د. محمود اسماعيل
سيادة الاقطاعية
ورث الأمويون امبراطورية واسعة عن عصر الراشدين، ازدادت اتساعا بفضل جهودهم، فقد فتحوا معظم اقاليمالهند والتركستان شرقا، وبلاد المغرب والأندلس غربا. وبرغم كون معظم المناطق الجديدة ذات طابع رعوي 'استبسي'؛ إلا أن السهول الفيضية في العراق والشام ومصر والأندلس ظلتتلعب الدور الأساسي في الاقتصاد الإسلامي؛ حيث حافظت حرفة الزراعة على صدارتها؛ برغم تنامي التجارة وازدهارها في هذا العصر.
معنى ذلك أن معطيات البيئة شجعت علىتأصيل 'الاقطاعية' وسيادتها؛ فقد سن الأمويون سننا جديدة بصدد 'المسألة الزراعية' أسفرت ضمن ما أسفرت عن ربط 'الاقطاعية' بالدولة، وهو ما حدا ببعض الدارسين إلى القولبسياسة تأميم Etatism أموية لقوى الإنتاج.
ولا يعنينا أمر هذه السياسة من حيث كونها خروجا على روح الشريعة _كما تصور البعض _ أو اعتبارها تحولا 'من المثالية إلى الواقعية'كما ذهب البعض الآخر _إلا بقدر تأثيرها على التطور الاقتصادي الاجتماعي العام، أو بالأحرى فعاليتها في دعم النمط الاقطاعي، وانعكاساتها على 'ميلاد' البورجوازية. وفيما يتعلق بالإقطاع، نلاحظ أن غالبية الأرض الزراعية تغير شكل حيازتها ونوعية القوى التي آلت إليها هذه الحيازة. إذ أن 'الأرستقراطية القديمة' التي وثبت إلى السلطة_تخلت عن مواقعها التي احتلتها في عصر الراشدين _ كشريحة بورجوازية تحترف التجارة إلى قوة جديدة تحوز الأرض على شكل ضياع واقطاعات؛ فأعطت للنمط الإقطاعي قوة مستمدة منقوة الدولة وسطوتها. وحيث استمرت الدولة قرابة قرن من الزمان، كان من الطبيعي أن يستفحل النمط الاقطاعي وتترسخ جذوره نتيجة اكتسابه صفة 'الإرث'، بعد أن كان سلفا إقطاعمنفعة، بالإضافة إلى استفحاله وشيوعه ليحتوي معظم الأرض المنزرعة والصالحة للزراعة.
ومما يؤكد سمة 'الاقطاعية' في شكل الملكيات الجديدة، أيلولة الأرض بمن عليها منمزارعين وما عليها من مراع وطواحين ومتاع، وحوانيت إلى طبقة المالكين الجدد. وفي خلافة عبد الملك أفرد ديوان خاص للإشراف على إدارتها عرف بديوان 'المستغلات'. فإذا أضيفإلى ذلك كله ما آل إلى الطبقة الجديدة من أموال ومتاع من مغانم وأفياء إبان عمليات الفتوح، أدركنا مدى ما تمتعت به تلك الطبقة من نفوذ، وما انطوت عليه من نزعة استغلالية.
لم يشذ عن قاعدة الاستغلال تلك إلا الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز، وكذا بعض الخلفاء الأواخر الذين اضطروا _تحت تأثير ثورات المعارضة _ إلى محاولة وقف تفاقم الأحوالالاقتصادية، باتخاذ بعض إجراءات اصلاحية.
لكن اصلاحات عمر لم تعمر طويلا، فقد انتكست بعد وفاته. ان ما أقدم عليه عمر من تنازل عن إقطاعاته الموروثة عن آبائه،ومحاولاته إيجاد حل للمسألة الزراعية برمتها _دون جدوى _ وتنكب إصلاحاته وإصلاحات بعض اخلافه، دليل لا يرقى إليه الشك على صلابة عود الإقطاعية وترسخ أصولها لتصبح النمطالسائد في الانتاج.
وتلخص مقولة لعمر في هذا الصدد أسباب وأصول الأزمة الاقتصادية الاجتماعية للعالم الإسلامي، حيث قال: '... إن الله تعالى بعث محمداً رحمة ولم يبعثهعذابا إلى الناس كافة، ثم اختار لهم ما عنده... فترك لهم نهرا شربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله؛ ثم ولى عمر فعمل على عمل صاحبه... فلما ولي عثمان اشتق منذلك النهر نهرا. ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار، ثم لم يزل ذلك النهر يشق من يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم ولن يروى أصحاب النهرحتى يعود إليهم النهر الأعظم'.
وكان من الصعوبة بمكان أن 'يعود النهر الأعظم' إلى سابق حاله عن طريق إجراءات إصلاحية، لأن 'الروافد الجديدة' تعمقت مجاريها، وترسخت أصولطبقة اقطاعية ترتبط مصالحها باستمرارية النظام؛ ولم يكن ثم بد عن ثورة شاملة تطيح بهذه الطبقة ليجتث الظلم من أساسه.
وقد ساعد على ترسيخ 'الإقطاعية' حالة الفوضىالسياسية الداخلية التي عمت الامبراطورية، وما ترتب عليها من افتقار الأمن بالنسبة لصغار الملاك وفي محاولة تحاشي الأخطار اضطروا اضطراراً للدخول في حماية الإقطاعيين،عن طريق ما عرف بنظامي 'الإلجاء' و 'الإيغار'. فأمام فداحة الضرائب وعسف جبايتها لجأ قطاع من صغار الملاك بأراضيهم إلى الاقطاعيين، وسجلوا حيازاتهم في الديوان ضمن إقطاعاتالخلفاء أو الولاة أو الكتاب، وظلوا في خدمتهم يزرعون الأرض لصالح 'الحماة' في نظير ما يقيم أود الحياة.
على أن اقرار شكل للملكية ذي نمط اقطاعي أفضى _بالضرورة _ إلىمزيد من تبلور التكوين الطبقي، فالطبقة البورجوازية أتيح لها أن تمارس دوراً أكثر فعالية ابان سطوة الاقطاعية، ساعد عليه ازدهار النشاط التجاري، بفعل اتساعالامبراطورية التي ضمت معظم الطرق البرية والبحرية العالمية.
ومن الملاحظ أن البورجوازية الجديدة تكونت من شرائح اجتماعية كانت من قبل تمتهن العمل الزراعي، ثمهجرته إلى الاشتغال بالحرف الحرة في المدن، بالإضافة إلى 'جماعات' التجار من الموالي وأهل الذمة، الذين أسهموا بنشاط واسع كوسطاء في تجارة العبور ين الشرق والغرب. ومن مظاهر نمو البورجوازية، تعميم استخدام النقد في المعاملات؛ فقد أمر عبد الملك بن مروان باتخاذ دور رسمية لسك النقود، وسمج للتجار أن يضربوا فيها العملة لحسابهم وفقالمعايير المعتمدة، في مقابل رسوم حددت بواحد في المائة.
كذلك ازدهرت الحياة المدينية _على حساب الريف _ فغصت المدن شرقاً وغربا بالسكان، وأنشئت مدن جديدة في كافةربوع الامبراطورية، ما بين 'المحفوظة' في الهند والقيروان في المغرب. وفضلا عن ذلك أسست دور للصناعة لتفي بلوازم العسكر من السلاح والمؤن والعتاد، بما يخدم حركة الفتوحالهائلة شرقا وغربا. كما استوردت السلع الكمالية كالرقيق والمنسوجات الفاخرة وكافة وسائل الترفيه والترف، بفضل التجار الأجانب الذين عرفوا باسم 'الرهدانية'. وبديهي أنتشكل هذه القطاعات في تلك المدن نواة الطبقة البورجوازية التي زادت فعاليتها على مستوى الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري.
ورغم ذلك أنجزت البورجوازية نتائج ذاتأهمية، وبالذات على الصعيد الاجتماعي. فقد امتزجت الدماء بين العرب والموالي، مما خفف من غلواء النعرات العصبية والنزعات العنصرية. كما ظهرت أجيال جديدة من 'المولدين' لاتحفل في قليل أو كثير بانتماءاتها السلالية بقدر ارتباطها بالأوضاع الطبقية المستحدثة.
ومن مظاهر 'كساح' البورجوازية الناشئة ايضا؛ ارتباط النشاط التجاري بالدولةالتي تحكمت في هذا النشاط بما يخدم أهدافها ومتطلباتها. فمن ناحية أسفر إشرافها على النظام النقدي، وتحكمها في أسعار العملة، عن عوائق حالت دون تنامي النشاط التجاري. إذاقتصر في المحل الأول على المتاجرة في الكماليات التي تستهلكها الطبقات المترفة، بحيث ظلت الأسواق الداخلية خلوا من نشاط جاد للبورجوازية، وجرى التعامل فيها على أساسأسلوب 'المقايضة' الإقطاعي.
وأخيراً فإن بعض كتاب الدواوين استغلوا مناصبهم في مشاركة التجار نشاطهم بشكل مستتر، وشكلوا شريحة 'طفيلية' من شرائح البورجوازية، وفي نفسالوقت استثمر بعض كبار التجار أموالهم في اقتناء الضياع، فجمعوا بين التجارة وحيازة الأرض؛ الأمر الذي يمكن معه القول بأن البورجوازية _آنذاك _ كانت طبقة 'هجينية'.
منأهم التفسيرات المتواترة لأحداث الحقبة الأموية، تناولها من خلال الصراع بين العرب، قيسية ويمنية. وإذا كان العنصر العربي هو الذي ساد الحياة السياسية حقا إبان تلكالحقبة، فإن الامبراطورية الواسعة ضمت شعوبا أخرى من غير العرب، قامت بالدور الأساسي على الصعيد الإداري والاقتصادي والثقافي. بل تراوحت مواقف العنصر العربي نفسه منالدولة تأييدا أو معارضة لا بفعل السخائم القبلية وإنما تحت تأثير العامل الاقتصادي. وعلى سبيل المثال نذكر أن الأمويين الأوائل كسبوا تأييد اليمنية نظرا لاختصاصهمبالاقطاعت من دون القيسية، الأمر الذي فجر عصيان الأخيرين، ذلك العصيان الذي انتهى حين عاملهم عبد الملك ابن مروان بالمثل.
المصدر : سوسيولوجياالفكر الاسلامي