د. مراد هوفمان
المرأة في المجتمع
صَوَّر فرجيل غيورغيو مكانة المرأة وأهميتها لدى البدوي تصويراً قديراً، في تناوله سيرة الرسول (ص)مؤرخاً له، تناولاً يمتاز بالشاعرية وعمق الاحاسيس، فراح يقول: 'المكانة التي تحظى بها المرأة لدى العربي، لا تكاد تحظى بها لدى سواه من الرجال على ظهر هذه الأرض.. إنهاالنعومة التي تميس وسط قسوة الصحراء، متمايلة القد والأعطاف، فتذكرك بميّاس الشجر، محملاً بالثمر. ففي الصحراء تُغنيك الغواني الحسان، عن البساتين والجنان، بما فيهامما لذّ وطاب من ثَمَر، وظلَّ وزَهَر، فهن الجداول والغدران، والعطر والريحان، وهن الشلالات المتحدرة، والينابيع المشقشقة المثرثرة... فالمرأة في الصحراء، أروع وأجملما خطر على أرضها، وما أظلّته السماء، كل ذلك النعيم، تجمّع في جسد واحد، هو جسد حواء'.
فهل يبقى بعد ذلك مجال لامرىء فيظن ظنّاً أن أولئك العرب الجاهليين، كانوايَحقُرون المرأة ويمتهنونها قبل الإسلام؟!
إن القرآن ليس فيه سورة واحدة اسمها الرجل أو الرجال، بينما خصص القرآن سورة للمرأة تكريماً، هي سورة النساء، حيث عرضلحقوق النساء ولحياتهن الأسرية في جوهر السورة. بل إن أولى آيات سورة النساء هذه تُلّحُ على أنه لا فرق بين أصل المرأة والرجل، بل تُلحُّ أكثر من ذلك على المساواة بينالجنسين، مُوصِيةً بالمرأة في الآية ذاتها أيما توصية، فقال سبحانه: (يا أيها الناس اتّقوا ربّكم الذي خلقكُم من نفسٍ واحدة، وخلقَ منها زوجها، وبثّ منهما رجالاًكثيراً، ونساءً، واتّقوا اللهَ الذي تَساءلُون بهِ، والأرحامَ، إن اللهَ كان عليكم رقيباً) (النساء/ 1).
إن القرآن، وهو الكتاب الحكيم الذي لا تناقض فيه ولا اختلاففضلاً عن وحدة النظم والنسق والتكامل فيه، يوجه الحديث مخاطباً الرجل والمرأة معاً، دون تفريق بينهما، كلاهما على اختلاف الجنس عضو في الأمة، عامل فيها بما هيأه اللهله، وخلقه له، وما منحه من طاقة، خاضع لشروط الوجود التي تسوي بين المخلوقات من ذكر وأنثى.
فهل من المعقول والمقبول أن يظن أحد أن هذا الدين يسمح بقوانين تظلم المرأةأو تجني عليها أو تبرر العداء للمرأة؟!
لكن العقبة الكؤود الكبرى التي تقف حجر عثرة في سبيل انتشار الإسلام في الغرب المسيحي، تتمثل في الرأي السائد الثابت لدى غيرالمسلمين الذي يدمغ صورة المرأة المسلمة، ذاهباً إلى أنها مقيدة الخطى لا يطلق لها العنان لاستثمار طاقاتها، دورُها على المطبخ مقصور، وفي شؤون البيت وتربية الأطفالمحصور، لا تُرى إلا ملثَّمةً، وأوقاتُها بين زوجها وربها مقسَّمة، ثم هي بعد ذلك كله مستذَلّة مستضعفة.
الواقع أنه لا دخان بدون نار... ومن ذا الذي يريد اليوم أن ينكرأن وضع المرأة ودورها في دول الإسلام قد غدا مشكلة خطيرة؟ علماً بأن الإسلام أنصف المرأة، ورد لها ما سلبته إياها الجاهليةُ، بما كان فيها من فساد وانتهاك وبطش، مما ألفهالجاهليون.
كما أدان القرآن الكريم الظاهرة العالمية أيضاً: ظاهرة تفضيل الذكر على الأنثى، وقد أشارت إلى ذلك الآية الكريمة رقم (58) من سورة النحل (وإذا بُشّر أحدُهُمبالأنثى، ظلّ وجهُهُ مُسوداً وهُو كظيمٌ).
ومن الواضح لكل ذي عينين، بهذه المناسبة، تفاوت صور المرأة وأوضاعها ودورها داخل البلاد الإسلامية تفاوتاً بيّناً مختلفالأبعاد، أي أن البعد الحضاري للمرأة كعنصر فعال حضاري مشارك، موجود مشهود. وحسب المرء أن يستعرض عادة التحجب وتغطية الرأس وتفاوتها الشديد من امرأة لامرأة، في البلدالإسلامي الواحد والمدينة والقرية، ثم في البلاد الإسلامية مجتمعة.
والثابت المتواتر أن سياسة النبي السمحة تجاه النساء، والتي قامت على احترامهن ومعاملتهن معاملةكريمة، لم تلبث أن أعقبتها منذ عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، سياسةٌ معاديةٌ للمرأة تسللت إليها عاداتٌ وتقاليدُ جاهلية حاربها الإسلام، وبقي بعضها حتى اليومحرباً على الإسلام، وهي ماثلة حتى يومنا هذا فيما يسمى بعبادة الرجولة وتفوقها والغيرة العمياء لدى الرجل.
لهذا، فإن من الضروري حقاً معرفة وجهة النظر الإسلاميةفيما يتعلق بالأمور المعدودة الفاصلة في وضع المرأة المسلمة، ومجمل تلك الأمور يتمثل في المسائل التالية:
1) عقد الزواج، 2) الحياة الزوجية، 3) الطلاق، 4) اللباس، 5)الميراث، 6) الشهادة أمام القاضي.
حين عقد الزواج تستطيع الشابةُ المسلمة التي تبغي الزواج أن توافق على قبول المتقدم إلى ذويها طالباً الزواج منها، وذلك بمجردسكوتها، فالسكوت علامة الرضا هنا، ولا يسري هذا على الرجل الذي لا بد أن يعلن رغبته وموافقته جهراً، علماً بأن القانون الإسلامي أو القضاء الإسلامي يأخذ بالمبدأ الأساسيالمعمول به في القانون الروماني الأساسي، والذي ينص على أن الصمت لا يعني الموافقة. والحكمة هنا هي الترفق بالفتاة المسلمة ومراعاة خجلها وحيائها وليس معناه بأية حال أنتلك الفتاة مرغمة على قبول طالب يدها.
المسلمة لا تنكِح إلا مسلماً، بينما أباح القرآن للمسلم الزواج بالكتابيات من النصرانيات واليهوديات، كما في الآية الخامسة منسورة المائدة. تلك هي النتيجة الحتمية لعقد النكاح في الإسلام وشروطه، والتي تخوّل للأب حق تربية الأولاد، ذكوراً وإناثاً، إذا تعدوا مرحلة الطفولة. في هذه الحالة لاتستطيع المسلمة (لو تزوجت من مسيحي) منع زوجها المسيحي من تربيته لأطفالهما تربية مسيحية.
أخيراً، فإن المسلمة لا يجوز لها الزواج بأكثر من رجل، بينما يجوز للمسلمالجمع بين أكثر من زوجة، ولكن بشروط معينة، كما أوضحت الآية الثالثة من سورة النساء: (... فانكحُوا ما طابَ لَكُم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع، فإن خِفتُم ألاّ تعدلوافواحدة...) ... والحكمة في هذا التشريع متعددة، ولكنه على كل حال مرتبط بوضع الأبوة.
اذن فتعدد الزوجات المشروع يخضع لشرطين جوهريين:
أولاً: أن يحقق الزواج لليتامىعدالة اقتصادية ونفسية، كأن يتزوج الرجل أرملة أخيه فيصونها وأطفالها، إذ يصير عائلاً لهم، يَحبُوهم بالرعاية المادية والمعنوية.
ثانياً: أن يكون الزوج عادلاً فيمعاملته لزوجاته، ليس مادياً فحسب، وإنما معنوياً أيضاً.
والشرط الثاني مستبعد غير وارد أساساً إذا اشترطتِ الزوجة الأولى في عقد النكاح ألا يتزوج زوجها بامرأة أخرىعليها.
وفي هذا نصت الآية التاسعة والعشرون بعد المائة من سورة النساء نفسها، نصّاً لا تأويل فيه (ولن تستطيعوا أن تَعدلِوا بين النّساء ولو حَرَصتم...)، ومن ثم كانتحذير القرآن بين حينٍ وحين للمرء ألا يخدع نفسه، مثل قوله تعالى (... إن الله عليمٌ بذات الصدور).
فمن وعي هذا واطمأنّ إليه قلبه، فلا بد أن يدرك أن تعدد الزوجات،بالصورة التي عرفها الواقع التاريخي في بلاط الخلفاء العظام، والخلفاء الأقزام، والسلاطين والأمراء، لم يكن بحال من الأحوال مما يرتضيه القرآن أو يجيزه شرعاً، وإنماكان ذلك دائماً وأبداً خاضعاً للتلقائية، أو العفوية غير المنطلقة من اعتبارات إنسانية، وبهذا لم تكن زيجات إسلامية.
هذا الاستثناء المبيح للتعدد يجوز في حالةالحروب وسقوط غالبية الرجال صرعى، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً، فلو كان تعدد الزواج مسموحاً به، لما اضطر عدد كبير من النساء والشابات الراغبات في الزواجإلى البقاء بدون زواج، كما نعرف من واقع ذلك الجيل عقب الحرب.
إن المشكلة الرئيسة في كل زيجة على الصعيد العالمي تتمثل في كيفية التصرف إذا دبّ الخلاف والنزاع بينالزوجين في كل صغيرة وكبيرة. في هذه الحالة لا يمكن قبول حكم الأغلبية لأنهما اثنان، لهذا فإن هناك طريقين لحل تلك المشكلة:
_ إما أن يتفق الطرفان على أن يكون أحدهما فيأمور معينة أو في كل الأمور المسؤول الأول، فيكون له الوزن الأكبر في اتخاذ القرارات أو البت في الأمور، وهذا هو الحل الإسلامي.
_ وإما أن يلجأ الطرفان المتنازعان إلىطرف ثالث يحتكمان إليه، سواء كان من العشيرة أو موظف السجل المدني والأحوال الشخصية المختص، أو القضاء، وهذا هو الطريق الذي يسلكه الغرب، علماً بعواقبه المخالفة للعقلوالمنطق، حيث يحكم الموظف المختص باسم الإنصاف حكماً عشوائياً يقوم على التخمين والاقتراع، لا يرضي الزوج أو الزوجة فلا يتفقان عليه.
ولقد حسم الإسلام حسماً بيّناًهذا الأمر، فبيّن أن المسائل المتعلقة بقيادة الحياة الزوجية وتوجيهها تُعالجُ داخل الأسرة ذاتها، على أن يكون للرجل في العادة الوزن الأرجح في التصويت، أي في التقرير:(وللرجال عليهن درجة).
ولا تحسبن أن الآية الكريمة تنسحب على مسائل رعاية الأطفال الصغار أو أموال الزوجة وممتلكاتها، ذلك أن المسلمة تتمتع بمزايا الاستقلالالاقتصادي الذي يصون أموالها وممتلكاتها منذ ألف وأربعمئة عام، بينما لم يتح ذلك للمرأة الألمانية إلا منذ منتصف القرن العشرين، بفضل تدخل المحكمة الدستورية الألمانيةالتي حررت الزوجة من إطلاق يد الزوج في إدارة أموالها وممتلكاتها.
إن الاسلام يرى في قيام المرأة بأعباء الأمومة المعهودة إليها أنبل واجبٍ، كما يرى في ذلك أساساًمتيناً لكرامتها وتكريمها، وتطورها المحقق لذاتها.
وليس أدل على تكريم المرأة وإسباغ أعظم التقدير عليها، من أحاديث الرسول في هذا الصدد، وأشهرها ما معناه أن الجنّةتحت أقدام الأمهات.
هذا التكريم والتعظيم للمرأة إنما هو لانفرادها عن الرجل بقدرتها على حمل حياة في أحشائها، ومدها بما تتطلبه لتتطور التطور الطبيعي، كما شاء الله.
ألا يكفي دليلاً على ذلك التقدير، شدة العقوبة الرادعة التي توقعها الشريعة على الذين يرمون البريئات من المحصنات بأنهن زانيات؟ يقول تعالى في سورة النور الآيةالرابعة (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً، وأولئك هُمُ الفاسِقون).
أما كون الإسلام لا يرى فيالزواج شعيرة مقدسة بالمعنى الكنسي الكهنوتي، فذلك راجع إلى أن الإسلام لا يفرق بين العبادات، فالزواج نفسه لون من ألوان العبادة في الإسلام، فهو فرض ديني على كل ناضجوناضجة. لذلك، لا رهبانية في الإسلام، إذ يرى الإسلام في الرهبانية ضلالاً وانحرافاً قد أصاب الرسالات السماوية السابقة على الإسلام.
بل إن بيان القرآن الذي يبيحللرجل ضرب الزوجة الناشز، والذي يصر كثيرون على فهمه فهماً خاطئاً في معظم الحالات، إنما يهدف إلى صيانة الحياة الزوجية، وحمايتها وتقويمها، كما تنص على ذلك الآيةالرابعة والثلاثون من سورة النساء: (... واللاتي تخافون نُشوزُهنَّ فعظوهنَّ واهجروهنّ في المضاجع، واضربُوهنَّ، فإن أطعنكُم فلا تَبغُوا عليهنًّ سبيلاً، إن اللهَ كانعليّاً كبيرا).
وتتفق السنّة والآثار الموقوفة جميعاً على أن المقصود هنا الإرشاد لإنقاذ كيان الزيجة التي يتهددها الفشل، وألا يتسرع الزوج الغاضب لنشوز زوجته فيتطليقها، ذلك أن أبغض الحلال عند الله الطلاق، كما هو مشهور في الحديث النبوي.
كذلك، فليس المقصود بالضرب البطش باليد أو بالسوط أو بأية آلة، إلا إذا كانت تلك الآلةلا تحدث أي جرح أو تسيل دماً، فيكون رمزاً للتأنيب والتأديب، كأن يضرب الزوجُ الزوجَ الناشزة بمنشفة أو مروحة من الورق.
على الرغم من هذا شرع الإسلام الطلاق، صمامَالأمان الذي لا مفر منه إذا استحالت العشرة، واستحكمت النفرة، وامتنع الوفاق، وتحتم الفراق، حقاً مشروعاً لكلا الزوجين لينفصلا بالمعروف، على أن ثمة فرقاً واحداًبينهما يتمثل في إجراءات الطلاق فحسب: إنّ تَلَفُّظ الرجل بقوله لزوجه 'أنتِ طالقٌ' مُوجِبٌ للطلاق الذي اقدم عليه بإرادته فَسَهَّلَ بذلك عمليةَ الطلاق، وبالتالي لاحقّ له في استرجاع ما دفعه للزوجة مهراً، لذا قال تعالى في سورة البقرة، الآية التاسعة والعشرون بعد المائتين (... ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئاً...) أما إذاأرادت الزوجة نفسها الطلاق، وسعت إلى ذلك سعياً، فلا حق لها في الاستمتاع بالمهر، لهذا يفصل في طلاقها القضاء بمراجعتها والتثبت من إصراراها.
أما المواريث، فإنالقرآن قد نظم الأحقية في الميراث والنصاب الموروث بين الرجال والنساء والوالدين، كما نصت الآية السابعة من سورة النساء: (للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربونوللنساء نصيبٌ مما تركَ الوالدان والأقربون، مما قلَّ منه أو كَثُر، نصيباً مفروضاً).
ولا عجب أن تنص الآية الحادية عشرة من السورة نفسها على أن للذكر مثل حظّالأنثيين، فالحكمة في ذلك عقلاً ونقلاً أن الذكر، لا الأنثى، مكلفٌ شرعاً بالإنفاق على جميع الأفراد في العائلة التي يعولها من ذوي رحمه، أي أن اختلاف الواجبات أوالالتزامات يستتبع اختلاف الحقوق أو الحقيات.
أما المرأة بصفتها شاهدة أمام القضاء فحسب، فشهادتها لا تساوي شهادة الرجل، فشهادة امرأتين تعدل شهادة الرجل، إنالشريعة قد فرضت أن يؤكد شاهدان عادة حصولَ قول أو فعل أو نفيه، فإن لم يكن الشاهدان رجلين، فرجل وامرأتان بذا تراعي الشريعة أن المرأة قد تكون في أيام معينة شهرياً غيرَمهيأةٍ أو غير قادرةٍ على التركيز المطلوب للإدلاء بالشهادة، وهذا ثابت لدى فقهاء المسلمين.
باختصار، فإن الإسلام يستمسك بالحياة الزوجية استمساكاً وثيقاً،ويبنيها ويشيد كيانها مراعياً الفروق الموضوعية في دور الرجل والمرأة على السواء، لديه يستوي الرجل والمرأةُ في الكرامة والتكريم، ولكن لكل منهما واجباته، وهما لديهكذلك متساويان في الكرامة والتكريم، وإن اختلفت كفاءةُ كل منهما، وهما كذلك يستويان أمام الله، وإن تباينت أدوارهما في الحياة الدنيا.
أما السؤال عن كون هذا أو ذاكعصرياً أو غير عصري، فإنه لا يلعب أي دور في الحُكم والتقييم. إن الإسلام ليس موجةً في الموضة أو اتجاهاً من هذا القبيل... وإن الإسلام لقادر على الانتظار والانتصار.