موضوع المعرفة الصوفية
د. نظلة الجبوري تعد معرفة الله عز وجل معرفة مباشرة - كونه حقيقة تعرف - موضوعا للمعرفة فيالفكر الصوفي,على وجه الخصوص. تبحث أما بالبرهان وإما بالشهود والعيان.وتعرف أما بالقلوب والنفوس أو بالعقول.وهو ما تشير اليه ,وتدل عليه وتعبر عنه التصريحات والنصوصوالأقوال الصوفية.وفي الوقت نفسه تدل هذه التصريحات والنصوص والأقوال على الاهتمام الصوفي بمعرفة ما ينبغي اي يعرف عن هذه المعرفة المباشرة ( = معرفة الله ) مادامتالمعرفة (( اولها هو,واوسطها هو,واخرها هو )).واجد في الآية القرآنية : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) .( = الا ليعرفون ).المنطلق الصوفي والدليل المعرفي للفكر الصوفي فيالبحث عن معرفته سبحانه.
وعلى وفق ماسبق,ميز الفكر الصوفي في معرفة الله عز وجل بين حقيقة المعرفة الصوفية وبين معرفة حق ومعرفة حقيقة.فحقيقة المعرفة هي اهمال ما تعلقبغيره سبحانه من المعارف,ومعرفة الحق هي معرفة وحدانيته عبر ما اظهره للخلق من الاسماء والصفات,في حين معرفة الحقيقة لاسبيل اليها.وقد حقق الجنيد هذه الفكرة على وفقصياغته التعبيرية في معرفتين:
( الأولى ) معرفة تعرف,بمعنى الله عز وجل نفسه للخلق.وهي معرفة العامة.
( والثانية ) معرفة تعريف,بمعنى يري الله عز وجل للخلق أثارالقدرة الالهية في الآفاق والانفس.وهي معرفة الخاصة.
وعليه فانه سبحانه لم يعرف في الحقيقة إلا به.وهو ما يفهم ضمنيا من المعرفتين.
اضافة الى ماسبق لاحظت انظرمعرفته سبحانه,متحققة بالتجربة الصوفية المباشرة,وعبر الكيان الكلي الوجداني والعقلي للعارف,بعد ما يتجاوز مراتب الادراك العادي (( في محاولة لجمع شمل سائر مظاهر الكونفي وحدة كاملة )) هي (( الحقيقة النهائية المطلقة )). وهنا يلتقي الفيلسوف مع الصوفي في محاولة معرفة الحقيقة الكاملة ومعرفة الكون ككل موحد لا كأجزاء متفرقة.ولكنه يختلفمعه في سبل تحقيق هذه المعرفة.على أن هذا الاختلاف يلاحظ حتى بين صوفي واخر,وبين فيلسوف واخر.
فعلى صعيد الفكر الصوفي المعرفي,تعد التجربة الشخصية سبيلا الى معرفتهسبحانه لذلك اقترنت المعرفة بالتجربة على وفق المنظور الصوفي على وجه العموم ,وتميزت في النظرة والتحقيق من صوفي الى آخر على وجه الخصوص.وهو ماينعكس في الأقوالوالتصريحات الصوفية.فالبسطامي عرف الله بالله بعدما ضيع ماله ووقف على ما لله.وعرف البخلي الله سبحانه عبر صفة القدرة الالهية.في حين عرف ذو النون ربه بربه.كالبسطامي منقبل,كدلالة على اتفاقهما في المضمون المعرفي,برغم اختلافهما في التعبير اللغوي.وسبيل الخراز الى معرفته سبحانه,هو جمعه بين الاضداد في الخلق على وفق ما وصف الله نفسه فيالآية القرآنية: ( هو الأول والاخر والظاهر والباطن ).حيث يتحقق الحكم عليه سبحانه,فهو الأول والباطن من حيث الذات ( = الوحدة ),وهو الآخر والظاهر من حيث الاسماء والصفات ( =الكثرة ).ويرى التستري أن معرفة الله تتحق (( من خلال صفاته )) و (( هي ميدان الربوبية )) إذ تتضح الصلة بين الرب والمربوب,الخالق والمخلوق,وتصبح (( معرفة الخلق سبيلا الى معرفةالخالق,ومعرفة الخالق طريقا الى معرفة الخلق )).في حين يرى الترمذي أن معرفة الله هي معرفة أسمائه وصفاته.بينما يجعل الجنيد معرفته سبحانه في ثلاث مراتب,مرتبة على وفقمراتب الخلقة البشرية ( = الجسم والنفس والعقل ).في حين يحدد الانصاري نظريته في المعرفة الصوفية بدرجات ثلاث على وفق مراتب الخلق المعرفية الثلاث وهي : العامةوالخاصة,وخاصة الخاصة.حيث يضع المعرفة ضمن نهايات المقامات الصوفية.ويرى ابن عربي تحقق المعرفة بالله عبر صفات السلب أي (( نفي مالايجوز عليه سبحانه )).(( لامن حيث الاثبات)) وهو ما تعرفه العقول من وجود الله.بينما معرفة الحق سبحانه في منظور الجيلي لاسبيل الى تحقيقها إلا بالاسماء والصفات اولا ثم الارتقاء الى معرفة الذات ثانيا.وبناء علىذلك,تعد معرفة الله عز وجل في الفكر الصوفي اطيب شىء يتذوق في الحياة الدنيا,وهي الجنة في الدنيا.وعليه فلا حياة على الحقيقة إلا لاهل المعرفة,فهم الاحياء بحياة معروفهم (= الله ) لا غير.وهو حسب اعتقادي تعبير ضمني عن السعادة,ودلالة صريحة على الصلة بين المعرفة والسعادة,على وفق المنظورين الصوفي والفلسفي على حد سواء.وعليه فالمعرفة باللههي سبب سعادة الصوفي لدى الغزالي بينما يرى ابن سبعين أن السعادة الحقيقية هي المعرفة بالله.وبالمقابل يقرن ابن سينا السعادة بالمعرفة,وهي السعادة المتحققة للنفسالناطقة عبر معرفة الله عقلا وعلما وفيضا قدسيازفي حين يرى ابن رشد من منظور عقائدي اسلامي أن الشريعة قد نبهت على ودعت الى هذه السعادة,وهي معرفته سبحانه.كدلالة مباشرةعلى الصلة بين السعادة والمعرفة في المنظور الرشدي.
( اضافة الى ذلك فإن المعرفة بالله عز وجل في الفكر الصوفي تؤدي الى الحيرة والتحير,إذ مهما بلغ الصوفي من معرفة بهوعنه ومنه سبحانه,يبقى (( الحق بخلافه )).مما يعني دلالة صريحة وعلى وفق الاقرار الصوفي بالعجز عن هذه المعرفة,والمعبر عنه على وفق المرادف اللغوي,تارة بالجهل بتعبيرالتستري والحلاج.وتارة بالفكرة.بتعبير النفري والتوحيدي وابن سبعين.)
وعليه , مهما كان الخلاف الصوفي في سبيل تحقيق المعرفة بالله,فلا بد من تضمنه نوعا من الاتفاق,وهوما يتضح في الحصيلة النهائية لصفات ومميزات هذه المعرفة الالهية بعد خوض غمارها حالا وصفة والتحقق فيها تجربة ووجدانا ومعاناة.فهي معرفة (( لاتخضع لمقولات الزمان والمكان)).حيث لاكيف ولااين.ولاتنفذ,بغض النظر عن زمان ومكان وحال الصوفي,بمعنى هي معرفة ثابتة غير زائلة.وغير محدودة و (( لاتتنوع ولا تتبدل ولاتتلون ولا تزول عن معنى واحد )) هو (معرفة الله ).ولاتزيد عبر السماع والنظر إلا لمن لايعرف الله,ولكن لمن يعرف الله تزيد بكشف الغطاء عنه.واجد في هذه الميزة المعرفية تحقيقا لامرين:
( الأول ) التخلص منالحيرة والجهل والانكار والانقطاع حيث لاانفكاك للصوفي عنها في معرفته سبحانه سواء في التجربة الصوفية أم في التعبير عنها.
( والثاني ) الاقرار بانه سبحانه هو الواهبللصوفي معرفته.حيث يكون الصوفي عبرها (( لايرى ولايسمع الابالله )) لانه (( مع الله دائما )).كدلالة تعبيرية ضمنية على أنه (( ما عرف الله على التحقق إلا بالله )).
وعلى صعيدالفكر الفلسفي المعرفي,تعد النظرة الذاتية للوجود ( = العالم ) سبيلا الى معرفته سبحانه,لذلك اقترنت المعرفة بالنظرة الوجودية على وفق المنظور الفلسفي على وجه العموم,وفيالوقت نفسه أخذت معرفته سبحانه (( معرفة الربوبية )) مكانة مهمة في سياق تفكير الفيلسوف وارساء فلسفته الالهية بجزئها المعروف ب (( الفلسفة الالهية )) على وجهالخصوص.فالكندي حقق معرفته بالله عبر دليل النظام ( = دليل التدبير والعناية ) الموجود في العالم.واجدها في الوقت نفسه في فكر المحاسبي عندما حقق معرفته سبحانه عبر النظروالفكر (( النظر في آياته,والفكر في عجائب صنعه )).
وعدها الفارابي غاية للفلسفة,كونه سبحانه (( عليه فاعلة لجميع الاشياء )),ومنظما ومدبرا لهذا العالم.وفي الوقت نفسهتظهر لفظة (( الحكمة )) مرادفة لمعرفة الله عز وجل لديه لكونها (( معرفة الوجود الواجب )) ( = واجب الوجود ).تبين إذن أن البعد المعرفي للدلالة يتحقق بدلالة البعد الوجودي فيمنظور الفارابي كدلالة صريحة على مايقيم من ربط وثيق بين المعرفة والوجود.بينما عرف ابن سينا الله عز وجل من خلال الوجود باعتباره صنع الله.فبقدر فهم الوجود تفهم معرفتهسبحانه,وبقدر محبة الوجود يكون القرب منه سبحانه وعليه تصبح المعرفة في المنظور السنوي طريقا الى الله ( = واجب الوجود ).حيث اجد هذه الفكرة في تصور التوحيدي للمعرفةالالهية حينما يقر أيضا بأن أثار الله في العالم ( = الوجود ) داعية الى معرفته.في حين يرى ابن رشد أن الشرع قد حث على معرفته سبحانه بالبرهان,دون النظر,والا تصبح المعرفةغاية الجهل والبعد عنه سبحانه.وفي الوقت نفسه تربط معرفته سبحانه كمعرفة تامة بوجود الموجودات من خلال الوقوف على السبب الحقيقي في هذه الموجودات لتعرف حقيقة الاختراعالالهي.
يستنتج مما تقدم من عرض أن المنظور الصوفي المعرفي هو منظور مباشر لمعرفة الله,بمعنى يقوم على طرفين بينهما صلة معرفة مباشرة,وهما : الصوفي ( = العارف ) واللهسبحانه ( = المعروف ).
بينما المنظور الفلسفي المعرفي هو منظور غير مباشر لمعرفته سبحانه بمعنى أنه يقوم على أطراف ثلاثة تربطها المعرفة وهذه الاطراف,هي : الفيلسوفوالوجود لكي تتحقق المعرفة به للفيلسوف,وتصح العبارة في صياغة معكوسة ايضا,وكأن الفيلسوف لكي يحقق المعرفة به سبحانه ولا بد أن يمر بالوجود كشرط ضروري للتحقق المعرفي. المصدر : خصائص التجربة الصوفية في الاسلام.