أدموند بيرك / ترجمة محروس سليمان
مجتمعات إسلامية في مرحلة تحول الهند وفلسطين ومصر ونيجيريا مع أواخرالقرن التاسع عشر وأوائل العشرين تدعمت النظم الأمبريالية الأجنبية في كثير من المناطق الإسلامية، كما تغلبت الحكومات المركزية القوية على استقلال الجماعات الصغيرة.وكثيرا ما كانت تقمع الأشكال التقليدية في المنظمة الدينية الإسلامية. وصحب انهيار النظام السياسي القديم تحول اقتصادي شامل وتمزُق الجماعات الصغيرة والهجرة إلى المدنونمو طبقات اجتماعية جديدة. ويتميز العهد الجديد بمحاولات لتحديد طرق جديدة في العمل السياسي وأشكال جديدة من العقيدة الإسلامية ومن ثم فإن الفصول التي تعالج قضاياالهند. وفلسطين ومصر نيجيريا وإيران تدرس دور المفاهيم والرموز والسلطة الإسلامية والمرجع عند إعادة تنظيم الجماعات الإسلامية التي تمر بأوضاع غير مسبوقة.
وتثيرحالة الهند البحث عن الهوية السياسية. وكانت إمبراطورية المُغُل تحتوي قبل استقرار الحكم البريطاني على شعب هندي غير متجانس. وكانت الإمبراطورية مسلمة رسميا، غير أنالنخبة المسيطرة كانت تحتوي على ارستقراطية هندوسية، كما كانت تشجع أسلوباً ثقافيا توفيقيا اعتمد على بعض الرموز الهندية. ولم يكن للرعايا المسلمين من الشعب سيطرة أوهوية هندية، بل كانوا ينقسمون إلى جماعات صغيرة عديدة تلتف حول أنسابها وإثنياتها أو طوائفها، بالإضافة إلى الطرق الصوفية والأشكال الأخرى من التنظيم الديني. إن انحلالإمبراطورية المُغُل مزّق تماما النظام القديم في المجتمع، وفتح الطريق أمام صراع دام طوال قرن من الزمن من أجل تحديد أشكال جديدة من التنظيم السياسي الإسلامي. وكانتتوجد قوتان رئيسيتان في مقدمة هذه القوى المتصارعة بين المسلمين. إحداهما قوة العلماء المصلحين وتمثلهم حركة 'الفرائضي' في البنغال، ونضال 'سيد أحمد' وكلية ديوبند كوليجDeoband College وهي القوة التي كانت تذهب إلى تحديد ممارسة إسلامية معتمدة وقمع طوائف المسلمين من الهنود المحليين، من أجل خلق شكل جديد من الهوية الإسلامية العامة في شبهالقارة الهندية. وكان هؤلاء المصلحون يشجبون تأليه الأولياء وكذلك الممارسات الطائفية والطقوس المحلية، كما كانوا يدعون إلى شكل أصولي متشدد من الإسلام مسترشدينبتعاليم القرآن وسنة النبي وكانت حركة الإصلاح تنتظم بواسطة الكليات والمدارس وأحيانا بواسطة الوعظ المباشر والعمل بين الجماعة.
وفي مطلع القرن العشرين اتخذ البديلالأساسي شكله من رحم الأرستقراطية السياسية من المُغُل ومن أحفادها وذلك عند ظهور المهنى المثقف ثقافة غربية، كالمحامي والصحفي وكذلك النخبة التي كانت تنزع نحوالعلمانية، والتي ترغب أيضا في خلق هوية إسلامية هندية خالصة وكانت هذه النخبة باعثا على ظهور الجامعة الإسلامية عام 1906. وأدت خيبة أمل المسلمين اللاحقة في السياسةالبريطانية إلى ظهور وعي إسلامي سياسي جديد. وعاون الصحفيون المسلمون بعد عام 1912 في تشكيل هوية إسلامية ذات عمق وجداني وأكثر شعبية ونضالية. وكان هناك جيل جديد في طريقهإلى السلطة على أساس مفهوم وطني لا المفهوم الديني للجماعة الإسلامية في الهند، وكان هذا الجيل يؤكد على سمة الجماعية السياسية للولاءات الإسلامية، وليس على الأحاسيسالفردية الدينية عند المسلمين المؤمنين. وفي عام 1940 وضع قسم مهم من هذه النخبة نفسه تحت إمرة باكستان باعتبارها دولة جديدة للشعب المسلم.
وكانت الخطوة الأولى نحوتكوين هوية إسلامية شديدة التمسك بالقديم هي عملية الإثارة التي صاحبت التخريب الجزئي الذي أصاب مسجد 'كانبور' عام 1913. وأوضحت فريتاج أن تهديد المسجد تسبب في القيامبأعمال إسلامية ترمز إلى الحداد والاستشهاد والدفاع عن الإسلام، مما قدم للمسلمين قضية مشتركة ويسر لهم القيام باحتجاج عام غير مسبوق. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الوعيالكبير عند جماعة المسلمين بعد عام 1913 لم يكن من المستطاع التعبير عنه في شكل التحام تنظيمي. كما أن الحركات الإسلامية فيما بين عامي 1913، 1931، مثل 'التنظيم' (حركة تبشيرية)والوعظ الديني والمواكب عززت الوعي الجمعي بالذات ولكن لم يستطع هذا الوعي أن يتغلب على الانقسامات الطائفية والطبقية. ومن ثم فإن الاضطرابات السياسية عام 1931 أدت مرةأخرى إلى أعمال الشغب.
وعلى النقيض من 'كانبور' لم يكن لجماعة المسلمين في 'بمباي' أساس تاريخ ثقافي للوحدة الإسلامية. كما اتسمت المدينة بتنوعها اللغوي والإثنيالشديد، حيث الجماعات المتعصبة إلى حد كبير والتي كانت تنافس بأعمالها مسيرات الحداد في أول المحرم في ذكرى استشهاد الحسين، وحيث أعمال الشغب المحلية المتكررة. وعاونت أحداث الشغب عام 1929 على بلورة أول إحساس بهوية المدينة، وبهوية إسلامية هندية عامة في بمباي. وقد نجمت أعمال الشغب هذه عن محاولات تنظيم الجماهير من عمال المصانعالهنود في النقابات العمالية، بينما أخذ أتباع باثان Pathan (أفغاني مقيم بالهند) على عاتقهم تخريب الإضرابات. وفي ظل سخونة هذا الصراع، فإن المنازعات العمالية والقضاياالطبقية كانت تترجم في عقل المسلمين إلى صراع هندوسي إسلامي.
ونقلت وسائل الاتصال الحديثة إلى بمباي الحساسية نحو الرموز الإسلامية، والتي كانت تنمو في كل مكان،وسمحت هذه الوسائل لأتباع باثان أن يحددوا مشكلتهم في الحاجة إلى تنظيم إسلامي سياسي وإلى حماية الدولة. كما أن الحاجة إلى بنية عامة للجماعات الإسلامية المتجزئة أدتإلى ارتباط الرموز الإسلامية في شبه القارة الهندية الواسعة.
وبينما كانت جماعة المسلمين في لاهور من الفقراء ومن الطبقة العاملة، إلا أنه كان يقودها عائلات من ملاكالأرض المحليين وزعماء الحي. وبينما كان المهنيون المتعلمون تعليما إنجليزيا مثل المحامين والصحفيين يعملون على تحديد جماعة تتيح للمسلمين أن يتنافسوا من أجل السلطةداخل إطار النظام البريطاني، كان العلماء الذين يركزون على التعليم الديني للأفراد المؤمنين يحاولون تحديد الجماعة الإسلامية باعتبارها هيكلا دينيا يتمتع بالحكمالذاتي وتعمل في ظل قانون إسلامي وتحت قيادة دينية إسلامية. ومن ثم كانت لاهور مقسمة بين العلماء والمهنيين والمرابين والأعيان التقليديين من ملاك الأرض.
لقد كانتجاوز انقسام القيادات في لاهور يشكل مثالا للجماعة المسلمة، وكان التعبير الرمزي عن ذلك هو القرآن والمسجد. لقد علمهم محمد إقبال أن أمة الإسلام تشكلت ببساطة بوفاءالمسلمين لرموز الإسلام.
أما الحالة الفلسطينية التي درسها سويد نبرج فإنها نموذج آخر لمجتمع يتولد عن حاجته الجديدة إلى تنظيم سياسي يحمل علاقات مضطربة مع الرموزذات المغزى. ويوضح سويد نبرج كيف اتخذ مجتمع الفلاحين الفلسطينيين في القرن التاسع عشر شكل الوحدات العشائرية أو الأفخاذ من قبيلة قيس اليمنية. وكما هو الحال في الجزائروالسودان فإن الإحساس الديني ساعد على التغلب على تمزق المجتمع. فالتعبد في أضرحة الأولياء، ومولد النبي موسى، والاحتفال بالمواسم النبوية، إن كل هذه الأمور جذبتالحجاج من العديد من القرى والمدن. لقد عاونت الممارسات الدينية الشعبية على توحيد مجتمع مجزأ إلى حد كبير.
وقد تمزقت هذه الجماعة الشعبية وثقافتها خلال العشرينياتوالثلاثينيات من هذا القرن. وكان الاحتفال بالنبي موسى عام 1920 لا يزال فرصة باعتباره دليلا على المشاعر المعادية للصهيونية والمعادية للبريطانية وعلى المشاعر الوديةنحو العرب، ولكن تحطمت في العقود التالية روابط السيد التابع على يد ملاك الأرض الذين باعوا أراضيهم إلى اليهود، كما تركزت سلطة الدولة تحت الانتداب البريطاني الذي غيرأحوال المعيشة، وطُرحت الأفكار الإصلاحية الإسلامية العامة والمفاهيم الوطنية، كي تتعامل مع الموقف السياسي المتغير.
وتمثل ثورة 1936 _ 1939 حركة فلاحية حقيقية توحيبالخاصية الانتقالية للهوية الفلسطينية وللتنظيم السياسي: فكانت حركة المقاومة الفلسطينية تعبأ بشكل جزئي عن طريق الأفكار العشائرية القديمة والأفكار الحزبية وأيضابواسطة المصلحين الإسلاميين، كما في حالة الشيخ القسام وجمعية الشبان المسلمين. وكان القسام يعمل 'مأذونا' شرعيا، كما كان قائدا مُنظما للعمل الفلاحي، وعاملا رئيسيا فيانفجار المقاومة العربية أما الجيل الأصغر من المثقفين (الأنتلجنسيا) والذي يمثله حزب الاستقلال وآخرون، فكان يعمل في نفس الوقت على صياغة القضية الفلسطينية بمعاييروطنية عربية. إن عوائق المحافظة على حركة فلسطينية منظمة لا ترجع فقط إلى قوة المعارضة اليهودية والبريطانية، بل أيضا إلى الصعوبة الملازمة لاكتشاف رموز التوحيدالدينية الإسلامية أو الوطنية، في مجتمع لا يزال غير كامل الاندماج وذي قيادة سياسية متعددة. وبدون الرموز التي تفرض نفسها أو الكوادر التي تقوم بدور توحيدي فمن المحتمعلى الحركة الفلسطينية أن تكون متفرقة.
أما في مصر فقد أثار النفوذ المتزايد للشيوعيين رد فعل بين الإخوان المسلمين النشطين لفترة طويلة في المعونة المتبادلةوالأنشطة النقابية الأخرى. ولا يعتقد الإخوان المسلمون في الصراع الطبقي، ولكنهم يعتقدون في 'مجتمع الاعتماد العضوي المتبادل'. وبالرغم من أنهم كانوا يشجبون استغلالالعمال، إلا أنهم كانوا يؤكدون على المسئولية الاجتماعية والحاجة إلى الملاك والحكومة لتوفير العمالة وبناء مجتمع إسلامي عادل متحرر من القيم المادية. وكانت النقابةتحت قيادتهم تدافع عن مبدأ الأجر المتساوي للعمال المهرة. وكان الإخوان المسلمون في الممارسة ينسحبون من الإضرابات ومن العمل النضالي، بل إنهم عاونوا على تخريب إضراب1946. كما حملوا على الشيوعية باعتبارها متعارضة مع الإسلام، وانفصلوا عن الحركة اليسارية. وبدأوا حملتهم من أجل القيادة في الحركة النقابية مستفيدين من حل النقابات التيكانت تعمل بقيادة شيوعية.
ومهما يكن من أمر، ورغم فترة نمو نفوذ الإخوان المسلمين، فإنهم لم يلتزموا بشكل اساسي بمصالح العمال الخاصة، لكنهم التزموا ببرنامج عريضمعاد للشيوعية والاستعمار ويتضمن أهدافا وطنية سياسية، كما التزموا قبل كل شيء برؤية إسلامية أخلاقية. إن الإخوان المسلمين كانوا يتوقون إلى نشر الإسلام أكثر من رغبتهمفي تأسيس النقابات. وطبقا لبنين، 'إن الإغراء المعنوي لم يتطور بشكل ثابت نحو برنامج واقعي للعمل السياسي للطبقة 'العاملة' وفشل الإخوان المسلمون في النهاية في تنظيمالمصانع لأن رؤيتهم حول التضامن الإسلامي لم تكن تتلاءم مع حقائق الصراع الطبقي. إن انفصال الأيديولوجية الإسلامية عن الواقع جعلها غير ملائمة أو أيديولوجية غير مجديةمع العمل النقابي للطبقة العاملة.
ويوحي تحليل لوبيك لأوضاع العمال والأحزاب السياسية في 'كانو' في 'نيجيريا' بمحيط آخر للعمال المسلمين، حيث الاتجاه نحو تحديد مصالحالعمال والفلاحين يتم من خلال مفردات الجماعة، لا من خلال مفردات الطبقة. ونكتشف هنا أيضا أن الوعي الطبقي مندرج في إطار الوعي الوطني.
وفي الوقت الذي كانت فريتاجوبينين يريان أن القيم الإسلامية التي تعبر عنها الحركات المحلية المهمة تتعارض مع الحقائق السياسية والاجتماعية، فإن لوبيك وجولد برج يريان أن هذه القيم متضمنة فيالمصلحة الطبقية ومنقولة بواسطتها. ويرى لوبيك أن 'إنكار وجود الطبقات هو المرآة التي تدرك من خلالها الثقافة الإسلامية' ويقوم علماء الدين الريفيون الأدنى طبقياوالعمال بتفسير انتقائي للأيديولوجية الإسلامية.
ومهما يكن، فإن اللافت للنظر بخصوص الوضع في نيجيريا هو كيف تبنى الاثنان، النخبة والطبقات المقهورة نفس الرموزوالمفاهيم، وإن يكن بتأكيدات مختلفة. وهم يؤكدون على الجماعة ككل بينما يحاولون في نفس الوقت أن يميزوا بين المصالح داخل هذه الجماعة. ويوجد سببان رئيسيان لهذا الاتجاهالقوي لاستيعاب الأفكار الإسلامية داخل الحركة العمالية النيجيرية. أولهما التوحد المتزايد لكل طبقات المجتمع في كانوا مع الإسلام في مواجهة الحكم البريطانيالاستعماري. والسبب الآخر هو حقيقة مفادها أن الطبقة العاملة تشكلت أساسا من الفلاحين المتنقلين ومن الطلبة الريفيين الذين يدرسون القرآن ويأتون في فصل الجفاف إلىالمدن للعمل في المصانع أو للقيام ببعض الأعمال الوضيعة. ويشير لوبيك إلى أن حوالي 14% من العمال هم في الأصل من طلبة الدراسات الإسلامية.
وكثيرون آخرون من علماء الدينيُستخدمون كخياطين في المصانع. ويشكل علماء الدين الإسلامي قيادات مهمة في النقابات؛ والعمال الذين تعلموا تعليماً إسلاميا هم أكثر الأعضاء نضالية. ينظر هؤلاء العمالإلى النظام الصناعي باعتباره تعبيرا عن الهيمنة الرأسمالية الأجنبية. وكما هو الحال في مصر، فإن مصلحتهم الطبقية تعبر عن نفسها من خلال مفهوم ديني ووطني عن التضامن.
المصدر : الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية