سعاد النصار
نحو بناء شخصية فاعلة
أعتقد أنه قد آن الأوان في هذا الظرف الحرج العصيب الذي تجتازه الأمة العربية والإسلاميةللتخلص من التأثير الخارجي الذي مورس على العقل العربي المسلم بسبب ظروف تاريخية لا مجال للتذكير بها، ومحاولة إعادة الفاعلية لروح الاجتهاد النابع من القيم الحقيقيةالأصيلة لحضارتنا وهويتنا، والمساهمة في استرداد شخصية المسلم السوية المنضبطة بالقيم الإنسانية التي نادى بها الإسلام وتحصينها بالمرجعية الشرعية المهتدية بالوحيالإلهي والسنَّة النبوية· وانطلاقاً من وعينا الحاد بدور المرأة في بناء الإنسان وتأثيرها في توجهاته منذ كان نطفة، ثم رضيعاً تلقمه مع قطرات الحليب أولى بذور التربيةوالتوجيه، بل قبل ذلك منذ ارتباطها بزوجها يكون لها التأثير الكبير على حياته بأكملها لما غرسه الله فيها من حنان وعاطفة جياشة يمكن بها أن تؤثر وتوجه وتغرس كل ما تريد منقيم ومباديء، انطلاقاً من وعينا هذا استمد مقالنا مشروعية كتابته، وخصوصاً مع استمرار الحديث لدى مختلف الفاعليات الفكرية والثقافية والسياسية في مجتمعاتنا العربية عنما يعرف بقضية المرأة، واستمرار النظر إليها من خارج التصور الإسلامي والعقل المنضبط بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنونبالله) آل عمران:110·
وإن أهم ما يجب التذكير به باستمرار هو العمل على بناء شخصية المرأة المسلمة وتحصينها بالقيم الإسلامية والمثل العليا لإخراجها من حال التخلفوالتبعية مادامت مسؤولة مثلها مثل الرجل أمام الله بحمل أمانة الخلافة وتعمير الأرض بما يفيد الإنسانية جمعاء يقول تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرضوالجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب:27· والخطاب القرآني موجه هنا إلى الإنسان بإطلاق سواء ذكراً أكان أم أنثى· ومسؤوليةالخلافة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا قام بتأديتها عباد مخلصون، نساء ورجالاً، على وجهها الأكمل يقول تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهونعن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) التوبة:17، وأول لبنة في بناء شخصيةمسلمة تستطيع حمل الأمانةوالمشاركة الإيجابية في البناء الحضاري الذي يعيد للأمة مجدها وفاعليتها هو بناء عقيدة التوحيد في نفسها والإقرار النفسي والعملي بالعبودية لله وحده· وتوحيد اللهتوحيداً منزهاً عن جميع أنواع العبوديات: عبودية الذات، عبودية المال، عبودية السلطة، عبودية الشهوات، وهلم جرا··· تولد في نفس الإنسان الاستطاعة على مواجهة كل أشكالالتحديات، كما تغرس فيها الاطمئنان إلى قدرة الله الواسعة على رحمته وعونه· وإذا استطاعت المرأة أن تبني عقيدة التوحيد في نفسها، فإنها تكون قد استطاعت أن تتحرر منأشكال الخضوع المهين للآخرين مهما كانوا، كما تكون قد استطاعت أن تحرر فكرها ونفسها من قيود الخوف والجهل والشعوذة، وتنطلق حرة في عبادتها لله وحده لتحقق قدراً كبيراًمن الاعتزاز بالنفس والشعور بالرفعة والكرامة، وإذا بلغت هذه الدرجة من الإيمان فإنها لا شك تتطلع إلى العطاء المثمر حسب إمكاناتها ومؤهلاتها الفكرية والجسدية بإخلاصوصدق ينبعان من اعتقادها بأن كل شيء لله عز شأنه، كما أنها تسعى إلى وضع لبنات أخرى لتكسب شخصية متوازنة ومتناغمة مع القيم الحضارية التي نادى بها الإسلام، ومن أهم هذهاللبنات الخلق القويم الملتزم بالاستقامة والصلاح الذي يتبنى قيمة التربية وطهاة النفس، فالمرأة باختيارها الإرادي للخير والتقوى والاستقامة وغيرها من الأخلاقالفاضلة بوصفها خياراً حراً إرادياً نابعاً من إيمانها بالله انطلاقاً من قوله تعالى: (ونفس وما سواها· فألهمها فجورها وتقواها· قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)الشمس:7 ـ 10، تدرك معنى ثبات القيم الخلقية في النفس فتعمل على تقويتها وتقويم سلوكها على أساسها، فلا تنساق وراء عواطف منحرفة أو شاذة وإنما تسمو بنفسها نحو عواطف مثاليةتضبط سلوكها وأعمالها بضوابط الفضيلة ومكارم الأخلاق، وبذلك تكون تحب في الله وتكره في الله، وعلى أساس هذا الحب والكره تحب الحق والعدل والخير والجمال والاستقامةوالصدق، وتكره الظلم والاستبداد والعنف والرذيلة والفسوق· وهذا الاختيار العقدي والسلوكي ينشئ المرأة نشأة جديدة ويجعل منها شخصية متماسكة متزنة مالكة لإرادة قويةتواجه بها مختلف الصعوبات والتحديات·
إن مثل هذا البناء ليس سهلاً في الوقت تراكمت فيه شتى ألوان المغريات والآراء التغريبية التي نأت بالمرأة عن أسس دينها وهويتهاوأبعدتها عن فطرتها، واختلطت فيه المعايير والقيم، لكن حسبنا أن نعرف أن عمليات التغيير والإصلاح ومحاولات الخروج من دائرة التأثير الخارجي المهيمن دائبة في مجتمعاتناوإن لم تستطع بعد أن ترقى إلى مستوى ما نطمح إليه، وحسبنا أيضاً أن نقف وقفة صريحة ومتأنية مع أنفسنا وذواتنا لكي نتجاوز الإحساس بالخطأ إلى مرحلة الكشف عن مسبباتهوتصويبها انطلاقاً من عقيدة الأمة وقيمها من دون أي استسلام للفكر التغريبي· والمرأة مسؤولة إلى جانب الرجل مسؤولية كاملة عما نعيشه من هوان وتخلف وسقوط، ومدعوة مثلهإلى بناء شخصية مسلمة فاعلة في معركة النهوض والتأصيل والارتباط بالجذور المسقية بنبعين أساسيين: الوحي، والسنَّة النبوية، ولن تستطيع ذلك إلا إذا ابتدأت ببناء عقيدةالتوحيد في نفسها، وتفعيل الأخلاق الإسلامية في جميع سلوكها، وآمنت أن الانتكاسات التي تعاني منها الأمة ترجع في أحد أسبابها إلى استكانة المرأة للظلم وعدم وعيها إنالقرآن في مجمل خطابه يركز على تكوين أمة مجاهدة قوية لا يفرط أو يتنازل أفرادها، نساء ورجالاً، عن حقوقهم التي وهبها الله لهم، والمرأة بتلك الاستكانة ربت أجيالاً ممناستكانوا بدورهم· إنها مدعوة إلى تجديد الإيمان بالعودة إلى الأصول وفقه الواقع وتربية نفسها لتستطيع تربية أبنائها وتؤثر فيهم وفي زوجها التأثير الإيجابي المطلوبالذي يقوم على استثارة كوامن الرحمة والحب والمودة، ولن تبلغ ذلك إلا بالعودة الواعية إلى القرآن الكريم واعتباره مصدراً علوياً للتعرف إلى حقوقها وواجباتها فينفتحآنذاك قلبها وعقلها ويتعمق إدراكها بالحياة والواقع، ويكون تأثيرها قد اتخذ الوجهة الصحية السليمة من أجل استرجاع أمة يرفع كل أفرادها شعار (كنتم خير أمة أخرجت للناستأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران:110، ويكون خلقهم وسلوكهم القرآن ليشهدوا على الناس ويقودونهم إلى الحق والخير والعدل، يقول تعالى: (وكذلكجعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة:143·