في أن الوجود حقيقة واحدة مشككة
عبدالجبار الرفاعي في أقسام الجوهر
في أقسام الجوهر توجد عدة أقوال نوجزها فيما يلي:
1 ـ أن الجوهر ماهية أو معقولأولي ينقسم إلى خمسة أقسام، وهي: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل. 2 ـ أن الماهية تنقسم إلى: جوهر وعرض، وكما أن العرض هو عرض عام ينطبق على مقولات العرضالتسع، كذلك الجوهر هو عرض عام لمقولات الجوهر الخمس، أي أن الجوهر ليس ماهية من الماهيات، مثلما أن مفهوم العرض ليس ماهية من الماهيات، بمعنى كما أن مفهوم العرض معقولثان فلسفي كذلك هو مفهوم الجوهر.
3 ـ والقول الثالث يذهب إلى التفصيل، أي أن الجوهر تندرج تحته بعض هذه الأقسام المذكورة، فيما لا يندرج بعضها الآخر تحت ماهية الجوهر،وهذا الرأي يقول: إن الجوهر ماهية من الماهيات، وهذه الماهية تندرج تحتها بعض هذه الأقسام الخمسة ولا يندرج بعضها الآخر كما أن الحيوان ماهية من الماهيات، وهذه الماهيةتندرج تحتها أنواع متعددة، كالإنسان مثلاً، كذلك الجوهر ماهية تندرج تحتها بعض الأقسام.
الفيلسوف الإسلامي العلامة الطباطبائي يرى أن الجوهر معقول أولي، وهو ماهيةمن الماهيات، وهو أحد المقولات العشر، وهذه الماهية تنقسم انقساماً أولياً إلى: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل. وإن كان بعض هذه الأقسام لا يندرج تحت الجوهر،كالصورة والنفس حسب رأي الطباطبائي.
والدليل على أن أقسام الجوهر هي هذه الأقسام الخمسة هو كالدليل على عدد المقولات ـ أي انحصار عدد المقولات بعشر ـ فالاستقراءالعقلي أثبت وجود هذه الأقسام الخمسة ولم يُثبت غيرها من الجواهر.
ـ معنى العقل:
ما هو المقصود بالعقل؟ عندما نقول إن الجوهر ينقسم إلى: عقل، ومادة، وصورة، ونفس،وجسم؟ الجواب: للعقل معاني عديدة، منها عقل الإنسان، ولكن المقصود بالعقل هنا، كما يقول الحكماء: هو الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً وفعلاً. ويعرِّفه الطباطبائي: بأنهجوهر لأنه موجود لا في موضوع أصلاً، وهذا الجوهر مجرد عن المادة في ذاته، كما أنه في فعله مجرد عن المادة أيضاً،ف لا يرتبط بالمادة لا ذاتاً ولا فعلاً. والقول بوجود العقليبتني على أن الوجود له مراتب، فالمرتبة الأولى هي عالم المادة، عالم الطبيعة، والمرتبة التي تلي هذا العالم هي مرتبة عالم المِثال، أو ما يصطلح عليه بـ (عالم الملكوت)،وهو العالم المجرد عن المادة ولكن توجد فيه آثار المادة، ثم تلي هذه المرتبة في الوجود مرتبة أخرى، أو عالم آخر هو ما يُعبّر عنه بـ (عالم الجبروت)، وهو عالم العقول، وهذاالعالم مجرد عن المادة، أي أن هذه العقول مجردة عن المادة في ذاتها وفي فعلها أيضاً، ومن وراء ذلك العالم الربوبي، العالم الإلهي، عالم الواجِب تعالى. وهذه العوالم ـ كماقالوا ـ كل عالم منها محيط بالآخر (والله من ورائهم محيط) وبالتالي هنا تسلسل وطولية بين هذه العوالم، فالمقصود بالعقل هو هذا، لا عقل الإنسان.
ـ معنى النفس:
النفسهي الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً المتعلق بها فعلاً، فالنفس الإنسانية ليست مادية في ذاتها، ولكنها في فعلها ليست مجردة عن المادة، بل هي في فعلها مادية، فأنت ترىبعينك، وتأكل بيدك، وتسمع بأذنك، فالنفس تتصرف بوسائل مادية. وهناك في علم النفس الفلسفي أكثر من نظرية عند الفلاسفة المسلمين في تفسير حقيقة النفس، أشهرها النظريةالتي ترى أن النفس مخلوق موجود مجرد مادي في الفعل لا في الذات، وهي في قِبال البدن الذي هو مادي. فالإنسان عندما يُخلق يخلق ببدنه المادي ونفسه المجردة.
فيما يذهبالرأي الذي يتبناه صدر المتألهين إلى أن النفس تبدأ بداية مادية، فالإنسان عندما يخلق ابتداءً هو مخلوق مادي بحت، ثم بعد ذلك تبدأ نفسه تتجرد من المادة طبقاً لقانونالحركة الجوهرية، فتبدأ النفس بالتحرر والتجرد من المادة، حتى تتجرد تجرداً تاماً عن المادة في مراحل تكاملها، وحينئذ تكون غير مادية، لكن تبقى مادية في فعلها، ولكنبفعل الحركة الجوهرية ـ كما تقول نظرية صدر المتألهين في الحركة الجوهرية ـ ربما تتجرد النفس في مراحلها النهائية حتى عن المادة في فعلها.
ـ معنى المادة:
هيالجوهر الحامل للقوة، أي هي الجوهر الذي يحمل استعداد الأشياء وقوتها. خُذ هذا الكتاب، أو الحجر، أو النبات، أو أي شيء آخر فستلاحظ فيه حيثيتين: الأولى: حيثيةالفعلية.
الثانية: حيثية القوة.
فهذا بالفعل هو كتاب، لكن حيثية القوة والاستعداد، إن هذا الكتاب فيه استعداد ليكون رماداً بعد أن يحترق. لاحظ النطفة هي بالفعلنطفة، لكن هذه النطفة فيها حيثية واستعداد لتكون علقة.
ولا إشكال في أن حيثية الفعل هي غير حيثية القوة والاستعداد، فما يحمل القوة والاستعداد هو المادة، والعلاقةبين الإمكان الاستعدادي وبين المادة كالعلاقة بين الجسم التعليمي والجسم الطبيعي، فالجسم الطبيعي جسم مبهم غير معين، فمتى تمدد هذه الجسم (تحصل فيه الأبعاد الثلاثة) كاناسطوانياً، أو هرمياً، أو مكعباً، فالذي يُعين هذه الأبعاد هو الجسم التعليمي، إذاً الجسم التعليمي عرض يُعيِّن أبعاد الجسم الطبيعي، أي يخرج أبعاده من الإبهام إلىالتحدد والتعين. وهنا الشيء نفسه يقال، فالمادة جوهر، والعلاقة بين المادة وبين الإمكان الاستعدادي الموجود فيها هي كالعلاقة بين الجسم التعليمي والطبيعي، فالجسمالطبيعي جوهر والجسم التعليمي عرض، فالاستعداد الموجود في المادة هو الذي يعين ما تؤول إليه المادة، أي المادة الموجودة في النطفة تكون علقة، وهكذا.
ـ معنى الصورة:
الصورة الجسمية، هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاث، الطول والعرض والعمق، فالمادة حاملة للاستعداد، والصورة هي التي تمنحها الفعلية،فالصورة تُعطي الفعلية للمادة، والصورة تمثل حيثية الفعلية للمادة، بينما المادة تمثل حيثية القوة، فالذي يُعطي للمادة حيثية الفعلية في الامتداد بالجهات الثلاث هوالصورة. وهنا نُنبِّه على نكتة وهي إن الصورة التي تفيد فعلية المادة من حيث الطول والعرض والعمق لا تفيد الفعلية مطلقاً، فالطباطبائي قيِّد ذلك قائلاً: من حيثالامتدادات الثلاث، ولم يقلْ مطلقاً، فلو أن هذه المادة أصبحت عنصراً ما، كالهيدروجين، والأوكسجين مثلاً، فإنها تحتاج إلى الصورة العنصرية، إضافة للصورة الجسمية،فالصورة الجسمية، وظيفتها أن تمنح المادة الأبعاد الثلاثة، أما الذي يجعل المادة أوكسجين أو زئبق مثلاً، فهو الصورة العنصرية لعنصر الأوكسجين أو لعنصر الزئبق، فليسالصورة الجسمية وحدها تفيد فعلية المادة من حيث العنصر الفلاني، أو الشيء المعين كالماء، بل لابدّ، بالإضافة إلى الصورة الجسمية، من الصورة العنصرية للماء مثلاً، ولهذاقال الطباطبائي بأن الصورة الجسمية هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاثة، لا من حيث الفعلية مطلقاً، وإلا فالمادة تحتاج إلى صورة أخرى لتكون شيئاًمعيناً، فلكي تكون المادة ماءً مثلاً، تحتاج بالإضافة إلى الصورة الجسمية، إلى الصورة العنصرية أو إلى الصورة المائية. ـ معنى الجسم:
هو الجوهر الممتد في جهاتهالثلاث، هذا هو القِسم الثالث للجوهر، وهو ما يتألف من المادة الأولى والصورة الجسمية. والتركيب هنا هو تركيب اتحادي لا تركيب انضمامي، وإلا لو كان التركيبانضمامياً فلا يوجد لدينا جوهر جديد كالجسم، الذي يكون مجموع من هذين الجوهرين، وهما الصورة والمادة، فلابدّ أن يكون التركيب اتحادياً.
ـ رأي الطباطبائي في أقسامالجوهر:
إنه يقول أن بعض هذه الأقسام الخمسة المندرج تحت الجوهر، وبعضها الآخر غير مندرج. والمندرج تحت الجوهر هو العقل والجسم والمادة، أما الصورة والنفس فلا،لِماذا؟ يقول: لأننا عندما نلاحظ الصورة والنفس، ترى أن الصورة والفصل متحدان ذاتاً مختلفان اعتباراً، كما أن الجنس والمادة متحدان ذاتاً مختلفان اعتباراً، حيث إنالمادة إذا أخذت لا بشرط كانت جنساً، والجنس إذا أُخذ بشرط لا كان مادة، والشيء نفسه يقال في الفصل والصورة فهما كالمادة والجنس، فالصورة والفصل متحدان ذاتاً ومختلفاناعتباراً، وعلاقة هذا بكلامنا هو أنه لو كانت الصورة مندرجة تحت الجوهر، لكان الجوهر جنساً للصورة، وللزم من ذلك التسلسل وهو محال. أما كيف يلزم المحال؟ نقول: لماكانت الصورة هي الفصل لا بشرط، والفصل هو الصورة بشرط لا، والفصل غير مندرج تحت جنسه، فالناطق غير مندرج تحت الحيوان، لأنه لو كان الفصل مندرجاً تحت جنسه لاحتاج إلى فصليقوِّمه، وننقل الكلام إلى هذا الفصل، ثم ننقل الكلام إلى ذلك الثالث، وهكذا، فيتسلسل إلى ما لا نهاية، والتسلسل محال.
فالفصل غير مندرج تحت جنسه، وإذا كانت الصورةهي الفصل، لأنهما متحدان ذاتاً، مختلفان اعتباراً، فهل تندرج الصورة تحت الجوهر؟ أي هل يكون الجوهر جنساً لها؟
الجواب: إذا كانت الصورة هي الفصل، فمحال أن يندرجالفصل تحت جنسه، لأنه يلزم التسلسل وهو محال، فالصورة الجسمية ليست مندرجة تحت الجوهر، أي ليست هي جوهراً بالحمل الشائع، بمعنى أنها ليست مصداقاً للجوهر، وإن كان ينطبقعليها مفهوم الجوهر وعنوانه بالعرض، فليس لها من الجوهر إلا المفهوم، فهي جوهر بالحمل الأولي.
وكذلك الكلام يجري في النفس أيضاً، فلا يبقى مندرجاً تحت الجوهر إلاالعقل والمادة والجسم، فالنفس لا تندرج تحت الجوهر، لأن الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس الناطقة، فالنفس هي الفصل، والفصل لا يندرج تحت جنسه، فالنفس لا تندرج تحتالجوهر، وإن صدق عليها مفهوم الجوهر.
وبتعبير آخر إن الجسم يتألف من مادة وصورة، والمادة هي البدن، والصورة هي النفس، الصورة هي الفصل، فالنفس هي الفصل الحقيقي.ولهذا نقول لما كانت الصورة هي الفصل، النفس هي الفصل، والفصل لا يندرج تحت جنسه، فلا تندرج الصورة تحت الجوهر، كذلك النفس لا تندرج تحت الجوهر، للزوم التسلسل، بترتبفصول غير متناهية، وهذا محال.
وإن كان مفهوم الجوهر يصدق على الصورة والنفس، لكن ليس لهما من الجوهر إلا المفهوم، فالطباطبائي يرى أن ما يندرج تحت الجوهر هو العقل،والمادة، والجسم، فقط، أما الصورة والنفس فليس لهما من الجوهر إلا المفهوم، وهما ليسا مصداقاً للجوهر.