ليلى عبدالوهاب
ازدواجية الفكر وتأثيره في الوعي عند المرأة العربية
لقد تميز الخطاب العربي الحديث، ممثلاً في تيارالمجددين، في تناوله لمسألة المرأة، بالدعوة إلى التحرر من أغلال عصر الحريم الذي كان يعبر عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والإنتاجية السائدة في ذلك الوقت، لذلك فإندعوتهم قد تركزت على المناداة بالسفور والدعوة إلى تعليم المرأة تعليماً حديثاً مختلطاً، كما أعطوا اهتماماً واضحاً لمسائل الأسرة والزواج، وطالبوا بتقييد التعددوالطلاق، ولم تتوقف دعوتهم عند تناول هذه المسائل فقط، بل طالبوا برفع القيود المفروضة على المرأة في إطار العزلة والانزواء المنزلي، وأكدوا على أهمية خروجها إلىالمجتمع ومشاركتها في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ظهرت الإرهاصات الأولى لحركة المجددين في إطار دعوتهم إلى تحرير المرأة بنشر كتابالمرشد الأمين للبنات والبنين للعلامة رفاعة رافع الطهطاوي، وفيه دعا إلى التعليم المختلط للفتيان والفتيات واعتبره ضرورة من أجل ((تسهيل وتحسين عملية عقد القران)). كماأكد على أن ((تعليم المرأة يجعلها قادرة على مشاركة الرجل في الأحاديث وتبادل الآراء، ويعزز مكانتها في قلوب الرجال، ويحميها من الهلاك في وهدة الأوهام والطيش فتتحول منامرأة جاهلة إلى متعلمة)). ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الطهطاوي قد أدرك أهمية الدور الإنتاجي للمرأة، وقد ربط بين التعليم والعمل بقوله: ((إن التعليم يساعد المرأةلأن تحدد لنفسها مكاناً في الحياة، يعودها على العمل، فالعمل في الحقيقة، يصون المرأة ويدنيها من الفضيلة، وإذا كانت بطالة الرجل مدانة فإنها عار كبير بالنسبة للمرأة)).
وقد خطا قاسم أمين بهذه الأفكار خطوات مهمة عندما أخضع قضية تحرير المرأة وغيرها من القضايا الاجتماعية للمنطق العلمي، فقد كان من المؤمنين بتطبيق مبادئ المنهجالعلمي عند تناول قضايا المجتمع والأسرة، متأثرا في هذا بأوغست كونت، فرأى أن ((الحضارة تبنى على العلم الطبيعي والرياضي وأن على المفكرين تمثل درجة التقدم العلمي فيمجتمعاتهم، لأنه إذا تقدم العلم وظل الفكر على حاله نتيجة لتمسك الناس بقديمهم وتراثهم فهنا تحدث الازدواجية والخلل في المجتمع)). وقد أراد قاسم أمين أن يصلح الخللالقائم في مسالة المرأة بناء على ما أثبته العلم الطبيعي الحديث من أن المرأة مساوية للرجل عقلاً، ومع ذلك يرفض الناس تغيير عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم، أي تغيير فكرهمبما يتفق وهذه الحقيقة.
ويتابع قاسم أمين آراءه المتقدمة في مسألة المرأة، ليس قياساً على معاصريه في الشرق والغرب فقط، بل قياساً على ما هو سائد الآن على الساحةالثقافية من أفكار وآراء تحط من شأن المرأة ومنط بيعتها وأدوارها الاجتماعية، فيؤكد على أنه إذا كانت هناك ثمة اختلافات فيزيولوجية وتشريحية بين الرجل والمرأة فإن هذهالاختلافات لا تعني البتة أن الرجل أفضل وأرقى من المرأة، ولا يرجع هذا الاختلاف إلى الفوارق الطبيعية إنما إلى الاختلاف في التربية مما تراكمت آثاره عبر الأجيال، فأدتإلى التباين بين الجنسين، فالفارق قد صنعته في الأساس الظروف الاجتماعية التي استمرت دهراً طويلاً وفرضت على المرأة هذه المكانة المتدنية.
أعطى قاسم أمين مسألةالحجاب أولوية كبيرة في كتاباته، سواء في تحرير المرأة، أو المرأة الجديدة، وقد بين أن الحجاب ما هو طور من أطوار حياة المرأة، وأنه تلاشى في كثير من الأمم المتقدمة.والحجاب عند قاسم أمين لا يعني الحجاب في الملبس فقط بمعنى حجب الجسد، إنما الحجاب عنده يعني في المقام الأول أن (تحتجب المرأة) أي تقتصر في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت.لذا فإن دعوته إلى رفع الحجاب كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالدعوة إلى المشاركة الاجتماعية للمرأة في مختلف نواحي المجتمع، بل يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يتناول تناولاًعلمياً تأثير الحجاب في البناء النفسي والجسدي والعصبي للمرأة، فيقول: ((إن الحجاب من شأنه أن يخل بنظام الجسد، وهو يضعف الأعصاب مما يجعل القوى النفسانية تختل)). وفوق كلهذا فقد رأى أن الحجاب هو بمثابة أثر من آثار الاستبداد الذي كبل الحياة السياسية المصرية لمدة طويلة نظراً إلى كون الأسرة وكل قيمها وتقاليدها تعكس بصدق شكل النظامالسياسي الذي تعيش في كنفه. لقد فُرض الحجاب في رأي قاسم أمين قديماً على المرأة لإعلان ملكية الرجل لها واستئثاره بها، أما الآن، وقد مضى هذا الاسترقاق إلى حال سبيله،فكيف نقبل أن يظل مظهره موجوداً في مجتمعنا. إن الخلاص من الحجاب بمعناه الكريه أول خطوة في سبيل حرية المرأة وتقدم المجتمع. ومن الملفت للنظر بالفعل وعيه العلميالاجتماعي بالعلاقة بين استبداد النظام السياسي وعبودية الرجل للمرأة بقوله: ((انظر إلى البلاد الرقية تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيتهمظلوم إذا خرج منه)) ويضيف: ((إنه لا الاسلام، ولا طبيعة الأشياء، ولا خصائص ضعف المرأة وقصورها، هي التي ميزت بين الرجال وبين النساء وقسمت شؤون الحياة بينهم تلك القسمةغير العادلة، وإنما هو الاستبداد الذي جعل من المرأة إحدى فرائسه، فكبلها بالقيود والأغلال، ومن ثم فإن تحررها مرتبط بتحرر الرجل من الاستبداد، أي بتحرر المجتمع ككل)).
هذا ولم يفت قاسم أمين تناول مسألة من المسائل المهمة في الدعوة إلى تحرير المرأة، ألا وهي مسألة عمل المرأة واستقلالها الاقتصادي، حيث يرى أن الاحتجاب عن المجتمعوالبطالة من شأنهما قتل كل فضيلة في النفس، وعلى ذلك ((فإن النساء اللاتي يعملن ينظمن وقتهن بحيث ينجحن في أعمالهن ويقمن بواجباتهن تجاه أسرهن على خير وجه)). فإذا كانتالمرأة المصرية تميل إلى الرذيلة، وهذا ما لاحظه في وقته بين المسلمات المقيدات داخل جدران المنزل والمتخفيات تحت ستار الحجاب، لا يرجع إلى طبيعة المرأة إنما يرجع فيالحقيقة إلى ظروف المرأة المصرية. يعود قاسم أمين فيؤكد على أهمية عمل المرأة ودوره في تحريرها، إذ يقول: ((لو تبصر المسلمون لعلموا أن إعفاء المرأة من أول واجب عليها، وهوالتأهل لكسب ضرورات الحياة بنفسها، هو السبب الذي جر ضياع حقوقها، فإن الرجل لما كان مسؤولاً عن كل شيء، استأثر بالحق في التمتع بكل حق، ولم يبق للمرأة حظ في نظره إلا كمايكون لحيوان لطيف يوفيه صاحبه ما يكفيه من لوازم تفضلاً منه، على أن يتسلى به)).
أثارت آراء ومؤلفات قاسم أمين ردود فعل قوية وحظيت بمقاومة عنيفة بخاصة من علماء الدينالمحافظين وغيرهم من رجال السياسة والفكر من أمثال عبدالمجيد خيري ومحمد طلعت حرب وعبدالله جمال الدين (كبير القضاة)، ومختار أحمد فريد، وقد وصل الأمر إلى اتهامه بخيانةمصالح الأمة.
أمام هذا الهجوم الشديد اضطر قاسم أمين أن يصوغ باقتضاب مطالبه في خمسة هي:
1 ـ تحريم تعدد الزوجات.
2 ـ تقييد حق الرجل في الطلاق.
3 ـ تعليمالمرأة.
4 ـ ضمان حق المرأة في العمل
5 ـ إلغاء الحجاب.
وعلى خلاف أولئك المحافظين وجد قاسم أمين الدعم والتشجيع من علماء الدين المجددين من أمثال الشيخ محمدعبده الذي كانت تربطه به علاقة قوية وصلت إلى حد اتهام محمد عبده بتحرير كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، حيث إن الأخير كان يلجأ إلى أستاذه ليستنير بآرائه ويقرأ عليهفصولاً من كتبه وأعماله.
وإذا كان قاسم أمين قد أعطى أولوية في اهتمامه بمسائل الحجاب والتعليم والانزواء المنزلي، وقبله رفاعة الطهطاوي، فإن محمد عبده أعطى أهميةوأولوية لمسائل الأسرة والزواج والطلاق والتعدد والنفقة، إلى غير ذلك من الأمور. وعلى عكس قاسم أمين الذي حاول أن يطرح القضية طرحاً علمياً مستنداً إلى المنهج العلمي فيدراسة التاريخ والمجتمع، سعى محمد عبده إلى التوفيق بين العلم والدين، ولم يقف عند حد الدعوة بل تجاوزها بإصدار العديد من الفتاوى التي تمتعت بالروح الليبراليةوبالرغبة في إظهار الاسلام كدين يتلاءم ومتطلبات العصر، وذلك خلال الفترة التي شغل فيها منصب مفتي الديار المصرية. حذر من البداية من محاكاة الأوروبيين عن طريق نقلأفكارهم وعاداتهم، ورأى أن السير بشكل أعمى في تقليد الغرب لن يؤتي إلا نتائج سطحية محدودة.
في إطار دعوته إلى تحرير المرأة وقف محمد عبده بشكل خاص ضد مسألة تعددالزوجات وسعى إلى حلها بالشكل الذي يتناسب وروح الشريعة، انطلاقاً من إيمانه بأن ((تخليص العالم الاسلامي من الانحطاط)) يتوقف على توجيه الجهود لإصلاح العلاقات الأسريةالزوجية. أراد محمد عبده في هذا المجال أن يوفق بين مصالح الطبقة البرجوازية الناشئة وبين القوانين الاسلامية. فقد صار واضحاً أن تعدد الزوجات لم يعد يتفق ومصالحالمالكين الذين لا يرغبون في تبديد ملكياتهم بين أطفال عديدين من زوجات مختلفات.
هذا وقد قدم محمد عبده آراءه في مسألتي النفقة وفسخ عقد الزواج في دراسة مستندة إلىالشريعة (المذهب المالكي) وصاغها في إحدى عشرة نقطة، كانت أهمها الفتوى الخاصة بإعطاء المرأة حق فسخ عقد الزواج إذا تصرف معها الزوج بقسوة أو سمح لنفسه بضربها أو شتمها.وقد أثرت هذه الفتوى تأثيراً كبيراً في تشريعات البلدان الاسلامية الأخرى.
هذه نماذج من آراء أبرز المجددين الاسلاميين، انطلقت منذ قرن مضى لتواكب التغيرات التيتميز بها الواقع الاجتماعي في ذلك الوقت. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو كيف انعكست هذه الأوضاع وأثرت في وعي المرأة حينذاك؟
والحقيقة أنه تجدر الإشارة أولاً وقبلالاستطراد في الرد على هذا التساؤل، إلى مفهوم الوعي عند المرأة، وماذا نقصد به.
وفي رأينا أنه يمكن تحديد مفهوم الوعي عند المرأة في الجوانب الآتية:
أ ـ وعيالمرأة بذاتها، أي صورة الذات لديها. ونعني بهذا اقتناعها واعتزازها بكونها أنثى وامرأة، وبالتالي التعامل مع جسدها وعقلها بنوع من الثقة والاستقلال، وعدم إحساسهابالدونية نتيجة لوجود فروق تشريحية بينها وبين الرجل.
ب ـ وعي اجتماعي، وينقسم إلى:
1 ـ وعي يتعلق بعملية تقسيم العمل الاجتماعي بين المرأة والرجل في المجتمع،وفهم المرأة وإدراكها للأسباب والأبعاد الاجتماعية التاريخية لعملية التمييز بينها وبين الرجل في العمل والتعليم والأسرة والمشاركة السياسية إلى غير ذلك من مجالات.كذلك إيمانها بأهمية دورها الاجتماعي ومشاركتها في بناء المجتمع وتنميته.
2 ـ وعي يتعلق بعملية تقسيم العمل داخل الأسرة بينها وبين الرجل، وفهم وإدراك أن هذه العمليةلا تعود إلى حتمية الفروق البيولوجية كما يدعي الكثيرون، وأن عملية الإنجاب ليست في الحقيقة السبب الرئيسي وراء حصارها في الأدوار التقليدية العائلية التي تفرض عليهاأشكالاً من القهر والاضطهاد الاجتماعي والقانوني والثقافي والسياسية، بل إن عملية تقسيم العمل والتمييز بين المرأة والرجل داخل الأسرة وما تتميز به من علاقات تقوم علىالسلطة الأبوية إنما تعود في الدرجة الأولى إلى عوامل وأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية تراكمت تاريخياً وانضوت تحت ما يسمى الحتمية البيولوجية.
3 ـ وعي يتعلقبانتمائها الطبقي وقدرتها على فهم وإدراك أبعاد الصراع الاجتماعي والاستغلال الطبقي القائم في المجتمع وانعكاس هذا على وضعيتها في المجتمع والأسرة.
ج ـ وعي سياسييتعلق بفهم وإدراك طبيعة النظام السياسي القائم بعلاقاته الداخلية وارتباطاته الخارجية، وإلمام واستيعاب لأهم القضايا والتحديات السياسية على المستوى الوطني والقوميوالدولي. وجدير بالذكر أن تلك الجوانب التي تشكل الوعي عند المرأة لا بد من أن تعبر عن نفسها في إطار حركة ونظال سواء كان نضالاً جماهيرياً أو تنظيمياً، فالحركةبمؤشراتها كفيلة بأن تكشف عن عمق ونضج الوعي أو عن تخلفه وتزييفه.
إن الوعي لا ينمو بعيداً عن المؤثرات الاجتماعية والسياسية والفكرية السائدة، كما أن هذه المؤثراتلا تساهم بالضرورة في نمو الوعي في مختلف الجوانب السابقة الإشارة إليها، بل قد ينمو في جانب ويظل متخلفاً في بقية الجوانب، وأحياناً يحدث العكس، أي أنه بفعل مؤثر منالمؤثرات قد يكون سياسياً وطنياً، أو اجتماعياً، أو اقتصادياً، يرتفع الوعي في جانب فيساهم بدوره في إنضاج غيره من الجوانب.
وبتطبيق مفهومنا السابق عن الوعي علىالحركة النسائية الحديثة والمعاصرة، يمكننا فهم طبيعة هذه الحركة وما تعرضت له من تناقضات بفضل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما تعكسه من أطر ثقافيةوفكرية تعبر عنها وعن مصالح الطبقات السائدة، في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي للمجتمع.
لقد ساهمت مجمل الأوضاع السائدة في مصر، منذ أوائل القرن وصعود أسهمالتيار الفكري الإصلاحي، بقدر وافر في إنضاج وعي الجماهير بشكل عام ووعي المرأة بشكل خاص. وقد أثمر هذا في إطار حركة جماهيرية ذات بعدين تزامناً وتواكباً وأثر كل منهمافي الآخر. فبينما أخذ الوعي الوطني بين طبقات المجتمع وفئاته ينمو حتى توج بثورة عام 1919، أخذ وعي المرأة المصرية في التبلور حتى تجسد في مشاركتها الفعالة في كل مراحل.الثورة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ المصري الحديث. كانت ثورة عام 1919 بمثابة المخاض الذي خرج من رحمه جنين حركة نسائية وليدة انخرطت فيها النساء بين الجماهير غيرعابئات بكل القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة عليهن، فخرجن في مجموعات بقيادة هدى شعراوي ورفيقاتها يجبن أحياء القاهرة هاتفات بحياة الوطن والحرية والاستقلالمطالبات بسقوط الحماية، مواجهات لجيوش المحتل الأجنبي بأسلحته النارية، فاستشهد بعضهن وجرحت كثيرات.
منذ تلك اللحظة التاريخية أخذ مسار الحركة النسائية في التشكلوبدأ بتكوين لجنة الوفد المركزية للسيدات، ثم جمعية نهضة السيدات، ثم اللجنة السعدية للسيدات، حتى 16 آذار/ مارس 1923 عندما قررت هدى شعراوي ورفيقاتها تكوين تنظيم نسائييقوم على أنقاض لجنة الوفد المركزية سمي الاتحاد النسائي المصري، أولى برنامجه أهمية للطابع السياسي الوطني أكثر من المطالب الاجتماعية النسوية.
استمر كفاح المرأةليس في مصر فقط بل في غيرها من الأقطار العربية مرتبطاً، بحكم الظروف السياسية، بالنضال الوطني بالدرجة الأولى. فدور المرأة الجزائرية في حرب التحرير، وانضمامها إلىصفوف الفصائل الفدائية من أجل الدفاع عن حرية الوطن والذود عنه، يشهد بقدرتها على مواجهة ومقاومة المستعمر الفرنسي المجهز بالعتاد الحديث والمدعم من قبل الدولالإمبريالية، حتى استطاعت مع رفقائها الرجال إلحاق أكبر هزيمة بهم وتحقيق الاستقلال الوطني.
معروف أيضاً دور النساء العراقيات في الكفاح الوطني من أجل الاستقلالوبخاصة ضد معاهدة (بورتسموث)، حيثكانت المعاهدة ستربط الأقطار العربية بالدول الإمبريالية وهنا أدرك آلاف النسوة واجبهن الوطني فاشتركن في تظاهرات ووفود احتجاج إلىالقصر الملكي، وأدى نضال الجماهير العريضة، بما في ذلك النساء، إلى إحباط الاتفاقية.
والأمثلة كثيرة حول دور ومشاركة النساء العربيات في حركات التحرر العربية، إلاأنه تبقى حقيقة لا بد من التأكيد عليها، وهي أن حركة النساء العربيات بدأت بوعي سياسي وطني فرضته ظروف مرحلة ما قبل الاستقلال، في حين لم يتشكل وعي اجتماعي ناضج بالدرجةالكافية، فظلت حركة النساء في المجتمعات العربية مرهونة بالانتصارات الوطنية والانتكاسات السياسية، على الرغم من توجه بعض هذه الحركات نحو العمل الاجتماعي والوعيبالمشاركة الاجتماعية.
إن التوجهات التي سيطرت على مفاهيم العمل والحركة الاجتماعية لكثير من التنظيمات النسائية سواء في مرحلة ما قبل الاستقلال أو بعدها تميزتبأنها ذات فهم وطابع برجوازي اهتمت بالنساء المتعلمات من بنات الطبقات الوسطى في المدن بينما ملايين النساء في الأحياء الشعبية الحضرية وفي الريف والبادية، ظللن بعيداتعن اهتمام هذه التنظيمات. وفي الواقع إن مثل هذه التنظيمات بتوجهاتها البرجوازية عاجزة عن أن تلعب دوراً حقيقياً من أجل رفع وعي المرأة وتحريرها، فسلامة التوجيه للحركةالنسائية ومدى اتساعها وجماهيريتها يشكلان عاملاً أساسياً ليس لقضية تحرير المرأة فقط بل لقضايا التغيير الاجتماعي بصفة عامة أيضاً.
وهذا ما يدعونا إلى القول إنانتصار حركات التحرر في المنطقة العربية لم يكن انتصاراً للمرأة في مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية. فاستفادة المرأة الريفية والحضرية الشعبية البدوية ظلت محدودةإذا قوبلت بما حصلت عليه المرأة في الطبقة البرجوازية بشرائحها المختلفة. ففي حين استفادت النساء في تلك الطبقات وحصلن على حقوقهن في التعليم والعمل والصحة والمشاركةالسياسية (وإن ظلت غير متكافئة مع الرجل في الطبقات نفسها)، بقيت غالبية النساء في الطبقات الفقيرة محرومات من تلك الفرص، تنتشر بينهن الأمية والخرافة والجهل وغيرها منالأمراض والمشكلات الاجتماعية والثقافية.
وبنظرة إلى الأوضاع السائدة في المجتمعات العربية الآن وموقع المرأة على الخريطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسيةوالثقافية نستطيع أن نقرر أنه حتى تلك الإنجازات التي تحققت بالنسبة إلى المرأة البرجوازية بدأت تفقدها، حيث تراجع دورها وانحسرت مشاركتها في مختلف جوانب الحياةالاجتماعية للمجتمع، بما يؤكد تخلف وعيها ليس الاجتماعي فقط بل السياسي أيضاً، حيث ارتبط الوعي السياسي لديها كما سبق وأشرنا بمراحل النهوض الوطني والانكسار السياسي.
يتجسد الانكسار السياسي، الذي يسيطر على البلدان العربية في الوقت الراهن، والذي أخذت تشتد وطأته منذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967، في حالة التبعية للنظام الرأسماليالعالمي وفي إعادة إنتاج التخلف الذي يسيطر على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتزايد حركة القمع والقهر السياسي للجماهير وحركات التحرر المعاصرة.
فيظل هذه الأوضاع التابعة والمتخلفة كان لا بد من ظهور إيديولوجيا تفلسف وتبرر هذه الأوضاع. ولما كان العقل العربي ما زال يعيش حالة الازدواجية الثقافية حيث يلعب الدينفيها دوراً بارزاً، فقد أخذ التيار السلفي المحافظ في الصعود والسيطرة خلال العقدين الأخيرين، وأخذ خطابه يوجه جزءاً كبيراً منه إلى المرأة مطالباً بفرض الحجاب عليها،والدعوة إلى عودتها إلى المنزل، والارتداد بتعليمها إلى التعليم الديني، الوقوف ضد أي تعديل في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية من شأنه أن يصلح من أمورها ويحقق العدالةوالمساواة من طرفيها.
والواقع أن الخطاب السلفي ليس جديداً على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية، وقد ارتبط ارتباطاً قوياً بجماعة الإخوان المسلمين برموزهاالمعروفة وعلى رأسهم حسن البنا وحسن الهضيبي وسيد قطب الذين لعبوا دوراً في تشكيل العقل العربي باتجاهاته المحافظة منذ الأربعينات وحتى الآن. وعلى سبيل المثال نورد بعضآراء سيد قطب في مسألة المرأة باعتباره أحد المنظرين الأساسيين لجماعة الإخوان المسلمين، وأحد الأقطاب التي اعتمدت عليهم التيارات السلفية المعاصرة في تناول مسألةالمرأة وغيرها من المسائل الدينية والفقهية. ففي مقالة (العدالة الاجتماعية في الاسلام) يولي سيد قطب اهتماماً كبيراً لمسألة وضع المرأة في الأسرة والمجتمع. وعلى الرغممن إشارته إلى أن الاسلام قد ساوى بين المرأة والرجل، فإن تحليله يقوم على تقرير تفوق الرجل نظراً إلى ما يتمتع به من خصائص بيولوجية ونفسية، وهذا في رأيه (لا يؤثر على وضعهذين الجنسين في المجتمع). ومن هنا كان تفسيره في مصلحة الرجل وضد المرأة في مسائل الإرث والشهادة والقوامة، حيث إن الرجل قد حررته الطبيعة من متاعب وهموم الأمومة، وهذايساعده على توجيه قواه الجنسية والعقلية إلى القضايا الاجتماعية، الأمر الذي يساهم في تطوير الجانب العقلاني لديه، بينما تستهلك هموم الأمومة والأعمال المنزلية المرأةالأمر الذي ينمي الجانب العاطفي لديها، لذا تحتاج المرأة إلى الرعاية والدعم على شكل وصاية من قبل الرجل. وفي مسألة الشهادة في المحاكم يقرر ((أن المرأة تحت تأثير العواطفيمكن أن تنسى أو تخفي شيئاً ما)).
يتميز الخطاب القطبي بأنه ذو طابع إيديولوجي وسياسي في الوقت نفسه، أي أنه يتصل بمجالات الفكر والحركة على صعيد الدولة والمجتمع. وقداتجه بدعوته إلى خلع الانتماء عن المجتمع واستبداله بآخر جديد (ديني سلفي)، وهذا من شأنه أن يفجر لدى الغير توتراً شديداً تجاه الواقع، ويخلق شحنات من الحلم والرفض قائمةعلى قطع جذري عن الواقع الموضوعي، فتنتفي بذلك كل علاقة بين الفرد وواقعه.
إن علاقة التوتر والنفي بين الفرد والواقع الموضوعي، بخاصة بين النساء، لم يتضح تأثيرالخطاب القطبي فيها إلا من خلال تيارين برزا منذ أواخر الستينات وخلال السبعينات والثمانينات. أحد هذه التيارات وقد تمثل في الدعاة المتأثرين بحسن البنا وهم ما يطلقعليهم الدعاة الرسميين بدءاً بالباقوري وانتهاءً بالشيخ متولي الشعراوي، والتيار الآخر هو التيار المتأثر بسيد قطب الذي يتجه بدعوته إلى خلع الانتماء عن المجتمعوتكفيره واستبداله بآخر جديد. ومن أبرز قادته شكري مصطفى وصالح سرية وعمر عبدالرحمان.
وجدير بالذكر أن التيار الثاني، على الرغم مما تميز به في السنوات الأخيرة منقدرة على التنظيم والفعل، فإن تأثيره لا يزال محدوداً بين الجماهير، ومع هذا فهو من دون شك يمثل خطورة كبيرة خاصة بين الشباب المأزوم والمحبط والمثلب نتيجة لمجملالأوضاع والسياسات القائمة التي تغلق أمامه كل فرص في التحقيق والتعبير عن الذات.
أما التيار الرسمي ففي رأينا أنه الأكثر تأثيراً والأوسع انتشاراً، نظراً إلىمساندة السلطة الرسمية له وإعطائه مساحات واسعة في وسائل إعلامها، بخاصة المسموعة والمرئية في مجتمعات تشكل الأمية الأبجدية والثقافية نسبة كبيرة بين سكانها. وقد لاحظأحد الذين كتبوا عن التيارات الاسلامية في مصر، بأن معدل ظهور هذا الأخير، الأمر الذي يبعث على التساؤل حول نوعية الأفكار التي يروج لها وبالأخص منها تلك التي تخص المرأةبالذات على اعتبار أنها المحور الذي نناقشه.
ولو تأملنا خطاب الشيخ الشعراوي بخصوص المرأة لوجدنا أنه ينطلق من الأساس نفسه الذي انطلق منه غيره من منظري التيارالسلفي، والذي يرتكز على الفروق الطبيعية الفيزيولوجية والبيولوجية والنفسية في تقسيم العمل بين المرأة والرجل، إلا أن مكمن خطورة الشعراوي يقف عند استخداماته اللغويةوأسلوبه الذي يتميز بالبساطة في التعبير (استخدامه اللغة العامية) فهو كالذي يضع السم في طبق من حلوى. ودعونا نعطي مثلاً لتأكيد المعنى السابق، فهو يقول في دعوته إلى عودةالمرأة إلى المنزل والاقتصار على دورها العائلي في تربية الأبناء ورعاية الزوج ((إن دور المرأة في البيت أشرف من دور الرجل خارجه لأنه يتعامل مع الأجناس الدنيا فيالوجود، فإنه إما مزارع يتعامل مع تربية المواشي والحيوانات وإما صانع يتعامل مع المادة الصماء، ولكن المرأة تتعامل مع أشرف شيء في الوجود وهو الانسان، والمرأة التي لاتريد أن تقتنع بهذه المهمة امرأة فاشلة)). وبما أن خطابه يتوجه به إلى المرأة المتعلمة والعاملة فهو يرى ((أن المنزل وتدبيره يحتاج منها أن تكون مثقفة ثقافة الطبيب وثقافةالاقتصادي وثقافة المعلم)).
ونستطيع أن نلمس الفارق الكبير بين الخطاب الاسلامي الحديث كما عرضنا له من خلال آراء وكتابات الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وبين التيارالسلفي المعاصر من موقف كل منهما تجاه المسائل نفسها التي كانت مطروحة وما زالت. فبينما يقرر الطهطاوي ضرورة الاختلاط بين الفتى والفتاة في المرشد الأمين للبناتوالبنين، نجد الخطاب السلفي المعاصر يقف موقفاً متشدداً من موضوع الاختلاط في التعليم بين البنات والأولاد ويعتبره مفسداً للأخلاق كما يشبهون دعاة الاختلاط بالمشركينالذي يتحدثون بمنافع الخمر وينسون اثمه الكبير. ويعارض أصحاب الخطاب السلفي التعليم الحديث باعتباره وافداً غريباًن ويؤكدون على ضرورة التعليم الديني للفتاة تشبهاًبالسيدة عائشة، كما يرون أن التعليم الجامعي غير أساسي، فالأصل في هذه المرحلة أن تكون المرأة وصلت إلى بيت الزوجية وأسست أسرة جديدة، عملاً بتوجيهات الاسلام بضرورةالزواج المبكر.
وفي العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع يحرم الدعاة السلفيون على المرأة التعامل والتخاطب مع الأجنبي عنها، وقد وصل بهم الأمر في التحقير والتقليلمن شأن ومكانة المرأة في الأسرة إلى حد القول إنه ((طالما دخل الزوج على المرأة وكشف عورتها، فليس لها الحق في الرفض أو الاحتجاج أو التمرد على أي شيء يأتي به في حقها)) وقدجاء هذا الحديث على لسان الشيخ الشعراوي في برنامج تلفزيوني.
إن الأمر لم يتوقف عند تزييف وعي المرأة من خلال خطاب دعاة السلفية بكل إنجازاتها التاريخية وأدوارهاومشاركتها الاجتماعية، بل وصل إلى حد تزييف التاريخ إذ يتهمون دعاة تحرير المرأة وقادة الحركة النسائية بالعمالة للاستعمار والصهيونية. لقد لعب هذا الخطاب الذي يعبر فيرأينا عن إيديولوجيا ومصالح الطبقة البرجوازية الكومبرادورية دوراً في تحجيم دور المرأة وتزييف وعيها، ويدل على ذلك، في حالة مصر:
أ ـ انتشار ارتداء زي الحجاب بينأعداد كبيرة من النساء من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية وفي الريف والحضر، ولو أن الملاحظ أنه يكثر انتشاره بين نساء الطبقة الوسطى. هذا ونشير إلى رأي عدد منالطالبات في تحقيق أجرته صحيفة ((الأهالي))، فأجمعن على أن المرأة إذا خرجت سافرة من منزلها استشرقها الشيطان أي رحب وهلل لها، لذلك كان على المرأة أن تحافظ على وقارهاوحشمتها وتتجنب الفتنة. ويستشهدن على ذلك بآيات مثل التي جاءت في سورة الأحزاب (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) كذلك سورة النورالتي تقول: (إذا سألتهن متاعاً فاسألهن من وراء حجاب). وفي الرد على سؤال حول حكم المرأة ورئاستها للدولة أو الوزارة، تعلن ((أن أي دولة تحكمها امرأة هي دولة فاشلة)) وفقاًلما جاء في الحديث الذي يقول: ((ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). وحول رأيهن في قاسم أمين وهدى شعراوي، فقد وصفتهما بعبدة الأصنام وأنهما يمثلان النقطة السوداء في تاريخالمرأة.
ب ـ ارتفاع معدلات البطالة والبطالة المقنعة بين النساء اللاتي وصلن في تعداد عام1986 بمصر إلى 40%، يضاف إليه أعداد النساء العاملات والمحسوبات على قوة العملوهن حاصلات على إجازات تصل إلى 6 سنوات متتالية لرعاية الأطفال.
ج ـ انحسار المشاركة السياسية للمرأة، وقد وضحت بشكل كبير في مصر خلال انتخابات عامي 1984 و 1986.
د ـ ردالفعل السلبي بين جماهير النساء ما عدا بعض الطلائع منهن، بخصوص إلغاء قوانين الأحوال الشخصية التي احتوت بنودها على إعطاء عدد من الحقوق القانونية للمرأة.
هذه بعضالمظاهر التي إذا قسنا عليها مؤشرات الوعي السابق عرضها، لأمكن ببساطة التعرف إلى مدى التخلف وتزييف الوعي الذي يميز وضعية المرأة العربية المعاصرة.
يتضح من العرضالسابق كيف أن مضمون الخطاب السلفي المعاصر حول المرأة وأبعاده وآثاره في تخلف وتزييف وعيها، قد تبدى في دفاعه عن الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القائمة فيالمجتمع العربي، وذلك باقتصاره على رفض الفساد الأخلاقي، وتحويله الأنظار عن فهم التناقضات الاجتماعية والأسباب الحقيقية للتدهور والتخلف والتبعية. إن المطالبةوالدعوة إلى عودة المرأة لملازمتها البيت، تشكل في واقع الأمر حلولاً آنية لأزمة البطالة في المجتمع والرغبة في إيجاد فرص عمل لملايين العاطلين من الرجال الذين قد انسدتأمامهم آفاق العمل.
هكذا تبدو الازدواجية في الفكر والواقع وتصل إلى ذروتها فيما تعيشه المجتمعات العربية اليوم من أوضاع، وفيما تعانيه المرأة العربية من تراجعوانحسار.