التاريخ الإسلامي بين الخطابين الديني والسياسي
عيسى محمد الأنصاري لو غادرنا ساحات النظرة الروحية للإسلام وسحرطاقاته الإنسانية الخلاقة, وحاولنا أن نتقدم لرؤية هذه الحضارة الإسلامية في ضوء المعايير التاريخية لتوجب علينا أن نقول: إن الوهج الأول للرسالة النبوية, بكل ما ينطويعليه هذا الوهج التاريخي من قيم أصيلة, ومن ممارسات نبيلة وخلاقة هو الذي أطبق على الكون حكم الحضارة الإسلامية ومهد لانتشار الرسالة في قلوب البشر ومكنها من عقولهم لقد تأصلت الأسرار الحقيقية لحضارة الإسلام في قيم السلام والمحبة والإخاء والمساواة, واستطاعت هذه القيم أن تجد من يتمرس بها, ومن يحققها ويجسدها بصورة عيانية واقعية,لا تقبل الشك والجدل.
وإذا كانت العقيدة الإسلامية قد جاءت نموذجا حضاريا تسعى إليه الشعوب وتشد في طلبه الأمم وتناضل في أثره طلبا للحرية وللمساواة والعدالةالاجتماعية, فإن الحضارة العربية الإسلامية, قد ازدهرت مقاماتها على أساس هذه الخلفية التاريخية للممارسة الإسلامية الصادقة. وعندما بدأت الممارسة الحقيقية للقيمالإسلامية بالانحسار بدأت مرحلة التراجع الحضاري وعندما خبا وهج الممارسة الحقيقية لقيم الإسلام ولمباديء تشريعه العظيم سرعان ما بدأت مرحلة الانحسار التاريخي للوهجالحضاري الإسلام
غياب الحضارة
وما إن انتشرت المظالم الاجتماعية, وغابت قيم الشورى في الممارسة السياسية, وظهر الاستبداد السياسي, وغابت قيم العقل والاجتهاد,حتى تشتت طاقات المسلمين وبدأت شمس الحضارة العربية بالغروب, وانطلقت رحلة الظلام التي يؤرخ لها في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي, حيث ساد الظلم والقهروتراجعت قيم الحب والسلام, التي نادى بها الإسلام. فبدا أن التراجع الحضاري, والانحسار التاريخي للمد الثقافي الإنساني الإسلامي, قد ترافق بانحسار الحضور الحقيقيلحقوق الإنسان, التي تجسدت في القيم الإسلامية وفي مباديء الدين الحنيف. حيث حلت قيم الاستغلال والظلم والاستبداد والتعصب فغابت الحضارة لغياب الروح القيمية التي نادىبها الإسلام وعمل من أجلها نبي الإسلام وأفذاذ المسلمين وقادتهم.
بدأت شرارة حركة التراجع الحضاري منذ اللحظة التاريخية التي ثار فيها نفر من المسلمين على ولايةعثمان بن عفان رضي الله عنه, وتأججت نار الفتنة بمقتله فدارت رحى الحروب, وبدأ التاريخ الإسلامي يسجل المأساة تلو المأساة, والفاجعة بعد الفاجعة, ورغم هذه المحطاتالمأساوية في تاريخنا الإسلامي, نهض رجال عظماء أفذاذ حاولوا أن يعيدوا للرسالة الإسلامية وهجها وأن يعيدوا للعرب والمسلمين مفاخر وأمجاد العطاء الإسلامي والروحالإسلامية الخلاقة, مثل عمر بن عبدالعزيز, وهارون الرشيد, والأمين, والمأمون, والمعتصم, الذين حاولوا أن يعطوا دفعة حيوية للممارسات الإسلامية الصادقة.
وفي زحمةالصراع على السلطة ظهرت إلى الوجود فرق سياسية ودينية متنازعة فانتقل المسلمون من حالة التجانس المطلق, في الفكر والعقيدة والمذهب, إلى حالة التنوع والتعدد والاختلاف,ومن حال التوافق الكلي إلى حالة من الاصطراع في مختلف المجالات السياسية والمذهبية والدينية, حيث أهرقت دماء المسلمين, وأزهقت أرواحهم ظلما وعدوانا وقهرا. وبدأت الغيومالسوداء الكالحة تخيم بظلالها القاتمة على عالم المسلمين, حاجبة شمس الحضارة الإسلامية, مغيبة معاني الحرية والإخاء الإنسانية, فعاشت الأمم الإسلامية ولاسيما في العصرالعباسي الثاني (عصر الضعف والقهر السياسي) حالة غياب كامل للقيم الحضارية وحقوق الإنسان التي وهبها الله للمسلمين والبشر. وبدأ الظلم يحل مكان العدل, والقهر مكانالرحمة, والتعصب مكان التسامح, وإزهاق الأرواح في كل مكان حصانتها.
لقد أثبت التاريخ أنه يمكن للإرادات الإنسانية الصادقة أن تأخذ دورا جوهريا في صنع الحضارة, وأنتحافظ على مقومات وجودها (حالة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) ولكن هذا التاريخ يؤكد أن المجتمعات الإنسانية تنطوي على قوى تاريخية واجتماعية, تسعى إلى ملذاتالحياة الدنيا ومكاسبها, وتضحي بالمباديء والعقائد والقيم من أجل وضعية دنيوية تمتلك فيها القوة والمقدرة فتعيث في الأرض ظلما وجورا وفتكا.
وفي شخص علي بن أبي طالبالخليفة الرابع تتمثل مآسي الصراع بين الحق والباطل, بين إرادة الإسلام المتمثلة في طهارة الغاية وقيم الحب والخير والسلام, .. إرادة الحياة الدنيا المتمثلة في الظلموالفساد وزينة الحياة الدنيا, حيث حمل على تركة ثقيلة جدا, ودخل في سلسلة من الصراعات التاريخية المدمرة, صونا لحقوق المسلمين وحرياتهم, انتهت باغتياله, وباغتياله خرجالمسلمون من دائرة الشرعية, التي تمثلت بالشورى والبيعة والحق, إلى دائرة الحكم العرفي الذي فرض بالقوة والدهاء. ولا يستطيع أحد أن يغض الطرف عن حمامات الدم, ومقاصلالموت, التي حصدت جموع المسلمين والمؤمنين, على مر المراحل التاريخية السابقة, وذلك في أتون حروب طاحنة من أجل السلطة, وحروب مذهبية, وحركات سياسية, أزهقت فيها أرواحالمسلمين وأهدرت دماؤهم وسلبت حقوقهم وأهدرت إنسانيتهم.
ولكن ان المكاسب التاريخية للإسلام تبددت وتلاشت تدريجيا مع وصول قوى سياسية دنيوية متباينة بغاياتهاوأصولها إلى سدة السلطة والحكم, وبدأت تقرر مصير الدولة والمسلمين, فعملت على توظيف العقيدة لخدمة مصالحها, بدلا من أن توظف وجودها لخدمة العقيدة أسوة بالسابقين منالخلفاء الراشدين.
وفي هذه المعادلة السياسية الجديدة, فقدت القيم الإسلامية جوهر أصالته (طبعا في مجال الممارسة), وتم تزييف كثير من مفاهيم وتصورات الإسلام لتنسجممع مصالح الحكام وتعبر عنها وتجسد في الآن الواحد مصالح وأغراض طبقة اجتماعية سياسية وعسكرية رفعت مصلحتها فوق القيم وفوق كل عطاءات الإسلام الحقوقية والإنسانية. وفي هذا التوجه الدنيوي تحولت العقيدة إلى خادم للسياسة (...) فحين يقول أبوجعفر المنصور عندما خاطب الناس بقوله: (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة, وعنكم زاده, نحكمكم بحقالله الذي أولانا, وسلطانه الذي أعطانا, وإنما أنا سلطان الله في أرضه, وحارسه على ماله, جعلني عليكم قفلا, إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وإن شاء يقفلني), فإن في هذا القوليتجسد مطلق الاستبداد السياسي والاجتماعي
الإيمان والعزيمة
لنقارن من جديد بين مفهومين للسلطة أحدهما في صدر الإسلام والثاني في عهد معاوية ولننظر بإمعان إلىالكيفية التي انقلب فيها الخطاب الديني السياسي من خدمة العقيدة إلى خدمة السلطان. يقول عمر رضي الله عنه: (إن رأيتم اعوجاجا فقوموني. ما أنا إلا كأحدكم, فأعينوني على نفسيبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإحضاري النصيحة (الشورى) فيما ولاني الله من أمركم, ومنزلتي من مالكم كمنزلة ولي اليتيم من ماله). وأين هذا القول من قول أحد الخطباءالمسلمين مشيرا إلى الخليفة معاوية: (إن هذا هو أمير المؤمنين فإن مات فهذا هو خليفته (مشيرا إلى يزيد), ومن تحدى فالحكم لهذا ـ مطوحا بسيفه ـ فهتف أتباع معاوية استحسانا,ومن ثم أومأ معاوية واعتبر هذا موافقة اجماعية أو بيعة. لقد تجمد العقل على قوالب صاغها فقهاء السلاطين وأصبحت فيما بعد كل محاولة للتحرر بدعة وبمثابة الخيانة العظمىالتي تؤدي إلى القتل والبتر والتعذيب. وتأسيسا على ما سبق يمكن القول إن مجرد الإرادات الطيبة والقلوب العامرة بالإيمان لم تكن كافية لحماية المكاسب الإسلاميةبطابعها الروحي, الممثلة في حقوق الإنسان المتجسدة في قيم العدالة والمساواة والحرية والتسامح والكرامة.
وهذا يعني أن الأساس الديني الخالص ليس كافيا وحده لحمايةالمكاسب التاريخية لحقوق المسلمين التي تمثلت في كل القيم والمباديء النبيلة. فما يمكن أن يكرسه الإيمان يمكن أن ينزوي تحت تأثير همم فاترة وإيمان ضعيف أو حماس دينيضعيف. وهذا ما حدث تاريخيا فلا نستطيع أن نقارن بين عهدين لخليفتين أمويين هما يزيد بن معاوية وعمر بن عبدالعزيز.
لقد نال الناس الشقاء في عهد الأول, بينما نعموا بأعظمعطاءات الإسلام في عهد الثاني.
يؤكد بعض المفكرين العرب أن القرآن والسنة النبوية يشكلان دستورا لحقوق الإنسان, وهناك منظمات سياسية إسلامية ترفع شعارا قوامه أنالقرآن الكريم هو دستور المسلمين. ومع ذلك فإن هذا ليس كافيا أبدا لكي تتم المحافظة على القيم, ولكي يتم العمل وفقا للدستور القدسي. فالقرآن لا يحقق نفسه بنفسه, والسنة لاتجد طريقها بنفسها إلى ساحات العمل, وكلاهما, السنة النبوية الشريفة والقرآن الكريم, يقتضيان سواعد المسلمين الصادقين القادرين على تجسيد هؤلاء الذين تتشبع قلوبهمبالإيمان, وتفيض إرادتهم بقوة النهوض الدائم, والذين يجب عليهم أن يكونوا في موقع المسئولية, لكي يتاح لهم أن يسهروا على تحقيق القيم الإنسانية الشاملة للإسلام سنةوقرآنا.
ويمكن القول إن الثقة الموضوعة في قواعد وقيود الإسلام وفي قدرته على فرض العدالة الإسلامية بواسطة قضاة ذوي (ضمائر حرة) ينسون أحيانا أن تعيينهم في وظائفهمكان نتيجة تسامح نفس الحكام الذين يمكن أن يكونوا موضع مساءلة هؤلاء القضاة على أعمالهم, ومن الصحيح أن تاريخ الإمبراطورية العثمانية يمتليء بأمثلة مدهشة لشيوخ الإسلامالذين كانوا يقفون في وجه السلطان, ولكن نفس هذا التاريخ يمتليء أيضا بأمثلة كانت الوظيفة الأساسية لهم هي صبغ الصفة الشرعية على الأفعال المخزية التي كان يقوم بها هؤلاءالحكام.
وإذا كان الباحث الإسلامي المؤمن يزهو اليوم ويفاخر بما جاء به الإسلام سنة وقرآنا من حقوق سامية للإنسان, فإن هذا يجب ألا ينسيه أبدا هذه المفارقات التي تقومبين علياء النظرية الإسلامية لحقوق الإنسان والممارسة والتطبيق, ويجب أيضا ألا يتجاهل لحظات من التاريخ تعرض فيها المسلمون لمواسم التعذيب والقهر, كما يجب عليه أن ينظرويرصد الواقع المعيش لما يعانيه الإنسان العربي الإسلامي المعاصر من قهر وتنكيل وظلم واغتراب, في ظل أنظمة شمولية تسعى إلى تبديد كل المحاولات التي تعمل على بناء حقوقفعلية للإنسان. فالممارسات المنافية لحقوق الإنسان تسطر حضورها في بعض المجتمعات العربية المعاصرة وجميعها يتنافى مع الحقائق القرآنية والسنن النبوية التي رسمهاالإسلام. فأين هو الإنسان العربي المعاصر بين مقولة تكريم الإنسان كخليفة الله في أرضه وواقع القهر الذي يجلد فيه هذا الإنسان علنا لإبدائه رأيا يخالف فيه رأي السلطان?
لقد فقد الإنسان العربي الإحساس بحقوقه تحت تأثير هزيمة داخلية شاملة أفرزتها مراحل تاريخية مديدة من الشقاء الإنساني والممارسات التي تتنافى مع مباديء الحقوالوجود. فالقمع المستمر الذي شهده تاريخنا العربي الإسلامي استطاع أن يجرد الإنسان من القدرة على الإحساس بقيمته كإنسان يمتلك حقوقا تاريخية في الوجود الإنسانيالمتحرر من كل أشكال الظلم والاضطهاد. ولأنه لم يعد قادرا على المطالبة بحقوقه إزاء هذا المد التاريخي البائس فإنه يلتمس في النص القدسي ما يعوضه هذا الإحساس الشاملبالهزيمة التاريخية.