الشرق من وراء حجاب (الشرق المحتجب)
د. مراد هوفمان على الرغم من أن العالم الغربي شن حروباً متتالية، قروناً بطولها على العالم الإسلاميسواء في الشرق الأوسط أو في البلقان، وفي إسبانيا وشمال إفريقيا أو في الهند، فإن العالم الغربي لم يحفل بمعرفة كنه الإسلام طيلة تلك القرون، لا من الناحية الدينية ولامن الناحية الحضارية، اللهم إلا في حالات منفردة، ومن زوايا معينة، تتسم جميعاً بالتحيز، وعدم الموضوعية...
في وسط هذه الصورة عن الشرق تبرز صورةُ النقاب أو الحجابالذي يبرز وجود المرأة المسلمة بالفعل في الشرق، وهذا ما يأباه الغربي، لأنه مخالفٌ لتصوره هو عن الشرق الغارق في الملذات، فالحجاب نقيض تصور الغربي، لأنه دليل علىالعفّة التي تريدُ المرأة إبرازَها وتأكيدَها، ورمزٌ للالتزام الخلقي الذي لا يسمح للغرائز الجنسية أن تتبرج كما يحلو للبعض أن يراها ويعيشها في الغرب، أو قل لا يريدالغرب أن يفهمها، فضلاً عن أنه لا يريد أن يعترف للإسلام بأنه دين يدعو للفضيلة والأخلاق الحميدة، ويتمسك بها.
والحق أن الالتزام الخلقي يسود حياة المسلم والمسلمة،أو الوسط الإسلامي الحقيقيّ، فأنت لا ترى المداعبات الجنسية وتبادل القبلات ونحوها بين الرجال والنساء علناً في الشوارع والمحافل وغيرها، على العكس من السائد في الغربالمسيحي. كذلك يرفض الإسلام الأدب الداعر المكشوف وأفلام الجنس والصور العارية ونحو ذلك. ولا تمارس المسلمة أساساً أيةَ علاقات جنسية قبل الزواج، كما أن اللُقطاءَوالأطفال المولودين ولادةً غير شرعية من الأشياء النادرة في المجتمعات الإسلامية.
وفي هذا يتوفر الإجماع الأساسي بين الشرق والغرب على أن كليهما يرفض أن يتعرىالإنسان تماماً من كافة ملابسه في الحياة اليومية العامة، أما الخلاف بينهما فهو في مدى التعري المسموح به، أو الحد الأدنى من الملبس. هذا الاختلاف حول الحد الأدنىالمسموح به من الملبس متفاوت حتى في داخل بلدان العالم الإسلامي نفسه وتُبيّنُ ذلك النظرةُ إلى الأزياء لدى المسلمين والمسلمات، أو قل أزياء النساء والفتيات في المغربوالجزائر والأناضول ومصر والمملكة العربية السعودية والباكستان وأندونيسيا وغيرها.
لهذا، خاصة بعدما شن الفرنسيون الحرب في فر نسا على الحجاب أو تغطية الفتياتالمسلمات شعرهن عام 1989، فإن من المفيد، أن نستعرض معاً الآيات البينات التي حددت الزي الواجب على المسلمات ارتداؤه، وتلك هي الآيات التالية:
1_ الآية التاسعةوالخمسون من سورة الأحزاب: (يا أيها النبي قُل لأزواجك وبناتك ونساءِ المؤمنين يُدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ، ذلك أدنى أن يعرفنَ فلا يُؤذين، وكان اللهُ غفوراً رحيماً).
2_ الآية الحادية والثلاثون من سورة النور: (وقُل للمؤمناتِ يغضُضن مِن أبصارهن ويحفظنَ فروجهنَّ، ولا يُبدينَ زينتهنَّ إلا ما ظهر منها، وليضربنَّ بخُمُرهنَّ علىجُيوبهنَّ، ولا يُبدينَ زينتهنَّ إلاّ لِبعولتهنَّ أو آبائهنَّ، أو آباءِ بعولتهنَّ، أو أبنائهنَّ أو أبناءِ بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ، أو بني أخوانهنَّ، أو بنيأخواتهنَّ أو نسائهنَّ أو ما ملكت أيمانُهنَّ أو التَّابعينَ غيرِ أُولي الإربةِ من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجُلهنَّ ليُعلَمَ مايُخفينَ من زينتهنَّ وتوبوا إلى اللهِ جميعاً أيُّه المؤمنون لعلّكم تفلحون).
وأما الآيتان فهما تضعان المواصفات الرئيسة لثياب المرأة، وهي مواصفات تصلح لكل زمان،أو قل هي غير مرتبطة بزمان معين، فهما لا تفرضان على المرأة أن تلبس قطعة معينة من الملابس، فلم تشترطا مثلاً طرحة طويلة أو منديلاً كبيراً لغطاء الشعر، ومن جهة ثانية لمتفرضا أن تغطي تلك الطرحةُ أو ذاك المنديلُ ثديي المرأة أو صدرها، ذلك أن القرآن الكريم يفترض أن المرأة تلقائياً ستلبس أيّ قطعة من الملابس تغطي صدرها، وهذا ما يؤيدهالواقع بالفعل.
وأما الآية الحادية والثلاثون من سورة النور فتذكر صراحةً الهدف من فرض الزي الذي يصون الإنسان، بينما ترى غضّ البصر وحفظ الفرج ليس مقصوراً علىالمرأة فحسب، فقد نصت الآية الثلاثون من سورة النور نفسها على أن يغضّ الرجال أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ثم تلتها كذلك الآية الحادية والثلاثون التي أمرت النساء بذلك (قلللمؤمنين يغضّوا أبصارهم، ويحفظوا فروجهم... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...).
أما بقية الآية، فتنبه على المرأة، كما يذهب غيرُ واحد من المفسرينالمصيبين، وأن تخفي زينتها 'الجسدية' الثانوية، وألا تُظهِرَ منها لِغير المحارم، إلا ما يَظهَرُ عادةً منها.
هنا، أرى حكمة بالغة في التعبير الحكيم (إلا ما ظهرمنها)، لأنه يضع في الحسبان المقاييس المتباينة باختلاف العصور والحضارات، في اعتبار ما هو زينة ثانوية من أعضاء الجسد، وما هو غير ثانوي مثير للنزوات والغرائز الجنسية،فيما عدا الثديين والعورة.
هذه الأعضاء الثانوية التي قد تثير الغرائز الجنسية ونحوها، يمكن أن يكون منها شعرُ المرأة، على أن ذلك ليس محتماً أن يكون بالفعل (في كلمجتمع وكل عصر) مثيراً للنزوات والغرائز.
وبمعنى آخر، فإن القرآن في فرضه تغطيةَ شعرِ المرأة إنما يحتم ذلك في مواقع أو مظانّ الخطر الممكن حدوثهُ في حضارة معينة أوفي مجتمعات بعينها، ونرى أن الفُسحة المقصودة في التعبير الحكيم (إلا ما ظهر منها) تسمح بحدوث تغيير لباس المرأة، بحيث يلائم التغير العصري في الدور الوظيفي للمرأة، إذإن ذلك التغير لازم وحتمي لتطور المجتمعات الإنسانية أخلاقياً واجتماعياً.
هذا الحكم لجأ إليه كذلك الشيخ تيجاني خدّام، إمام المسجد الكبير في باريس، حيث قال فيمقابلة صحفية له مع جريدة العالم الفرنسية في 24 أكتوبر 1989م مايلي:
'إن الإسلام يوصي المرأة بالبساطة الأنيقة في الزي، وأن تغطي ما يجذب أنظار الشرهين من جسدها، ومنالممكن أن يكون المثير الجذاب فيها شعرها... أما مجال تنفيذ هذه الوصية بتغطية الشعر، فإن ذلك مرتبط بالمجتمع أو البيئة الحضارية التي تعيش فيها المسلمة'.
وترى أقليةٌمن علماء الدين أن مغزى الآية الحادية والثلاثين من سورة النور هذه (... ولا يُبدينَ زينتهنَّ إلا ما ظهر منها، وليضربنَّ بخُمُرهنَّ على جُيوبهنَّ...) إنما يتحقق أيضاًبعدم تغطية شعر المرأة وذلك حيث لا يكون شعر المرأة مصدر إثارة جنسية للرجل، كما هي الحال في شمال أوروبا وشمال أمريكا بوجه عام. على أن المتزمتين التقليديين المسلمين لايسمحون بالاستثناء في تغطية شعر المرأة، مهما اختلفت العصور والأماكن، غير ملتفتين في ذلك إلى اختلاف العادات والتقاليد لهذه أو تلك من الحضارات على اختلاف أماكنها. وعلى أية حال، فإن من الضروري تغطية شعر المرأة، أو قل إن ذلك لابد منه، في المجتمعات التي يكون الشعر فيها مصدر إثارة جنسية للرجل بشكل حاد، وذلك نتيجة تغطية المرأةلشعرها في الواقع العملي أجيالاً مستمرة بدون انقطاع، وتلك هي الحال في بعض مناطق وبلدان البحر الأبيض المتوسط، سواء بين المسيحيات أو المسلمات، حيث عرفت تلك الشعوبالمسيحية والمسلمة تغطية شعر المرأة منذ قرون وقرون، ومارسته بالفعل حتى صار سنّة تقليدية تشبّ عليه الصغيرات، وتطبقها الفتيات والسيدات، وتألفها المجتمعات. ويتأزمالموقف أو يتعقد إذا غطت المسلمة شعرها في مجتمع تصطدم فيه حضارتان، إحداهما تألف الحجاب والأخرى تنفر منه وتأباه وترفضه، كما حدث ذلك في الأزمة المشهورة في فرنسا عام1989م (أزمة الحجاب) حيث دأبت مسلمات _في المدارس والمصانع وغيرها _ على تغطية شعورهن، مما أثار سخط الفرنسيين، خاصة في أوساط العمال وأنصاف المثقفين، ولمست ذلك المسلماتوعايشنه، وتوزعتهن المشاعرُ المتباينةُ، ففي المجتمع الإسلامي الداخلي الذي ينتمين إليه أو فيه وُلدن ونشأنَ ونمونَ، ينظر الرجل إلى شعر المرأة نظرة (جنسية) مغايرةلنظرة الفرنسي في المجتمع الغربي الذي انتقلن إليه أو اضطررن للعيش فيه...
ولعل من المفيد أن نذكرَ بأن الحجاب أو الخمار أو النقاب ليست من اختراع الإسلام بحال، فقدعرفتها الطبقات الراقية (الارستقراطية) قبل الإسلام بقرون طويلة، في مصر الفرعونية، وبيزنطة وإيران، وحتى عهد ليس بالبعيد شغفت نساءٌ أوروبياتٌ بالخمار حُبّاً. وليس من نافلة القول أن نشير إلى الفضيحة والزوبعة التي أثارتها راقصةُ البالية الشهيرة ماري تاجليوني في باريس مطلع القرن التاسع عشر، حيث جرؤت على الظهور على خشبةالأوبرا في باريس، بثوب أقصرَ من المعتاد بسنتيمتر واحد، مع كونه بالرغم من ذلك طويلاً يغطي الساقين.
إن المرأة المسلمة الأوروبيةَ، التي تغطي شعرها ممتثلة للشرعطوعاً، إنما تريد في المجتمع الغربي راحة البال، محاولةً ابتغاء مرضاة الله، مبتغية في الوقت ذاته الخروجَ من الدوامة الشيطانية التي تعصف بالمجتمع الغربي المتخذ جسدَالمرأة تجارةً رائجةً سوقُها، قاصدةً أن تعيد للمرأة من جديد كرامتها بوصفها امرأة، لا موضوعاً للجنس وتجارته... إنها إنما تبرز زينتها لزوجها، غير عارضة لها نهباًللأنظار هنا وهناك، كأنما تريد أن تعلن عن نفسها ليتقدم إليها الراغبون في الزواج. إن تلك المسلمةَ ذاتَ الخمارِ أو الحجاب إنما تريدُ أن تقول لمن حولها في البيئة التيتعيش فيها: أيها الناس! إنني امرأة لي كرامتي، عليكم أن تأخذوني مأخذ الجد، وليس لكم أن تنظروا إليَّ أو إلى ساقيَّ نظرة رخيصة خبيثة!.
إن لبس الخِمار أو وضعالحجاب أو النقاب بهذا المفهوم، عملٌ ثوري ورمز للاحتجاج أو الاعتراض على أسلوب الحياة وشروطها في أوروبا المعاصرة، وليس بأية حال رجوعاً مرتداً إلى التقاليد البدويةالعتيقة التي صاحبت القبائل، وميزت كل قبيلة عن سواها باتخاذ هذا أو ذاك من اللباس.
عن ( الاسلام كبديل )