د. محمد حسين الصغير
الصوت بين الشدة واللين
ولا نريد بهذا الملحظ المظاهر الصوتية للحروف الشديدة أو حروف اللين، وإنما نريد الدلالةالأصواتية للكلمات وهي تتشكل في سياق يمثل الشدة حيناً، والرقة حيناً آخر، في دلالة تشير إلى أحدهما أولهما في ذات اللفظ، أو جملة العبارة.
ومن فضيلة النظم القرآنيأن تنتظم هذه الظاهرة في الصوائت والصوامت من الأصوات، والصوائت ما ضمت حروف العلة عند علماء الصرف، وهي: الألف والياء والواو؛ والصوامت بقية حروف المعجم، وهي الصحيحةغير المعتلة.
ويبدو أن الأصوات الصائتة بعد هذا هي الأصوات المأهولة بالانفتاح المتكامل لمجرى الهواء، فتنطلق دون أي دوي أو ضوضاء، وتصل إلى الأسماع مؤثرة فيهاتأثيراً تلقائياً في الوضوح والصفاء، وعلة ذلك انبساطها مسترسلة دون تضيق في المخارج.
ويتضح من هذا أن الأصوات الصامتة ما كانت بخلاف ذلك فهي تتسم بتضيّق مجرى الهواءواختلاسه، فتنطلق أصواتها بأصداء مميزة تختلف شدة وضعفاً بحسب مخارجها فتحدث الضوضاء من خلالها نتيجة احتباس الهواء بقدر ما.
ففي الصوائت نلحظ قوله تعالى: (ونفسٍ وماسوّاها، فألهَمَها فجورَها وتقواها) في اقتران الواو والألف في موضع واحد من سوى وتقوى، كما نلحظ اقتران الياء والألف في سقيا من قوله تعالى:
(فَقالَ لَهُم رَسُولُاللهِ ناقَةَ اللهِ وسُقياها).
فتجد استطالة هذين الحرفين في كلا الموضعين، لا يصدهما شيء صوتياً، وهما يتراوحان دلالياً في ألفاظ تحتكم الشدة واللين، فالتذكير بخلقالنفس الإنسانية قسماً إلى جنب عملها بين الفجور والتقوى، والتحذير من الناقة إلى جنب التحذير من منع السقيا.
وفي الصوامت تجد مادة 'مسّ' في القرآن بأزيزها الحالم،وصوتها المهموس، ونغمها الرقيق، نتيجة لتضعيف حرف الصفير، أو التقاء حرفيه متجاورين كقوله تعالى: (وَلَو لَم تَمسَسهُ نَارٌ).
هذه المادة في رقتها صوتياً، وشدتهادلالياً، تجمع بين جرس الصوت الهادىء، وبين وقع الألم الشديد، فالمس يطلق _عادة _ ويراد به كل ما ينال الإنسان من أذى ومكروه في سياق الآيات التالية:
قال تعالى: (إنيَمسَسكُم قَرحٌ فقد مسَّ القومَ قَرحٌ مثلُهُ).
وقال تعالى: (وإذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌ دَعَوا رَبَّهم).
وقال تعالى: (وأَيوبَ إذ نادى رَبَّهُ أني مسَّني الضُّرُوأنتَ أرحمُ الرّاحمين).
فهذه الصيغ المختلفة من المادة، أوردناها للدلالة على شدة البلاء، ووقع المصاب، وفرط الأذى، واللفظ فيها رفيق رقيق، ولكن المعنى شديد غليظ.
وللدلالة على هذا الملحظ، فقد وردت المادة في صوتها الحالم هذا مقترنة بالمس الرفيق لاستخلاص الأمرين في حالتي، السراء والضراء، الشر والخير، كما في كل من قولهتعالى:
أ_ (وقالوا قَد مَسَّ ءَابآءَنا الضَّراءُ والسَّرآءُ).
ب_ (إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعا، إذا مَسَّهُ الشَرُّ جَزوعاً، وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً). فالضراء تمسهم إذن، والسراء تمسهم كذلك، والشر يمسهم والخير كذلك، ولم يشأ القرآن العظيم تغيير المادة بل اللفظ عينه في الحالتين، وذلك للتعبير عن شدة الملابسةوالملامسة والالتصاق.
وكما ورد اللفظ في مقام الضر منفرداً في أغلب الصيغ، وورد مثله جامعاً لمدركي الخير والشر، فقد ورد للمس الجميل خاصة في قوله تعالى: (إن تَمسسكُمحَسَنةٌ تَسُؤهُم).
وقد يتنقل هذا اللفظ بدلائله إلى معانٍ أُخر، لا علاقة لها بهذا الحديث دلالياً، وإن تعلقت به صوتياً، كما في إشارة القرآن إلى المس بمعنيينمختلفين أخريين.
الأول: كنى فيه بالمس عن النكاح في كل من قوله تعالى:
أ_ (قالت أنّى يَكونُ لي غُلامٌ ولَم يمسسني بَشرٌ).
ب_ (لا جُناحَ عَلَيكُم إن طَلَقتُمالنسآءَ ما لَم تَمَسُّوهُنَّ).
الثاني: وقد عبر فيه بالمس عن الجنون كما في قوله تعالى: (الّذينَ يأكُلُون الرّبا لا يَقومونَ إلاّ كما يَقُومُ الّذي يتخبَّطُهُالشّيطانُ من المَس).
وقد اجتمعت كلها في طبيعة الصوت.
المصدر : الصوت اللغوي في القرآن