تحقيب التاريخ الاسلامي
عبد الله العروي من الأنساب إلى علم الوراثة
قبل أن يصنف الباحثون الأفراد حسب الفصائل فقد صنفوهم في فترة سابقة وبالطرقنفسها حسب قياسات الجماجم. الفرق إذا بين دراسات الأمس ودراسات اليوم هو إبدال خاصية ظاهرة تقاس فيزيائياً بأخرى باطنية تحلّل كيميائياً. لا مناص هنا من تقديم ملاحظةلغوية لها دلالتها. النواة الطبيعية التي تتحكم في تكوين الخاصية الدموية هي الجينة (الموّرثة) وعلى دراستها انبنى علم الوراثة أو الجينيات. بيد
أن الكلمة اليونانيةالتي اشتق منها المصطلح أعطت ومنذ زمان في العربية كلمة جنس، أساس علم الأجناس أو السلالات وهو علم توأم للتاريخ كما تشهد على ذلك كتابات هيرودوت والإخباريين المسلمين.ومن الجذر نفسه اشتق مصطلح جينالوجيا (علم الأنساب). منذ بداية الكتابة التاريخية والبحث يجري على الأصول، الأوليات، نقط الانطلاق والانتشار. وهو بحث في التغير الطارئعلى أصل ثابت، تغير في اللون أو الهيكل الجسماني، في التغذية أو العادات أو اللغة، بعبارة وجيزة تغير ناتج عن تحول في المحيط الطبيعي. يوجد إذا خط متّصل داخل التآليفالتاريخية وهو الذي يربط أخبار البشر بأحوال الطبيعة.
يبدأ هذا الخط بالتاريخ المروي حسب القبائل أو الشعوب (الاثنيات) وهو المحفوظ في الذاكرة. يحكي الإخباريونالمسلمون تاريخ العرب والبربر والعجم حسب التقسيمات والتفريعات القبلية، ولقد علق غوتْيه على هذه الطريقة الموجودة عند ابن خلدون قائلاً: إنه يؤلف مادته كما لو حاولمؤرخ أوروبي أن يروي أخبار الجيل الأول من النورمان في بلدهم الأصلي، ثم يأتي بأخبار الجبل الثاني في مقاطعة نورمانديا الفرنسية، ثم أخبار الجيل الثالث في جزيرة صقيلية،ثم أخبار الجيل الرابع في انجلترا، فيكتب تاريخ أوروبا على نحو مخالف لما تعودنا على قراءته. إلاّ أننا نجد في كتاب القرن التاسع عشر الأوروبي ما يشبه هذا النمط بالذات،أخبار أوروبا مصنّفة حسب القبائل الجرمانية أو السلافية وليس حسب البلدان، تماماً كما يكتب اليوم تاريخ إفريقيا.
كذلك تظافرت منذ القديم جهود الجغرافيين المتأثرينبالتنجيم والأطباء الحكماء الذين يسبرون أسباب الأمراض وآثار الأغذية. فتكونت عبر القرون، بجانب الجغرافية، أي وصف الأرض، والتاريخ، أي حفظ وقائع الحدثان، جغرافيةالتغذية. وما علينا إلا أن نذكر أسماء المسعودي وابن خلدون عند المسلمين وبودان ومونتسكيو عند الغربيين.
في مرحلة ثالثة تطورت اللغويات تحت تأثير البيئيات(الايكولوجيا) واكتسب مفهوم السلالة قيمة وصفية تصنيفية في نطاق نظرية داروين. السلالة هي الأصل والعامل الأقوى في كل التحولات البشرية عبر التاريخ، وهي بالطبع مخفية فيالجسم، تدلّ عليها مظاهر جسمانية كاللون أو الهيكل أو الهيئة، لكن الدالّة الأكثر ثباتاً إلى حدّ أنها أصبحت العنوان على الانتماء السلالي هي اللغة، لا في مظهرهاالمعجمي الذي قد يتأثر بعوامل خارجية عارضة، بل في تراكيبها الضمنية، أي في نحوها وصرفها.
المصدر : مفهوم التاريخ ج1(الالفاظ والمذاهب)