في انواع التعقل
عبد الجبار الرفاعي في حاجة الممكن إلى العلة وما هي علة احتياجه إليها
البحث في هذا الفصل في مطلبين: الأول: في حاجةالممكن إلى العلة.
الثاني: في علة أو مناط الاحتياج إلى العلة.
حاجة الممكن إلى العلة:
إن حاجة الممكن إلى العلة من الأشياء البديهية،أو الضرورية الأولية،والضروريات تنقسم إلى قسمين: بديهيات أولية، وبديهيات غير أولية، وفي المنطق ذكروا ستة أقسام للبديهيات، القسم الأول منها فقط هو البديهيات الأولية أو الضرورياتالأولية، بينما الأقسام الخمسة الأخرى، بديهيات غير أولية، وهي: المحسوسات، التجريبيات، النظريات، المتواترات، الحدسيات، وقد قالوا إنما يكون التصديق بالبديهيات غيرالأوليات بمساعدة الحس أو التجربة... إلخ. أما الأوليات فلا يحتاج التصديق بها إلى شيء آخر، بل يكفي تصور الموضوع والمحمول للتصديق بها. فهذه القضية ـ الممكن محتاج إلىالعلة ـ من البديهيات الأولية، التي يكفي تصور الموضوع والمحمول للتصديق بها.
قد يقال: أن بعضهم أحياناً لا يصدق بهذه القضية، فكيف نقول أن المسألة بديهية؟ الجواب: أنبداهة هذه المسألة تعتمد على صحة تصور الموضوع والمحمول، لأن سبب التشكيك وعدم التصديق في القضايا البديهية ينشأ من عدم تصورها تصوراً صحيحاً، ولهذا في القضاياالفلسفية كثيراً ما تكون المشكلة تصورية وليست مشكلة تصديقية، أي كثيراً ما لا نؤمن بقضية فلسفية، وسبب عدم الإيمان هو عدم التصور الصحيح للموضوع والمحمول. كذلك منشأعدم التصديق في هذه القضية البديهية هو عدم التصور الصحيح للموضوع والمحمول، وإلا فإذا تصورنا الموضوع وهو الممكن، وهو الذي تستوي نسبته للوجود والعدم، كميزان متساويالكفتين، وتصورنا الاحتياج إلى العلة، ومعناه أن ارتفاع أحد طرفي الميزان وانخفاض الآخر يحتاج إلى سبب، فنقول: إن خروج الممكن إلى الوجود يحتاج إلى علة، كما أن انعدامالممكن يحتاج إلى عدم علة، فهذا معنى الاحتياج إلى العلة، فإذا تصورنا الممكن ـ الموضوع ـ تصوراً صحيحاً، وتصورنا الاحتياج إلى العلة تصوراً صحيحاً ـ المحمول ـ حينئذنصدق بهذه القضية بلا حاجة إلى برهان، وبذلك نقول أن قضية حاجة الممكن إلى العلة من القضايا البديهية الأولية.
لماذا يحتاج الممكن إلى العلة؟
ما سبب احتياج هذاالكتاب، الذي هو أمر ممكن، إلى العلة؟ أإن سبب احتياجه إلى العلة هو الإمكان، أي لأنه ممكن، وإلا لو لم يكن ممكناً لاستغنى عن العلة، أم أن سبب ومنشأ حاجته إلى العلة هووجوده، أي لأنه موجود، أم حدوثه، أي لأنه حادث؟
الجواب: توجد عدة نظريات، منها: نظرية الحدوث، والإمكان الوجودي، والإمكان الماهوي.
فقد قال المتكلمون إن حاجةالممكن إلى العلة ناشئة من حدوثه، فهذا الكتاب محتاج إلى العلة لأنه لم يكن ثم كان، إذ هو أساساً عدم، فلأنه حصل بعد عدمه احتاج إلى علة، وإلا لو لم يكن أو كان قديماًلاستغنى عن العلة.
أما الحكماء فقالوا: إن سبب حاجة الممكن إلى العلة هو إمكانه، أي لأنه ممكن بقطع النظر عن حدوثه أو عدم حدوثه، فسواء كان قديماً أو حادثاً فهو محتاجومفتقر إلى العلة.
الإمكان علة حاجة الممكن إلى العلة:
الصحيح ما قاله الحكماء، وهو إن علة حاجة الممكن إلى العلة هي الإمكان دون الحدوث، وقد استدل الطباطبائي علىذلك بدليلين: الأول: إذا لاحظنا الماهية، فتارة نلاحظها بما هي، أي بقطع النظر عن الوجود والعدم، لحاظاً عقلياً بحتاً، وأخرى نلاحظها لا بما هي، فحينئذ إما أن تكونموجودة أو معدومة، لأن الماهية فعلاً إما أن تكون علتها التامة موجودة فتوجد، أو لا تكون علتها موجودة فتنعدم، فحينئذ الماهية الموجودة أهي ضرورية الوجود أم ليستبضرورية، الوجود واجب لها أم لا؟ نعم الوجود ضروري وواجب لها. لكن هذه الضرورة بشرط المحمول، الماهية الموجودة موجودة بالضرورة.
وهنا نتساءل: ما هو الحدوث؟ الحدوث هوترتب ضرورة الوجود على ضرورة العدم، أي كانت سابقاً ضرورية العدم، الضرورة بشرط المحمول، والآن هي ضرورية الوجود، ضرورة بشرط المحمول، وعلى هذا الأساس يعني الحدوث تحققالشيء بعد عدمه.
إذاً الماهية قبل وجودها كانت ضرورية العدم وبعد وجودها أصبحت ضرورية الوجود، ضرورة بشرط المحمول. والضرورة مناط الغنى، أي الضروري مستغن عن غيره،فالماهية الموجودة موجودة بالضرورة، وإذا كانت موجودة بالضرورة فهي مستغنية عن غيرها، والماهية المعدومة معدومة بالضرورة، فإذا كانت ضرورية العدم فهي مستغنية أيضاً عنغيرها، فالضرورة هي مناط الاستغناء عن السبب، لأن الشيء إذا كان ضروري الوجود فلا يحتاج علة، وإذا كان الشيء ضروري العدم فلا يحتاج علة، مع فرق بينهما، لأن عدم حاجةالواجب إلى العلة هو لشدة وجوده والممتنع مستغن عن العلة لضعفه، ولأنه ليس بشيء حتى يحتاج إلى علة. فعندما نقول إن الضرورة هي مناط الغنى وعدم الاحتياج، لا بد أن نلاحظأنه قبل الوجود كانت ضرورية العدم، وبعد الوجود أصبحت ضرورية الوجود.
ماذا يعني الحدوث؟ الجواب: الحدوث يعني ترتب ضرورة الوجود على ضرورة العدم، وهذه ضرورة بشرطالمحمول، ولما كانت الضرورة مناط الغنى، والحدوث هو ترتب ضرورة على ضرورة، فحينئذ لا يكون الحدوث مناطاً للاحتياج إلى العلة، ولا بد أن يكون مناط الاحتياج إلى العلة هوالإمكان. وليس الحدوث، فالإمكان هو أمر ملازم للماهية ويمثل فقرها واحتياجها، فهي بسببه مفتقرة إلى العلة. هذا هو البرهان الأول.
الثاني: في هذا البرهان شيء من الدقة،فلو لاحظنا ماهية من الماهيات الموجودة، كماهية الانسان مثلاً، فهذه الماهية حسب التحليل العقلي لها عدة مراتب، متسلسلة، وهذه المراتب دقيقة جداً، وعلى أساس فهم هذهالمراتب نفهم هذا البرهان.
فمثلاً نلاحظ الانسان الموجود، فهو كموجود ممكن، العقل يحلل فيه عدة مراتب، وهذه المراتب متسلسلة، الثاني منها في طول الأول، والثالث فيطول الثاني، وهكذا. وهذه المراتب ليست متسلسلة تسلسلاً زمانياً، وإنما بينها تقدم وتأخر رتبي، هي مترتبة عقلاً.
الأولى: تقرر ذات الماهية.
الثانية: إمكانالماهية.
الثالثة: احتياج الماهية إلى العلة حتى توجد.
الرابعة: إيجاب العلة، أي إذا وجدت العلة التامة وجد المعلول.
الخامسة: وجوب المعلول (الماهية). السادسة: إيجاد العلة للمعلول.
السابعة: مرتبة وجود المعلول.
الثامنة: اذا وجد حدث (حدوث المعلول).
وهذا كله شيء واحد، ولكن العقل بقدرته التحليلية الدقيقةيحلل هذا الأمر الواحد إلى مراتب، ولهذا ذكروا هذه المراتب بعبارة مختصرة بقولهم: الشيء قرر فأمكن فاحتاج فأوجب فوجب فأوجد فوجد فحدث.
فالشيء الممكن قرر (المرتبةالأولى)، فأمكن (المرتبة الثانية)، فاحتاج (المرتبة الثالثة) فأوجب (المرتبة الرابعة)، فوجب (المرتبة الخامسة)، فأوجد (المرتبة السادسة)، فوجد (المرتبة السابعة)، فحدث(المرتبة الثامنة).
فهذه المراتب طولية، أي أن المرتبة السادسة لا يصح أن تكون خامسة مثلاً، لأنها مترتبة عقلاً عليها، فإذا قلنا إن علة احتياج الممكن إلى العلة هيالحدوث، فيلزم من ذلك أن يكون هذا المتأخر ـ الحدوث ـ الذي هو في المرتبة الثامنة متقدماً، لأن الحاجة إلى العلة في المرتبة الثالثة، وهي مترتبة على المرتبة لاثانية،التي هي إمكان الماهية، وليس حدوث الماهية الذي رتبته الثامنة، فليس معقولاً أن تكون المرتبة الثالثة معلولة للمرتبة الثامنة، لأنه يلزم المحال، وهو أن الشيء المتأخريصبح علة للمتقدم.
مناقشة نظرية الحدوث:
إن الذي قال إن علة الحاجة إلى العلة هي الحدوث ذهب إلى أنه لو قلنا: إن علة الحاجة إلى العلة هي الإمكان، للزم من ذلك القولبالقديم الزماني، أي جواز وجود القديم الزماني، وهو الذي لا بداية له، هو غير حادث، أي الأزلي الذي لا أول لوجوده ولا آخر، والقول بالقديم الزماني يلزم منه أن نقولبأشياء مستغنية عن العلة، ما دام قديماً، أزلياً، فحينئذ يكون مستغنياً عن العلة، لأنه أساساً لم ينعدم لكي يحتاج إلى رفع العدم بالعلة، فهو موجود من الأزل ومستمربالوجود. ولذلك قالوا: علة الاحتياج إلى العلة هي الحدوث لا الإمكان. والجواب على ذلك بما يلي:
أولاً: افتراض القديم الزماني لا يغني عن العلة، لأن منشأ الحاجة إلىالعلة هو ذات الشيء المفتقرة بوجودها وبقائها إلى غيرها، وهي موجودة ومحفوظة مع الوجود الدائم، فنه هناك حاجة إلى العلة حتى مع فرض وجود القديم الزماني، هناك حاجة إلىالعلة، وهذه الحاجة كامنة في ذاته، وهي حاجة دائمة، لأنه مفتقر إلى غيره. وبعبارة أخرى على فرض أنه دائم ومستمر، فلا بد أن يكون متصلاً بالعلة حتى يدوم ويستمر وجوده،لأن ذاته فقيرة لا تقوم بذاتها، وإن كان إذا لاحظناه بشرط المحمول يكون مستغنياً عن العلة.
وبكلمة بديلة نلاحظ هذا القديم الزماني بلحاظين، أي وهو محفوف بوجوبين،وجوب وجود من جهة العلة، ووجوب وجود من جهة المحمول، فإذا لاحظناه من جهة العلة فهو مفتقر لها ومحتاج لها بذاته، وإذا لاحظناه من جهة المحمول فهو مستغن عن العلة، لأنالقديم الموجود موجود بالضرورة، فهو بذاته محتاج إلى العلة، وهذه الحاجة كامنة ومستقرة فيه.
ثانياً: إن وجود أي معلول ـ بقطع النظر عن كونه حادثاً أو قديماً ـ وجودرابط لا مستقل، ومعنى الوجود الرابط هو أنه كوجود الضوء بالنسبة إلى الشمس، لأنه لو انطفأت الشمس فسوف ينطفئ الضوء فوراً، فوجود المعلول دائماً وجود رابط، وجوده مفاض منعلته، فلو انطفأت علته آنا ما ينطفئ الفيض، وبذلك تنطفئ المعلولات. فهذا العالم بكل ما فيه هو مفاض منه تعالى. فالحاجة إلى العلة ذاتية، سواء كان هذا العالم قديماً، أوحادثاً، فهو محتاج إلى العلة بذاته، لأن وجوده وجود فقير، ووجود رابط، وجود قائم بغيره وليس مستقلاً بذاته.
المصدر: دروس في الفلسفة الاسلامية