محمد وانطلاقة الاسلام
ميريسيا إلياد الله، إله أعلى للعرب:
إن محمداً هو الوحيد من بين كل مؤسسي الأديان العالمية الذيتعرف سيرته الذاتية في خطوطها الكبرى. وهذا لا يعني معرفة سيرته الداخلية. مع ذلك، فإن المعلومات التاريخية التي بحوزتنا حول حياته والتجارب الدينية التي هيأت وقررتإلهامه النبوي، على الحضارة العربية من جهة، وعلى البنى الاجتماعية لمكة من جهة أخرى، هي معلومات قيمة لدرجة عالية. إنها لا تفسر أبداً شخصية محمد ولا نجاح نبؤته، ولكنهاتسمح لنا بالتأكيد على إبداعية الرسول. ان من المهم الحصول، ، أقله بالنسبة لأحد مؤسسي الأديان العالمية، على توثيق تاريخي غني، ليعرف بشكل أفضل القوة لعبقرية دينية،وبعبارة أخرى، يؤخذ بعين الاعتبار إلى أية درجة تستطيع عبقرية دينية استعمال الظروف التاريخية من أجل انجاح رسالتها، وباختصار، من أجل تغيير جذري لمجرى التاريخ ذاته. لقد ولد محمد في مكة ما بين 567 و 572، وكان ينتمي إلى القبيلة القوية قريش، بقي يتيماً في سن السادسة، وتولى جده لأبيه بدئياً تربيته. وبعدئذ تولاها عمه أبو طالب وفي سن الـ25 دخل في خدمة أرملة غنية ـ خديجة. وأجرى عدة سفرات مع القوافل في سورية. وبعد وقت قصير حوالي 595 تزوج معلمته، رغم فارق السن (خديجة كانت في سن الأربعين). وقد كان الزواجسعيداً، وان محمد الذي سيتزوج تسع نساء بعد موت خديجة، لم يتخذ زوجة أثناء حياتها. وقد كان له سبعة أولاد، ثلاث أولاد ماتوا في سن مبكرة، وأربعة بنات (الشابة الأكثرفاطمة، ستتزوج علياً، ابن عم محمد). إن مكانة خديجة في حياة محمد ليست مهملة: انها هي التي شجعته أثناء محن (وحيه الديني). لم تكن حياة محمد معروفة بشكل جيد قبل الكشوفاتالأولى حوالي 610. وحسب التقليد، سبق هذه الكشوفات فترات من التحنث في مغاور وأماكن أخرى منعزلة، وممارسة غريبة عن الاعتقاد بالألوهية المتعددة لدى العرب. ومن الراجح جداً.أن محمداً كان متأثراً جداً بالمتيقظين، وبالصلوات والتأملات لبعض الرهبان المسيحيين الذين كان صادفهم، أو الذين سمع كلامهم في أسفاره. وقد كان أحد أبناء عم خديجةمسيحياً. إضافة إلى ذلك فإن بعض اصداء النبؤة المسيحية، أرثودكسية أو مذهبية (نسطورية، غنوصية)، كما هو الأمر بالنسبة للأفكار والممارسات العبرية، كانت معروف في المدنالعربية. إلا أنه لم يكن يوجد سوى القليل جداً من المسيحيين في مكة، وأغلبيتهم في شرط متواضع جداً (على الأرجح عبيد، أو احباش) وغير متعلمين بما فيه الكفاية.. أما اليهودفقد كانوا يتواجدون ضمن كتلة، في يثرب (المدينة مستقبلاً).
مع ذلك، لا يبدو، في عصر محمد، ان ديانة العرب المركزية تغيرت بتأثيرات يهودية ـ مسيحية. وبالرغم من انحدارهذه الديانة ظلت تحافظ على بنيتها التعددية للألوهية السامية. وقد كان المركز الديني، مكة، واسمها مذكور في المدونة البطلومية (القرن 11ق.م)، ماكورابا، وهو لفظ مشتق منماكورابا السبئي بمعنى (معبد). وبعبارة أخرى، ان مكة كانت في الأصل مركزاً احتفالياً، نمت المدينة حوله تباعاً. وفي وسط المنطقة المخصصة، الحمى، كان يوجد معبد الكعبة(لغويا ـ مكعب)، بناء في العراء، ومركب في إحدى زواياه الحجر الأسود الشهير، المعتبر وكأنه من أصل سماوي. وقد كان الطواف حول الحجر يشكل في العصور الماقبل الاسلام، تماماًكما هو الأمر اليوم، شعيرة هامة في الحج سنوياً إلى عرفات الكائنة على مسافة بضعة كيلومترات من مكة. وكان رب الكعبة معتبراً انه الله (ذات الاسم مستعمل من قبل اليهودوالمسيحيين العرب لدلالة على الاله). غير ان الإله منذ زمن سابق أصبح الهاً متصاعداً، ردت عبادته إلى بعض التقدمات والأضحيات من البواكير التي كانت تقدم إليه مشاركة معمختلف الآلهة المحلية. وأكثر أهمية لدرجة بعيدة، كانت الربات الثلاثة لشبه الجزيرة العربية المركزية: مناة (القدر) واللات مؤنث الاله، والعزى (القوية). وباعتبارهن (بناتالله) كن يتمتعن بشعبية.
إن الموحدين الوحيدين بين المعاصرين لمحمد كانوا بعض الشعراء والرائيين المعروفين تحت اسم (الحنيفيين)، وكان بعضهم متأثراً بالمسيحية، ولكنالأخروية الخاصة بالمسيحية (وفيما بعد الاسلام) كانت غريبة عندهم، كما يبدو إنها كانت غريبة عن العرب بصورة عامة.
إن البعثة النبوية لمحمد قد انطلقت بعد عدد منالتجارب الوجدية التي تشكل نوعاً ما المقدمة للكشف. وفي السورة ]53 ـ 1 ـ 8[ اشارة إلى أول الكشوفات، (علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكانقاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى).
ورآه محمدمرة ثانية بالقرب من شجرة عناب (ولقد رآه. نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. ولقد رأى من آيات ربهالكبرى) ]5 ـ 8 و 13 ـ 18[ اشارة إلى أول الكشوفات، (علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى).
ورآهمحمد مرة ثانية بالقرب من شجرة عناب (ولقد رآه. نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. ولقد رأى من آيات ربه الكبرى) ]5 ـ 8 و 13 ـ 18[ وفي السورة (81: 22 ـ 23) يعود محمد إلىهذه الرؤية (وما صاحبكم بمجنون ـ ولقد رآه بالأفق المبين). وينتج من هذا أن الرؤى ترافقت بكشوفات سمعية وحيدة اعتبرها القرآن كأنها من أصل الهي. وقد سجلت التجارب الصوفيةالتي قررت مجرى حياته في السيرة المنقولة من قبل ابن إسحاق (سنة 768). وفي الحين الذي كان محمد ينام فيه في الغار حيث أكمل اعتزاله السنوي، أتى إليه الملاك جبريل ممسكاً بيدهكتاباً وطلب إليه أن يقرأ (اقرأ). وبما ان محمد قد رفض أن يقرأ ضغط الملاك (الكتاب على فمه وأنفه) بقوة كادت أن تختفه، وعندما كرر عليه في رابع مرة (اقرأ) سأله محمد: (ماذا يجبأن أقرأ؟) عندئذ أجاب الملاك: (اقرأ (بمعنى بشّر) باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) ]96: 1 ـ 5[، فقرأ محمد،وابتعد عنه الملاك (لقد تيقظت، وكان هذا، كما لو كنت كتبت بعض الشيء في قلبي). وترك محمد الغار وما كاد يصل إلى وسط الجبل. حتى سمع صوتاً سماوياً يقول له: (يا محمد، أنت رسولالله وأنا جبرائيل) فرفعت رأسي نحو السماء لأنظر، وها هو جبرائيل كان على شكل رجل جالس في الأفق، وجنباه متشابكان). وكرر عليه الملاك الكلمات نفسها، ونظر إليه محمد دون أنيتمكن من التقدم أو التراجع (ولم استطع تحديد منطقة من السماء دون رؤيته).
إن رسمية هذه التجارب، تبدو مؤكدة. وان المقاومة الأساسية لمحمد تعيد إلى الذاكرة ترددالشامانيين والعديد من الصوفيين والأنبياء في تقبل الارشاد الرباني لهم. ومن الراجح أن القرآن لا يذكر الرؤية ذات العلاقة بالمنام في الغار ليتجنب الاتهام بأن النبيمأخوذ بالجن. ولكن اشارات أخرى من القرآن تؤكد حقيقة الالهام. وكان املاء الوحي غالباً ما يترافق باختلاجات عنيفة وبضغوط حمى أو برداء.
محمد رسول الله:
خلال مايقرب من ثلاث سنوات، أوصل رسالاته الالهية الأولى فقط لزوجته خديجة ولبعض أصدقائه الخلص (ابن عمه علي، وابنه بالتبني زيد والخليفتين مستقبلاً أبو بكر وعثمان). وبعد بعضالوقت لم ينقطع الوحي من الملاك وتجاوز محمد فترة الضيق وتثبيط الهمة، وأعادت رسالة الهية جديدة تشديد عزيمته (ما ودعك ربك ولا قلى ]...[ وسيعطيك ربك فترضى) ]93: 3 ـ 5[ .. وبناء على رؤيا عام 612 أمره باعلان الوحي، وبدأ محمد رسالته، ومنذ البدء، أكد على قوة ورحمة الله الذي كون الانسان (من علقة دم) ]96: 1 ـ 8 ـ 17 ـ 22 ـ 87[ وعلمه القرآن وعلمهالبيان ]55: 1 ـ 4[ وخلق السماء والجبال والأرض والجمال ]88: 17 ـ 20[ . ويذكر عطف الخالق (بالاشارة إلى حياته الخاصة): (ألم يجدك يتيماً فآوى) ]93: 3 ـ 80[، ويقارن الصفة الآنية لكل وجودبأزلية الخالق: (كل من عليها فان ويبق وجه ربك ذي الجلال والإكرام). مع ذلك يبدو مدهشاً ان محمد في إعلاناته الأولى لم يذكر وحدانية الله، ما عدا استثناء واحد (لا تضعوا معالله آلهة أخرى) ]51 ـ 51[، وعلى الأرجح يتعلق بتغيير متأخر. وثمة نغمة أخرى من النبوءة هي اقتراب الدينونة وبعث الأموات. (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير، علىالكافرين غير يسير). وهنالك تذكير واشارات في أقدم السور، ولكن أكثرها اكتمالاً يوجد في بداية سورة متأخرة: (إذا السماء انشقت ]...[ . إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرضأثقالها ( = أجساد الموتى) ]99 ـ 2[ وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت، يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه. فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً]...[ فأما من أوتي كتابه من وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً، ويصلى سعيراً ]84: 1 ـ 12[. وفي العديد من السور المملاة فيما بعد طور محمد الأوصاف الرؤية: ستغير الجبال مكانها، وستذوبجميعاً وتصبح رماداً وهباء وستنفجر القبة السماوية، وسيطفأ القمر وتخمد النجوم. ويتكلم النبي كذلك عن حريق كوني (كوزمي) وعن قذائف من نار ونحاس مذاب مطلقة على البشر (يرسلعليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) ]55: 35[. وفي النفخة الثانية في الصور سيبعث الأموات ويخرجون من قبورهم. وستكون القيامة برمشة عين. ووراء السماء المدمرة سيظهر عرشالله، مسنداً بثمانية ملائكة ومحاط بقطعان سماوية، وسيحشر الناس أمام العرش، الصالحون على اليمين والكافرون على الشمال. عندئذ تبدأ المحاكم على أساس العلاقات المدونةفي كتاب أعمال البشر (اللوح المحفوظ). وسيدعى أنبياء الماضي ليشهدون بأنهم بلغوا الوحدانية وانهم انذروا معاصريهم. والكافرون سيدانون بعذب الجحيم. مع ذلك فإن محمداً يؤكددوماً على المسرات التي تنتظر المؤمنين في الجنة، انها بخاصة من نوع مادي: أنهار عذبة، أشجار مثقلة الغصون بالثمار، لحوم من كل نوع، فتيان ولدان (كأنهم لؤلؤ مكنون) يقدمونشراباً لذيذاً، حوريات، طاهرات، أبكار، مخلوقات بصورة خاصة من قبل الله ]56: 26 ـ 43[. لا يتكلم محمد عن (الأرواح) التي تتألم في الجحيم أو تتنعم في الجنة. وبعث الأجساد هو فيالواقع خلق جديد. وبما ان الفترة بين الموت والدينونة تشكل حالة من اللاوعي فإن البعث سيكون له انطباع بأن المحاكمة ستكون مباشرة بعد الموت.
وبالنسبة لطغمة قريشالغنية، فإن الاعتراف بمحمد انه الرسول الحقيقي لله كان يقتضي كذلك الاعتراف بسيادة سياسية، وأكثر فداحة أيضاً: إن الوحي المعلن من قبل النبي، كان يدين أجدادهم المشركينفي جهنم الدائمة، وهو أمر غير ممكن القبول بالنسبة لجماعة تقليدية. وبالنسبة لقسم كبير من السكان، كانت المعارضة الأساسية (التواضع الوجودي) لمحمد (ما هذا النبي: يأكلالطعام ويدور في الأسواق. لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) ]25 ـ 7[. لقد سخروا من الوحي واعتبروه مخترعاً من محمد أو أنه موحى به من قبل الجن. وبصورة خاصة اعلانه نهايةالعالم وقيامة الأجساد، أثارت السخرية من جهة أخرى، فقد مضى الزمن والكارثة الأخروية تأخرت عن المجيء.
وقد لاموه أيضاً لعدم وجود معجزات (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجرلنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت منزخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه. قال سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) ]15/ 5 ـ 93[.
السفر الوجدي للسماء والكتاب المقدس:
بإيجاز،طلب إلى محمد البرهان على رسمية وحيه النبوي بأن يصعد إلى السماء حاملاً كتاباً مقدساً. وبعبارة أخرى كان من المتوجب على محمد التوافق مع النموذج المشهر من قبل موسى،دانيال، هينوش، ماني والرسل الآخرين الذين بصعودهم إلى السماء التقوا مع الرب وتلقوا من يده الخاصة الكتاب المتضمن الوحي الإلهي، وقد كان هذا السيناريو مألوفاً أيضاًتماماً لدى اليهودية المعيارية والرؤية اليهودية بأكثر مما لدى السامارتيين، وفي الغنوصيات والماندييات ويرجع أصله إلى الملك الأسطوري في ما بين النهرين ايماندوراكي،وهو متضامن مع الايديولوجيا الملكية. وقد تطورت تبرئات الرسول وردوده على المطاعن بمقدار وتبعاً لما يثيره الكافرون من اتهامات. وكالعديد من الأنبياء والرسلالآخرين قبله، وكبعض أنداده اعتبر محمد وأعلن نفسه الرسول ( = المبعوث) من الله 19: الذي حمل إلى مواطنيه وحياً الهياً. فالقرآن هو (تنزيل رب العالمين) ]36: 193[ (بلسان عربيمبين). فهو إذن معقول تماماً إلى سكان مكة، فإذا استمروا في كفرهم، فذلك لعماهم أمام الآيات السماوية ]23: 68[، وبتكبرهم وطيشهم ]17: 14، 33: 168[. ومن جهة أخرى، فإن محمداً يعلمجيداً إن محناً م ماثلة قد تحملها الرسل المبعوثون قبله من الله: إبراهيم، موسى نوح، داود يوحنا، يسوع. ]21: 66[.
إن الصعود للسماء ـ المعراج ـ هو أيضاً رد على الكافرين.(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا من حوله لنريه من آياتنا) ]17ـ 1[. إن السنة تحدد السفرة الليلية حوالي سنة 617 أو 619، ممتطياًالفرس المجنح البراق، زار محمد أورشليم الأرضية ووصل حتى السماء. وقد وثقت تفاصيل هذه الرحلة الوجدية على شكل موسع في النصوص المتأخرة. ويختلف السيناريو في رواياته. فحسبرواية بعضهم، إن الرسول، على فرسه المجنح. تأمل الجحيم والجنة، وقرب من عرش الله. وإن الرحلة لم تدم سوى لحظة: فالجرة التي قلبها محم6 عند سفره لم تفرغ بعد محتواها عندماعاد لمنزله. وحسب رواية أخرى يبرز على مسرح الحدث السلم الذي تسلقه محمد حتى أبواب السماوات يقوده جبرائيل. ولقد وصل إلى أمام الله وتلقى من فمه ذاته أنه اختير قبل كلالأنبياء الآخرين وانه هو (محمد حبيبه) وقد أسر الله إليه بالقرآن وبعض العلم الباطني الذي يجب على محمد أن لا يعلم به المؤمنين.
إن هذه السفرة الوجدية ستلعب دوراًمركزياً في التصوف واللاهوت الاسلاميين فيما بعد، وانها تبرز خطاً مميزاً لعبقرية محمد والاسلام، وهذا الخط يظهر في الارادة بتمثل وادخال تركيب ديني جديد لممارسات.وأفكار وسيناريوهات أسطورية ـ طقوسية تقليدية.
الهجرة للمدينة:
أخذ وضع محمد والمؤمنين معه يتفاقم باستمرار. وقرر أعيان مكة تجريدهم من حقوقهم القبلية. وفيالواقع، كانت الحماية الوحيدة للعربي انتماؤه إلى قبيلة. ومع ذلك فقد دافع عمه أبو طالب عنه مع انه لم يعتنق الاسلام أبداً. وبعد وفاة أبو طالب، نجح أخوه أبو لهب في تجريدالرسول من حقوقه. وكانت المسألة المطروحة بهذه المقاومة الأكثر عنفاً من قبل القريشيين قد حلت على المستوى اللاهوتي: ان الله ذاته هو الذي أراده. والارتباط الأعمى بتعددالآلهة (الشرك) كان مقرراً، بكل أزليته، من قبل الله ]16: 39: 10: 75: 6: 39[. (والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم). والقطيعة معالكافرين كانت محتومة (لا أعبد ما تعبدون ولا تعبدون ما أعبد) ]109: 1 ـ 2[. وحوالي 615، ولكي يضعهم في ملجأ من الاضطهاد، ولأنه خشي أيضاً بعض الانشقاق. شجع محمد مجموعة من 70 ـ80 مسلماً للهجرة إلى بلد مسيحي، الحبشة، والنبي الذي كان يعتبر في البداية مبعوثاً وحيداً لهدي القرشيين، يتقرب الآن من البدو الرحل وسكان المدينتين الواحتين الطايفويثرب. ولم ينجح بالنسبة للرحل وبدو الطائف، ولكن اللقاءات مع يثرب (مستقبلاً المدينة) كانت مشجعة.
لقد اختار محمد الهجرة إلى يثرب، لأن الدين التقليدي لم يكن ممتهناًبالمصالح الاقتصادية والسياسية: وحيث كان يوجد كثير من اليهود، إذن الموحدون. وإضافة إلى ذلك، فإن هذه المدينة الواحة، كانت قد تعبت في حرب طويلة داخلية.
وقد قدر بعضالقبائل ان رسولاً بنيت سلطته على الدين وليس على القرابة الدموية، يستطيع غض النظر عن العلاقات القبلية ويقوم بدور الحكم. وكانت واحدة من القبيلتين الرئيسيتين قداعتنقت الاسلام، مؤمنة ان الله قد أرسل محمداً برسالة موجهة إلى كل العرب.
وفي 622، وبمناسبة الحج إلى مكة التقت بعثة مؤلفة من 75 رجلاً وامرأتين من يثرب الرسول سراًوتعاهدت معه بيمين رسمي للقتال في سبيله. وبدأ المؤمنون عندئذ مغادرة مكة جماعات نحو يثرب. ودام اجتياز الصحراء (أكثر من 300كم) تسعة أيام. وكان محمد آخر الذاهبين مصحوباًبحموه أبو بكر. وفي 24 أيلول وصلوا إلى قبا، مزرعة بالقرب من المدينة. لقد تمت الهجرة بنجاح. وبعد بعض من الوقت، دخل الرسول إلى المدينة تاركاً لناقته اختيار المكان المقبللمقره. والبيت، الذي كان يستخدم مكاناً لتجمع المؤمنين من أجل الصلاة جماعة، لم يجهز إلا بعد سنة، لأنه وجب أيضاً بناء الأحياء لأزواج النبي.
لقد تميز النشاط الدينيوالسياسي لمحمد في المدينة بجلاء عن نشاطه في الفترة المكية. وهذا التغيير بارز في السور المنزلة بعد الهجرة: انها تتعلق بصورة خاصة بتنظيم جماعة المؤمنين (الأمة).ومؤسساتها الاجتماعية والدينية. وإن النية اللاهوتية للاسلام قد استكملت في الفترة التي ترك فيها محمد مكة، ولكنه في المدينة أثبت قواعد العبادة (الصلوات، الصيام،الزكاة، الحج). ومنذ البدء، أثبت محمد ذكاء سياسياً خارقاً، فقد حقق دمج المسلمين الآتين من مكة (المهاجرين) مع المعتنقين للدين في المدينة (الأنصار)، وذلك بإعلانه انهرئيسهم الأوحد، وان العصبية القبلية قد ألغيت إذن. ومنذئذ لم يعد يوجد سوى جماعة المسلمين، المنظمة بصفتها جمعية ثيوقراطية. وفي الدستور المعلن، على الأرجح سنة 623 قررمحمد ان المهاجرين والأنصار (أي الأمة) يشكلان شعباً واحداً متميزاً عن الآخرين كلهم، لقد أكد مع ذلك على الحقوق والواجبات للقبائل الأخرى وأيضاً لقبائل اليهود الثلاثة.وبلا ريب، ان كل السكان في المدينة كانوا غير راضين عن مبادرات محمد، ولكن، اعتباره السياسي كان ينمو بمقدار وتبعاً لنجاحاته الحربية. غير ان الوحي الجديد الموحى إليه منقبل الملاك جبرائيل هو الذي ضمن له نجاح مقرراته.
وكان الازعاج الأكبر لمحمد في المدينة انتقاض القبائل اليهودية الثلاث. فقبل هجرته، اختار محمد القدس كقبلة للتوجهفي الصلوات، حسب الممارسة اليهودية، وما أن استقر في المدينة، حتى استعار طقوساً إسرائيلية أخرى، وتشهد السور المنزلة في السنوات الأولى من الهجرة بجهوده لأجل إقناعاليهود بالإيمان (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) ]5 ـ 21[. وقدأجاز محمد لليهود الحفاظ على تقاليدهم الطقوسية إذا اعترفوا به كنبي. ولكن اليهود بدوا دائماً الأكثر عداوة. وزعموا وجود خطأ في القرآن، مؤكدين على ان محمد لم يعرف العهدالقديم.
وتمت القطيعة في 11 شباط 624، عندما تلقى الرسول وحياً جديداً محدداً للمسلمين أن يتوجهوا، من أجل الصلاة ليس باتجاه القدس وإنما باتجاه مكة ]2: 136[. وقد أعلن محمدبحدسه العبقري ان الكعبة بنيت من قبل إبراهيم وابنه إسماعيل ]2: 127[. وان سب وجود المعبد الآن تحت رقابة عبدة الأوثان إنما هو فقط بسبب ذنوب الأجداد. ومنذئذ (للعالم العربيمعبده،وهو أكثر قدماً من معبد أورشليم. وان لهذا العالم وحدانيته الحنيفية ]...[ وبهذه الاشارة، فإن الاسلام الذي كان انحرف فترة قصيرة عن أصوله، رجع إليها أبدياً). إنالنتائج الدينية والسياسية لهذا القرار بارزة جداً: فمن جهة، ان مستقبل وحدة العرب سيكون مضموناً، ومن جهة أخرى، فإن التفكرات المتأخرة حول الكعبة ستصل إلى لاهوت المعبدتحت دلالة الأقدمين، إذن (حقائق)، توحيدية. والآن فقد انفصل محمد عن اليهودية كما انفصل عن المسيحية: هاتان (الديانتان الكتابيتان) اللتان لم تعرفا كيف تحافظان علىنقائهما الأصلي. ولأجل هذا فإن الله أرسل آخر رسول، والاسلام هو المقدر له الآن أن يخلف المسيحية كما خلفت هذه اليهودية.
من النفي إلى النصر:
من أجل البقاء، كانمحمد و (المهاجرون) مكرهين لشن غزوات ضد قوافل المكيين. وأول ظفر لهم، كان غزوة بدر، في آذار 627 ]2: 123[، وقد فقدوا 14 رجلاً، وفقد المشركون 70 قتيلاً و 40 أسيراً. وكانت الغنيمة،على جانب من الأهمية، كذلك الأمر فدية الأسرى، وقد وزعت من قبل محمد، بحصص متساوية على المحاربين. وفي السنة التالية، غلب المسلمون في أحد من قبل جيش مكي يقدر بثلاثةآلاف رجل، وقد جرح محمد نفسه. غير ان الحدث الفاصل في هذه الغزوة الدينية تمثل بالمعركة المسماة معركة (الخندق). لأنه بناء على آراء رجل فارسي، حفرت خنادق أمام طرق الدخولإلى المدينة الواحة. وحسب النصوص ان 4000 مكي حاصروا المدينة عبثاً خلال اسبوعين، ولكن أعصاراً شتتهم على غير هدى. وأثناء الحصار لاحظ محمد التصرفات المشبوهة لبعضالمسلمين المنافقين وقبيلة قريظة آخر قبيلة يهودية بقيت في المدينة. وبعد النصر، اتهم اليهود بالخيانة فأمر باستئصالهم.
وفي نيسان/ 628، أوحي إلى محمد مجدداً ]48: 27[بالثقة في ان المؤمنين يستطيعون ممارسة الحج إلى الكعبة. ورغم تردد بعضهم، فإن قافلة المؤمنين اقتربت من المدينة المقدسة. ولم ينجحوا في الدخول إلى مكة، ولكن الرسول حولهذا الفشل أو نصفه إلى نصر: فقد طلب إلى المؤمنين اليمين على الإيمان المطلق (48: 10)، وبكونه ممثلاً مباشراً لله. ولقد كان بحاجة إلى مثل هذه اليمين لأنه بعد قليل من الزمنعقد مع المكيين هدنة يمكن لها أن تبدو مهينة، ولكنها سمحت بإجراء الحج في السنة القادمة، وأكثر من هذا، أن القرشيين ضمنوا للمسلمين سلاماً، لمدة عشر سنوات.
وفي سنة623، دخل الرسول مصحوباً بألفي شخص من المؤمنين إلى المدينة المتروكة موقتاً من المشركين، واحتفل بشعائر الحج. وبدا نصر الاسلام قريباً، إضافة إلى ذلك، فإن عدداً منالقبائل البدوية وحتى ممثلي الأوليغارشية القرشية بدؤوا في اعتناق الاسلام. وفي ذات السنة أرسل محمد بعثة إلى مؤتة، على حدود الامبراطورية البيزنطية، ولم تنقص خيبةالبعثة من تقديره. وقد كانت مؤتة تدل على الاتجاه الرئيسي الذي يتوجب على الاسلام التبشير فيه، وفهم خلفاء محمد هذا جيداً.
وفي كانون ثاني 630 ومع ألف شخص (حسب السنة)وبحجة ان المكيين قد ساندوا قبيلة معادية، علق محمد الهدنة واحتل المدينة بدون مقاومة. ودمرت أصنام الكعبة، والمعبد المطهر وأزيلت كل امتيازات المشركين، وما أن أصبحمحمد سيد المدينة المقدسة حتى أظهر تسامحاً كبيراً، وباستثناء ستة من أعتى خصومه الذين أعدموا منع الثأر ضد السكان. وموجهاً بغريزته السياسية التي تدعو إلى الإعجاب، لميقم محمد عاصمة دولته التيوقراطية في مكة فعاد بعد الحج إلى المدينة.
وفي آذار ـ شباط من 632 رجع محمد إلى مكة مدفوعاً بشعور خاص، وكان هذا آخر حج له. وفي هذه المناسبةرسم بدقة كل تفاصيل شعائر الحج، التي ما زالت تتبع حتى يومنا هذا. وقد أوحى إليه الملاك بهذا الكلام: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً) ]5:3[. وحسب السنة، فإن محمد في نهاية هذا الحج بالوداع سيدعو ربه قائلاً اللهم هل بلغت: وردد الناس: (نعم لقد بلغت).
وبالعودة إلى المدينة، في الأيام الأخيرة من آيار 632، وقعمحمد مريضاً، ومات في حزيران في أحضان زوجته المفضلة عائشة.
رسالة القرآن:
إن تاريخ الأديان وتاريخ العالم لم يعرفا مثالاً يمكن مقارنته بمشروع محمد. فغزوة مكةوإقامة دولة تيوقراطية يثبتان ان العبقرية السياسية للرسول لم تكن بأقل من عبقريته الدينية صحيح ان الظروف ـ في الدرجة الأولى منها النزاعات الأوليغارشية المكية ـ كانتملائمة للرسول. ولكنها لا تفسير لا اللاهوت. ولا النبوءة، ولا نجاح محمد ولا خلود ابداعه: الاسلام والتيوقراطية المسلمة. ومن غير المشكوك فيه ان الرسول عرف مباشرة أوبصورة غير مباشرة بعض المفاهيم والممارسات الدينية لليهود والمسيحيين، ففيما يتعلق بالمسيحية كانت معلوماته، على الأكثر، تقريبية. لقد تكلم عن يسوع ومريم بلغة أكدأنهما ليسا من طبيعة الهية ]5: 16 ـ 20[ لأنهما مخلوقان ]3: 59[. وأشار في كثير من المناسبات إلى ولادة المسيح، ولمعجزاته ولرسله (مساعديه)، وخلافاً لرأي اليهود، وبالتوافق معالغنوصيين فإن محمداً أنكر الصلب وموت يسوع. مع ذلك، أنكر دوره كمخلص، ورسالة العهد الجديد والأسرار والصوفية المسيحية.
وأخيراً، وباظهار القرآن لهم، رفع مواطنيهعلى ذات صف الشعبين الآخرين (أهل الكتاب) وشرف اللغة العربية بصفتها لساناً طقوسياً والهياً، بانتظار أن تصبح لغة ثقافة مسكونية.
ومن وجهة المورفولوجيا الدينية، فإنرسالة محمد، كما صيغت في القرآن، تمثل التعبير الأكثر نقاء للتوحيد المطلق. فالله هو اله، الاله الوحيد. انه تام الحرية المطلقة، كلي العلم، وكلي القدرة، انه خالق الأرضوالسماوات، وخالق كل ما هو موجود، و(يضيف إلى الخلق ما يريد) ]35: 1[. وبفضل هذا الخلق المستمر تتلو الليالي الأيام. وينزل المطر من السماء و (الفلك تجري في البحر) ]2: 164[.وبعبارة أخرى، ان الله لا يحكم الايقاعات الكونية فحسب، وإنما أيضاً أعمال البشر. كل أفعاله مع ذلك حرة، وفي آخر المطاف تحكمية، لأنها ترتبط بقراره فقط.
والانسانضعيف، ليس على أثر الخطيئة الأصلية وإنما لكونه ليس سوى مخلوق، وعلاوة على ذلك. انه يوجد في عالم أعيدت له القداسية على أثر الوحي الموصول من قبل الله إلى آخر أنبيائه. كلتصرف ـ فيزيولوجي، نفسي، اجتماعي تاريخي ـ بالعقل البسيط الذي ينجز بفضل الله، يوجد تحت قضائه، لا شيء حر، ومستقل عن الله في العالم، ولكن الله رحيم، وان نبيه أظهر ديناًأكثر بساطة من الديانتين التوحيديتين السابقتين. والاسلام لم ينشئ كنيسة وليس عنده كهنوت، والعبادة يمكن أن تتم في أي مكان، وليس من الضروري ممارستها في معبد. والحياةالدينية منظمة بمؤسسات هي في ذات الحين معايير قانونية، وبخاصة الأركان الخمسة للإيمان. والركن الأهم هو (الصلاة)، العبادة القانونية، متضمنة (السجودات الخمس اليومية،والثاني هو الزكاة أو المساعدة القانونية، والثالث، صوم رمضان، والرابع هو الحج، والخامس يتضمن الإقرار بالإيمان، الشهادة أي ترداد الصيغة لا اله الا الله ومحمد رسولالله.
ومع التسليم بقابلية خطأ الانسان، فإن القرآن لم يشجع التنسك ولا الرهبنة. (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحبالمسرفين) ]7 ـ 30[. وعلى كل حال فإن القرآن لا يتوجه بالخطاب إلى القديسين والكاملين وإنما لكل البشر. وقد حدد محمد عدد الزوجات الشرعيات بأربعة ]4: 3[. وبدون أن يحدد عددالإماء والعبيد. أما بالنسبة للفوارق الاجتماعية فهي مقبولة ولكن كل المؤمنين متساوون في الأمة. والرق لم يلغ، مع ذلك، فإن شرط العبودية كان أفضل مما هو عليه فيالامبراطورية الرومانية.
إن (سياسة) محمد تشبه السياسة البارزة في مختلف أسفار العهد القديم. انها مستوحاة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من الله. وان التاريخ العالمي هوالظهور الغير منقطع لله حتى انتصارات المؤمنين هي من إرادة الله فالحرب الشاملة والدائمة هي إذن لا مفر منها بهدف إهداء العالم بأثره للتوحيد. وعلى كل حال، فإن الحرب هيمفضلة على الردة وعلى الفوضى.
ويجب كذلك أن يؤخذ في الحسبان السنة الشفاهية المنقولة في الحديث والتي هي أيضاً، ستضفي الشرعية لعدد من التفسيرات والتعليمات.
فيضان الاسلام في البحر المتوسط والشرق الأوسط:
تماماً كما هو الأمر بالنسبة للعبرانيين والرومان، فإن الاسلام ـ خاصة في مظهره الأول ـ رأى في الأحداث التاريخيةمشاهد لتاريخ مقدس. انها الانتصارات العسكرية الاستعراضية المتحصلة من الخلفاء الأول الذين ضمنوا بدئياً استمرارية الحياة وبالتالي الانتصار للاسلام. وفي الواقع، انموت محمد فجر أزمة كان يمكن أن تكون محتومة للديانة الجديدة. وحسب سنة توصلت لتكون مقبولة من أكثرية المسلمين، فإن محمداً لم يعين خليفة وقد اختير أبو بكر والد زوجتهالمفضلة عائشة، ليكون خليفة، حتى قبل دفن الرسول. ومن جهة أخرى كان معروفاً إيثار محمد لعلي زوج ابنته فاطمة ووالد حفيديه اللذين كانا في حياته الحسن والحسين. وظهر منالمحتمل إذن أن يكون محمد قد اختار علياً كخليفة. ولكن من أجل انقاذ وحدة الأمة، قبل علي وأنصاره اختيار أبو بكر. وكما ان هذا الأخير كان متقدماً في السن، فإن علياً لم يكنليشك أبداً في انه سيخلفه سريعاً، وما يهم هنا، كان تجنب أزمة مصيرية للاسلام. وقد كان سبق أن بدأت قبائل البدو تتحلل، مع ذلك فإن الحملات المشرعة فوراً من قبل أبي بكرنجحت في إخضاعها. وفوراً بعد ذلك. نظم الخليفة غزوات ضد سورية الإقليم الغني الخاضع للسيادة البيزنطية. ومات أبو بكر بعد سنتين في 634، ولكنه كان قد أسمى كخليفة واحداًمن قواده عمر. وتتابعت أثناء خلافة هذا الاستراتيجي الكبير انتصارات المسلمين بإيقاع مذهل. وبانتصارهم في معركة اليرموك غادر البيزنطيون سورية في 636. وسقطت انطاكية في 637وقرطاجة في 694 وقبل نهاية القرن السابع ساد الاسلام أفريقيا الشمالية، سورية فلسطين، آسيا الوسطى، ما بين النهرين والعراق، وثبتت بيزنطة وحدها ولكن رقعتها تقلصت بشكلبارز.
مع ذلك، ورغم هذه الانتصارات التي لا مثيل لها، فإن وحدة الأمة كانت موضع شك بشكل جسيم. لقد عين عمر ستة من الصحابة لانتخاب خليفة عندما جرح بجرحه القاتل من قبلعبد فارسي، وقد تجاهل هؤلاء (عليا، وشيعته واختاروا صهراً آخر للرسول عثمان (644 ـ 656). وعثمان المنتمي للقبيلة الارستقراطية الأمويين، الخصوم القدامى لمحمد وزع المهماتالأساسية في الامبراطورية على أعيان مكة. وبعد اغتياله من قبل بدو الواحات المصريين والعراقيين، أعلن علي خليفة من قبل المدينيين، وبالنسبة للشيعة الذين لم يعترفوابأية خليفة من خارج أسرة الرسول وأحفاده، كان علي الخليفة الحقيقي الأول.
ومع ذلك فإن عائشة وعدداً من رؤساء مكة اتهموا علياً بمؤامرته في اغتيال عثمان. وتقابلالحزبان في معركة سميت بمعركة الجمل لأنها دارت حول جمل عائشة. وأقام علي عاصمته في مدينة من العراق، ولكن خلافته عورضت من قبل حاكم سورية معاوية (حمو الرسول؟) وابن عمعثمان. وقد رفع جند معاوية القرآن على رؤوس رماحهم عندما عرفوا ان المعركة خاسرة بالنسبة لهم. فقبل علي تحكيم الكتاب، ولكنه، مدافع عنه بشكل سيئ، من قبل ممثله، تنازل عنحقه. على أثر هذه الاشارة من الضعف تركه بعض المقاتلين الذين عرفوا منذئذ باسم الخوارج، واغتيل علي في 661، وأعلن أشياعه الغير كثيرين، نجله البكر الحسن خليفة له. ثم انمعاوية الذي سبق اختياره خليفة من قبل السوريين في القدس نجح في إقناع الحسن بالتنازل عن الخلافة لمصلحته.
لقد كان معاوية رئيساً عسكرياً جديراً وسياسياً موهوباً،وقد أعاد تنظيم الامبراطورية وأسس الأسرة الملكية الأولى للخلفاء الأمويين (661 ـ 750). ولكن الخط الأخير لتوحيد الأمة ضاع عندما ذبح الحسين النجل الثاني لعلي في 680 فيكربلاء، في العراق مع كل أفراد أسرته تقريباً. ولم يغفر الشيعة مطلقاً لقتلة هذا الشهيد، فأثاروا خلال قرون، ثورات وعصيانات كانت تقمع بوحشية من قبل الخلفاء الحاكمين.ولم يسمح للجماعات الشيعة بالاحتفاء أثناء العشرة الأيام الأولى من شهر المحرم باقامة حفلات عامة إحياء لذكرى الموت المأساوي للإمام الحسين، إلا بدءاً من القرن العاشر.
وهكذا فإنه بعد ثلاثين سنة من موت الرسول، وجدت الأمة مقسمة وبقيت مقسمة حتى يومنا هذا ـ إلى ثلاثة أحزاب: أكثرية المؤمنين، السنيين أي أنصار السنة (التطبيق والتقليد)تحت قيادة الخليفة الحاكم، والشيعة المخلصين لنسب أول خليفة حقيقي علي والخوارج الذين اعتبروا أن الجماعة وحدها لا الحق باختيار رئيسها وعليها أيضاً الواجب بعزله إذاكان مجرماً بذنوب ثقيلة.
أما بالنسبة لتاريخ الامبراطورية المؤسسة من قبل الخلفاء الأول، فإنه يكفينا أن نذكر الأحداث الأكثر أهمية. فقد استمر التوسع العسكري حتى 715،عندما أجبر الأتراك جيشاً عربياً لترك إقليم أوكسس. وفي 717، فشلت الحملة البحرية ضد بيزنظة بخسائر باهظة. وفي 737 سحق شارل هارتل ملك فرنسا هجوم العرب قرب تور وأجبرهم علىالانسحاب من الجانب الآخر من البيرينية. تلك هي نهاية السيادة البحرية للامبراطورية العربية. وستكون الفيضانات المقبلة وغزوات الاسلام من عمل مسلمين متحدرين من أروماتاتنية أخرى.
إن الاسلام ذاته بدأ يحور بعض بنياته الأصلية. ومنذ وقت سابق كان هدف الحرب المقدسة كما عرفها محمد ـ اعتناق غير المؤمنين للاسلام ـ وكان هذا الهدف يحترمأقل فأقل. وقد فضلت الجيوش العربية اخضاع المشركين بدون أن تهديهم للإيمان، بهدف أن تستطيع فرض ضريبة عليهم أكثر ثقلاً. وما هو أكثر من ذلك، فإن المهتدين لم يكونوايتمتعون بذات الحقوق التي للمسلمين. وبدءاً من 715 فإن التوتر بين العرب ومعتنقي الاسلام الجديد أخذ يتفاقم باستمرار، فهؤلاء الأخيرون كانا على أهبة دعم كل عصيان يعدهمبالمساواة مع العرب. وبعد بضع سنوات من الفوضى والصراعات المسلحة، انهارت الأسرة الملكية الأموية، في 750، وحل محلها أسرة ملكية هامة العباسيون. وقد خرج الخليفة الجديدمنتصراً بفضل مساعدة الشيعة خاصة. ولكن وضع المخلصين لعلي لم يتغير أبداً، وقد خنق الخليفة العباسي الثاني المنصور (754 ـ 775) بالدم عصياناً شيعياً. وعلى العكس فإن الفروقبين العرب والمؤمنين الجدد أمحى نهائياً تحت حكم العباسيين.
إن الخلفاء الأربعة الأولى حافظوا على مركز الخلافة في المدينة ولكن معاوية أقام عاصمته امبراطوريته فيدمشق. ومنذئذ تنامت التأثيرات الهيلنستية والفارسية والمسيحية تباعاً أثناء حكم الأمويين. وهي تتبدى بصورة خاصة في التزيينات الدينية والدنيوية. وقد استعارت الجوامعالكبرى الأولى في سورية القبة من الكنائس المسيحية. وان القصور والفيلات والحدائق، والتزيينات الجدارية والموازييك احتذت نماذج الشرق الأدنى الهللنستية.
إنالعباسيين مددوا وطوروا هذه العملية من التمثل للتراث الثقافي الشرقي وللبحر المتوسط. وأخذ الاسلام يقيم حضارة مدينية، مؤسسة على البيروقراطية والتجارة. وأخذ الخلفاءيتراجعون عن وظيفتهم الدينية: وأصبحوا يعيشون منعزلين في قصورهم، منيطين بالعلماء اللاهوتيين وفقهاء القانون ـ العناية بمعالجة المسائل اليومية للمؤمنين.
وقداستقر المنصور وخلفاءه بكل أبهة الأباطرة الساسانيين، وقد اعتمد العباسيون بخاصة على البيروقراطية، الفارسية في أكثريتها وعلى الجيش الملكي المبني على الارستقراطيةالعسكرية الإيرانية. وان الإيرانيين وقد اعتنقوا الاسلام بالجملة رجعوا إلى النماذج ا لسياسية والادارية والسلوكية الساسانية، وان الطراز الساساني والبيزنطي قد ساد فيالهندسة.
المصدر: تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية