الدكتور إبراهيم دعيج الصباح ـ دراسة أحمد جمال الدين موسى
الشرعية الإسلامية والشرعيةالدستورية
الشريعة الإسلامية والشرعية الدستورية تنافر أم توافق? تعارض صريح أم مواءمة ممكنة? وما هو موقف المذاهب الفقهية التقليدية والتيارات الفكريةوالسياسية المعاصرة من هذه القضية المتفجرة? وهل نجح المجتمع الكويتي الحديث في تحقيق التوازن المنشود بين احترام القواعد والأصول الشرعية ووضع أسس المشروعيةالدستورية المنسجمة مع تلك القواعد والأصول المعاضدة لها في إطار عصري مناسب لحاجات المواطنين ومتطلبات العصر?
تلك هي الأسئلة الصعبة التي تصدى لها بحدب وموضوعيةفائقة الدكتور الشيخ إبراهيم دعيج الصباح فالدراسة من ناحية تأصيلية في بيان القواعد الشرعية المتعلقة بأساس الحكم وممارساته ومجالات الاجتهاد فيها, ومن ناحية ثانيةتطبيقية في بيان التطور التاريخي للأوضاع الدستورية في دولة الكويت والمقومات الأساسية للحكم فيها, ومن ناحية ثالثة تحليلية في بيان العلاقة الجدلية بين الشريعةوالدستور في النظرية والتطبيق.
في مقدمة الدراسة حدد المؤلف مفهومها الأساسي وهو (الشريعة التي ينبثق عنها الفقه الذي يشكل مجموعة الأحكام, ومن الأحكام الأساسيةيوضع الدستور, وما يتبقى من أحكام تسن بشكل قوانين تتغير وتتبدل حسب المجتمع وتغير الظروف الداخلية والخارجية والمصالح المرسلة).
ويحدد المؤلف هدفه من دراسته بكونه(تبيان أوجه الاتفاق أو الاختلاف بين الدستور الكويتي والشريعة الإسلامية. لكن ما يجب أن يكون واضحا منذ البداية هو أن الدستور الكويتي قائم بصورة مواد محددة وواضحةومفسرة في المذكرة التفسيرية. أما النظرية الدستورية الإسلامية فمرجعها الرئيسي الشريعة (أي القرآن والسنة) وبالنسبة لكليهما لا يوجد اتفاق بين الفقهاء لاستنباط إسلاميموحد لأن تفسير الآيات هو محل جدال بين العلماء كما أن الأحاديث لا تحظى بالاتفاق على صحة عدد كبير منها).
وعندما يتصدى الكاتب لموضوع شائك مثل هذا الموضوع فإنه لاتنقصه الصراحة حينما يقرر في نهاية مقدمته بأنه (يشعر بأنه ورط نفسه في دوامة يصعب الخروج منها بسلامة علمية, نظرا لأن الموضوعات الدينية دقيقة وحساسة, وما يزيد منالحساسية إصرار الكاتب على الخروج من هذه المهمة بشعور الذي أدى واجبه نحو الحقيقة العلمية ومصلحة الكويت).
وللخروج من هذه (الورطة) إذا جاز التعبير بأقل الأضرارالممكنة فإنه يلزم توافر صفات عديدة في الباحث أبرزها الموضوعية والوسطية والصراحة العلمية وهي صفات يلاحظ القاريء توافرها في ثنايا هذه الدراسة. فمنذ البداية يصرحالمؤلف بوضوح بأنه (عند مقارنة الدستور الكويتي مع الفقه سنرى أنه توجد عدة مدارس فقهية وعدة مذاهب وآراء, وبأيها نأخذ فلا ضير علينا. والمقصود بهذا الكلام هو أنه قد يأتيباحث آخر أو قاريء لهذه الدراسة فيقول بأن الكاتب جانبه الصواب إذ لا تتفق هذه المادة من الدستور مع الفقه, لهذا يجب وضع النقاط على الحروف منذ البداية والإعلان بأنالكاتب لا يتقيد بفقه معين أو مذهب محدد في هذه الدراسة بل ما يلتزم به هو ذكر الآراء المختلفة, مع الاحتفاظ بحقه الديني والعلمي في اختيار الرأي الذي يريده خاصة أنه يأخذبطريقة العقل ودوره في الاختيار بين البدائل عند النقل).
تقنين الشريعة
في الفصل الأول وعنوانه (الشريعة والدستور) يورد الكاتب تعريفات ومعاني مختلفة لغويةوفقهية لتعبير (الشريعة) الذي يجب تمييزه عن تعبير (الفقه). فالشريعة تعتبر مصدرا للفقه والدساتير, ويتعين كما أشار جارودي عدم الخلط بين الشريعة والفقه لأن (هذا الخلطالذي تشكل في القرون الماضية سيحدث انقساما بين المسلمين ويترك الآلاف منهم عرضة لليأس والتشتت).
|ويؤيد المؤلف تقنين الشريعة بواسطة السلطات المعترف بشرعيتها لأنذلك (يضع حدا لكثير من الأمور وينهي ادعاء هذا الفريق أو ذاك بأنه إنما يتكلم أو يطالب باسم الأكثرية, فالتقنين هو التشريع الصادر عن هيئة تشريعية تمثل الشعب الذي فوضهاللتشريع باسمه إلى جانب حكومة حاصلة على ثقة ممثلى الشعب مع رأس للدولة لا غبار على شرعيته, والدستور كما سنرى هو قانون, ولكنه قانون سياسي). ولكن تقنين الشريعة يجب (أن يمرعبر الفقهاء والعلماء في مختلف فروع المعرفة والسلطات السياسية المختصة, وليس فقط عبر الفقهاء الذين هم في الغالب علماء لغة وحفظة القرآن الكريم والأحاديث الشريفةالصحيحة والموضوعة منها). فالواقع أن العصر الحاضر (يختلف جذريا عن الماضي بتشابكاته وتنظيماته واكتشافاته العلمية الواسعة والتداخلات عبر حدود الدول, لذلك لابد منمعادلة توفيقية علمية تجمع كل من بإمكانه أن يسهم في الخروج بمجموعة قوانين تلبي حاجات المجتمع والفرد, فالشعب بإرادته والحكم بسلطاته وشرعيته والعلماء بتنوعاختصاصاتهم مدعوون لهذا الواجب الكبير). |
وتقتضي عملية تقنين الشريعة وتطبيقها بسلاسة وترحيب المرور بفترة انتقالية تتمثل في عملية تحضير للمجتمع لهذه النقلة حتىتتم على الوجه الذي يرتضيه الإسلام والمسلمون في مجتمعهم. فالإسلام تربية سليمة وروح قويم وضمير مستقيم قبل أن يكون تطبيق عقوبة, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول(ادرءوا الحدود بالشبهات) وفي حديث آخر يقول (تعافوا في الحدود). وعندما ندرك أن القرآن حمال أوجه وأن الشك في كثير من الأحاديث قائم, نصاب بالهلع من خطورة مسئولية تقنينالشريعة لما قد يترتب عنها من نتائج تنال الحياة والحريات والممتلكات. وعلينا أن نتذكر دائما بأن الشريعة إلهيه والتقنين بشري, أي أن التقنين يعني تطبيق الشريعة ليسبالضرورة كما أرادها الله بل كما يظن الفقيه أنه أرادها, أو حتى كما يريدها الفقيه أن تكون).
كذلك فإن الشريعة التي هي أقدس شرعية لكي تتحول إلى شرعية دستورية فشرعيةقانونية لابد لها من المرور عبر المؤسسات التمثيلية كنتيجة لانتخاب حر شامل يعطي الحق للسلطة التشريعية بتبني القوانين معبرة بذلك عن رغبات الشعب. الاجتهاد وحتميةالتجديد
وفي مستهل الفصل الثاني المعنون (نحو نظرية دستورية إسلامية) يؤكد الكاتب أن بعض المفكرين وعلماء ومؤرخي المسلمين يرون أن مفهوم الدستورية ليس بغريب أو جديدعلى الإسلام ويعتبرون أن أول دستور أو وثيقة قانونية أو تعهد صدر فور هجرة الرسول من مكة إلى المدينة.
ويتصدى المؤلف في هذا لأكثر الموضوعات على الساحة الإسلاميةجدلا وهو الاجتهاد وحتمية التجديد وما يرتبط بذلك من تيارات فكرية ودعوات سياسية. فالعالم الإسلامي (يزخر بمجموعة من الحركات والمدارس الفكرية والفرق: من هذه الفرق منقال بوجوب اعتماد سياسة إرشادية تربوية تغرس تعاليم الإسلام في النفوس, ومنها من قال بوجوب فتح الاجتهاد والإتيان بفقه يتماشى والواقع, ومنهم من قال بتكثيف الدعوةوالعمل على حمل الناس للعودة الفعلية, وليس فقط الشكلية, للدين ومنهم من حمل لواء المعارضة للحكومات لاعتبارها غير إسلامية, ومنهم من كفر الحكم والمجتمع وحمل السلاح..). ومن خلال متابعة عرض الكاتب لهذا الموضوع الشائك نستطيع استنتاج بعض العلامات الهادية التي يتمسك بها وهي:
ـ ان الاجتهاد في الشريعة الإسلامية محدد بنطاق النصوصوتفسيرها. فأمام المجتهد نوعان من الأحكام: القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها, والظنية القابلة للاختلاف في التفسير مع عدم تجاوز نطاق الأصول والقواعد المتبعة, إذ إنالمجتهد لا يملك أن يبتدع الأحكام التي يريد.
ـ أن الصراع ـ الحوار بين التقليديين والتجديديين, بين التراث والحداثة, أي بين الإسلام وواقع العصر ينطلق من أرضيةمشتركة تعمل لخير الإسلام والمسلمين, والخلاف لا يتعدى حدود الرأي وتباين وجهات النظر الاجتهادية.
ـ أنه ليس كل ما في الغرب مرفوضا وليس كل ما استنبطه قدامى الفقهاءواجب التبني, فالزمان زماننا والمكان مكاننا, وكما قال أبو حنيفة عن الصحابة ومن اجتهد بعدهم (ان القوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا).
ـ أنه لابد من ذكر أن الشريعة لمتطبق بالكامل ولا في مرحلة من مراحل التاريخ وهي مسألة تناولها عدد كبير من رجال الفكر والمؤرخين والعلماء. ولذلك فإن تطبيق الشريعة في أوائل القرن الحادي والعشرينيستدعى التفكير العميق وإعمال الجهد العقلي في محاولة قاسية للتوفيق بين التقليد والتجديد أو بين الشريعة وواقع العصر الذي نعيشه.
ـ أنه بمقدار ما هو سهل استنباطدستور إسلامي من الشريعة اعتمادا على النقل والتراث, أو بمقدار ماهو سهل وضع دستور إسلامي عصري, فإنه من المستحيل الاتفاق إسلاميا أو عربيا على دستور يقبل به العلماءورجال الاختصاص أو حتى العلماء فيما بينهم, وليس المقصود علماء السنة والشيعة فقط, بل علماء السنة فيما بينهم.
الدستور.. والخلافة
وفي الفصل الثالث المعنون (مرحلةالدستورية في العالم العربي) يستعرض الكاتب التجارب الدستورية الحديثة في عدد من البلاد العربية بالإضافة إلى الدولة العثمانية ويخلص إلى نتيجة لا تشي بكثير من التفاؤل.فنحن أمام (بلدان عربية متأثرة اجتماعيا بالأتراك أولا وبالفرنسيين والإنجليز ثانيا وبالطليان إلى حد ما ثالثا. لهم ميزاتهم الخاصة في كل بلد أو مجتمع تجمع بينهم العروبةوالإسلام والتقارب في الثقافة السياسية ودرجة التطور, جميعهم خبروا نوعا من الاحتلال. الأنظمة السياسية إما ملكية أو إمارة أو جمهورية. أما دساتيرها فتختلف من بلد لآخرمع جامع واضح وهو استيرادها من الغرب. والقاسم المشترك الآخر بين هذه الدول العربية ولو بدرجات متفاوتة هو أن إدراكها لمفهوم الدستور لايزال دون المستوى المطلوب, لأنالأساس في العلاقات هو الشخص وليس المؤسسة, ومن الممكن إعادة هذه الشخصانية لقوة الثقافة القبلية المتأصلة في النفوس بالرغم من الحياة الحضرية التي تعيشها بعضالمجتمعات العربية..).
فالمعضلة الكبرى هي (عدم التقيد بما ينص عليه الدستور سواء كان لناحية الصلاحيات الحكومية وتوزيعها والعدالة في ممارستها أو الحفاظ على الحقوقوالقيام بالواجبات وتأمين المساواة في الفرص.. فالدساتير كنصوص لا قيمة فعلية لها بل القيمة هي في التقيد بهذه النصوص). ويستشهد المؤلف بما ذكره أستاذنا الدكتور يحيىالجمل من أن (خطورة هذا الأمر تتضح عندما ندرك أن المواطن العربي لم يعد يأخذ نصوص الدساتير والقوانين مأخذ الجد وإنما أصبح يأخذها كما تؤخذ الشعارات البراقة واللافتاتالتي تعلق في كل مكان والتي لا تعني شيئا قط. واعتقد أن هذه الظاهرة الخطيرة والموجودة في الغالبية العظمى من أقطار الوطن العربي هي أحد أسباب وأحد مظاهر أزمةالديمقراطية في الوقت نفسه).
وفي تعرضه لمسألة الخلافة يؤكد الدكتور إبراهيم دعيج الصباح أن (موضوع الخلافة والإمامة يدخل في نطاق الفقه لأنها مسألة اجتهادية تتعلقبالفروع وليس بالعقائد. وقد حظي هذا الموضوع باهتمام عدد من العلماء والمفكرين منذ القديم وحتى الآن, وبالطبع لا يتسع المجال للتبسيط في الموضوع, لكن الذي لابد من إثباتههو أنه توجد فئتان: فئة القائلين بأن الخلافة غير ضرورية حتى لو كانت ممكنة, وفئة تقول بأنها ضرورية لكونها واردة في القرآن وتمثل جزءا مهما من التراث وأقل ما فيها هو أنهارمز وحدتنا وقوتنا). وفي هذا يقول المستشار محمد سعيد العشماوي (الكتابة عن الخلافة في الحقيقة كانت تبريرا أكثر منها علما, وكانت تأييدا أكثر منها فقها وكانت مساندة أكثرمنها مباينة وكانت معاضدة أكثر منها مكاشفة).. ففي رأيه أن الخلافة (لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد), فهي في حقيقتها (نظام سياسي وليست نظاماً دينياً). ويتعرض الكاتب للنص الدستوري الذي ظهر في عدة دساتير من البلاد العربية والذي يؤكد أن (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) أو (المصدر الرئيسي للتشريع), ويرى أهميةهذا النص مع ضرورة عدم تفسيره على نحو يمنع المشرع من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكما لها أو يكون من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها معضرورات التطور الطبيعي على مر الزمن.
وفي هذا الصدد يهيب الدكتور الصباح بالجميع (تحكيم العقل في هذه النقطة الحساسة والوعي التام لحقيقة مجتمعنا الإسلامي ديناوأخلاقا ومعاملة, وألا يخرج البعض عن طورهم فينطبق عليهم المثل القائل: إنهم ملكيون أكثر من الملك من حيث رفض اقتباس أي قانون عن العالم الغربي بحجة أن في الإسلام الجوابالكافي لكل قضية وحاجة, وهذا الموقف في الواقع ليس معبرا عن تقدير للدين بل عن جهل به وبسنة الرسول الذي كان يرى في الاقتباس عن أعدائه كسبا للمسلمين إذا كانت مصلحتهم فيذلك أو إذا أشكل عليه أمر, وكثيرا ما كان يستشير أصحابه ويسأل عن كيفية معالجة الروم والفرس لبعض القضايا, ويروي مسلم أن النبي هم بالنهي عن (الغيلة) وهي النكاح في فترةالإرضاع اعتقادا منه أن ذلك يؤذي الطفل, ولكنه عدل عن ذلك قائلا (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا). فإذاكان النبي وهو من هو يقتبس فكيف نرفض الاقتباس وخاصة في زمن لسنا فيه في الطليعة أو حتى في عداد الدول المتقدمة).
الديمقراطية.. والتنوير
وفي الرد على بعض المنظرينوالسياسيين الذين يحلو لهم أن يقولوا بأن للديمقراطية سيئات عديدة وأنها لا تلائم جميع المجتمعات وأن بعض البلدان ومنها المتخلفة يجب أن تكون لها ديمقراطيتها الخاصةيقول الدكتور الصباح إنه (بصرف النظر عن حسن أو سوء النية الكامن وراء مثل هذا الكلام فإنه مردود عليه من خلال منطقه نفسه وهو: ما هو البديل? فقد قدمت عدة فرضيات ونظرياتواجتهادات وتمنيات, ولكن عند تحليلها تتكشف عن واحدة من اثنتين, فهي إما ديمقراطية, وإما غير ديمقراطية, والرأي الغالب في مثل هذه التحليلات هو أن للديمقراطية شروطاومعطيات معينة, وفي حال غياب هذه الشروط لا يمكن للديمقراطية أن تعمل بكفاءة أو ان تستمر. وهذا الموضوع شغل, ولايزال, حيزا كبيرا من اهتمام علماء السياسة والاجتماع وأجريتالأبحاث المستفيضة حوله, وما توصلت إليه معظمها هو أن الديمقراطية لابد لها من السير في طريق التجربة والخطأ).
ويتعرض الكاتب لقضية التنوير (والتنوير نوع من أنواع بثالمعرفة, وأولى مستلزمات نشر المعرفة هو وجود أرضية خصبة تقبلها, فهل البيئة الإسلامية العربية تتفاعل مع عمل العقل على حساب مفاهيم أخرى راسخة? ومن الثابت الذي لا يحتملأي شك أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات في صلبها مجتمعات متدينة بصرف النظر عن درجات التدين أو الإيمان, فمهما كانت حدة درجة الإيمان الديني مرتفعة أم متدنية فإن الأعرافوالتقاليد والخلقيات المرافقة للتدين بحكم الممارسة والتاريخ تهييء للفرد والمجتمع عقلا باطنا آخر, إذا صح التعبير, فيقف حيال العقل الداعي للتنوير, فالإنسان هو عقلوعقل باطن وفكر خيالي أسطوري لا عقلاني وفي نفس الوقت مادي رقمي تكنولوجي).
والواقع أننا عندما نتمعن في السنة المشرفة مسلكاً وحديثاً نرى بوضوح الدعوة والتشجيعلإعمال العقل واستنباط الحكمة والرأي السديد. ولعل أكبر دليل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم المشهـور لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. غير أن تاريخناالإسلامي لم يستمر على ذلك المنوال لأسباب عديدة حللها المؤلف على مدى فصول دراسته. وحتى عندما بذرت بذرة التجديد والنهضة في القرن التاسع عشر وقبل أن تصبح حركة فاعلةوتنتشر في بقية الأقطار العربية (نامت لينشغل الفكر عنها بالمعارك القومية التحررية الهادفة إلى التخلص من الاستعمار, وبقيت (الحال الإسلامية) في وضع الجمود حتى نالتالدول العربية استقلالها وبدأت الانقلابات العسكرية التي زادت الأمور سوءا فبدأت الحركات الإسلامية تشق طريقها متبعة الوسائل المتعددة).
أشكال للصراع
وبالنسبةللوضع في الكويت فإنه (بصورة عامة يشبه الأوضاع في بقية العالم العربي من حيث الصراع الواعي أو اللاواعي بين العلمانية والدين). فالملاحظ في المجتمع الكويتي (انالعلمانية القائمة والتي نحكم عليها من خلال ما ينشر ليست في الأساس معادية للإسلام, بل نلمس في صلبها غيرة على الدين وخلفيته وأهميته بالنسبة لشخص المواطن الحق.فالناحية الاعتقادية لا تمس ولكن الذي يمس هو ما له علاقة بالنظريات أو السبل المؤدية للتجديد والتحديث.. إذن الوجه الأول للصراع الفكري الديني الدستوري أو القانوني فيالكويت يتمثل في المعارك الخطابية الإعلامية بين الإسلاميين التقليديين وبين التجديديين الذين يمكن تصنيفهم إلى فئتين: فئة العقلانيين الذين يعتبرون كتابات الطوفيوالشاطبي وابن عابدين ومن انتمى لمدرسة (المصلحة العامة) الأساس في البحث عن كل ما يعود على المجتمع بالخير, وهنا نقطة الخلاف الرئيسية إذ إن الخير في نظرهم هو السير فيطريق التحديث بصرف النظر عن بعض النواحي الفقهية لأن الواقع وسنة التطور أقوى من أي عامل آخر. والفئة الثانية هي فئة العاملين للتوفيق بين النقل والعقل, ومع إكبار هؤلاءلما أنجزه العلماء من اجتهاد وفقه منذ القرن الأول للإسلام فإنهم يعتبرون أن الاجتهاد عملية لا تتوقف ما دام التطور لا يتوقف, وخلود القرآن في ملاءمته لكل عصر وزمان. وهذهالملاءمة على المجتهد أن يكتشفها من خلال عمل العقل دون أن يمس الثوابت.
ومن جهة ثانية, يوجد كذلك صراع بين الإسلاميين أنفسهم. وبصرف النظر عن التكتلات والتسمياتفإنهم على خلاف فيما يتعلق بأمور عدة منها موضوع المرأة, ومنها موضوع الديمقراطية والشورى ومنها موضوع التريث أو الإسراع في تطبيق الشريعة, وفوق ذلك كله توجد مجموعة منالإسلاميين لا ترضى بأقل من العودة لحقبة الحكم الراشدي بما فيها من مصطلحات لابد من تحديدها قبل الدعوة للأخذ بها, مثل أهل الذكر وأهل الحل والعقد وأولي الأمر والحسبةوديوان المظالم وما شابه,هذا بالطبع إلى جانب مسألة الخلافة والبيعة).
والمطلوب الآن في الكويت وفي كل البلدان المسلمة هو (الإبداع والخروج بمعادلة عملية توفق بينالشريعة والدستور والقوانين الوضعية, وبين الديمقراطية والشورى, وبين التراث والتجديد, وبين سيادة الأمة وسيادة الشريعة).
المصدر : مجلةالعربي 512 / 1 ـ 7 ـ 2001