاتية أكثر، هذا عدا عن قيمه ووصاياه البالغة الكثرة، وجميعهايرتبط بعضها بالبعض الآخر، ولا يمكن لباحث أن يحسم حكماً في مورد، إلا إذا كان ملماً بصورة شاملة بكل تلك الفروع والأصول والقيم والوصايا وغيرها.
وهذا ما لا يتوفر عندالمثقف اليوم، إذ لا تعدو معرفته الفروع الشرعية، فضلاً عن غيرها من ثقافة الدين الواسعة أن تكون مقطعية ومحدودة جداً، بل تكاد تكون منحصرة في بعض ما هو محل البلوى فقط،ولا شك أن ذلك غير كافٍ فيما نحن بصدده، إذ من لا دراية شاملة له بالدين يصعب عليه البت في الجزئيات.
3_ الإستئناس بالاستحسانات العقلية المجردة:
لايعني ذلك أنالدين رفض العقل والتعقل، بل الدين هو حافظ العقل والحاث على الاستفادة منه، ولكنه رفض إهمال النص في سبيل إعمال العقل، إما بالرفض الصريح أو بتعمد التأويل للهروب عن حدالنص. وكمفردة صغرى من هذه الإشكالية ما نسمعه بين الحين والآخر، من استحسانات غير قائمة على أصول، لترجيح حكم على آخر، أو تجاوزه أو تأطيره بظروف خاصة، وغالباً ما تكونتلك الاستحسانات وقتية أيضاً، ولهذا فإنها تتبدل بين الحين والآخر، فتارة يكون الحكم الكذائي سليماً وأخرى خاطئاً وثالثة بين هذا وذاك، وكل ذلك تبعاً لتبدلات البيئةالاجتماعية أو النفسية لنفس المستحسِن. وهذا من أخطر إشكاليات العقل الذي لا يعتمد على الأسس والضوابط الشرعية.
فمن تَقوى لديه المعرفة بأصول الشرع ونصوصه بمستوىشمولي، تكون نظراته العقلية أكثر نضجاً، أما من تضعف لديه تلك المعرفة فإنه دائماً يجنح نحو الإكثار من الاستحسانات والتوفيقات العقلية المجردة، ويكثر من إبراز الأصولالعقلية _حيث لا أصول شرعية تحضره _ مع ما فيها من ملابسات تتطلب دقة لضبط استخدامها في مواردها المناسبة، لأنها قد تصدق في مورد ولا تصدق في آخر _، ولا أعني بذلك تخصيصها،لأن الأصول العقلية آبيةٌ عن التخصص، وإنما أعني عدم إمكان استخدامها فيه.
إن الاستحسانات العقلية السريعة والمجردة قد تضرّ في كثير من الأحيان بالعلم نفسهوبالحقائق العلمية، إذا لم تكن متقدّمة بالأصل والنص الشرعي، ولعل هذا من أخطر ما يبتلى به مثقفونا في هذه اللحظة الراهنة، وهو من أبرز المؤاخذات الموجهة إليهم من قبلأهل الاختصاص، حيث تكثر لديهم الاستحسانات على حساب النصوص والأصول، وفي الغالب لا يكون ذلك عن قصد وإنما لنقص في الدراية والرواية.
4_التحسس النقدي السريع في النظرإلى الفكر الموجود:
لا أظن أن هناك استنتاجاً يحتاج إلى تريّث وهدوء تام في اتخاذه، أكثر من أحكام الله سبحانه وتعالى، لأن الخطأ فيها لا يقاس بأي خطأ آخر يصدر منالباحث في سائر حقول المعرفة، فالأحكام الإلهية كلها إلتزام وتكليف، والتسرع في إحرازها مُشكِل. خاصة إذا كان ناشئاً في ظل أجواء مشحونة وفي زمن ومكان متصف بالفوضىالاجتماعية.
وبالطبع فإنّي لا أعني هنا بأن المثقف متّبع لهواه، وإنما هو في بعض الحالات وتحت ضغط العديد من الظروف، يقترب من هذا الخطر حيث ينظر بشيء من الفوقية إلىكل الإفكار الموجودة أمامه ولا يفرّق فيها بين الأحكام والنظريات العامة، ويأخذ بشكل جارف في نقد كل شيء وكأنه لا يوجد ثمة شيء صحيح إلا هو، وما عداه تخلّف وسلفية وضرب منالجهل والجمود العقلي.
المصدر : المثقف وقضايا الدين والمجتمع