ولا يمكننا الوصول إلى هذا المستوى إلاّ بعد أن عرفنا بأنَّه تعالى:(مع كلِّ شئٍ لا بمقارنة وغير كلّ شئٍ لا بمفارقة)فحينئذٍ سوف نعلم أنَّه تعالى هو أوضح من كلِّ شيء حيث أنَّ قوام جميع الأشياء به لأنَّه هو الوجود المطلق الغنيّ بالذات وجميع الوجودات الأخرى فقيرةٌ بالذات إليه (أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني) وبالأحرى ليس هناك إلاّ وجود واحد ظهر في الأشياء والكلُّ تجلِّياته تعالى ومظاهره، والعبد بمقدار معرفته نفسَه وإحساسه فقرَه ومسكنته وأنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حيوةً ولا نشوراً، بنفس المستوى سوف يعرف ربَّه ويصلُ إليه حيث يغفل حينئذٍ عن مشخصاته الفردية وماهيته المحدودة ويعرف أنَّ تلك المشخصات لم تكن إلاّ أوهام فليس وراء الوجود شيءٌ آخر فلا يعشق إلاّ الله ولا يعبد إلاّ الله ولا يريد إلاّ الله فحينئذٍ سوف لا يكون ممن قال تعالى عنهم (..ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط)(43) لأنَّه بالفعل قد عرف بأنَّ الله سبحانه بكلِّ شئٍ محيط فلا يكون في مريةٍ من لقاء ربِّه بل يكون مصداقاً لقوله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون)(44) وهذا سيُّد الشهداء أبوعبدالله الحسين عليه السلام ينادي (تركت الخلق طرّاً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا)
لذَة الوصال ونار الفراق
إنَّ جميع اللذات الدنيوية إنَّما هي ترجع إلى نفس الإنسان فهي التِّي تلتذ وهي التي تبتهج ولكن حيث أنَّ النفس مسجونة في الجسم نراها بواسطة الحواس الخمسة تتعامل مع الأشياء فتنظر إلى الوردة الجميلة فتلتذ من تلك الرؤية فهي في الواقع لا تلتذ من الوردة ولا تريدها كوردة بل النفس تلتذ بالجمال وتحبُّ الجمال فلو فقدت الوردة جمالَها فلا تحبُّها أصلاً، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ هالك وآفل ،فالمطلوب إذاً هو الجمال والكمال غير المحدود وغير المؤطَّر، وهو الله سبحانه ومن هنا نشاهد النبي إبراهيم ينفي كلَّ آفل وبالأخير يصل إلى الربّ (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)(45)وللإمام في كتابه القيِّم شرح دعاء السحر بيان حول الآية نحيل القرّاء الكرام إلى مراجعة الكتاب(46)فالله سبحانه هو الذي يكون مطلوباً للإنسان وهو الذي يأنس به العارف لا غيره (يا من اسمه دواء وذكره شفاء)(47)ولا يمكن أن يسرَّ العارف إلاّ الله نفسه كما في دعاء الجوشن الكبير:(يا سرور العارفين يا منى المحبين يا أنيس المريدين يا حبيب التوابين يا رازق المقلين يا رجاء المذنبين يا قره عين العابدين)(48) (يا سرور الأرواح و يا منتهى غاية الأفراح)(49)وعلى ضوء ذلك يمكننا معرفة الأحاديث الكثيرة التِّي تؤكِّد على عبادة الأحرار التي تنبع عن الحبِّ والعشق بالله:(الطالقانى عن عمر بن يوسف بن سليمان عن القاسم بن إبراهيم الرقى عن محمد بن احمد بن مهدى الرقى عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بكى شعيب عليه السلام من حب الله عز و جل حتى عمى فرد الله عز و جل عليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله عليه بصره فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك إن يكن هذا خوفا من النار فقد آجرتك و إن يكن شوقا إلى الجنَّة فقد أبحتك فقال إلهي وسيدي أنت تعلم إني ما بكيت خوفا من نارك و لا شوقا إلى جنتك و لكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك فأوحي الله جل جلاله إليه أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران) (بحار الأنوار ج12 ص380 رواية1 باب11).{وقال أمير المؤمنين و سيد الموحدين صلوات الله عليه ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك لكن