نخبة الدهر في عجائب البر والبحر 'لشيخ الربوة (727هــــ)
د. حسن حنفي يظهر علم الجغرافيا وكأنه هو العلم الشامل للتاريخ والحيوان والنباتوالمعادن والكيمياء والفلك والحساب وتاريخ الأديان والحضارة والتصوف واللغة والأدب والوحي والشعر. فهو أقرب إلى الجغرافيا البشرية منه إلى الجغرافيا الطبيعية لا فرقبين علم الجغرافيا البشرية وعلم العمران والتاريخ والسياسة. فالتاريخ جزء من العلوم الطبيعية لارتباطه بالجغرافيا كما هو الحال عند ابن خلدون. والتجارة في الأحجار جزءمن العلم أي الاقتصاد مع الجغرافيا.
ويضم العمران بناء المدن من قواد الجيش الفاتح للاستقرار. وتشتق الأسماء إما من مضارب العسكر أو من مذهب السكان مثل الكوفة الصغرىلكثرة ما فيها من التشيع، والقدس لقدسيتها. ونقلت عواصم المشرق إلى المغرب مثل حوض دمشق ونقل إلى الأندلس، شام جديدة تنافس الشام القديمة. وتم تدمير المدن على أيديالتتار.
ويتضمن تسعة أبواب: الأرض وهيأتها، المعادن وطبائعها، المياه الجوفية مثل العيون والآبار والينابيع والأنهار وهي المياه العذبة السيارة، المياه السطحيةوهي المحيطات وهي المياه المالحة، البحر الأبيض المتوسط وهو بحر الروم ومساحته وسط العالم القديم، البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر الصين انتقالا من أفريقيا وأورباإلى آسيا، وأخيراً أنساب الامم على الأرض والانتقال من الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا البشرية، والتحول من الجغرافيا إلى أخلاق الشعوب وتقسيمها حسب البقاعوالأمزجة، وذكر صفات سكان الاقاليم المنحرفة والمعتدلة.
ويتم الحديث عن الغرب الحديث، الصقالبة في أوربا الشرقية بعد فتح العثمانيين لها والاحساس بوجود الافرنج فيالشمال بعد الحروب الصليبية. مع التفرقة بين اليونان والرومان. ويتم الحديث عن الشرق الهند والصين وآسيا، وتشمل الصين كل ما وراء الهند شرقا. ويبرز العالم الاسلامي فيقلب العالم القديم، وسطا بين الغرب والشرق والشمال والجنوب. فقد انطلق مركز القلب في عصر الفتوحات، من شبه الجزيرة العربية شرقا نحو آسيا، وغربا نحو شمال أفريقياوأوربا، وشمالا نحو تركيا والبلقان، وجنوبا نحو أفريقيا. والفراعنة عرب، والعروبة أصل الشعوب القديمة. وقد شارك الاسكندر الأكبر في الفتوحات موحدا العالم القديم،إرهاصا للاسلام، نبيا من أنبياء الله ومبلغا رسالة التوحيد للغرب والشرق. وأحيانا يعني لفظ الاسكندر صفة العظمة، انتقالا من الشخص إلى الدلالة.
تنقص العلم مقدمةنظرية تضعه ضمن العلوم الطبيعية كما هو الحال في علم الطب ونظريات العناصر الأربعة والأخلاط والاعتدال. ومع ذلك يقوم علم الجغرافيا القديم على تقسيم العالم إلى اقاليمسبعة شمال خط الاستواء وكأنه في جنوبه لا يوجد عمران، نظرا لارتباط العمران بالبرد أكثر من الحر، مما يفسر عمران الشمال وخراب الجنوب، أوربا في مقابل أفريقيا. ويظل الدينموجها للتاريخ الجغرافي أو الجغرافيا التاريخية، بل والدين فر نزعته الصوفية التي تمكن من رؤية عجائب البر والبحر أو الحكمة في مخلوقات الله عز وجل بتعبير الغزالي. يعتمد على التراث القديم والموروث التاريخي ووصف الجغرافيا المحلية على اتساع رقعة العالم الاسلامي في آسيا وأفريقيا للاستدلال على أن شكل الأرض كروي قبل الغرب.المعرفة عن طريق الروايات والحكايات والمقابلات الشخصية بما في ذلك الشعر العربي كمصدر للأخبار.
وقد تتداخل الاساطير في فهم التاريخ رواية. إذ يقال أن أهرام مصر منبناء الجان وكذلك تكوين بعض جزر البحر، وكذلك الاعتماد على جالوت ويأجوج ومأجوج كرواية وهرمس والمسيح الدجال، مضافا إلى ذلك قصص الانبياء وما نقل عن نوح. التاريخ تاريخأديان، مجوس وصابئة ويهود ونصارى وهنود مع الحكم على ماهية كل دين. فاذا اجتمع في طريق مسلم ويهودي وسامري ونصراني رافق السامري المسلم لقربه من الاسلام في العقيدةوالشريعة.
وبالاضافة الى الواقع المحلي الجغرافي التاريخي يظهر المصدران الرئيسيان الوافد والموروث. وفي الوافد يتصدر أرسطو ثم الاسكندر ذو القرنين ثم بطليموس ثمقسطنطين بن هيلانة ثم جالينوس ثم هرمس وهيلاني، وأبقراط ثم أغاذيمون (سيت)، وأغسطس، وأفلاطون، واقليدس، وايلاوس، وأقليمون، وغيثاغورس، وقرطيانس. ومن الفرق اليونان. ومن الموروث يتصدر المسعودي ثم البكري ثم الطيني وأخو ابن الأثير ثم ابن الاثير وابن قدامة والادريسي ثم ابن حشية والبلخي والخوارزمي ثم ابن الكلبي وابن عبد البروصاعد، وعز الملك ثم ابن دريد، وابن العربي، وابن لهيعة، وابن واضح، والسيرافي، وابو اليقظان، وبديع الزمان، والزنجاني، والسمرقندي، والسمعاني القزويني. ومن الوافدالمشرقي أنوشروان. وتفوق أسماء المؤلفات أسماء المؤلفين. وغالبيتها في التاريخ. ومن الأنبياء اسماعيل واسحق ثم ابراهيم. ومن أسماء الفرق الاسماعيلية ثم الاباضيةوالقرامطة والصابئة والأحمدية والدروز.
وبالرغم من كثرة المصادر من الوافد أو الموروث إلا أن مسار الفكر يتضح من خلال المقدمات والاحالات المستمرة إلى السابقواللاحق مما يدل على حضور الفكر وراء التجميع.
ولما كان التنظير المباشر للواقع الذي يتحقق فيه تفاعل الوافد والموروث هو مناط الابداع فقد يتضخم ويتجاوز الرافدينالحضاريين. فتبرز الصين وأولها أقصى الأرض في الشرق ثم الروم لقربها من المركز في المغرب ثم الشام في الشمال ثم مصر في الجنوب الغربي ثم الهند في الجنوب الشرقي ثم خراسانفي الوسط ثم الأندلس في أوربا في أقصى الغرب. ثم تدور الأماكن في الجهات الأربعة الرئيسية وجهات أربعة أخرى غير رئيسية. تتداخل أسماء المناطق والمدن، المحيطات والبحاروالأنهار، الشعوب والأقوام، الخلجان والأحجار، الجبال والوديان، الأديان والمذاهب، الفرق والطوائف، الوقائع والخيالات، قارات وجهات، توابل وبخور بلا نظام أو ترتيب.وقد يذكر المكان بأكثر من أسم ويمكن تجميع هذه الأسماء التي تربو على ثلاثة آلاف اسم إلى مجموعات أصغر تتصدرها أسيا ثم مصر ثم أسبانيا ثم شمال أفريقيا ثم العراق ثم الهندثم آسيا الصغرى ثم فارس والشام ثم أفريقيا السوداء ثم أرمينيا ثم فلسطين ثم الغرب واليمن ثم الصين والبحر الأبيض المتوسط وصقلية ثم لبنان والروس والنوبة وتركيا والأردنثم الصقالية والسودان وكريت ثم عشرات من أسماء الأماكن المتفرقة المفردة.
ويذكر الموروث الأصلي، الآيات القرآنية المستعملة بالجغرافيا، والقصص القرآني كمصدرللأخبار، والأحاديث النبوية النصية أو المعنوية لوصف القبائل. تذكر آيات القرآن مرسلة كأسلوب عربي مثل (فتبارك الله أحسن الخالقين)، (وهذا ملح أجاج).
وتتجلى الحكمةالالهية في الأرض، في الحيوان والانسان والتاريخ فلولا اقتضيت طبخ الماء العذب بمخالفة الأرض المحرقة لانتن وأجن وأفسد الحيوان. وخلق الله البحار ملحا أجاجا لمصالحالعالم، مفيضا للأنهار ومعبرا للسيول والامطار ومركبا للبحار. وأرسل الله زلزلة في أيام الصيف فخرجت العيون وزادت الانهار. ولا يمنع أن يكون في الأرض جنات بنعمة الله.وخلق الأرض مقرا للحيوان بمنزلة التضاريس وجعل البارز منها مقرا للحيوان البري. وجعل الله للفيل عدوا سلطا عليه. وبث في الأرض القنفذ وسلطه على الحيات يقتل ويأكل وكذاالنمس المسمى العزيزا. وخلق الله الانسان واخترعه اختراعا من الطين. وتكون الجنين باذن الله. وجعل الله السرة موطنا للمسك. وألهم الله الانسان والأقوام سبعا وثلاثين لغةواقتضت العناية الالهية اللطف بالعالم الانسي فأبرز له الماء. وأصاب رجل امرأة في السفينة فقدما على نوح أن يغير الله نطفة فجاءت بالسودان مكون حام ومبارك سام ويكثر اللهيافث. ولما كثر نسك نوح شاء الله أن يقسم الأرض بين أولاده الثلاثة فسجد نوح لله شكرا لسام جهة يكون فيها ثلاثة مساجد يعبد الله فيها.
ويتدخل الله في التاريخ في قيامالدول وسقوطها، ونصرة المؤمنين وهلاك الكافرين وكما هو واضح في قصص الانبياء. والله هو فاتح البلدان وباقي المدن المقدسة مكة والقدس وملك المسلمين للبلاد ثم استخلف اللهمن بني عباس السفاح، ومصر إسلامية إلى يوم الدين حماها الله وحرسها بعينه التي لا تنام وجعلها دار الإسلام إلى يوم القيامة. وفسطاط مصر بناها عمر بن العاص يحميها اللهويحرسها. وأنقذ جيشا من الديار المصرية من الترك وأيدهم بنصره، وهم العصابة المحمدية الظاهرون بالحق المؤيدون إلى يوم القيامة.
وأغرق الله فرعون. وأرسل على الكافرينصيحة في جوف الليل. ولما عبدها دون القمر من دون الله بعث اليهم هودا فكذبوه فمنعهم الله القيت ثلاث سنين فخرجوا يستسقون فأنشأ الله تعالى ثلاث سحائب بيضاء وحمراء وسوداء.فاختاروا السوداء فسخرها الله سبع ليال وثمانية أيام حسوما حتى جعلهم الله صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. ثم كفروا بنعمة الله فأرسل اليهم صالحا رسولا. وضرب الله الصرع فيبلدة بصيمة تبلبلت بها السنة الناس من الدهشة وسميت أرض بابل من ذلك التاريخ.
ومن المباني العجيبة إرم ذات العماد والتي لم يخلق مثلها في البلاد وأخفاها عن أعينالناس.
ولا يفعل الله في الطبيعة والتاريخ بمفرده بل من خلال رسله الملائكة. إذ يرسل الله السحاب والملائكة فتخرج السمك من البحر. ومنه سمكة طولها نحو شبرين مكتوب علىظهرها بالعربية 'لا إله إلا الله'، ومكتوب بين اذنيها من خلف 'محمد رسول الله'، حول مياه قسطنطينية. يتبارك بها الصيادون ولا يأكلونها ويعتبرونها من نسل موسى ويوشع. فيرتبطالفعل الاهلي في الطبيعة والتاريخ بمظاهر الخرافة والخيال الشعبي، والاسقاط من النفس على الطبيعة والتاريخ.
ويدعو المؤمنون الله. واذا اراد لهم النجاة والنجاح منالشدة اراهم على رأس البغل طائرا أبيض. وعلى هذا النحو تبدو الحكمة في مخلوقات الله عز وجل، ويتجلى التوحيد في الجغرافيا والتاريخ. لا فرق بين الانسان والطبيعة ما من صورةمن صور العالم إلا من معاني الانسان فهو صورة الصور، معنى المعاني، المركز والمحيط، الأول والثاني. العالم صورة وجسده وهو روح العالم وحيويته. والشعر خير دليل على ذلك. وتستعار صفات الله من الطبيعة التي أودع الله فيها قوى العالمين، وجعلها سكن الدارين وجعل الانسان فيها مركز الكون، كالحيوان في الشهوة والغذاء لعمارة الارض، وكالملكفي العلم والعبادة والاهتداء. رشحه الله لعبادته وخلافته وعمارة أرضه وهيأه لمجاورته في جنته. وتظهر الحكمة الالهية في تخليقه. ركب الله بدن الانسان من المني والدم. فاذاصار الى الكمال جلس مع الملائكة في حضرة الرب. الانسان الكامل خليقة الرحمة زبدة الاكوان والقابل من المحسن أنواع الاحسان ولنعرف في الازمان والمعلم والقرآن والبيانوالمراسل بالتوراة والانجيل والزبور والفرقان والله أعلم، وكل شيء باذنه ومشيئته. خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وأوصى في كل سماء أمرها، وادار الفلك وفرشالارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات، من كل زوجين اثنين ومشى الانهار وجعل فيها قطعا متجاورات ونخيل وأعناب وبث فيها من كل دابة وقدر الارزاق.
المصدر : من النقل الى الابداع مجلد2/ التحول